(روائح ماري كلير- رواية الحبيب السالمي)

اسكندر حبش
(لبنان)

حبيب السالميثمة مساران، إذا جاز التعبير، يتوزعان روايات الكاتب التونسي الحبيب السالمي. فمن جهة، نجد تلك الرؤية التي تحاول أن تعود بالذاكرة إلى الماضي، لترسم لنا صورة عن ريف تونس، وتحديدا منطقة ريف العلا، ومن جهة ثانية، نجد تلك الروايات التي تدور في باريس، لترسم لنا صورة عن الراهن، وإن كان أبطالها الأساسيون من المهاجرين العرب، وتحديدا من المغاربة منهم.
بهذا المعنى، ينسج الحبيب السالمي، حيّزا كبيرا للمكان في رواياته. هو كاتب مكان بالدرجة الأولى، من دون أن يشكل المكان أي عبء على تطور السرد وتواليه، بمعنى أن كل شخصياته تتحرك ضمن هذا التحديد، وضمن هذا الانعكاس الذي يمارسه المكان عليهم. من هنا لا تستطيع شخصياته أن تهرب من هذا التأثير، لأنها تشكل بمعنى من المعاني امتدادا لها. بيد أن نسجه روايات ضمن مكانين، لا يجعله يسقط في لعبة الشرق والغرب، أي لسنا أمام كاتب يحاول أن يصور لنا «الصدمة» التي يحسها الشرقي أمام الغرب. لقد مضت هذه «اللعبة»، التي كتبها غيره، وتحديدا مع مطلع القرن العشرين. لذلك يبدو الحبيب السالمي، ابن هذا القرن الجديد، الذي نحياه الآن، بكل تحولاته وأفكاره وما ينتج عنهما. ما يحاوله الكاتب، في العمق، طرح هذا السؤال العميق، الذي «يفصل بين حضارتين»، من حيث التفاصيل التي تميّز الكائن الفرد، في تفاعله في المكان الموجود فيه.

الذاكرة والراهن

حبيب السالميوإذا كان الحبيب السالمي، في «جبل العنز» و«عشاق بيّة» و«أسرار عبد الله» جعل من ريف تونس، الإطار الذي تدور فيه رواياته، فإننا نجد إلى الطرف الآخر، المقابل، روايات من مثل «متاهة الرمل» و«حفر دافئة»، حيث تشكل فيها مدينة باريس الإطار الذي تدور فيها أحداث هذه الروايات. بهذا المعنى، ثمة تناوب في التشكيل الروائي الذي يسير على خطين متوازيين: خط الذاكرة، أي خط الماضي، الذي يستعيده من «الحيوات» المتعددة في تونس، وخط الراهن، الذي يتشكل في باريس وفي حيواتها المختلفة، وإن قربتها حيوات المهاجرين المقيمين فيها، بمعنى تشابه بعض حالاتهم وعوالمهم.

