علي العندل يجسد حالة اغتراب الشاعر الحداثي

إبراهيم اليوسف

إبراهيم اليوسف من يقرأ ديوان “سيف الماء” للشاعر الراحل علي العندل، والذي يضم بين دفتيه أربعة عشر نصاً، قدم له الشاعر إبراهيم الملا، يجد أنه وبحق أمام عالم غرائبي، مدهش، يكاد لا يشبه إلا نفسه، سواء أكان على صعيد بنية النص، أو اللغة، أو الصورة المشحونة بالقلق، والتوتر الهائلين .

يأتي نص “سيف الماء” الذي وسم به الديوان، مترعاً باللغة المستفزة التي تدخل في تشكيل صورة تتداخل على امتداد عمارة النص، من دون أن تمكن المتلقي من القبض على ما يتبدّى أمامه من معانٍ لا يمكن الإمساك بها:

“خلف الشمس
في عقيدة المرايا
المعكوسة
عتيقاً مزخرفاً
بالفضة
مدهوناً بالحبو
والارتعاش الحر
مدوناً في الرسومات
مكاراً متجرداً
للحلاقة
ممنوحاً بكل اللعثمة
قميصاً
في بهتان السوق
ينادي
ليت الدمعة تضحك”

صحيح أن اللغة هنا مبهرة، لا تكف عن غوايتها، في استدراج الملتقي لتتبعها، وتوريطه في استكمال ما يبقى دائماً من صورة غير منجزة، معتمداً في ذلك على خطوط لماحة في التشكيل الشعري مثل: الشمس المرايا الفضة . . إلا أن هذه الخطوط المشار إليها تبدو خارجة عن إطار استخدامها المألوف، لأنها تغدو لبنات يعاد بناؤها خارج المألوف، ناهيك عن أن الذهني والتجريدي سرعان ما يتذاوبان، ضمن جبلة صورة فريدة، لا تؤول إلى أرومة أبعد من امتداداتها الخاصة .

ولعل الشاعر هنا ينطلق من العتبة النصية في “سيف الماء” لئلا تكون مفتاحاً يحيل إلى عالم النص، نفسه، بل لكي يحيل صورة النص إليها، منطلقاً منها، لتكون جزءاً من نص لا يستكمل دونها، مادام أنه بصدد بناء نص حداثي، لا علاقة له بضروب المحاكاة والتقليد .

إن متابعة تنامي صور النص لتدفع للبحث عن المحال إليه في ضمير الغائب، الذي لا يمكن الاستغناء عنه دلالياً، ليأتي تجسيده في العنوان، افتراضاً أول، يسد فراغ العلاقات اللغوية في إطارها البنائي، وإن كان ذلك نفسه، يواجه في ما بعد بسلسلة ثغرات، لا يمكن التعامل معها ضمن مثل هذا الفهم التقليدي، لأن الشاعر يهيئ ليعيش حالته نفسها، وهو ما يدفع بالمتلقي لأن يسهم معه في استكمال دلالة النص، وبناء الصورة الشعرية:

“قرباناً
لبلاغة تافهة
توجت
إلى قبل الميلاد
لقيثارة الفقدان
خلف كل هذا
في بدء الخريف
ولذة الجذور
حيث في حديقة البصل
ليت
دمعة تأتي
أو لا تأتي
لأشعل ثيابي
للضحك، للغضب
متسكعاً
مالئاً قبضتي بالزئبق
إلى أين؟”

ثمة فرار علني من البلاغة ومقدماتها وأدواتها، بل وعوالمها وثقافتها، ليكون النص بلغته الخاصة، منبئاً عن أي جذور، ما دام الميلاد يواجه بالفقد، ولذة الجذور تستغرق في أول خريفها، والدمعة تغدو مدعاة لإشعال الثياب للضحك، أو الغضب، حيث للبصل حديقة .

إنها حالة يقتنصها الشاعر، ويستطيع جذب متلقيه إليها، ليشاركه النوسان بين ضفاف متناقضة من الولادة والأفول، وإن كان كل ما هو مضيء يهدد بقتامة الألوان، والهزائم، والانكسارات، بل وإن كان الإمساك بتفاصيل المعنى هنا لأشبه بالزئبق، الذي لا يطمئن إلى القبضة من دون أن يعرف المتلقي إلى أين تقوده اللغة التي تشعل الصور على هذا النحو الفريد:

“يا خرمات القلب
والسماء الذرة
لم يعد
في الإسطبل “إنساناً”
سأعدو مهرولاً
أعدو طويلاً
في سراب البالية”

ثمة حالة تحطيم متعمدة، يصر عليها الشاعر، إزاء قلب يعاني من الخرم، وسماء متفككة إلى ذراتها، وإسطبل لم يعد فيه إنسان، ما يدفعه للهرولة طويلاً في سراب الباليه .

