النبرات على أشكالها

سيلفانا الخوري
(لبنان)

أدونيسفي غمرة الاصدارات الشعرية والروائية الشبابية التي بات من الصعب تجاهل الإشكاليات اللغوية والاسلوبية والتيماتيكية التي تطرحها على تنوّعها واختلافها وحتى تعارضها، تصير قراءة اي عمل جديد لكاتب مكرَّس ذريعة لقياس المسافة التي تحقّقت بين الطرفين. فكيف اذا كان هذا الكاتب هو أدونيس نفسه؟ أدونيس الذي يكفي اسمه وحده ليحيل على منجَز شعري وفكري وثقافي شكّل احدى الدعامات الاساسية لمرحلة ثقافية وسياسية (بالمعنى الاوسع للكلمة) بكاملها كانت الحداثة عنوانها وقضيتها. هي مرحلة، اذا كانت جذورها في ستينات القرن الفائت، فمفاعيلها وامتداداتها ظلّت سارية حتى وقت طويل. في زمن تُعاد مساءلة كل المقاييس والثوابت التي بُنيت عليها تلك المرحلة، لغةً وفكراً ومفهوماً للشعر تحديداً، لا يمكن القارئ ان يقارِب عمل أدونيس الاخير"اهدأ، هاملت، تنشّق جنون أوفيليا" الصادر لدى"دار الساقي"، من دون ان يجد نفسه مدفوعاً لموضعة نفسه منه ولطرح اسئلة حول المسافة التي تفصله عنه وحول طبيعة هذه المسافة، ولو ظل صعباً الاتيان بإجابات فورية ووافية تقبض على المسألة في شكل دقيق

بأسلوب متنوّع النبر لا ينفكّ يتنقّل بين الشعر والنثر، بين الغنائية والوجدانية والسرد، ودوماً بالحضور الذهني نفسه، لا يوفّر الشاعر وسيلة لإعادة طرح أسئلة تراوح بين تلك التي كانت حارة ونابضة ذات زمن، وأخرى مطروحة راهناً في شكل ملحّ. من الجمل الاكثر تقليدية:"وجهك شاطئ لأمواج حزنك/ وعيناك المرسى"، الى تلك الاكثر ابتكاراً وقدرة جمالية:"يخطر لي أن ألمس الجنة/ لكن بغير أصابعي (...) في الليل، قرب جدار عالٍ،/ فيما يعبر أمامي حصانٌ رومانيّ/ واضعاً على رأسه/ خوذة فارسٍ أحبّه"، فأخرى تكتفي بلغة تقريرية تقول فكرتها وتمشي:""كل ابتكار هرطقة": قولٌ يؤكده التاريخ،/ وتؤكده حياة اسلافنا./ اسأل من يشكّ:/ هل تقدر ان تدلّني/ على ابتكار واحد للتقوى؟"، او حتى تلك التي تسعى الى ايجاد صيَغ تحاكي أشكال التعبير الآنية المختلفة في محاولة لتطويع ادوات من خارج الشعر نفسه لصوغ القول الشعري كما في"هايد بارك". في هذا كله يلمس القارئ تنويعاً يظل دون زعزعة البنية الأعمق لهذه اللغة التي حسمت خياراتها الجمالية والفكرية خلال مسار أدبي طويل.

بدءاً، لا بدّ من القول انه وخلافاً لما قد يوحيه العنوان، لسنا حيال معالجة شعرية تتناول المأساة الشكسبيرية المشهورة. نجد هنا نصوصاً شعرية مستقلة، متنوّعة الاساليب والذرائع والموضوعات، لكنها مرتبطة بعضها بالعبض، كما لو بخيط خفيّ اساسه خطاب واحد ينطلق من الحنين قبل كل شيء. الحنين التعِب الى طفولة منسية:"هل يحقّ لي/ ان امرّ تحت شبّاك البيت/ الذي وُلدتُ فيه؟"، يسأل الشاعر كمن يعرف ان الجواب محسوم سلفاً. الحنين اذاً الى زمن مضى يستخدم الشاعر عناوينه الشعورية والحسية كنقاط استدلال تسمح بمواجهة هذا العالم الغارق في مآسيه وحروبه وصراعاته:"تخيّلتُ طفولتي/ ورحتُ ألهو على الشاطئ،/ حيناً، كطفلٍ يرسم وجه البحر،/ ويعدّ أصابع الشمس./ وحيناً، كبحّارٍ شيخ/ يقرأ تاريخاً آخر للماء". نقول صراعات الا ان الصراع الاكثر تجلياً هو هذا القائم بين ما يدل عليه الشاعر رمزياً واستعارياً بالأرض والسماء، متخذاً منه ذريعة لإعادة طرح أسئلة التاريخ والحضارات والصراع المفترض بينها:"كيف تمكن الحياة على ارض لا يتكلم فيها احد غير السماء؟"، ثم نقرأ في مكان آخر في المنحى ذاته:"وما هذا الزرع الذي يُزهر في السماء، ويذبل على الارض؟".

