إلى خطف اللغة من عزلتها الصامتة

"أسئلة معلقة كالذبائح" لفاطمة قنديل

جهاد الترك

فاطمة قنديلليس من عادة الرؤية الشعرية أن تسفر دائماً عن انكشاف تلقائي عن مكوناتها القريبة أو البعيدة. قد تذهب، أحياناً أو دائماً، في اتجاه معاكس. يخيل الينا أنها ضنينة بنفسها. أنانية. تعاني من عقدة الاصابة بأمراض الأنا وتداعياتها. وتمارس قمعاً سادياً على من تسوّل له نفسه الاقتراب المجاني من دائرتها المغلقة. غير انها، في المقابل، لا تخلو من رغبة عميقة في استدراج من لا تظهر عليهم علامات الاعياء وهم يتتبعونها في تحولاتها المعقدة. أو من يسعون الى النفاذ اليها من وراء الجدران العالية للغة الصامتة. الرؤية الشعرية، في هذا السياق الصعب، تلقي بنا، على الفور، في متاهة التحدي قبل ان تبوح بأسرارها، هذا ان فعلت. وقد تجعل الطريق المؤدية اليها، وعرة خطرة، وأحياناً مخيفة تقشعر لها الأبدان. فتزداد وتيرة التحدي. فيعود القهقرى من يعود. ويخاطر من يخاطر. وفي النتيجة قلة تصل وكثرة تنسحب خائبة. قد لا تبدو هذا التصورات الأولية غريبة عن طبيعة المواجهة التي تفترضها الشاعرة المصرية، فاطمة قنديل، في نصوصها الجديدة "اسئلة معلقة كالذبائح" الصادرة قبل ايام عن "دار النهضة العربية" في بيروت.

البحث عن ضوء

نصوص تتجاوز العشرين تراوح بين القصر الشديد والاسهاب المطول، دلالة على الأرجح، على نبض متوتر يتحرك سريعاً وحثيثاً في اطار "جغرافي" واسع من المشاهد الذاتية والموضوعية. عناصر، اسماء، أشياء، اشكال وألوان وما يستتبع هذه جميعا من صور تتشظى في اتجاهات متناقضة. وأحياناً متناغمة، وأحياناً اخرى متباعدة أو غير متآلفة. احساس دفين لدى فاطمة قنديل بالحاجة القصوى الى مصادرتها جميعاً، تمهيداً لامتلاكها بالكامل، وصولاً الى الحاقها بمقتنيات الذاكرة. وبعد ذلك. شحنها بما يحيل افاقها متاهات مغرية لمطاردة الحلم وهو يشق طريقه نحو التوهج. هذا ان امكنه ان يفعل ذلك. توحي نصوص الكتاب باقبال نهم على البحث عن الضوء الشعري في كل الأمكنة والزوايا وحتى تلك المخلفات والبقايا الصامدة وحيدة في العزلة. ثمة توجه حقيقي لازالة تلك الطبقة الكثيفة من العتمة عن مكونات هذه المشاهد من خلال القائها بالتدريج أو دفعة واحدة في مهب الانارة الشعرية على نحو متعاقب. تتوالى هذه الالتماعات في سائر النصوص، على وجه التقريب بدرجات متفاوتة من الاشراق الشعري وفقاً لطبيعة المعنى وقدرته على الانسجام مع دفق الرؤية الشعرية. قد نعثر احياناً على نص مستقل أو أكثر يخفت فيه توهج الصورة الشعرية بشكل او بآخر. نخال ان قنديل قد باغتها المأزق، فأسقط في يدها فاستسلمت للتعثر. والأغلب ان ليس ثمة شيء من هذا القبيل، بدليل ان الشاعرة سرعان ما تستدرك هذا الفتور ان صح التعبير بنص يعقب مباشرة تشتعل فيه الرؤية الشعرية على نحو مفاجئ. والأرجح ان ليس في الأمر اي مفاجأة تذكر، كما لا تصطدم هذه النصوص او تلك بعراقيل محددة تنال من تطور الصورة الشعرية، أو تحد من تناميها، او تسيء اليها.

