قصائد تتشكل في رحم التجربة الراسخة

محمود قرني

شرور عادية

القاهرة ـ 'القدس العربي' قبل عقدين من الزمان لم يكن لقصيدة النثر هذا الوضوح البادي في مشهدها، وإن ظل رغم كل شيء يحمل الكثير من الالتباسات، إن لم يكن على المستوى المضموني والبنائي فعلى المستوى المفاهيمي.
فليس ثمة تصورات ناجزة أو مقاربات تضمن الحد الأدنى من المرجعية النسبية لشعراء هذه القصيدة سوى في المستوى الذي تحافظ فيه اللغة الشعرية على درجة مقبولة من كثافتها.
وربما كان ما يبدو أنه غياب للتصورات النهائية سببا في منح الشعراء مساحة أوسع من الحرية تجاه اقتراحاتهم الشعرية، بعد أن تهشمت المرجعيات التقليدية، وباتت الرغبة جارفة في صنع تجاوزات واختراقات حقيقية فيما راكمته من تقاليد.
في هذا السياق، الذي لا زال يتمتع بالكثير من الاضطراب في المشهد المصري، يأتي ديوان 'شرور عادية' الصادر عن دار ملامح للنشر للشاعر أسامة الحداد، ورغم أن الديوان هو الأول للشاعر إلا أنه فيما يبدو تأخر كثيرا في نشره حيث ينتمي عمريا الى جيل الثمانينيات، وهو وإن كان يلتمس لنفسه الأعذار في تأخير نشر الديوان إلا أن ثمة مشكلة حقيقية، ترتبط بحساسية الشاعر بالمشهد العام الذي تحاول القصيدة فيه أن تمتلك فرادتها دون أن تخطئ الطريق الى شعر يسعى إلى المغايرة والاختلاف.

بدا ذلك واضحا في شعرية 'شرور عادية' التي سعت بكل قوة الى تحقيق فوائض في الصورة الشعرية وتجليات نفورها ووحشيتها، وكثافة اللغة الشعرية التي تنبئ بشاعرية طافرة لا تخطئها العين.
وظلت أجواء الديوان منذ القصيدة الأولى مشحونة بحدوس متأججة ونافرة تكشف عن كثير من عنف العالم وقسوته، وتعتمد بشكل كبير على استقطار واستعادة التجربة الذاتية لا سيما مرجعية الطفولة والصبا التي يستعيد عبرها الشاعر الكثير من البراءة الأولى.
ولا تتخلى مرجعية القصيدة للشاعر أسامة الحداد عن مساحات واسعة للحلم ليس بالمعنى السريالي المركب الذي أشار إليه نقاده في ندوة أقيمت للديوان بحزب التجمع وسط القاهرة، فالشاعر الذي يسعى للقفز على ركام العنف وتآكل سلم القيم لا يمكن وصفه بالسريالية، فهي جاءت في لحظة وصفها أصحابها بالانحطاط، وهو ما برر لهم قولهم 'المجتمع المنحط لا ينتج إلا فنا منحطا'.
هذا الوصف الذي يبدو للوهلة الأولى أخلاقيا، لا يسعى فحسب الى صياغة عالم جديد عبر الوعي الآلي، لكنه يسعى الى ما سماه السرياليون صناعة الواقع الأسمى أو ما فوق الواقع، فهي بقدر ما كانت تحطيما لصنمية الأنماط الراسخة، كانت تملك سعيا حثيثا إلى اكتشاف نفسها عبر ملايين القتلى في الحرب الأولى التي ظلت وما زالت معنى عبثيا في تاريخ المدنية الحديثة.
في المقابل فإن تجربة أسامة الحداد تبدو اكثر اهتماما بالتجريد البلاغي وبفكرة الحلول في بعدها الصوفي حيث تتواشج الذات مع العالم في معظم القصائد لدرجة يصعب فيها الفصل بينهما، ففي قصيدته يوميا جديدة يكتب عن الغريب ولا يمكن تصور هذا الغريب بمنأى عن حلول الشاعر فيه، فهو الشاعر والغريب والعكس بكل ما يمثله ذلك من حلول أرضي لا يتسامى بالمعنى الديني وإن تسامى بالمعنى البلاغي، يقول في نهاية القصيدة:

'أعرف انني فقدت القدرة على البكاء والضحك.
بينما الغريب الذي تدلى الى الشارع ذات يوم
ترك خيطا من الدم
وأحزانا توغلت في الجدران'.

