("ألف شمس بهية" لروائي «طائرات كابول الورقية»)

اسكندر حبش
(لبنان)

خالد حسينيعن منشورات «بلفون» في العاصمة الفرنسية، صدرت مؤخراً الترجمة الفرنسية لرواية الكاتب الأفغاني خالد حسيني، بعنوان «ألف شمس بهية»، وقد أثارت بدورها العديد من النقاد والجمهور، مثلما حدث الأمر مع روايته الأولى «طائرات كابول الورقية». هنا مقالة عن الروايتين معدة من الصحف التي تناولتهما.

حين وصلت حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان، كان من بين الأشياء التي منعتها ـ وهي كثيرة كالموسيقى والسينما الخ ـ الطائرات الورقية. فكما كانت العادة في كابول، كان المرء يشاهد في بعض صباحات أيام الشتاء، العشرات من الأجنحة الورقية الطائرة المتعددة الألوان، التي يقودها بعض المراهقين بأيديهم الممسكة بالخيطان الملفوفة. كانوا يقضون يومهم وهم يتسلقون الهضاب والمرتفعات والكثبان الرملية، كي يتنافسوا مع خصومهم في اللعب، حيث كل فريق يحاول إسقاط طائرة الفريق المنافس. كل ذلك اختفى من سماء كابول بعد دخول حركة طالبان إليها.

من هذه الفكرة المليئة بالحنين، بدأ الكاتب الأفغاني خالد الحسيني في صوغ روايته الأولى «طائرات كابول الورقية». رواية وجدت صدى كبيراً حين صدرت في العام ,2005 لكن ليس ذلك كل شيء، إذ حاولت الرواية أن تستعيد لا فترة طالبان بل زمن الاجتياح السوفياتي لها. إذ نقلنا الكاتب عبر كتابه إلى أواخر السبعينيات، حيث نجد «أمير» وهو ابن تاجر غني من «الباشتون» مثلما نجد حسن، ابن خادمه الذي كان ينتمي إلى قومية «الهازارا». وعلى الرغم من اختلاف تراتبية السلم الاجتماعي بينهما، إلا أنهما عاشا كأخوين حقيقيين، برغم هذا الشرط الاجتماعي. كانا يحبان الطائرات الورقية وقد استطاعا أن يفوزا بإحدى المسابقات، حيث لم يستطع أي فريق آخر التغلب عليهما. وفي المساء الذي فازا به، تعرض حسن لعملية اغتصاب من قبل قائد «العصابة» المنافسة. مراهق آخر معجب بهتلر، لا يتوقف عن ترداد خطابه الأثيري حول تفوق عرق الباشتون عن «الهازارا» الذي كان يعتبرهم بأنصاف بشر، اغتصاب شهده أمير، لكنه لم يستطع أن يتدخل إذ شله الخوف وتركه في عذاب ضمير لم يستطع التخلص منه حتى بعد أن كبر.

الندم الداخلي

هذه العقدة تابعته حتى الولايات المتحدة، حيث هربت عائلته إلى هناك بعد فترة قصيرة من وصول الجحافل السوفياتية إلى أفغانستان. وفي كاليفورنيا، يصبح أمير كاتباً معروفاً. وبالرغم من الندم الداخلي الذي كان يشعر به لابتعاده عن أرضه، وبالرغم من الحنين المستمر الذي يشده إلى ذلك المكان الأول، عرف أمير كيف يدخل إلى قلب المجتمع الجديد ليصبح واحداً منه لدرجة أنه مثل تماماً ذلك المهاجر الذي يندمج كلياً في مكانه الجديد. إلا أن اتصالاً هاتفياً يتلقاه يوماً من كابول، يعود ويذكره بهذا «العار» الذي حمله في طيات نفسه كل تلك الأعوام والذي اعتقد أنه نسيه. يقول له الاتصال «تعال، هناك طريقة في شرائه». لم تكن عملية الشراء سوى استعادة ابن حسن، الواقع بين أيدي حركة طالبان. وبعد أن يتنكر ويذهب نكتشف معه مناخات الحركة المجيدة: الرعب المنتشر في كل مكان، رجم النساء والرجال حتى الموت، في فترة الاستراحة التي تفصل بين شوطي مباراة في كرة القدم، اغتصاب الأطفال في المياتم... أي نرى صورة لا تمت بأي صلة إلى ما كان يصلنا من أخبار التقوى.

بهذا المعنى، حاول خالد حسيني الذي كان يعيش في فرنسا، قبل أن تحصل عائلته على حق اللجوء إلى الولايات المتحدة، أن يصور لنا «هذه البربرية» الجديدة التي اجتاحت بلاده السابقة، في رواية آسرة، بالرغم من بعض الهنات في الكتابة. من هنا يبدو الفيلم الذي أخرجه سام مندس والذي عرض قبل فترة وجيزة في صالات بيروت وكأنه استطاع التخلص من تعرجات الكتابة ليقدم لنا فيلما جميلا أعاد حمل الطائرات الورقية إلى الشاشة، وكأنه بذلك يسجل نصراً ثانياً على الحركة المذكورة.
لم يتوقف خالد حسيني عند «انتصاره» الأول، إذ أعاد الكرة مع رواية ثانية في العام 2007 صدرت ترجمتها الفرنسية منذ فترة عن منشورات «بلفون» في العاصمة الفرنسية بعنوان «ألف شمس بهية». لكن وبخلاف ما قد يوحي به هذا العنوان، نعود لنجد أن المؤلف (المولود في العام 1965) يسبح مرة جديدة في بحور الظلمات. بحور تقوده ليقدم لنا تشخيصه لذلك البلد الذي انسحق تحت «شيفرات» قوانينه الاجتماعية حيث البطريركية وكره النساء يقودان إلى أبشع أنواع الطغيان، إلى أقسى أنواع اللاعدالة. «حتى أن عقرب البوصلة حين يشير إلى الشمال، لا بد أن تجد رجلاً، وهو يبحث عن مذنب، يشير إلى المرأة» يقول المؤلف في كتابه الذي يحاول أن يغطي فيه مسيرة خمسة عقود، ما بين الستينيات ومقتل مسعود ووصول حركة طالبان إلى الحكم.

