"آرتور رامبو، الآثار الشعرية" في العربية لكاظم جهاد

سيلفانا الخوري
(لبنان)

آرتور رامبولا تكفي كلمة ترجمة في معناها التقليدي لوصف العمل الذي يقدّمه كاظم جهاد تحت عنوان "آرتور رامبو، الآثار الشعرية" الصادر اخيراً لدى "منشورات الجمل" و"آفاق للنشر والتوزيع". لا يكفي كذلك الوصف الذي اعتُمد على الغلاف ويشير الى ان الشاعر والأكاديمي العراقي "ترجمها عن الفرنسية وهيأ حواشيها ومهّد لها بدراسة". ما نحن ازاءه هنا هو جهد منهجيٌ ودقيق وشغوف لمترجم وناقد وباحث وشاعر - شاعر خصوصاً – بما تعكسه هذه التعددية على مستويات العمل المختلفة، بحيث تتكافل وتتضافر لتقدّم رؤية شاملة وجامعة ومرجعية للشاعر الفرنسي.
هو بحث "شعري ونقدي وتاريخي" على رامبو الشاعر والانسان، على "كوكبة رامبو" بتعبير ألان جوفروا في مقدمته للكتاب، في مقاربة تنظر الى عمل الشاعر وحياته ك"وحدة واحدة" يعاينها كاظم جهاد لغوياً واسلوبياً وتأويلياً وبيوغرافياً، لتصير الترجمة بعد ذلك أشبه بمآلٍ يفرض حتميّته. تأتي الحواشي بخياراتها التأويلية، والمقدِّمات بالتوجهات التي تنطلق منها او تصبّ فيها، والترتيب الكرونولوجي المعتمد للنصوص، لترسّخ هذه المنهجية وتساهم في بلورة هذه الرؤية. رؤية لا يجترحها جهاد من خارج، بل هي التجربة الرامبوية نفسها التي تفرض هذه المقاربة القادرة اكثر من سواها، إن لم يكن وحدها، على القبض على الشاعر الذي كانت حياته على صورة مشروعه الشعري، بل جزءاً منه وامتداداً له - او العكس لا فرق - مساراً لفاتحٍ اراد تحويل العالم بالكلمات، فلم ينفك يترك وراءه مدناً محروقة من اساليب ورؤى وتيارات أدبية وفنية وفكرية، سريعاً ما كان يستنفدها الواحدة تلو الاخرى ويذهب للمطالبة بالمزيد وصولاً الى خارج حدود النص في ذاته.

رامبو اذاً كاملاً للمرة الأولى في العربية؟ فلنقل ان التعبير الاكثر دقة سيكون: رامبو بكليّته.
اذا كانت هذه المقاربة التي عرفت بذكاء حاد وحساسية عالية كيف تتلافى تقديم رامبو "بمقتضى المعايير التي عمل الشاعر نفسه على تفجيرها" بتعبير ألان بورير في مقدمته، فإن كاظم جهاد لا يتوانى مع ذلك عن رسم حدودها: "ما كتبه رامبو (يبقى) هو الأساسيّ: أساسيّ يمكن ان تحتل مأساة رامبو الصامت ورامبو الرحالة شطراً منه، شريطة الا تعمينا هذه المأساة عن رؤية عمله نفسه"، يقول بما لا يحتمل اللبس. ثم يضيف لمزيد من الحسم: "في نظرنا، تكون العجيبة عاملة داخل النص الشعري او لا تكون". في الواقع، ان حدوداً بمثل هذين الوضوح والجزم هي منطقية وشرعية ومفهومة، لا بل محتّمة لصدورها عن مترجم وشاعر كان سيجازف بدونها بإلغاء عمله نفسه: الترجمي الرامبوي من جهة، لكن ايضاً وخصوصاً عمله الشعري الخاص.