إن صعوبة كبيرة، تواجه المتلقي، وهو يحاول تحليل المقطع على ضوء العلاقة بين الدال والمدلول، أو التطبيق النحوي على الجملة، ما دامت اللغة تجد في خروجها على تقعيدها جزءاً من غائيتها التهميشية:

“يا سرداب الروح
قبضت عليك
عارياً إلى أين؟
الضفدع عقل
“واق” اللعنات
والقلب
سيف ماء . .”

جنوح النص إلى تأسيس نفسه، منقطعاً، ومن دون أي تقاطع مع السائد، أيا كان، يضعه في مواجهة نفسه، أولاً قبل مواجهة سواه .

من هنا، يبدو الشاعر كبهلوان منهك، مهزوم، يقدم عروض طقس كرنفالي، أسطوري، بمهارة كبرى، من دون أن يضع في باله جمهوراً محدداً، يصفق له أني حلق، أو يمتعض منه أنى أخفق، إلا أن هذه المشاهد التي تترى في هذا الطقس الاستثنائي، تستعصي على أي عين، فلا تترك أي أثر لالتقاطها .

وإذا كانت العتبة النصية تتكون من جملة فعلية، فإن الفعل فيها تطاردني ينفتح على القلق، والتوتر، واللااستقرار، وما يتبعه ذلك من اضطراب ولهاث، وهو لينم عن روح مكلومة، لم تتصالح مع محيطها:

“عيناك زائغتان
ونبضك
في كل المواسم خريف
أصباغ الدماغ صفراء
وقنينة السم خضراء”

ما إن نضع مثل هذا المقطع تحت مجهر الاستقراء، نكون أمام عينين في حالة الزيغان، ونبض كل مواسمه خريف، بل أصباغ دماغه صفراء، بلون الموت، كما أن اللون الأخضر الوحيد الذي قد يذكر بالفرح والتفاؤل هو ليس إلا لون السم . ويستمر الشاعر في رصد حالة الاضطراب التي يعيشها في أقصى حدودها، ليتوالي الرماد محدقاً بكل مفرداته:

“تطاردني الأواني
والصدأ يزرع الرعب
في قلبي
إلى وجه لا أملكه”

أنه لا يفتأ يعلن عن إفلاسه، وانكسار حلمه، العريض:

“كل القمصان لا تليق بي
أريد غابة بعيدة
كل أشجارها أنا”

لا بصيص من نور، أو لمحة من أمل، يمكن العثور عليهما في هذا النص الذي جسد أفظع حالة اغترابية، يعيشها الشاعر، الذي يعتزل فيه الشاعر، وتصفد فيه روحه، وتنغلق بوابات العالم في وجهه، ليغدو غريباً، تلفظه أفواه الأطفال، برغم أن كل ما تم يدعو إلى الاغتراب، والعزلة الجسدية والروحية، حيث يحيل غواية المفاتيح إلى رماد:

“أبدو غريباً
ملعوناً
تلفظني أفواه الأطفال
. . .
القفل يا صداع بابي
اعتزلت إغراء المفاتيح
زاوية صغيرة
تكبل كل العالم
أمام وجهي”

يتصاعد دوي الحطام في أرجاء النص، ليغدو الشاعر خراباً كما يراه بل وأشبه بحبل المشنقة، موهوباً، متأهباً للرحيل الأبدي، بعدما استبدت في نفسه نبوءة الموت، لتعصف بشجرة حلمه، فلم تعد له في عنوانه النهائي أي حاجة إلى باب وقفل ومفتاح، ما دام أنه مستهدف من كل من حوله حتى الأطفال الذين لن يكبروا إلا لينهشوه . . . .:

“أترصد قدوم
الشلل
الأطفال
أظافر طويلة
غداً يكبرون
هم أيضاً
لنهشي مباحون”

يبدو الشاعر مطارداً ممن حوله، كباراً وصغاراً في آن واحد، وهو ما يجعله يغلق - باب التفاؤل - كما وجدنا، على مصراعيه، في وجه أي بصيص من أمل يمكن التعويل عليه .

