(لوزي يكتب عن ليوباردي نظرة شاعر إلى شاعر)

اسكندر حبش
(لبنان)

يتيم الإنسانية لا شك أن علاقتنا بالأدب الإيطالي تبدو علاقة على كثير من الالتباس والغموض. فنحن لو حاولنا أن نحصي العناوين (الإيطالية)، التي صدرت بالعربية، لوجدناها قليلة وقليلة جدا، ولا تقدم إلا النذر اليسير عن غنى واتساع تلك الآداب. من هنا نلجأ في كثير من الأحيان إلى لغات وسيطة تكون السبيل لإطلالة تقدم لنا هذه المعرفة، وبخاصة أن الكتب الإيطالية لا تصل إلى مكتباتنا. إزاء ذلك، تشكل اللغة الفرنسية، مثلا، خير وسيلة لقراءة هذه الأعمال، التي تسافر بالوعي صوب مناخات مختلفة. من الترجمات الصادرة حديثا في العاصمة الفرنسية، كتاب الشاعر الإيطالي الكبير ماريو لوزي (حاضر ليوباردي) عن منشورات (فيردييه)، وفيه يقدم نظرته وقراءته لشاعر آخر كبير يجد أنه أحد مؤسسي الحداثة الشعرية الإيطالية.

نص لوزي هذا قد يكون من أهم النصوص التي كتبها حول ليوباردي وجاء في الأساس من خلال مداخلته في (مؤتمر الدراسات الليوباردية) الذي عقد في مدينة (ريكانيتي) (مسقط رأس ليوباردي) العام 1972. وبعد سنتين، عادت دار نشر (ريتسولي) لإصداره تحت عنوان (ليوباردي في العصر الذي يليه) (Leopardi nel secolo che gli succede)، وهو اليوم موجود في كتاب (طبيعة الشاعر) وهو عبارة عن مختارات من أبحاثه أصدرتها دار (غارزانتي) العام 1995. الترجمة الفرنسية هذه، التي جاءت بعنوان (حاضر ليوباردي)، صدرت للمرة الأولى العام 2000 بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد ليوباردي، وما الكتاب هنا إلا في طبعته الثانية.

سيرة

ولد ماريو لوزي العام 1914 في (كاستيّو) بالقرب من مدينة فلورنسا، ويعتبر اليوم واحدا من الشعراء الأوروبيين الأساسيين في هذا العصر كما أنه الأكثر تمثيلا لهذا (الجيل الشعري الإيطالي الثالث) الذي يضم بين طيّاته أسماء لامعة مثل برتولوتشي (والد المخرج السينمائي الشهير) وبيغونجاري وكابروني وسيريني.

شاعر وقاص وباحث، كتب لوزي أيضا للمسرح وترجم إلى الإيطالية العديد من الشعراء الفرنسيين والإنكليز والأسبان، من هنا يشكل وجها أساسيا من وجوه المثقف الذي يقف في المرتبة الأولى على الساحة الإيطالية. درّس الأدب الفرنسي مطولا في معهد العلوم السياسية في فلورنسا، وكان قدم أطروحته الجامعية حول الكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك، التي صدرت فيما بعد بعنوان (الأفيون المسيحي). بيد أن دراسته هذه لم تكن الوحيدة حول الأدب الفرنسي، إذ نشر طوال حياته العديد من الدراسات لعل أبرزها (دراسة حول مالارميه) (1952) و(ملامح من الجيل النابليوني) (1956) و(أسلوب بنجامان كونستان) (1962).