مساحة لغوية على صورته
تكشف المقدمات الثلاث لكل من ألان جوفروا وألان بورير وعباس بيضون، والمقدمة - الدراسة لكاظم جهاد، ومئات الحواشي المكثّفة، عن جهد بحثي ونقدي فريد، الا ان هذا لا يجدر به مع ذلك ان يحيد بنظرنا عن الأهم: الترجمة في حد ذاتها. في هذا الاطار، تتلقّف اللغة العربية رامبو من دون ان تقصّ جناحيه. تستقبله كما يليق بهذا المتمرد الرافض الغضوب، في مساحة لغوية على صورته، متطلبة لجوجة لاإمتثالية. في عمل مهموم بالدقة يطاول الشكل والمعنى على السواء، لكن ايضاً "الشكل الذي يصنع معنى"، ينجح جهاد في "إسماع الجمال غير المنقوص للغة رامبو" بتعبير بورير. هي ترجمة تحكمها "أذن" شديدة الحساسية، قادرة على التقاط أصغر الموجات الايقاعية التي تُحدثها العبارة الرامبوية، ويأتي العتاد اللغوي الموثوق به الذي يعرف كيف واين يمارس صرامته او ليونته، ليشكّل الدعامة الثانية التي لا يقوم اي بناء ترجمي من دونها.
هكذا يجد القارئ نفسه امام المعادل العربي الأمثل لحقل معجمي كامل من مفردات وصور وتيمات وتراكيب وايقاعات، بتنوّع نبراته وتعدّد مستويات كلامه، ضخّ فيه رامبو كل نزعته الهجائية وسخريته اللاذعة وحسّه النقدي، لكن ايضاً لحظات تعاطفه الحنون. بكلمة، نحن ازاء ترجمة تجيد "الاصغاء" اولاً، ثم تحويل اصغائها الى لغة تعرف كيف "تتغرّب" من دون ان تفقد لحظة ألقها ونصاعتها، ولا أصالتها كذلك. كما في كل أعماله الترجمية، يدعونا كاظم جهاد هنا ايضاً الى ان نسمع "بأذن جديدة" بعيداً من "طهرانية" لغوية لطالما انتقدها، معوّلاً على توسيع امكانات اللغة عبر ايقاظ القدرات الكامنة فيها. محبّو السهولة لن يجدوا هنا مبتغاهم، ما نحمله بين يدينا هو ترجمة متطلّبة لقارئ متطلّب.
في ترتيب كرونولوجي يساعد في متابعة تطور اسلوب رامبو وتبلور رؤيته ومشروعه، يقدّم المترجم اعمال الشاعر الفرنسي كاملة، بدءاً من القصائد اللاتينية انتهاءً بخمس من رسائله الافريقية. بين المحطتين تتتالى القصائد الفرنسية الموزونة التي تتخللها قصة قصيرة هي "قلب تحت جبة"، ورسالتا الرائي، ثم بعض النماذج الدالة من مساهماته في "الالبوم العبثي"، لنجد بعد ذلك قصائد 1872 المقدَّمة تحت عنوان "قصائد اخرى وأغانٍ"، تتبعها "شذرات وأبيات" من قصائد أنقذت من الضياع. قبل الدخول في مغامرتي "فصل في الجحيم" و"اشراقات" نعثر على نصين يضم الاول صفحات من عمل لم يكتمل، بينما يشكل الثاني مسوّدات "فصل في الجحيم".

"حرفياً وبجميع المعاني"
لا تطاول هذه الشمولية النص الرامبوي وحده، بل يُجري المترجم كذلك مسحاً دقيقاً لما يسمّيه بورير "المكتبة الرامبوية" في أهم ما تضمّه من دراسات وابحاث نقدية تناولت عمل الشاعر. نستعيد هنا اعمال أهم شرّاح رامبو: أنطوان آدم، جان لوك ستيمنتز، ألان بورير، بيار برونيل، في نشرة كل منهم المحققة للاعمال الكاملة. نستعيد ايضاً من خلالهم او في شكل مستقل: بيار ميشون، ألان باديو، ايف بونفوا، جيل دولوز، جاك رانسيير، اندره غويو، باتريس لورو، موريس بلانشو وسواهم. وفي جهد هو حصيلة كمّ هائل من القراءات عبر السنوات، يعمد جهاد الى تكثيف كل هذا الإنتاج النقدي والتأويلي المتراكم حول رامبو ثم اعادة تقديمه في الحواشي كما في بعض محطات دراسته، لكن ليس من دون ان يمرره تحت مجهره النقدي الخاص، معلناً في كل مرة ايثاره لقراءة تناصية، "ترجع الى قراءات رامبو نفسه للتراث ولمعاصريه عندما يكون متحققاً منها، وخصوصاً الى تداعيات المفردات والصور في عمله نفسه". وهي قراءة يفضّل المترجم ان تستند كذلك الى مقصد الشاعر وتنسجم مع مشروعه الذي عبّر عنه في "رسالتي الرائي" وفي النقد الضمني الذي تنطوي عليه أشعاره، وعلى هذا الاساس تقوم بمنح "عناصر برنامجه معانيها التقنية والفنية والفلسفية" على حد تعبيره.