من هذا الجذر الاساسي، اي صراع الارض والسماء، تنشأ شعرية قائمة على عدد من الثنائيات الضدية المتفرعة منه: الشرق والغرب، الروح والمادة، العلم والغيب، الريف والمدينة... وسواها من الاسئلة التي سواء أصابت موضوعها في قلبه ام لم تفعل، وسواء تمكّنت من اثبات راهنيّتها وإلحاحها أم لا، فإنها لا تني تحرّض عليه وتستحثّه في شكل لجوج. ثمة في البداية هذه العودة المتواترة لمدن من الشرق والغرب تحقق هنا المواجهة الصعبة: من جهة لدينا برلين ولندن والبندقية وسواها، ومن جهة اخرى القدس وبيروت ودمشق والقاهرة وسواها ايضاً. واذ يحكم الحضور الحسي علاقة الشاعر بالاولى، فإن الثانية تبدو بعيدة ومنتمية الى عوالم ليست في المتناوَل:"تلك الليلة، في نيويورك،/ كنتُ، من أية نافذةٍ نظرتُ،/ ومن أية زاوية،/ أرى الى القدس،/ كأنني أراها تحت سماءٍ/ لا وطن لها/ غير كرسيّ الله". تبقى لندن المدينة الاكثر حضوراً في المجموعة في وصفها ربما المساحة الامثل لاجتماع كل هذه النقائض والاضداد، المدينة التي يشبّهها بثديين ضخمين،"واحدٌ يرضعه المال،/ وآخر في يد الله"، المدينة التي نصفها ماء ونصفها نار:"هنا في لندن رأيتُ الروح: امرأةً نصفها ماءٌ، ونصفها نار. ضع يدك، هاملت، بين النصفين، وتذكّر المرأة التي أحبّتك. أليست لها رائحة التاريخ؟".
الا ان الشاعر لا يجد انتماءه في ايٍّ من النموذجين، اذ نراه يأنف من استسلام أحدهما للغيب ومن خضوع الآخر لسلطان المادة وحدها. وفي حين يتصارع الطرفان باسم السماء، يبدو هو كالحامل جذوره ولا يعرف في ايّ ارضٍ يستقرّ. فلنقرأه يقول بنبرة لا تخلو من بُعد رؤيوي:"ورأيتُ غرباناً تزرق على خُوَذ القادة/ من أية سلالة انحدروا،/ فيما يتوسّد كلٌّ منهم/ ثدي مرضعة سماوية،/ وفيما تغسل الصواريخ أقدامها/ بماء الملائكة./ أنت، يا من تدير وجهك نحو الشرق،/ هل تظن حقاً/ ان الشمس ستطلع غداً؟"، او يقول بشكل اكثر مباشرة:"وماذا أقول عن خوذة/ تؤكد انها وردة/ وعن بندقية/ تبشّر انها شجرة من اشجار الجنة؟ وكيف اشرح لماء التاريخ/ هذا الانسان – الطين الالهيّ/ الذي يحدّه الرمل والتوهّم؟".
على غرار عنوانين داخليين من قصيدة"اهدأ، هاملت، تنشّق رائحة أوفيليا" (هل هو خطأ مطبعي ابدل"جنون" ب"رائحة"؟)، تبدو المجموعة بكاملها متنازَعة بين"الاقامة في الحلم" و"الاقامة في بيت الواقع" من دون ان تستقرّ على ايٍّ منهما. وفي كل مرة، ثمة توق مستحيل الى شواطئ وبيوت مألوفة، في مواجهة العالم الحديث القائم على"قبور الاطفال" في مدن تتمدّد"في انابيب إسمنتية" وبلدان"لا تربّي الا الوهم"، بينما"كنائس ومساجد تتنقّل على/ ظهور بشر يزعمون انهم يحرسون التاريخ"،"بشر يعيشون ويفكّرون كأنهم لا يعرفون ان يغسلوا وجوههم الا بالدم".
في القصيدة الاخيرة،"المدينة"، نقرأ:"في فرن على الزاوية كانت تفوح رائحة عصر لا يخبز غير الجثث وغير الحوريات"، في ما يبدو كأنه التتويج لما رسّخه الشاعر على طول الكتاب. في هذا الاطار، لا يتوانى عن نقل الخطاب المستخدم بكل فجاجته الحرفية:"ضع قهوتك جانباً، واشرب شيئاً آخر./"بتوفيق من السماء،/ ندير حرباً وقائية./ نحمل ماء الحياة/ من ضفاف الهدسون والتاميز/ لكي تتدفق في دجلة والفرات،/ وفي بقية أنهار العالم/ - حربٌ على جلجامش وهوميروس،/ على الطيور ووجوه الاطفال". ايضاً:"وأسمع من يصيح نائحاً: أين أفجّر هذه القنبلة؟ متى تجيء الأجنحة التي ستطير بي؟". هذا كله من دون ان يكف عن الاشارة بإصبع الاتهام الى هذا الخطاب الذي يحاول خداعنا بأن"الحضارة لا تولد الا من نفايات الذرّة". حضارة يحكمها"أدب الاسفلت" وتسير على هدي"أشكال وعيٍ وحسّ لم يعرفها افلاطون ولا تلامذته الاوَل. لم يعرفها هيراقليطس نفسه. فصولٌ في الحاسة. في الدلالة المعدنية". عند هذه النقطة تعرف المجموعة افضل لحظاتها ولو تسللت اليها بعض الاسئلة التي ربما كان وقعها اقوى في عقود سابقة:"وكيف يبلغ سن الرشد شخص تلده الآلة؟".

على طول الكتاب، وفي شكل متواتر، تعود اللغة في وصفها كياناً مكتمل الحضور، مكوّناً اساسياً من مكوّنات الحياة. كأنما الشاعر يضيف الى تلك العناصر الخمسة التي يتشكل منها العالم بحسب الفلسفة الصينية القديمة، عنصر اللغة التي تحلّ هنا كمعيار ويحلّ معها الشعر كالمنفذ الوحيد الممكن، فيما الشاعر يفتش عن طريقة ليقنع هذا العالم ب"أن الورق هو، وحده، أبٌ لحقائقه".

Sylvana.elkhoury@annahar.com.lb