كانت بداية لوزي، الباكرة، على الساحة الشعرية الإيطالية بداية صاخبة: جاء ديوانه الأول بعنوان (المركب) (1935) وقد حمل بعضا من الخطوط العامة التي بقيّ الشاعر مخلصا لها طيلة حياته مثل (تمجيد الحياة في تنوعها وتعقيداتها، صورة الأم كما صورة الفتاة الشابة، حضور المشهد الطبيعي العائد لمنطقة توسكانة، ذلك البحث الميتافيزيقي...).
في العام 1940 صدر ديوانه الثاني (ارتقاء ليلي) والذي أشار إلى تحوله (الهرمسي) في اللغة الشعرية: لقد (رغبت) الكتابة التي تحولت إلى عملية منطقية بشكل كبير في أن تتحول إلى نوع من الرمزية الجديدة المتجهة صوب (حدث كلامي) أشبه بعبارة مالارميه، وذلك في مزيج من المراجع الميثولوجية والعبارات الغامضة. بمعنى آخر كانت هناك حاجة وضرورة عند لوزي، بطرح العبارة الشعرية من نظرة الرقابة الفاشية ومن فظاظة السياق التاريخي، وهي عملية وجدناها في عملية التثاقف هذه التي وسمت أعماله في الأربعينيات مثلما وسمت أعمال غيره من الكتاب. في العام 1942، عادت هذه العبارة الشعرية لتعطي كتابا نثريا بعنوان (سيرة إلى إيبيه). إزاء ذلك، تشكل نوع من (تيّار) ضمه مع غاتو وبيغونجاري وبارونكي كما مع الناقدين أوريت ماكري وكارلو بو، ليجسد لوزي عبر ذلك ما اصطلح على تسميته (بالهرمسية الفلورنسية). في العام 1946، جاء كتاب (إراقة الخمر) ليشكل (الجزء) الأخير من أعمال لوزي المرتبطة بهذا المناخ (الرمزي المتشدد)، إذ أنه بدءا من كتاب (الدفتر الغوطي)، الصادر العام 1947 بدأت عبارته الشعرية تتحرر من هذا القيد الذي فرضه زمن الحرب، لتحاول أن تكون (أكثر عشقا) (مثلما يصفها الناقد برنار سيميوني). فبعد هذه الأزمة التي شهدتها أوروبا، حرضت عملية الانتباه للواقع على (التجسيد المتعاظم) لشعر بدا مسكونا بتلك الرغبة في الانخراط (بتحول الكائن البشري الحي).

مراحل هذه التطور في الكتابة، عبّر عنها عبر الكتب التالية: (بواكير الصحراء) (1952) ومن ثم (شرف الحقيقة) (1956) الذي قطع نهائيا مع هذه (الهرمسية) التي عرفتها كتبه الأولى، إذ كان (الدرس) الأسلوبي والأخلاقي يعبر عن نفسه من خلال أشكال ليّنة، خاضعة لمبدأ ثابت من مبادئ التنوع. بعد سنة من وفاة والدته، أهدى لوزي الكتاب الذي ضم كل كتبه الشعرية التي صدرت سابقا والتي أعطاها عنوانا عاما (صواب الحياة) وكأنه بذلك كان يشير وبوضوح إلى انتهاء مرحلة من مراحل عمله الكتابي.

في العام 1963 صدرت الطبعة الأولى من كتابه (رواسب)، بينما صدرت طبعة ثانية منه، منقحة ومزيدة، العام 1966، وقد جاء الكتاب هذا ليشير إلى لحظة كبيرة وأساسية ليس فقط في عمل ماريو لوزي الشعري بل أيضا في الشعر الإيطالي لفترة النصف الثاني من القرن العشرين: عمل تميز بمحاولته (المصالحة) ما بين البحث عن الحواس والإصغاء الحر لمختلف المظاهر النقدية أو المتناقضة للواقع الفردي أو الجماعي. جسد ديوانه هذا، انفتاحا باتجاه الشعر الحكائي، وان كان قد حافظ على تلك الكثافة الميتافيزيقية والروحية التي عرفناها في دواوينه السابقة. شعره الجديد تضمن حوارات، جاء متعدد الأصوات (البوليفوني) حيث (الأنا) الشعرية تدخل في تناغم مع العديد من الموضوعات الأخرى، ليتمخض عن ذلك نوع من (الديالكتيك) الماهر الذي يحفر في اليومي. في العام 1965 أصدر لوزي كتاب (من أعماق الريف). تركزت قصائده حول مسقط رأسه كما على صورة الأم الغائبة، وهي موضوعات أكدت هذه الحيوية في كسر (خيط المراثي القاسي) من أجل التعلق، بقوة، بهذه (المحاولات الانكفائية). من هنا بدأت المشاهد الخلفية العائدة لمنطقة سيينا تشكل مشهد الروح والشعار الأكثر حميمية لكل عمل الشاعر.