ربما يتحدث البعض هنا عن منفى ما. بيد أن استعمال هذه الكلمة، يبدو غير دقيق في حالة الحبيب السالمي. لسنا أمام حالة منفى ولا بأي شكل من الأشكال، ربما من المناسب أن نستعمل كلمة «هجرة». فأبطاله من المهاجرين الذي يغادرون مكانهم الأول للذهاب إلى الغرب، ولأسباب متعددة، من دون أن نقع معها على ذلك الحيّز السياسي الذي يشكل السبب الرئيس للمنفى. ربما ثمة جُمل سياسية عابرة، تطالعنا أحيانا في متن الحوار، ولكنها قليلة ولا تشكل حالة عامة. ففي «متاهة الرمل» نجد الراوي يغادر إلى باريس للبحث عن عمّ له، كان يعمل هناك، و«اختفى» وانقطعت أخباره من دون أن يعرف عنه شيئا. أما في «حفر دافئة» فنجد أن الشخصية الرئيسية، حمودة، تغادر مسقط رأسها ـ (وهي قرية صغيرة وسط تونس) ـ لتذهب إلى باريس، بعد أن نصحه الأطباء بذلك لعلاج حيواناته المنوية الكسولة.
ضمن هذا التشكيل المتوازي، تأتي رواية الحبيب السالمي الأخيرة «روائح ماري كلير» (الصادرة حديثا عن «دار الآداب» في بيروت)، أي أنها تأتي في المكان الآخر، الراهن: باريس. لكن اختلافها عن سابقتيها، يأتي في أن شخصية الراوي، لا تغادر إلى الغرب ـ زمن الرواية ـ بل هي موجودة أصلا هناك، حيث تعمل بعد أن كانت تابعت دراستها، ولا تريد العودة إلى بلدها، وكأنها شيّدت أسباب وجودها وبقائها في هذه المدينة. من هذه النقطة، نستطيع أن نقول إن نسبة «الاكتشاف»، أمام المكان الآخر تبدو أقل، لأنها تعيش هنا، وتعرف الكثير من تفاصيله. خاصيّة ثانية، ينبغي الانتباه لها وهي علاقة الراوي بالآخر. فإذا كنا نجد أن الروائي يحاول أن يرسم صورة للمهاجرين في روايتيه السابقتين عبر العلائق التي تتكون مع الآتي من «البلاد»، نجده هنا يرسم علائق أخرى، أي تعاطي المهاجر المقيم مع ابن البلد، وتحديدا، مع المرأة، في روايته هذه «روائح ماري كلير».
لا أعرف لِمَ ينتابني شعور بأن ما يفعله الحبيب السالمي في هذه الرواية، هو استعادة تفصيل من رواية سابقة له، ليحفر فيه، ويذهب عميقا إلى داخله. أقصد، لو عدنا إلى روايته «متاهة الرمل» لوجدنا تلك العلاقة التي كانت تربط بين المرأة الفرنسية «مدام ميشون» مع العامل التونسي، الذي كان عمّ الراوي الآتي للبحث عنه. وهي علاقة انتهت بالقطيعة. علاقة ماري كلير مع الراوي، العامل في فندق، وعدا عن كونها تنتهي بالقطيعة، تحاول أن ترسم مسار هذين الكائنين المنتمين إلى «مفهومين» مختلفين في الحياة. ربما تكون كلمة مفهوم أفضل من استعمال كلمة «حضارتين»، إذ كما أسلفت، لا محاولة هنا، لكتابة «صدام حضارات» بالمعنى الراهن للكلمة. حتى وإن كان ينحو البعض لقراءة هذا العمل، انطلاقا من هذه الزاوية، إلا أنها ترتكز على التفاصيل الحياتية الصغيرة.
تفاصيل صغيرة، تجمع عادة بين كل محبين. فعبر هذا التطور الذي يتقصاه الكاتب في رسم هذه العلاقة، يأخذنا الحبيب السالمي إلى أعماق النفس البشرية في تحولاتها وأهوائها. إنها هذه التفاصيل التي تصنع الحياة بأسرها، هي أيضا التفاصيل التي تقودنا إلى الأفكار الكبيرة. أقصد: ما يشدني دائما إلى أدب السالمي، عمله على التفاصيل الصغيرة ليرسم هذا «الفريسك» الهائل من دون ادعاء الأفكار الكبيرة التي غالبا ما أجد أنها تقتل العمل. يستطيع الكاتب من أشياء هامشية، إذا جاز القول، أن يرسم ما يريده، أن يأخذنا في رحلته الممتعة التي تشدنا من البداية إلى النهاية. هذه المتعة، ترتكز على بعض الأقاصيص الصغيرة التي يعمل عليها ويطورها ويوسعها، أي لا نجد مجموعة من الأحداث الكثيرة المتعاقبة، بل أحداث قليلة، يعمل على استنطاقها من الداخل، ليبني منها عالمه السردي الجميل.
لكن لو حددنا كنه هذه العلاقة، فقط، بين مهاجر عربي وامرأة أجنبية، (أقصد العلاقة كما تتبدى في رواية «روائح ماري كلير»)، لفقدنا شيئا من روحية هذه الرواية. ما يرسمه الكاتب، هو علاقة بين كائنين، تستطيع أن تنطبق على أي كائنين، مختلفين، ومهما كانت عليه «الحضارة» التي ينتميان إليها. هي سيرة أي علاقة تبدأ بالشغف وتنتهي بالكره والانفصال. لكن في اختياره لهذين القطبين، مرده العمل على «مادتين» يعرفهما جيدا، وبخاصة أن الكاتب يقيم في باريس منذ أكثر من عشرين سنة. أي بمعنى آخر، هي رواية تعاطيه مع هذا المكان الذي يقيم فيه.
مكان كان مليئا بالروائح التي تشده، التي بدأت تختفي، ربما من جراء العادة. أجمل ما في الأشياء أنها تنتهي ولا تبقى مقيمة إلى الأبد. من هذا المنطلق، كان لا بدّ لهذه العلاقة، التي بدأت صدفة في أحد المقاهي، أن تنتهي بعد أن وصلت إلى نهايتها، إلى غايتها: أن يكتشف كلّ واحد صعوبة العيش «كزوجين» ـ بمعنى الـ (COUPLE) على الأقل بعد أن تتسلل الرتابة، بعد أن تنتهي الروائح التي تشدّ. إذ لو سلمنا جدلا بأن الروائح ليست في النهاية، سوى هذا السراب الذي يمضي، تبدو الحياة بدورها كأنها نوع من هذه السرابية التي تنتهي بدورها.
لا أعرف إن كانت المقارنة تجوز في وصف رواية الحبيب السالمي الأخيرة. إذ ثمة من يعتقد أن روايته الفلانية هي الأفضل، وأن تلك هي الأجمل. لا أعتقد بضرورة هذا التقييم، إذ كلّ رواية من رواياته، تحاول أن ترسم مفهوما مختلفا للإطار الذي تتحرك في داخله. بهذا المعنى، تملك «روائح ماري كلير» مفهومها المتكامل الذي تتحرك ضمنه. مفهوم ينجح الكاتب في القبض عليه ليكتب لنا رواية جميلة. على الأقل هذا ما أجده. أليست القراءة، في النهاية، حالة فردية؟ ربما هي الكتابة أيضا. ثمة الكثير من التفرد في «روائح ماري كلير» التي تأخذنا إلى عطور جديدة.

السفير