واذ يستعيد في عمل دؤوب تشغله النزاهة القصوى، جزءاً كبيراً من المقاربات المتنوعة للعمل الرامبوي، يؤكد ضرورة عدم الوقوع في مخاطر التأويل المفرط وتحاشي ما يسمّيه ميشال دوغي "التأويل غير المتناهي". في ما عدا ذلك، تجتمع هنا اكثر من مقاربة واكثر من مدرسة نقدية واكثر من رؤية تتكافل كلها لتقرأ رامبو كما لطالما أراد: "حرفياً وبجميع المعاني"، وتحاول الاحاطة بهذا الذي لم ينفك يقطع الجسور ويحرقها خلفه ليصير بلوغه متعذراً. ظل بتعبير بورير "يحاكي ويتجاوز" الى ان تجاوز الشعر نفسه، على الاقل بمعناه اللغوي النصي.
والنتيجة: مئات الحواشي التي تشكل احدى دعامات العمل الاساسية وتستمد ضرورتها بتعبير كاظم جهاد من "ضخامة حجم المضمر" في شعر رامبو، المضمر الذي هو كذلك بفعل شعريته وخصوصية تجربته، والمضمر الذي فرضته المسافة الزمنية والثقافية بيننا وبين الشاعر. من هنا، تضطلع الحواشي بأكثر من وظيفة، بين التعريف بالسياق التاريخي للقصيدة وعلاقتها بسيرة الشاعر وموقعها في تجربته وتطور مشروعه، الى الحواشي ذات الطبيعة التأويلية والنقدية والتوضيحية التي تلقي الضوء على اكثر من قراءة ممكنة للقول الرامبوي، فضلاً عن تلك التي تُشرك القارئ في بعض المواضع، وعندما تدعو الحاجة، بأسئلة الترجمة و"شكوكها" والاعتبارات التي تحكم خياراتها.

اذا كان كاظم جهاد يقدّم رامبو للمرة الاولى كاملاً في العربية، في المعنى النصّي للكلمة، واذا كان يقدّمه كذلك بكلّيته في المعنى الذي سبق واشرنا اليه، فإن النقطة الثالثة التي تصنع فرادة هذه الترجمة والتي تكاد تكون النتيجة الحتمية للنقطتين السابقتين هي ان رامبو هنا حقيقيّ خصوصاً. حقيقي وبعيد من كل ايديولوجيا، شعرية أكانت ام نقدية ام فكرية. انه رامبو خارج الاسطورة. الاسطورة العامة التي تكشف عن بلبلة في الرؤية يتسبب فيها تحديداً الصمت الاخير لرامبو، والاسطورة العربية في وجه خاص، وهي المسألة التي سيتطرق اليها مطوّلاً عباس بيضون في مقدمته. اما هنا، فنحن ازاء "شاعر يعمل، شاعر في محترف او في ورشة، شاعر اسيء فهمه وحُوِّل الى اسطورة، سلبية لدى البعض وتفخيمية بل شبه قدّيسية لدى البعض الآخر، ولا نريد نحن اعادة "أسطرته"، بل نقاربه عبر انسانيّته العاملة المؤرَّقة" على قول المترجم.

تالياً، تستعيد صفة "الملعون" تلك اصالتها كلها وتحديداً بُعدها السياسي وذلك "بالمعنى الواسع والجذري لمفردة "السياسة"، معنى يرى في الحياة نفسها ضرباً من سياسة ويلتفت في الوجود الى علاقات القوة وارادات الهيمنة قبل اي شيء آخر"، على ما يقول جهاد. اذذاك تكفّ الصفة المذكورة عن كونها جزءاً من العتاد الفولكلوري الذي يجري غالباً مقاربة الشاعر من خلاله ويحول دون القبض على "رهان رامبو الحق" بتعبير جوفروا. هذا الرهان الذي اختُزل كثيراً الى لحظات معينة منه، لحظات تجاوزها رامبو نفسه بينما أصرّ بعض مقاربيه على حصره فيها، هو الذي لطالما اعرب عن تجاوزية يقول عنها جهاد في مقدمته انها "الثابت الوحيد في حياة قائمة على التحوّل".

تجاوز الشعر
يعرض جوفروا تحت عنوان "آرتور رامبو، او الحرية الحرة"، لبعض هذه التأويلات الخاطئة لعمل رامبو، رافضاً الفصل بين رامبو الشاعر ورامبو الرحّالة، بما يحتّمه ذلك من سقوط في "تصوّر ثنائي لرامبو نقيّ هو رامبو الرائي صاحب "قصائد" و"فصل في الجحيم"، ورامبو عديم النقاء هو رامبو التاجر"، ويضيف: "والحال، لم يكن رامبو النقي نقياً حقاً، ولا رامبو غير النقي عديم النقاء تماماً". فلدى هذا الصبي "المناهض لكل شيء"، "كان الكل يشكّل كلاً حقيقياً، وكان ينخرط في رؤية شاملة للكون، جغرافية - شعرية هي في الاوان نفسه جغرافية - سياسية". في هذا الاطار، يتحدث جوفروا عن نظرة رامبو الى مفهوم الفن الذي ينبغي توسيعه وعن ايمانه بأن الشعر نفسه لا ينتمي الى الادب.

