("أنا شاعر كبير" لرامي الأمين)

سيلفانا الخوري
(لبنان)

منذ العنوان، تعلن مجموعة رامي الأمين الشعرية الاولى، "أنا شاعر كبير"، الصادرة لدى "دار النهضة العربية"، عن هوية خاصة تنجح في إرسائها نبرة على شيء من التخفف والنزق الطفوليين وغرائبية بكر لا تحمل هاجس الاسقاطات الخارجية. هذه كلها مدعومة بمخيلة ملجومة رغم جموحها الظاهر، وسخرية اذا لم تبلغ حد السواد القاتم، فإنها لا تخلو من حسّ حاد في الملاحظة يعرف كيف يحدد بدقة موقع عقبَي أخيل فيصوّب اليهما ويصيب نقطة العطب. النتيجة: قصيدة سردية تجيد اختيار اللحظات المرتفعة عن رتابة السرد الأفقي، في أسلوب ولو اتخذ شكل التخفف اللامبالي فهو ليس بريئاً الى الحد الذي يدّعيه. لنقل انه أذكى من ان يترك للفطرة الشعرية وحدها ان تحدد وجهته، واذا بالعقل حاضر دوماً ومتأهب في الخلفية، يراقب من بعيد ولا يتوانى عن التدخل في كل مرة، معرّضاً القصيدة في بعض الاحيان للسقوط في فخ تضييع حدسها الاول .
رغم الجو العام الذي يمنح المجموعة هويتها والشاعر الشاب صوته المتمايز، تتنوع اجواء القصائد وأساليبها وموضوعاتها. وتترافق هذه التحولات مع ما يوازيها على صعيد الشكل الخارجي للنص، لنصير ازاء قصائد تنقسم من حيث الشكل ثلاثة انواع قد تتداخل الحدود بينها : ثمة اولاً القصيدة المؤلفة من مقاطع مضغوطة على عباراتها تحتشد فيها الصور والافكار التي تميل غالباً الى اسلوب يبدأ تسجيلياً قبل ان ينزع صوب التأملي، موجداً بين الاشياء والمفاهيم المعايَنة صلات ذهنية او عاطفية تتداخل فيها مواقف الشاعر من الحياة والموت والزمن وسواها .
ثانياً، القصيدة المكثفة والشديدة القصر، التي قد لا تحتاج احياناً اكثر من بضع كلمات لتسجيل خاطرة سريعة: "أكلت أصابعي/ ولم أندم " ، او التقاط مشهد عابر تحوّله عن غفليته بمنحه طابعاً غرائبياً على شيء من الفكاهة التخريبية فتعيد ترتيب عناصره حتى لا يبقى اسير السائد والمتعارف عليه : "(...) تبتسم الموناليزا/ ابتسامة ماكرة/ وتلعق،/ بلسانها الأخضر الطويل،/ ألوانها الزيتية ".

اخيراً، القصائد ذات الجمل المتناثَرة عمودياً حيث يغيب الهم التفسيري عن القصيدة وتبدو اكثر تماسكاً نسبياً على المستويين السردي والبنيوي لتكتفي بالاشارة الى الغريب في اسلوب مبتكر، وبعيد عن الافتعال، وذكي رغم الخفة والتلقائية اللتين يوحي بهما: "انا شاعر صغير/ لذا يمكنني ان ألعب بالكلمات (...) ويحق لي/ أن اسرق من محمود درويش/ مقطعاً من قصيدة "ريتا والبندقية"،/ لأن الصغار لا يحاسَبون/ على افعالهم السيئة،/ ولأن الله يحبهم، ويكره محمود درويش (...) انا شاعر صغير/ ولا تزال امي/ تدخلني رغماً عني الى الحمام/ لأستحم،/ ولتفرك بالليفة الخشنة/ آثار الشحم عن ركبتي،/ وتضحك مطولاً/ فيما أخبرها باكياً/ ان الصبي الازعر / قال لي اني خرجت من مؤخرتها/ عندما ولدت ".

تنغلق عوالم قصيدة رامي الأمين على الأنا في تفاصيل عيشها اليومي بأحداثه وشخصياته. من هنا، تُفرد القصائد مساحة واسعة للنواة العائلية، أماً وأباً وأشقاء... والله كذلك. الا ان العنصر العائلي لا يحلّ كملاذ وملجأ بقدر ما يعكس رغبة في الانعتاق وتوكيد الذات. تظل هذه الرغبة تعلن عن نفسها بأساليب مواربة حتى ينتهي الشاعر بالافصاح عنها بطريقة مباشرة: "ينبغي ان نبتعد عن ذواتنا. عن شبهنا المخيف بأقربائنا". وفي نهاية القصيدة التي يحمل الكتاب عنوانها يقول: "انا شاعر كبير/ لقد كبرت البارحة/ وصرت بحجم عائلي/ وبقي الله شاهقاً/ كلاعب كرة سلة أميركي/ من دوريّ المحترفين/ وما برحت،/ احاول عبثاً / تجاوزه/ لأسجّل نقطتين/ وأقلّص الفارق بيننا ".

