ماريا الهاشم
(لبنان)

ربيعة جلطي هي ويدها

تسِم ديوان ربيعة جلطي الصادر أخيراً عن "دار النهضة العربية"، شعرية مرهفة، حيث تُشهر الشاعرة حبَّها سلاحاً في وجه غربتها "المأهولة والواسعة". تتلطّى في "حجرات الريح" وتتّخذها "مأوى" لها. وبين الامتلاك والحرمان، يترنّح الحب حائراً: "شاهدتُ محارك، تتقاذفه القصور/ ما أجمله/ لكنه، ليس لي/ شاهدت مسقط النمش على صدرك،/ ما أطيبه/ لكنه ليس لي". هذا التعارض القائم بين وجود الشيء والحرمان منه، يفضي إلى الاكتفاء بعبارة "أنتَ لست لي"، تردّدها الشاعرة بين الفينة والأخرى، لتُقنع نفسها بها.

للغيرة أنواع في الحب. غير أنّ تلك التي تعرفها الشاعرة "ذاتية". تغار من يدها، وكأنها تشقّ من نفسها ذاتاً أو امرأة، تتصارع وإياها على حب واحد، على حبيب واحد، هو "رجل محظوظ/ تعشقه كلتانا". في العشق هذا، تتحوّل "يدي وأنا" إلى "ضرّتين" غريبتين، لا يجمعهما سوى شخص الحبيب وحبّه. وتبلغ الغيرة أقصاها: "هي،/ ترفل في خواتمها.../ وأنا،/ أترنّح، في هودج من عطور". تتنافس "الضرّتان" وتبذل كلّ منهما ما في وسعها كي "تفوز" بالحبيب: "كلّ واحدة،/ تركب أعلى/ ما في خيلها من صهيل". هكذا تصبح المرأة الواحدة، العاشقة، امرأتين، هي ويدها: "نتخاصم محبّته،/ واستئثاره لأجملنا".

غير أنّ الشاعرة في حبّها، تطلب متنفّساً يتيح لها الاختلاء بنفسها، و"اعتزال" الحب والحبيب، ولو للحظتين فقط: "أريد لحظتين لي وحدي،/ لا ثالث لي فيك"، كي تنفذ قليلاً إلى ذاتها. فالحب اتّحاد بينها وبين حبيبها: "يهربني"، وهي تبحث عن نوع من الحرية داخل هذا الحب: "أريد لحظتين لي وحدي،/ لا ضلع لي أنت منه،/ ولا ضلع أنا منه فيك".
هكذا تتحرّر من وثاق الحب هذا، لتتفرّغ الى ذاتها موقّتاً. ولكن، مهما نأت الشاعرة عن الحبيب خلال هاتين اللحظتين، فإنّ اللحظتين تفرّان منها، لتلتحقا بالحبيب وتشكّلا مصدر خطر عليها وتتسبّبان لها بالغيرة: "أريد لحظتين لي وحدي/ إني أغار منها عليك". فالغيرة عامة وشاملة، تفجّرها الشاعرة من نفسها، انطلاقاً من يدها، وممّا حولها أيضاً. إذاً هي غيرة داخلية وخارجية في آن واحد. والحب يجعل كلّ شيء موضع غيرة، حتى الذات تتضعضع الثقة بها، وتصبح محطّاً للشكّ.
للشاعرة فلسفتها في الحب: "أقتصدُ في فرحي عند اللقاء/ ليقتصد الوجع منّي عند الفراق". هذا "التبادل الاقتصادي" بين الفرح والوجع، بين اللقاء والفراق، أشبه بمقايضةٍ تقي الشاعرة "مخلّفات" اللقاء. فهي تمارس نوعاً من الزهد والتقشّف في لقائها الحبيب، لأنّ في بالها ما بعد اللقاء. هكذا يتمّ التوازن بين اقتصادها في الفرح واقتصاد الوجع منها، فيتوازن اللقاء وما بعده. وخصوصاً أنها تقول: "ما زال يوجعني الرحيل". من هنا، هي لا تستنفد فرحها كلّه أثناء اللقاء، كي لا تصبح عرضة لوجع الفراق.
في غمرة الحب، لا تنسى الشاعرة أن تعيش أنوثتها بحذافير المخاض: "أسير إليك... هكذا.../ يا مخاضي العسير"، فتنقل "رحلة" المخاض كرحلة يقوم بها طرفان، هي والمخاض، خطوةً خطوة: "كنتُ في طريقي إليك،/ غريرة.../ كنت في طريقك إليَّ/ تحمل فانوساً من ماء... أقطع الضوء إليك/ نفساً نفساً.../ تقطع الضوء نحوي/ شهقة شهقة". تناديه الشاعرة "يا مخاضي"، فيتكلّم بدوره: "هكذا من بدء التكوين النساء/ يمشين فوق الماء... هكذا". ويتحوّل التبادل الحواري بين الطرفين رباطاً بينهما، يصعب، بل يستحيل، فكّه: "لا فكاك لي منك/ لا فكاك لك منّي". وكأنّ الشاعرة والمخاض في اتّحاد تام: "أنّى لي أن أفرّ منك/ أنّى لك أن تفرّ مني". وفي نوع من التفاعل الاتّحادي بينهما، تتلاعب الشاعرة بالكلمات لتؤدّي حقيقةَ وحدة الحال بينها وبين المخاض: "أحتاجك لتجتاحني/ أجتاحك لتحتاجني.../ أحتاج إلى صبرك عليّ/ تحتاج إلى صبري عليك". ينتظرها "عارياً منها"، وهي "عارية من غلالة الوقت".

لا تغيب السياسة عن قصائد المجموعة. فالبلاد، تقول عنها الشاعرة: "هذه البلاد/ أتوجّع منها/ أتوجّع عليها". والسياسي، "ذلك السياسي النبيه جدّاً/ يحشر أحلامي في ثقوب خطبته،/ ثمّ يلقي بها، تحت كرسي البرلمان"، يتوعّده الشعب على طريقته: "من حسن حظّ الشعب/ أنّ له الصبر الجميل جدّاً،/ والصمت الذي يسبق العاصفة".
تبقى الشاعرية هي التي تجمع قصائد الديوان، فتُخرج الصورَ من إطار العادي والمألوف إلى الجِدّة والتميّز. فللتعبير عن الأرق، مثلاً، تستخدم الشاعرة هذه الصورة الموحية: "أبيت أمسح على شعر النوم،/ كي ينام". بالإضافة إلى صور شفّافة تداعب الخيال: "يوجعني الليل.../ ينظر من شباكه إلى نهار،/ راحل،/ يجرّ شمسه،/ وخيوله المسرّجة بالضوء.../ ويمضي،/ يترك الليل وحيداً،/ ينام في العراء". كما يحلّ اللامتوقَّع متوقّعاً: " يوجعني انشطاري العنقودي،/ بينك، وبينك، وبينك... يوجعني الصمت الذي/ ليس يفشي بأسراره". وقصائد المجموعة ليست إلا صمتاً مقتصداً وموحياً، لكنه يبوح بالكثير من الأسرار.

عن النهار
10 مايو 2009