محمود قرني
(مصر)

زهرة يسريتواصل الشاعرة “زهرة يسري” في ديوانها الجديد “نصف وعي” الصادر عن دار ميريت للنشر، مسيرة بدأتها قبل أكثر من سبع سنوات أصدرت خلالها ثلاثة دواوين، وعبرها تتبلور شعريتها بشكل لافت وصل ذروته في ديوانها الأخير.

فبعد أن تعلقت “زهرة” بالكثير من المواصفات الضاجة بالشيوع حول قصيدة النثر، استطاعت أن تحفر لنفسها مكانا تميز بحق عبر العديد من الملامح التي لا يمكن لعين أن تخطئها. “فنصف وعي” يأتي كعمل فريد وسط تراجع ملحوظ في خارطة الشعر النسوي ـ إذا صحت التسمية ـ حيث خفتت بعض الأصوات المهمة التي حملت لواء قصيدة النثر منذ بداية التسعينات مثل فاطمة قنديل وإيمان مرسال، ويبدو أن المشهد يستعيد بعض رونقه الضائع رغم المناخ التعيس الذي يحيط بالشعر المصري خاصة والعربي بعامة، لا سيما إذا كان الظرف السياسي والاجتماعي المحتقن يعيد دائما التذكير بمفهوم الوظيفة الشعرية الذي يعود بدوره الى مفهوم الالتزام، فليس غريبا أن نجد كثرة من الصحف تأخذ عناوينها الرئيسية من قصائد محمود درويش وأمل دنقل في المحرقة الدائرة الآن على الأرض اللبنانية، وإن لم يكن ثمة لوم على هذه الصحيفة أو تلك إلا أن مثل هذه الاستعادة تجبرنا على طرح العديد من الأسئلة فيما يتعلق بالذائقة وجماليات النص الجديد، ومساحات اليقين والجدل في بنيته ومن ثم دوره ووظيفته، دون حاجة ماسة للتطرق، امام النماذج المستقرة، إلى طرح أسئلة تدور في فلك الأصالة والمعاصرة أو الجديد والقديم، فليس هناك ما يؤكد على تقادم الشعر الحقيقي الذي قدمته قرائح شعراء عاشوا قبل آلاف السنين، وهو ما يعني ان النص الجديد يحمل جرس الخظر في رقبته وعيه دائما أن يقدم مسوغات اختلافه، بمسوغات وجوده.

فعلت ذلك زهرة يسري، التي يمكن اعتبار ديوانها نموذجيا، إزاء ما يمكن ان يطلب عليه النص الجديد، فاللغة الشعرية التي تخاصم تاريخيتها تتميز بسحرية فائضة وشديدة البساطة والرهافة وتعتمد في مجازاتها على ما يمكن اعتباره صورة كلية تؤسس لمفهوم المشهد كأحد تجليات السرد الشعري، يبدو ذلك الوعي اللغوي فعلا أصيلا في أعمال زهرة يسري لكنه كان يتصف في ديوانيها السابقين بالكثير من السطحية مما همش دور اللغة ونأى ـ بالتالي ـ بالنص عن قدرته على الخلق وإعادة التكوين، بيد أن وعيا مضافا ومعمقا تؤازره تجربته متحرقة ومتشوفة، هو الذي دفع يسري الى عالم اكثر اكتمالا وتدفقا، ولنقرأ معا هذه القصيدة شديدة القصر تحت عنوان “حكمة!!”.

“ما هو كائن كائن بالفعل لا بفعل الكلمات هذه شجرة هذا بيت وهذه أنا”.
ورغم نفاذ اللغة ودقتها ودرجة حياديتها العالية والمتعالية على مفهوم الشعرية بمعناه التقليدي، أقصد ببعده الغنائي، تبدو قدرة الشاعرة على صياغة وعي نقيض بوجودها، فالأشياء لا توجد ولا تخلق عبر المجاز الشعري لأنا موجودة بقوة تحققها وتعينها، إلى هذه الدرجة تتخلى المفاهيم الشعرية عن سويتها، وعن أسلافها، وربما بدت اللغة أكثر حدة وانسجاما وتعبيرية في قصيدتها التي تحمل عنوان الديوان، والتي تبدو مثيرة لكثير من الحنق على إنسان العصر الذي لا يمكنه أن يواجه انحطاط وقسوة العالم بوعي مكتمل، انه في نصف غيبوبة لأنها الطريقة الوحيدة التي تمكنه من احتمال هذا القبح تقول زهرة يسري: “بنصف وعي تريدين أن تواجهي العالم أن يمر على رأسك قطار تعدين عجلاته وهو يطبع مساراته على جسدك بنصف وعي تخرجين إلى الزحام تدخلين في عيون الناس بعينيك الزائفتين كأنهم هواء” وفي نهاية هذه القصيد ومع تصاعد هذه المليودرامية أو المتوالية الشعورية غير المنتظمة تتفجر أو تتفتق لحظة ملائمة تبدو فيها قوة الغياب أكثر حضورا مما يتصور العابرون بوعيهم المكتمل والطازج قبل أن يساقوا الى مستشفيات الأمراض النفسية، تختتم زهرة قصيدة بقولها: “تصبحين أفضل بلا سماء تصبحين أكثر واقعية بلا قمر بنصف وعي تصبحين أكثر هدوءا وأقل انتظارا النصف وعي هو الضفة الأخرى حيث الخلاص يأتي بمفرده”.
وليست اللغة لدى زهرة يسري هي الامتياز الوحيد، إذا أردنا أن نفصح عن عديد من الامتيازات لديها، فليست شفرية اللغة وتعدد مستوياتها ببعيدة عنها، ولكن يكلل ذلك وعيا بالمأزق الإنساني الذي عبر عن نفسه في الكثير من قصائد الديوان فثمة ألم دفين تضيق به القصائد أحيانا، يتناول في الغالب نماذج إنسانية مؤرقة بألم وجودي، وثمة إشارات واسعة ومتعددة لحوادث انتحار، وميتات تبدو متشابهة في عبثيتها، وصور لعابرين يصنعون حيوات متسائلة ويمضون الى الموت أو الغياب، ونسوة يتعشقن أظافرهن غير النظيفة، سنأخذ مثالا من قصيدة زهرة “شقوق رجليك تشد وبر سجادتي” حيث تقول: “وحدها عجوز في مقلب لنفايات القرية، وسط الروث وقش الأرز، لحمها أزرق وخلاصها لم يجف بعد.