من ناحية اخرى، يحل هاجس النهاية المرتبط بعنصر الوقت الذي لا ينفك يعود بتواتر ملحوظ. قد يأخذ شكل جسد "لا يتوقف عن الترهل في سن مبكرة" او معصم من دون ساعة يد، يجعل من الحياة عملية انتظار الزامية قد تستمر دهراً، على ما يقول الشاعر، "قبل ان تسقط أجسادنا في الحفر المنسية. وقبل ان نكنّس غبار الساعات عن معاصمنا المتورمة من النظر اليها". وفي انتظار تلك اللحظة "نحتاج الى الوقت كي نفكر بالوقت وفيه وما يعنيه. كي نفكر بالموت والانتحار والذهاب الى المقابر. نحتاج الى الوقت كي نرتّب الورود في الإناء وننتظر الغروب كما لو كان قطاراً". تالياً، يصير كل وداع نهائياً وينطوي كل رحيل مهما كان موقتاً على موت ما : "نغادر هذا الاحد. نغادر المنزل من نافذته. نأخذ نيغاتيف الصور معنا، ورائحة السكان، ولا ننسى الموتى المدفونين في صورهم القديمة. نفتح زجاجة نبيذ قبل الرحيل، ونطفئ الأنوار على أطفالنا النائمين في غرفهم. ثم نُلبس الأثاث ثياباً من نايلون، ونسحب فيش التلفزيون، ونرش المطبخ بمبيد حشرات فتّاك. ننظر الى السماء لنتأكد انها لن تمطر. نلبس معاطفنا ونرحل هذا الأحد، لنعود غداً الاثنين ".

في المقابل، يُسجَّل على المجموعة، وخصوصاً في القسم الاول منها، بعض الميل الى سردية مبالغ فيها بحيث تصير الجملة أثقل من ان تتمكن من بلوغ شعريتها. وقد يكون افضل مثال على ما نقوله مطلع القصيدة الاولى حيث نقرأ: "تدخل الى المنزل حاملةً اكياس الخضر، وهموم عائلة مؤلفة من ثلاثة ابناء، وزوج مصاب بالتعب من خمسين عاماً أمضاها في منازلة الحياة على حلم غامض لم يتحقق". جملة نثرية بامتياز لا ينجح اسلوب السرد الخطي (lineaire) فيها في العبور بها من النثر الى الشعر .

اما ما يبدو للوهلة الاولى ثرثرة تضعف القصيدة في بعض الاماكن، فيتبين في مزيد من التدقيق انه اقرب الى نزوع فائض الى الشرح والتفسير. تتحول اذذاك اللقطة الشعرية، او اللحظة القصوى في القصيدة، نظريةً وما يسبقها او يليها عملية برهنة استنباطية تعطّل عنصرَي الادهاش والغرابة. فلنعاين على سبيل المثال قصيدة "معكرونة الرابعة فجراً"، يكتب الأمين : "في الرابعة فجراً أبحث عن قداحة في جيب القميص. يتمدد أبي على الكرسي من دون جسده : بنطاله والقميص والحذاء تحت الكرسي. فقط لو يقوم ليشعل لي الغاز لأطهو المعكرونة . فقط لو ان الثياب تعرف الطريق الى المطبخ. فقط لو ان جسد ابي لا يتقلب في السرير قرب امي". كأني بالعبارتين الاخيرتين، ولاسيما الاخيرة التي تخلو من اي بعد سوى ذاك الاخباري، لا غرض منهما الا تلقيم الفكرة تلقيماً للقارئ، مما يقتل عصب القصيدة ويفقدها من قوة وقعها .

تبقى ربما نقطة القوة في المجموعة، او بالأحرى في شعرية رامي الأمين تحديداً، نوع من الغرائبية أشبه بتلك التي تنتجها مخيلات الاطفال وتجعلهم يرسمون الشمس على هيئة وجه بشري مبتسم، او يرون في الخيالات والغيوم اشكالاً وقصصاً لها منطقها الخاص: "اعتقد ان الله اعمى، ويستخدم عكازاً ليتنقل في السماء. والا من ذا الذي يرتطم بالكواكب ويغير مسارها؟"، نقرأ في مكان ما من الكتاب. وهي غرائبية لا تبدو آبهة بالانتهاك والتحطيم بقدر ما يبدو الدافع اليها جنوحا لعبيا مجانيا لا يرهق نفسه بالتفتيش عن قضايا. من ناحية اخرى، لا يتوانى الشاعر عن التلاعب بوظائف الاشياء وتحويلها عن مساراتها في عمليات ذهنية يتحول فيها المفعول الى فاعل، فتكفّ المراوح عن انتاج الرياح والسنونو ويصير المطر دليلاً اضافياً على وجود الازهار، اما السيارات التي تمر على المطر، فـ"تلقي بركابها على الرصيف، مع بطاقات كُتب عليها: مرتجع ".

هذا الأسلوب النزق في التعامل مع معطيات الحياة نراه أحياناً يحاذي، ولو بخجل، شيئاً من السينيكية الاولية. يكتب الأمين مثلاً في قصيدة عنوانها "بقعة صفراء في وسط الكيلوت": "الاب يجلس قبالة التلفزيون / يقلب المحطات/ بالريموت كونترول/ باحثاً عن موت عاجل في برادات المستشفيات./ وجهه أصفر،/ ليس بسبب الخوف/ انما لأنه لم يأكل منذ يومين/ وظل يدخن/ عله يصاب بسرطان الرئة،/ لكنه لم يفلح./ الام تفقس ما تيسّر من البيض في المقلاة/ بحثاً عن صوص / تربّيه في علبة من الكرتون/ فيصير دجاجة،/ او ربما ديكاً،/ لتذبحه وترتاح ".
في هذه المجموعة الاولى، ينجح رامي الأمين في ان يُسمع صوته ويعلن ان لديه شيئاً يضيفه الى المشهد الشعري الشاب ولو احتاج الى المزيد من التبلور... والوقت خير حَكَم .

sylvana.elkhoury@annahar.com.lb

النهار- 25 ابريل 2007