كذلك فإن الخطاب الشعري لدى أسامة الحداد، يعتمد رغم سرديته الواضحة على المونولوغ الداخلي الذي يعلي من شأن الخطاب الشعري ويؤكد حضور الذات والرغبة الدائمة في إعادة تمثل آلامها، ويتبدى ذلك في اكثر من نص داخل الديوان، فالشاعر يبدأ قصيدته نهاية متوقعة بغناء يكتنز بالألم، عبر الشعور العميق بالسأم وبفقدان الثقة بالعالم وبالشعر نفسه، يقول:

'ما الذي يدعوك لكتابة قصيدة مكررة ستقول فيها ما ذكرت من قبل
تلعن القادمين
وتحطم تماثيل آبائك
تبتسم لرصاصات أخطأتك
وترقص لرصاص أصاب أصدقاءك
ما الذي يدعوك الآن للكتابة'.

وعلى ما يتبدى من هذا المقطع فإن الأسى لفشل مهمة القصيدة على نحو خاص والكتابة على نحو عام يؤكد أن الشاعر يتأسف على مصير العالم ويسعى لتغييره، وهو واحد من الهموم الوجودية المحضة التي لا يمكن نسبتها للسريالية، ومن هنا فإن الشاعر ينخلع من لحظة الحلم التي يضعه فيها نقاده عائشا في أتون الماضي، الى لحظة تكتظ براهنية القلق، وعنف الواقع وتجليه عبر أقرب لحظاته وتجلياته، لا سيما تجلياته المدينية بأدواتها المهلكة، في البنايات، والبارات، والسيارات، فالبنايات تضيق بأهلها والبارات شاهدة على الحبيبات الشرسات اللائي يصطحبن كلابا مخصية، والسيارات مهمتها دهس البشر وازدراؤهم.
يقول الشاعر في قصيدة 'أحلام' منها:

'صديقتي التي أدمنت ذكريات لم تعش أبدا بها
اصطحب كلبها للبار بعد نزع خصيتيه
كانت الزجاجات ممتلئة حتى مجيئها
والآن لا توجد نقطة جعة واحدة
بينما أقف في نهاية الطاولة
بانتظار أن يكف كلبها عن النباح'.

في هذه المناخات التي تكتظ بالعنف المجاني تتمحور تصورات الشاعر عن قصيدة النثر.
فعبر قناعاته التي دونها في كلمة مختصرة على الغلاف الداخلي للديون ثمة كسر متعمد للبلاغة التقليدية، أقصد بلاغة المفردة وقيام المعنى الشعري وتخلقه على أثرها، واعتماد الجملة السردية بديلا لبلاغة الإجمال والإفصاح، كذلك محاولة الكشف عن جمالية ايقاعية خارج العروض الخليلي يمثله في شحنات مشهدية متدفقة تقبض على عوالم مفرطة في قسوتها ربما الى حد الدهشة، وهو ما يضع الديوان كما يقول شاعره في اطار النص المختلف بالمعنى التاريخي، مقارنة بالتراث التقليدي للشعرية العربية، لكنه بالقطع يتماس مع تراث ومنجز قصيدة النثر المصرية والعربية في صورتها الراهنة.
تظل هناك ملاحظتان لا بد أن يتوقف امامهما الشاعر اسامة الحداد الأولى تتعلق بالتأثر البادي في الديوان بالنموذج الشعري المترجم لا سيما في النموذج الرومانسي وكذلك لا تغيب تأثيرات النموذج السبعيني العربي عن أجواء الديوان، فالشعرية التي تسرف على نفسها في اكتناه عنف العالم هي في المقابل باحثة عن يوتوبيا بديلة، وهو ما يوقعها في رومانسية عززت نسبتها الى الماضي تلك الأجواء الذاتية التي لم تتحلل كل قصائد الديوان من أسرها، وهو أمر يبدو جليا في كثافة الصورة الشعرية وانهمامها بالتركيب.
أما الملاحظة الثانية فتكمن في أن ثمة إسرافا في تناول مشاهد القسوة والعنف لدرجة تتجاوز مألوف ذلك في الواقع، وهو ما يعني أن جزءا كبيرا من هذا العنف يتأثر بالمرجعية الثقافية، وليس نتاج مراس تنتجه الذات الشاعرة، فوق أنه في الجانب الأكبر منه يبدو عنفا متخيلا، ومن هنا فإن ما يبدو حضورا للذات يبدو وكأنه نفي لها في الوقت نفسه، فالذات تتلبس مسوح واقع مستعار ينأى عن الواقع الحقيقي بمسافات بينة.
بقي القول ان 'شرور عادية' هو الديوان الأول لأسامة الحداد، وهو ما يقول، مكتوب قبل اكثر من عقد من الزمان، ومن ثم فإنه بالتأكيد يملك من النضوج الشعري ما يدفعه لتجاوز ديوانه الأول.
وقد قرأت بالفعل مخطوطا لديوانه 'ميدان طلعت حرب'، وهو بكل المقاييس ديوان على درجة عالية من الجودة، ويشي بأن مشروع الحداد ينطوي على فرادة تستحق التأمل والانتباه.

القدس العربي- 04/08/2009