الصورة بين الكر والفر

الأرجح، في هذا السياق المتوتر في حركته الداخلية، ان فاطمة قنديل تلجأ احياناً الى شيء كثير أو قليل من تهدئة الصورة الشعرية المتململة او المنتفضة او حتى المتكونة في رحم المعنى. ثم تعمد، بعد ذلك، الى هزها بقوة قد تبلغ في احوال عدة عنفاً ملحوظاً محبباً، والأغلب ضرورياً لبث ما فات هذه النصوص من اشراق هي في امس الحاجة اليه. المعادلة، في هذه الأجواء المضطربة من الكر والفر بالصورة، مدروسة، أو هي قريبة من ذلك، تهدئة ثم اشتعال في المعنى، ثم خفوت للتوهج من جديد، ثم اطلاق للصورة بمكونات أخرى اكثر بريقاً لم نكن لنقع عليها من قبل. يبدو ان معادلة كهذه، اذا جاز التعبير، هي اقرب الى مزاج الشاعرة وهي تتقدم ببطء نحو الضفة الأخرى للصورة الشعرية. هدوء مشوب بالتروي والحذر والتأمل، ينقلب، من دون سابق انذار، حافزاً يبعث على النقيض، ومع ذلك تقنعنا قنديل بأن طرفي هذه المعادلة المفترضة يكمل احدهما الاخر، والأغلب ان احدهما يتولد من الآخر، او يستولده. وكأن ثمة جدلية من طراز شعري ملحوظ تستخدمها قنديل، بشيء من المهارة، لتتعقب رؤيتها الشعرية بخط لغوي شفاف لا يستدعي حفراً عميقاً في تربة المفردات لصقلها من جديد. نلحظ هذه الميزة، على الأرجح، في النصوص المطولة التي تستدرج فيها الشاعرة كثرة من العناصر والمكونات. توحي هذه المشاهد، على وجه التحديد، بأن قنديل توظف هذه الجدلية، على نحو يدعو الى الاعجاب. لا تقترب مباشرة من الصورة وهي في طور توهجها. تبقي على مسافة تنطوي في نسيجها الداخلي، على ما يجعلها قابلة لأن تتحكم بها. مسافة لا تشتمل على حدود فاصلة في الزمان والمكان. مسافة لينة، طرية، تنصاع بسهولة لمحاولة اجتيازها على جناح السرعة وصولاً الى بؤرة الحلم وهو يتلقى مزيداً من الأضواء الكاشفة. وقد نعثر، أيضاً على هذه الميزة في النصوص القصيرة، أو القصيرة جداً. الأمر الذي يحيل الجدلية المذكورة أسلوباً يمكن اللجوء إليه لقراءة نصوص الكتاب على نحو أكثر ذكاء، والأغلب أكثر تشويقاً واقتراباً من المعنى الشعري.
تكتب في نص بعنوان "سمكة ملوّنة ترغمني على الاحتفاظ بها. لن آكلها":

أوصاني أن أذرو رماد جثته
ثم أجمع النثار من الطرق
لم تكن المهمة مستحيلة كما تصورت
وكنت كلما مشيت أرى الذرات تبقع الأرض
فأقشرها وألقيها في سلة حتى ملأت سلتين
دفنتهما بجواره ونمت
في الصباح كانت الديدان تنهش يدي
وكانت عظامهما تشبه تماماً سلتين فارغتين

ذاكرة الجسد

النص نموذجي، على الأرجح، دلالة على التقنية الشعرية التي تستخدمها قنديل لصوغ صورها. يبدأ النص بوصية تنفذها الشاعرة نزولاً عند رغبة صاحبها بأن تنثر رماد جثته. استهلال قد لا ينطوي، بالضرورة، على ما ينبئ بفوران استثنائي للصورة الشعرية في وعاء الحدث. ومع ذلك، سرعان ما تنقلب الصورة على نفسها، بشكل دراماتيكي. فإذا باليدين اللتين جمعتا ذرات الرماد تتحولان، بدورهما، كتلتين من العظام نهشهما الدود. وكأنهما أصبحتا امتداداً لرماد الجثة، أو أنهما فعلاً كذلك. والأغلب أن اليدين والجثة وجهان لعملة واحدة تمثل حالة استباقية للموت القادم من المجهول بأشكاله المتعددة. المثير للجدال في هذا النص، وللدهشة أيضاً، الكيفية التي تستدرج بها قنديل شكلاً محدداً من تداعيات الموت، ثم تفاجئنا بعد ذلك أنها هي نفسها من ينطبق عليها هذا الشكل. تحمل في ذاكرة الجسد بذرة المرض الخبيث الذي ما أن يلمس الأشياء حتى تتحول موتاً محققاً يتسلل الى المشهد على مرأى من العين. تصبح قنديل، في هذا النص، تعبيراً شعرياً متحولاً للموت والحياة معاً. والأرجح شاهد عيان يرقب عن كثب شبح الموت وهو يتغلغل في الأعضاء، يفتتها، يحيلها هشيماً من دون أن يفقدها القدرة على الاحساس بثقل وطأته. إنها الحياة التي تستبق قدوم الموت الكامن فيها منذ البدايات الأولى. كما أنه الموت الذي يتوخى الحياة سبيلاً ليفرض نفسه الطرف الأقوى في هذه المعادلة.
الأغلب، أن هذا الاستدراج للموت في معظم نصوص الكتاب، يشكل نقطة الاحتدام الشعري التي قد تبلغ ذروتها لدى هذا الاصطدام بين فكرة الزوال وغريزة البقاء. قلما نعثر في النصوص على رؤية شعرية تنطلق نحو التوهج، أو هي في طريقها إليه من دون أن يسفر هذا الاحتكاك العنيف بين الموت والحياة عن تسوية شعرية مقنعة تتجاوز الأثنين معاً. تثبت قنديل في نصوصها الجديدة انها تتوق بالغريزة إلى استقدام هذا الاحتكاك الى بؤرة الكتابة حيث يبدو النزاع بين طرفي الاصطدام عنيفاً وقوياً الى الحد الذي يبدو أن لا مساومة فيه على الرهان على الصورة الشعرية المتألقة. صحيح أن منحى كهذاً لا يخلو من خطورة التأرجح على حافة الهاوية، إذ قد لا تتمكن الصورة من بلوغ توهجها المنشود. ومع ذلك، تأخذ قنديل هذا التحدي على عاتقها. ترتقي الى مستواه المتصاعد لتضفي على الصورة الشعرية شيئاً كثيراً من طبيعة المأزق الصعب. الأرجح، في هذا السياق، ان الشاعرة تواظب في سائر النصوص. على تأكيد إصرارها على التشبث بهذا المنحى، ليس على نحو مفتعل، بل استجابة للقلق الناتج عن احتمالات التعثر. وهذا ما لا نلحظه في النصوص تكتب في نص عنوانه "عشر سمكات":