فرح كثيرا هذا العجوز علمها كيف تنفخ في “المنقد” وكيف تفتح ساقيها” هكذا تقدم زهرة يسري نموذجا إنسانيا ربما بدا مبذولا ومتكررا في أحقابنا وبلداننا العالم ثالثية، وربما هي نفسها رأت تلك العجوز التي لم يجف خلاصها، وكأنها مولودة للتو من رحم أشيب، لكنها أخذت عنه شيبة الذي ليس بالضرورة شيبا عمريا، بل هو يكثف المأزق الإنساني الذي يجتازه الإنسان في عشرات السنين ليتحول إلى وجع مبثوث في لبن الرضاع، وبعد أن تستعرض يسر بطلتها التي تجمع الكيزان لصاحب الحقل، وتتغذى على البقايا، تقول زهرة في ختام قصيدتها: “من منتصف ليلة تسللت فيها نقطة ماء إلى بطن امرأة هكذا تسللت روحها دون أن تلقي عليها نظرة أكان يجب أن يتأخ يغيب عاما عن موعده يوقف شاحنته بعيدا يدفع باب العشة فتسقط الفطيرة ويندلق الكحول على هيكل عظمي مغروسة فيه عيدان ناشفة”.

تتكرر تلك الميتات القاسية لدى زهرة يسري في عديد من قصائد الديوان، ويتجسد ذلك جليا في قصيدتها “كن يصعدن كثيرا”، وربما تسربت الصورة ذاتها بشكل اكثر قسوة في قصيدتها “منشغلون بعد الدرجات” لدرجة تبدو فيها الشاعرة وكأنها تكتب في امتداح الموت، فهي تتحدث في قصيدتها عن حالة قصوى من حالات الضجر الإنساني التي تبدأ من منطقة أكثر ارتباطا بالعدمية ثم تنتهي على غير ذلك مطلقا، تقول زهرة: “الزول أسهل الانشغال بعد الدرجات بدلا من التفكير في أشياء لا فائدة منها نشرة الأخبار عنيفة والشوارع بباعتها وجائليها أين أذهب؟ النيل في حقيقته مكتظ بالمنتحرين أجسادهم المتخمرة، ووجوههم المنتخة تطفو على سطح أكوابنا نشرب رغبة في النسيان خلاصة أجسادها مصفاة من أكاذيب الروح” وعلى مستويات أخرى تتبدى ملامح هذه الصورة غير السائغة للقتل أبعد عن التوصيف الأخلاقي وأبعد عن مناخات الإدانة، بل تأخذ منحنيات أكثر وعيا بوظيفتها، الشاعرة تملك درجة من الحيدة الواعية التي تنأى بها عن رطانة الغنائية وكذلك مناخات الرومانسية، لذلك تبدو الشفرة الشعرية ناعمة وملساء، لذلك تبدو الشفرة الشعرية ناعمة وملساء لكنها تقطع برهافة، وربما كان ذلك هو أحد ملامح الكتابة الجديدة، وإن بدا مواصفات أخرى ذات حضور كثيف إلا أن كثيرا من الوعي بها اختلف الى حد بعيد، ولا نستطيع التسليم ـ مثلا ـ مع هذا الديوان الحديث عما يسمى بغياب القضايا الكبرى، ومستويات الوعي المركب، فثمة انشغال واضح لدى الشاعرة بهموم عميقة لكنها ربما تجاوزت جغرافية الألم الى انسانيته مع تميز غير مشكور فيما يتعلق بخصوصية وندرة التجربة.

إن ديوان زهرة يسري الجديد يُعد واحدا من أفضل الدواوين التي صدرت في مصر في السنوات الأخيرة، وهو يعبر بحق عن رغبة جامحة وصادقة وهامسة ـ في الوقت نفسه ـ في تجاوز مساحات المألوف في شعرنا إلى مناطق أكثر جدة وأكثر تفردا، ويعضد ذلك السلوك الشخصي الذي تتبدى عليه الشاعرة، في ترفعها ونأيها عن ضجيج ورطانة المعارك الفارغة وصراعات النسوية التي جاوزت أحيانا أهداف الى اهداف أبعد ما تكون عن النبالة والشرف، وكذلك صراعات المؤسسة الثقافية التي تطمع دائما في أن يترك الشاعر شرفه وضميره على باب الدخول، حتى ينهي مهمته ويعود، لكنه على الأرجح يضل طريق العودة.

القدس العربي
29 اغسطس 2008