يكمل بورير في مقدمته "رامبو بأكثر من صفة" هذه الفكرة، مركّزاً على الشعر الذي لن يكتفي بعد الآن "بالتعبير الذاتي عن المشاعر، ولا بأن يكون عمل صائغ وليس أكثر، بل سيكون وسيلة للمعرفة وللفعل، قادرة على تغيير الحياة". يوضح كيف ان الشاعر رفض "الفكرة القائلة بوجود شيء شعري، اي موضوعات وكلمات ولحظات تكون بجوهرها شعرية، وهي ليست كذلك الا بفعل تعاقد. في نظر رامبو، انما يتمثّل الجوهر في الشعر نفسه، لا في الشعريّ".

"ان اصالة رامبو لا تقوم في تجديد الشعر فحسب، وانما في تجاوزه"، يقول بورير مختصراً كل الخصوصية الرامبوية، قبل ان يضيف في دقة هائلة: "ان عمله الخاطف لم يكن بالنسبة اليه الا وسيلة بين وسائل أخرى لبلوغ الحياة الحق، وسائل سرعان ما هجرها كلها". وهذا ايضاً ما يعبّر عنه كاظم جهاد بوضوح تام عندما يتحدث في مقدمته عن الشاكلة التي "قارب بها (رامبو) الشعر بما هو مشروع حياة، والحياة بما هي صنيع شعريّ، واضعاً الاثنين تحت لواء التحوّل".

اذا كان جوفروا وبورير يتصديان، من ضمن ما يقترحانه كلٌّ في مقدمته، لبعض المفاهيم والتأويلات الخاطئة لرامبو، معيدين وضعه في اطاره الحقيقي، هي الاسطورة الرامبوية العربية دون سواها ما يصوّب عليه عباس بيضون. تحت عنوان "استئناف رامبو" يتحدث عن "الابتسار وتعطيل البحث والاكتفاء بعلائم كاذبة" الذي مارسته الثقافة العربية في تعاملها مع الشاعر الذي ساد اسمه في الثقافة والحداثة العربيتين مع غياب شبه كامل لنصه "او بتشويش ضخم عنه". وكيف ستساهم لفظة "الرائي" وحدها في زجّه في مشاريع وطوباويات لا تشبهه، سينتج منها ما لطالما رفضه رامبو وسخر منه: شعر تشخيصي وذاتي على النقيض التام من الشعر الموضوعي الذي اراده، وثقافة "غير مسؤولة امام الواقع ولو بالمعنى المعلوماتي".

كل ما سبق تؤكده وتضيف اليه المقدمة - الدراسة التي يضعها المترجم ولا سيما في المنهجية التي تعتمدها وتستعرض "تطوّر رامبو الشعري بموازاة تطوّر تجربته الحياتية والكيانية"، لتضيء من الجهات كافة على الشاعر الذي "بضربة واحدة أزال واجب النبالة الذي كان مفروضاً على لغة الشعر"، محققاً في سرعة قصوى "ثلاثة انجازات اساسية متتالية: شهرة فورية كشاعر كبير، الوعي الحاد ببطلان الشهرة، والعمل على تحطيمها"، كما ينقل جهاد عن بيار ميشون. وبوضوحه المنهجي المعتاد يقول المترجم: "إنني اؤمن مع آخرين بأن رامبو لم يهجر عمله، بل قد أتمّه"، معيداً وضع قضية صمته في سياقها الصحيح: "هذا الصمت، راح رامبو يبحث عنه لا فحسب بعدما استنفد جميع الابتكارات الشعرية المتاحة لرجل بذاته، بل كذلك بعدما جرّب جميع صيغ الحياة الممكنة لكائن".

في هذه الطبعة الجديدة والمزيدة والمنقحة لآثار رامبو الشعرية، يقدم كاظم جهاد العمل الرامبوي العربي المرجعي بامتياز، الذي يحكم على كل الترجمات السابقة للشاعر بالنسيان، تماماً كما يحلّ، وبتعبير المترجم نفسه، على أنقاض الطبعة الاولى منه التي صدرت في 1996، ويجعل هذه التي بين يدينا جديدة بكل ما للكلمة من معنى، في ما يشبه التجاوزية الرامبوية نفسها. تجاوزية يعمل كاظم جهاد على تقديم رامبو تحت لوائها هي التي كانت في صلب مشروعه الشعري والحياتي "المعدول" ابداً و"المصحَّح" بلا انقطاع، لينزع الشاعر والمترجم العراقي بهذه الطريقة عن رامبو الاخير الشبهات التي أُلصقت به من دون ان يهمّش رامبو التجربة الشعرية، فينجح بذلك في الوفاء لرامبو نفسه وللغة العربية وللشعر خصوصاً.

sylvana.elkhoury@annahar.com.lb