افتتح كتاب (عن أسس غير مرئية) الصادر العام 1971 الشكل الشعري الذي احتفظ به ماريو لوزي حتى كتبه الأخيرة: مقاطع طويلة تتواجه فيها الغنائية الوجدانية والفكر وتتكاملان تعيد تحريك هذه الطوباوية التي جسدها دانتي، وهذه الشعرية المتحولة والمتعددة اللغات، والتي لا تظهر أي صرامة تجاه انبثاق الواقع والحدث. هذا (الميثاق) الشعري الجديد الذي مرّ من خلال واقع متعذر الإمساك به ولكنه مع ذلك يؤسس لكل مسؤولية أخلاقية أعطى ثمارا ذات قيمة إنسانية وفنية كبيرة. ثمرة هذا الميثاق، جاءت مع كتاب (عند نار المجادلة)، في العام 1978، الذي شكل من دون أدنى شك الكتاب الذي ترك فيه لوزي تتساءل وبشكل أعمق حول تعددية الواقع، حول استحالة قول ذلك. بمعنى آخر جاء هذا الكتاب لتتضح عنده نهاية الأوهام (الأفلاطونية الجديدة).

التأمل النقدي للشعر

ضمن هذه المسيرة، أين يقع نص لوزي عن ليوباردي، ضمن أعماله كلها؟ بالنسبة إلى لوزي، كان ليوباردي أول من أدخل الفكر (أو التأمل) النقدي في الشعر. في عالم أصبح خاويا، يجد الشاعر نفسه انه استحال لأن يصبح صدى لذلك. انه يتبع طريقه بصفته (يتيم الإنسانية)، معبرا من خلال ذلك عن ندمه وعن حرمانه وعن وحدته؛ يشعر بنفسه (في غير مكانه). من هنا يبدو (مسكنه) الوحيد في حيوية الرغبة هذه، التي تشير إلى أزمة العالم والوعي: ففي مواجهة تفكك العالم نجد تلك المحاولة لإعادة استرجاع هذه الوحدة المفقودة، عبر اللغة. هذا ما يحلم به الرمزي. إزاء ذلك، نجد ماريو لوزي يحلل، بعد مبادئه، مكانة الشاعرين الإيطاليين باسكولي ودانوزيو. من ثم يفكر حول المغامرة الشعرية في القرن العشرين، في عالم يتخلى عن إنسانيته. يرتكز فكره بشكل أساسي على الشعر، الذي يجد نفسه مهددا من قبل الثورة، والذي يلجأ إلى السوريالية محاولا ان يتناغم مع الواقع الذي يتحول باطراد.

ان راهنية ليوباردي بالنسبة إلى لوزي، لا تزال حاضرة وبعيدا عن كونه (عاشق الموت المعتم) كما قال عنه الشاعر الفرنسي ألفريد دوموسيه، ذات يوم. انه على الخلاف من ذلك، إذ استطاع أن يبين وبخلاف كل أسبابه التي قادته لليأس عن ذلك الواجب الواضح الذي أسس للقسم الأكبر من الأدب الحديث. ففي قصائده ذات التكامل الكلاسيكي كما في ذلك (الكاوس المكتوب) في يومياته، أعاد ليوباردي طرح السؤال حول مفهوم التقدم قبل أن يكون مطروحا في أوروبا، أي أنه تكهن برعب القرن العشرين. إلا أن يأسه المطلق، الذي (علينا تسميته باللاأمل) (كما يقول لوزي) والذي ولد من (مذبحة أوهام قاسية) هو من أعطى للكتابة هذا المعنى الجديد: معنى البحث العنيد بحيث أن الشيء ليس إلا الواقع نفسه، والذي يسبر بشجاعة مآزق الذكاء عينه. مع هذا الشاعر المستوحد المرتاب والمحزون بغايات كل الأشياء الكبيرة في الوقت عينه نجد كيف أن الإنسانية تستهلك نفسه مثلما تستهلك كل مثلها، وان كانت مع ذلك تفتح مرحلة جديدة، حيث الفرد، المتحرر من الأنساق، يعمق شعوره الخاص بالوجود.

عرف عن لوزي بأنه شاعر (هرمسي)، قد تكون هذه الشهرة مبررة في كتابه الصغير هذا، الذي يقدم إلينا تأملا مكثفا حول شروط الشعر. من هنا، يجد الكتاب فرصته في إغواء القراء، أو بالأحرى من يهتمون بالشعر والذين يتساءلون حول ماهيته. بمعنى آخر، انه يقدم لنا إمكانية تعميق هذه العلاقة التي يقيمها الشعر مع العالم. أي أن ماريو لوزي نفسه، يعي ذلك حتى التقشف.

هذا هو حاضر ليوباردي الذي يتحدث عنه لوزي في هذا الكتاب الصغير واللامع. انه أيضا تحية لمن سبقه، أضف إلى ذلك انه تفكير عميق، حي، ضروري، حول العلاقة ما بين الشعر والفكر حين نجد أن الرغبة في سكن العالم لا تزال تتجاوب مع إغواء المرارة.