إن نصوص الشاعر - وعلى ضوء ما تقدم - لا تعلن عن تقاطعها مع السائد الشعري، فحسب، وإنما تنم عن إعلان صاحبها القطيعة مع ما حوله، من خلال العودة إلى الغابة، في إهاب الشجر، بعدما انقطعت كل سبل تواصله المطلوبة مع الآخر، بل الحياة كاملة:

“أبحث عن ورم خبيث
لرجل بعيد
يبعث العزاء للوجود
يا نار شبابي المقدس
تعود إلى الغرفة
إلى فراغ القلب
إلى موسى للحلاقة
تنتظر إصدار القرار
يا مباهج الطفولة
على تراب المقبرة”

بل إنه يغوص أكثر فأكثر في عوالمه السوداوية، القاتمة، التي تبلغ الذروة من خلال صعقها بالحقيقة المفزعة:

“تأخذك الرائحة
إلى جثمان
لم يجئ بعد
إلى جثة
لن تحملها أنت
. .
شيطان يلاحقني
إلى الخوف يأخذني
قد سقطت من الزمان”

بعيداً عن المقبرة التي تناشد القلب، لتعنونه في خريطتها المتسعة، ومعجم خراب العالم والجسد والحلم فإن هناك نصوصاً ك”البارانويا” “الفيروز” تقدم معجماً آخر، عن خراب النفس، من خلال إيراد مصطلحات ك”البارانويا” “داء العظمة”، بل إن الشاعر سرعان ما يكشف عن ولع مبطن بالحياة، ولكن أنى له ذلك:

“يا داء العظمة
إلى كل عكازات العالم
لأصعد إلى نفسي صعوداً
فوق
ممالك الروح
وماسك الأيادي
لزمام النور
للخلاص”

إن هذا الولع بالحياة يظهر - جلياً - من خلال إيراد مفردة “الرمرام”، ذلك النبات الصحراوى المعمر، كرمز لديمومة البقاء:

“الأنا مقتل
فماذا هي المرشية
الكلمات قاحلة
والأرض الصحراء
تكتب
على أوراق الشجر
الكلمات قاحلة
طوطم “الرمرام”
لا أفقه”

إلا أن الشاعر، برغم انشغاله بسر البقاء، في مواجهة الدمار المحدق، فإنه يرفع كلتا يديه مستسلماً، مؤكداً أنه لا يفقه لغة الرمرام، مقراً بذبول وريقات شجرة الحياة .

يعنون الشاعر ملحقاً لقصائده في نهاية ديوانه ب”فصل إني أضحك” وهو مكون من ستة نصوص هي: التم الهم - إلا ما - إنات النسق - حلم لم ينم - بلل شفاهك بالجفاف وابتسم .

ولعل عنوان هذا الملحق، كان سيبدو عادياً، في ما لو لم تكن نصوص الشاعر غارقة في الألم، ولو كان ذا موقف متكافئ مع من حوله، من دون أن يكون في أقصى درجات الانفعال، تجاه كل شيء، وهو ما يجعلنا نتأكد أننا إزاء سخرية كاريكاتيرية مريرة، ولا سيما حينما نعلم أن أول هذه النصوص معنون ب”التم الهم” حيث يلجأ إلى المزاوجة بين رموز أثيرة، مثل “الرمرام”، الذي يكرره ثلاث مرات في النص، إلى جانب مفردة “دونكلان” التي نتعرف إليها من خلال شرحها في نهاية القصيدة بأنها من الخيال المتداعي للمبدع .

يظهر هدوء الشاعر، وتماسكه أكثر على امتداد النص، وهو ما ينعكس على النص نفسه، الذي يغدو أقل انفلاشاً، وتهشيماً، من سواه، كي يكاد ينسحب على نصوص الملحق بكاملها، مؤجلاً ردود فعله، ما دام الشاعر هو الرائي .

إن علي العندل ليعد - كما تقدمه قصيدته - أحد الشعراء الحداثويين الذين يعيشون نصهم الشعري، ويعيشهم النص، حيث يتم هدم أي جدار يحول بين عالمي الروح والشعر لديهم، وهذا ليعد ذروة الإخلاص للنص الشعري الذي نجا من أي تزويق، أو زخرفة، أو مكيجة، أو “ديكرة”، لأنه أصر على أن يكون النص سفير روحه، وصدى نفسه، من دون أي مواربة، وها هي نصوصه باتت تمنح المتلقي المفتاح لقراءة خريطة عوالمه، وتقري مواجعه، وآلامه، في أقصى درجاتها .

الخليج الثقافي
30/10/2010


إقرأ أيضاً:-