مثل أعمى، حديثاً
مددت قدمي لا تحسس الطريق
فانشبكت وعاودتني الرؤية

وفي نص آخر بعنوان "إحدى عشرة سمكة":

حين احترقت عيناه
أؤكد لكم إنه لم يتألم للحظة
فقط اشعل انوار البيت كله وظلّ يقهقه.

جاذبية الروح

نصان نموذجان آخران دلالة على ولادة الصورة الشعرية من رحم الاشتباك بين طرفي النزاع: الحياة والموت، الزوال والامتلاء، السقوط في المتاهة والانتفاضة على حالات العجز والتعثر والاستكانة. في النص الأول، يسفر الاصطدام بين العمى والنزوع الغريزي الى الاستمتاع ببهجة النظر عن استعادة الأعمى قدرته على الرؤية. وفي النص الثاني، يسفر احتراق العينين عن اشعال الأضواء في المنزل كله. ومع ذلك ينبغي ان نلحظ أن هذه الاستفاقة المفاجئة أو المتعجلة لمكنونات الصورة الشعرية هي داخلية على الأرجح. انها من نسيج انتفاضة الروح على واقعها الرث. المأزق المحتدم خارج ذاكرة الروح تعوضه قنديل باستنهاض حقيقي لمكونات النص في طبقاته السفلى.
تنتقل بسرعة من الخارج المبتذل الى الداخل المتألق حيث تبدو الاجواء أكثر استعداداً لإحداث النقلة النوعية في بنية الصورة الشعرية. هناك في تلك المنطقة البعيدة النائية، يتحول الغياب حضوراً في استيلاد اللغة من ذاتها، في الاقتراب المتعمد من جاذبية الروح التي تشد الأشياء اليها على نحو من استقطاب تلقائي الى حيث المختبر الحقيقي لمكونات الصورة الشعرية وهي تنتقل من محطة الى أخرى.

يشكل الغياب في نصوص الكتاب مركز الثقل في تكوين الصورة الشعرية، في تنقيتها، اذا صح التعبير، مما يعلق بها من رواسب غير ضرورية تحول دون وصولها الى حيث يصبح بمقدورها ان تكشف عن عريها. ان تتجرأ على البوح بما يثقل عليها، فتحرر منه دفعة واحدة. غالباً ما تشق الصورة الشعرية في نصوص فاطمة قنديل طريقها نحو عالم الغياب. ونادراً ما لا تفعل ذلك. يغيب المعنى عن ذاته، هنيهات قليلة، من دون ان يفقد وعيه كاملاً. غياب مدروس يهدىء من روع الصورة، يحفف من تدفقها الصاخب، يلجم توترها قليلاً. يكسبها شيئاً من الثقة بأهمية ما تصبو إليه.

وبعد ذلك يستجمع هذا الغياب زخمه من جديد على ايقاع آخر، اكثر وضوحاً، انقى سريرة، واقوى نفاذاً واختراقاً لجدران اللغة القابعة في صمت العزلة. تتحفز الللغة في ظل الغياب، تستفيق من سباتها، تجري الدماء في عروقها، تتوسّل في جسدها قدرة فائقة على القفز من التماعة الى أخرى. يخفق في داخلها توق الي الانعتاق من سكينتها التافهة. تكتب قنديل في نص بعنوان "اشياء علقت بالشباك كان لا بد من تنظيفها":

وأنت تخرجين من الأمسية الشعرية
تبتسمين ببلاهة
وتختزل كلماتك إلى "شكراً"، "الله يخليك"
تكون القاعة قد فرغت
وحده الكرسي الذي جلست عليه حين كنت تقرئين
الكرسي الذي لم تجلسي عليه طويلاً كي يدفأ
ولم تحفظي ملامحه كي تميزيه من بين الكراسي
يظل يطاردك متوعداً بالانتقام.
وحده الكرسي، في هذا النص، يستعيد كينونته، في ظل الغياب.
والأرجح أنه بذلك لا يعود كرسياً، يتحول شيئاً آخر قابلاً لأن يتحول أشياء أخرى متحولة في حد ذاتها.

المستقبل
27 شباط 2008