يبقى أن للحياة طرقها الخاصة، والموت أحد هذه الطرق "فحين أغلقت كل الطرقات أمام حبها بحثت عن قبر لتهرب منه إلى الحياة..". على جدلية الموت والحياة نهضت رواية فسوق لعبده خال، الذي تناول الواقع كمادة عمل على تفكيكها وفضح أسرارها، بوعي يحاول أن يكون مغايرا، ومن عدسة تقترب حد الالتصاق بتفاصيل قسوة الحياة، على طفولة ترنو إلى وجود رأته أخضر في أحلام اليقظة، فتشكلات الحلم على أرض الواقع مصيبة، ومحاولة اجتراحه ذنباً دونه الموت، فالموت هو المآل الحتمي لمن يجترح الحب في مدينة بدا أن عدوها الأول هو الحب.
بطينة المحبة خلق الكون، وثيمة الحب مكون أساسي في جميع مراحل التكوين والخلق والإبداع. بل هو تلك الروح الدافعة للخلق والإبداع، لكن هذا الحب ظل متهما ومضطهدا على مرّ العصور، وهكذا فالكائنات المتلبسة به بقيت على الدوام متهمة وبالتالي مضطهدة. لذا فإن كلمة حب على جمالها إلا أنها من أبغض الكلمات على نفس مجتمع مغلق في وجه الحياة.
وتم التعاطي معه على أنه العدو الأول للفضيلة بل عدوها الوحيد، فتمت محاربته ومصادرته ومعاقبة مجترحيه، ربما من باب الدفاع عن تلك الكائنات كتبت رواية فسوق وكشف الوهن الفكري لمضطهديه، ومحاولة لتأريخ لحظة تأبى أن تتبدل أو تتغير في أنماط حضورها منذ لحظة ولادتها.
يستفتح خال روايته بعالم غرائبي وبأسلوب مغاير، حيث السرد عند عبده خال دائري ملولب وليس مستقيما أفقيا أو مستقيما عموديا، وبهذا السرد الدائري الملغز يروي الحكاية بأناة، حكاية لا يمنح القارئ مفاتيح غرفها، ولا يكشف صورة البناء دفعة واحدة، بل هي أحجية يشرع أمام القارئ في تركيب أجزائها، قطعة قطعة، تلك المبعثرة على مساحة كبيرة من صفحات الرواية، وليس مطلوبا من القارئ سوى القليل من الصبر، مع استشعار المتعة في طريق بناء الصورة كاملة، بإحساس المشاركة في تركيب أجزاء الصورة.
وما أسلوبه الملغز إلا انعكاس لحقيقة تعقيدات الحياة المادية والروحية على كافة المستويات الاجتماعية، والأبعاد السيكلوجية للفرد والمجتمع بما هو مكمن لكثير من الالتباسات السلوكية.
وهكذا يتشكل نصه وهو يسرد سيرة الهرب على أحجية مركبة، أحجية هرب فتاة من قبرها، وسيرة مجتمع يكثر من التغطي والاحتجاب، كاشفا عن وباء يستشري في النسق الاجتماعي، في ظل الفراغ الروحي والأزمة الإنسانية. وكأنه بهذا الخلط والمزج سعى إلى تعدد أبعاد روايته، وتجاوز متعة الحكي، إلى محاولة الكتابة عن لحظة، في عمر المجتمع، امتدت في كل مراحله وتشكلاته، وبدت كأنها الحقيقة الثابتة في هذا المجتمع الذي يتغير كل يوم وهي تبقى على ثباتها لتزداد قوة ورسوخا.
وعندما يكتب خال يبدو مفرطا في سرد قسوة الحياة؛ لأنه يحاول أن يعكس الواقع في تشظياته وانشطاراته وتناقضاته، وما يحمله من قسوة فارطة على أي مخطئ يقع في قبضته. ومن يقرأ رواية لعبده خال عليه أن يتحلى بالصبر الذي يواجه به المرء صعوبة الحياة وضراوتها، فعلى القارئ أن يقطع مسيرة عشرات الصفحات ليعرف أن الراوي يسرد حكايتين لجليلتين، فجليلة اسم لامرأتين بدايتهما عشق ونهايتهما قتل وموت. جليلة الأولى تُنحر بطريقة مأساوية بيد أخ وفي حضرة عاشق (تخلى الاثنان عن بدن بحث عمن يسنده، فلم يجد أرضا صلدة يهوي عليها باحثا عن دمه. وتراكض القاتل والعشيق في الطرقات يبحثان عمن يخفيهما من عينين حملتهما لآخرتهما وهي متحيرة أيهما خانها..). وفي مجتمع شرقي أقصى ما يفعله العاشق ليكفر عن ذنبه أن يطلق اسم حبيبته على ابنته، وهذا ما فعله محسن لكن ابنته لم تحمل الاسم فقط بل ورثت لوثة العشق " ليعود اسم جليلة دالا على الرذيلة " ليأتي أباها حاملا إرثه الاجتماعي فيرفض خطبة محمود الذي تحبه جليلة الابنة، مكررا بذلك موقف أبو يوسف أخ جليلة الحبيبة. وكأن المآسي تحدث لا لتعطي درسا بل لترسخ عادة وتقاليد. ليكون مصيرها موتا في ريعان شبابها "هكذا من غير مقدمات.. وتفقد من قبرها في ثاني يوم على دفنها" (ص41).
الرواية البوليسية تشكل التحدي الحقيقي لأي حكاء؛ هذا ما يقرره يوسف القعيد، حيث المتعة هي الهدف الأقصى من السرد القصصي، وكان لرواية فسوق أن تكون رواية بوليسية، حيث تتوفر فيها المتعة والتشويق، علاوة على الأسلوب السردي الذي يتقنه خال؛ وفيه الكثير من التلغيز وسمات الأحجية، لكنها كانت مثقلة بتنظيرات فكرية حاول التخفيف من حدتها بسكبها في شكل حوارات جاءت كمنولوج ذات صوت واحد، وما المحاور الآخر صاحب الفكرة المضادة إلا كائن فقد صوته لفقده المنطق الفكري و الإنساني لما يقوم به، لذا يلجأ إلى القوة في تنفيذ ما يصدره من أوامر.
وقد جاءت فسوق لتسلط الضوء على إشكالية الحرية في مستواها الاجتماعي متمثلا في المرأة، فالمرأة كائن مغلوب على أمره مسلوب الإرادة والحرية في كل مستوياتها. وسرقة الحياة من المرأة، وتضييق الخناق عليها، دفعها للبحث عن منافذ سرية لتلك الحياة المسلوبة عنها، فحينما (تخلق سجنا كبيرا على الناس أن يتدبروا كيفية الهرب).. حينها ينفجر الصمت على هيئة فضيحة.. (كسرتهم فعلتها وأبقتهم في خدرها الذي طالما قنتت فيه).
هنا الحب شجيرة واعدة بالخير تحاول النهوض في ظل ثقافة مهيمنة تصادر حق الوجود لأي نسق يستشرف للفضيلة فضاءات أخرى، لتغدو فكرة الحب ضحية لثقافة مجتمع يرى في الحب منبع كل آفة.
وعند الصفحات الأخيرة للرواية يتشكل سؤال؛ أين مكمن الفسق..؟. هل في ثيمة الحب؟ أو في أعدائه الكثر؟ أو فيما يرتكب باسم الحب من جريمة أخلاقية في حق الوجود الإنساني؟.
الوطن- السعودية
13 مارس 2007