مدينة الشعراء

عبر هذه السنين الكثيرة، تبدأ الرواية في شرق أفغانستان، في مدينة «هرات»، التي كانت تسمى مدينة الشعراء. في العام ,1974 كان حكم زاهر شاه الطويل، يصل إلى نهايته. كانت مريم ابنة الخمسة عشر ربيعاً تعيش في كوخ مرعب، خارج المدينة. والدتها امرأة خادمة، حملت من جليل، مستثمر غني يدير العديد من صالات السينما. ولتجنب الفضيحة، تم إبعاد الوالدة والطفلة إلى خارج المدينة. وبالرغم من أن جليل لم يكن في وارد الاضطلاع بأبوته قانونياً، إلا أنه كان يأتي كل خميس لزيارة ابنته التي كانت تحبه، على الرغم من ترداد والدتها الدائم بأنه لن يعترف بها يوماً، وبأنها ستبقى طفلاً حراماً. وقد صدقت تكهنات الأم، حيث أجبرت مريم على الزواج من اسكافي من كابول، يكبرها بثلاثين سنة يدعى رشيد ذي لحية لا بد أن تقودنا إلى اعتباره من أهل التقى. إلا أنه لم يكن يتوقف عن ضربها بوحشية، لأنها كانت امرأة عاقر، لم تستطع الإنجاب. كانت وحشيته تقوده، لأن يجعلها تأكل الحجارة والبحص إن لم يكن الأرُز مطهواً جدياً. لم تكن حياة، بل أجبرها أن تعيش في سجن صامت يقع خلف البرقع التي كانت ترتديه. وبالرغم من تردده الدائم إلى المسجد لتأدية فروض الصلاة إلا أنه كان يخفي في غرفته سلسلة كبيرة من المجلات الإباحية.
الحيز الوحيد الذي أتاح لمريم أن تحس بإنسانيتها المسلوبة «تحت تسلط الشريعة»، كان في إيجادها متنفساً للكلام مع ليلى، فتاة أفغانية نجت من القصف، لتقع بدورها تحت براثن رشيد الذي عاد ليدفع ثمن هذا العنف الذي مارسه على المرأتين، إذ كانت حريتهما تكمن في انتظار ساعة الانتقام في سجن منفاهما الداخلي.

تشكل مريم وليلى، بطلتي الرواية، شخصيتين أشبه «بمنارة» تقود المؤلف إلى أدق التفاصيل، إذ يتكلمان عبره، وكأنهما في النهاية ليسا سوى هذا الفم الذي يحمل أعماق صوته الداخلي، حيث يرسمان صورة لهذا الكابوس الأفغاني الذي لم يتوقف عن التحليق فوق كل شيء منذ عقود عدة. هذا الكابوس هو من حطم كل هذه الأجيال العالقة بين خيارات عدة لا تنجح فيها: البقاء والتعرض لما تتعرض له، الهجرة، وإما السير مع القوى التي تتبوأ السلطة. خيارات قد لا تقنع الأفغان حقاً، ولكنها الوسيلة الوحيدة للبقاء متمسكين بهذه الحياة.

من هؤلاء الذين تمسكوا بالحياة، هاتان المرأتان، هاتان الحياتان التائهتان في حقل المعارك، اللتان تُرويان لنا من خلال اشتباكهما مع جغرافيا البلاد الأخرى كما مع العاصمة، حيث ندخل إلى غرف البيوت، إلى المطابخ، إلى الأحلام. ربما هو الحلم بهذه الشموس البهية التي غناها شعراء تلك البلاد في القرن السابع عشر. بمعنى آخر قد يكون مشروع خالد حسيني، بعد أكثر من 300 سنة، أن يعيد تذكيرنا بتلك الفترة أو ليغني بطريقته طفولته التي انسحقت إلى حد الإمّحاء.

من هنا، قد يبدو كل فن الكاتب وكل نجاحه، في قدرته على إقامة التوازن ما بين العام والخاص، ما بين القصص الحميمية والقصص العامة، إذ يعرف كيف يمزج بين هذين المشهدين من دون أن يصيب القارئ بأي سأم، على الرغم من مرور أسماء زعماء الحرب كلهم كما كل التحالفات السياسية وكل الحروب التي جعلت من أفغانستان بلداً مدمراً.

عبر هذه اللوحة التي يرسم فيها ذلك المجتمع الواقع بشكل كامل في «جاهليته»، نجد المؤلف يرسم لنا لوحة أخرى: صورة «أمة» تشكل فيها السياسة والدين الشريكين المتواطئين مع هذا الخرق الجنوني للجماعة - كما الانتحار البطيء لشعب بأسره. إذ كم من اللعنات لاحقت هذه الأفغانستان المجتاحة، حيث شموس الماضي البهية غرقت اليوم في بحور الدماء التي لا تتوقف.

السفير
يونيو 2008