عنف خارجي وألم داخلي

ماريا الهاشم
(لبنان)

فيديل سبيتيصدر أخيرا للشاعر فيديل سبيتي ديوان "أقتلْ رجلاً إرفعْ جمجمته عالياً" عن "دار النهضة العربية": هو عنوان صادم ينضوي تحته العنف من جهة، والفخر والمجاهرة بهذا العنف من جهة ثانية: "إرفع جمجمته عالياً".
فعلاً، من أكثر المفردات تواتراً في المجموعة، مفردات القتل والعنف. فالمناخ الدموي هو المهيمن. تحتل فيه الصور القاسية حيزاً كبيراً: "شنقوا شاعرهم وأكلوه"، "من لا يموت، تُدخل مسمار بندقيتكَ البارز في بطنه"، "الجثث في أمعائك تحتاج إلى ماء".
يدخل الشاعر إلى نفسه، يتقوقع فيها، حيث "دقات قلبه أعلى ضجيجاً". حتى الليل ينصهر داخله: "لليل الأسود المعلن/ مثوى واحد/ حضني الدافئ"، يستمدّ منه سواداً، ليخرج بعد ذلك "بهياً على البشر". شاعرنا ثلاثة أقانيم في أقنوم: "أنا وأنا وأنا... وظلٌّ واحد"، "قلقي عيني الثالثة". يدور في دائرة ذاته، ولا يستطيع الخروج منها: "أتساءل/ أيّنا الحقيقي/ أنا أم أنا الذي في المرآة". كأنّ أناه "أنوات". يحيد عنها إلى الـ"أنتَ". لكن الـ"أنت" يشمل الـ"أنا" ضمناً، والمخاطب كذلك. كأنّ الشاعر يشقّ من ذاته ذاتاً أخرى ويخاطبها. كما تحضر "أنتِ" الحبيبة، في ألمٍ "تلوكينه حين تجوعين". يندرج هذا الألم من ضمن المناخ السوداوي المهيمن على القصائد. ففي "الشوارع لا ينزع عنك المشي "إنْشَ" حزن". إنه الحزن الثابت الذي "لا تزيله ضحكاتنا".

في المجموعة قصيدة عنوانها "المخاض"، الذي يُذكَر في قصيدتين أخريين. يحوّل الألمُ الشاعرَ تارةً إلى أنثى: "ألم مخاضي/ يحولني امرأةً أماً". ويبقي عليه، طوراً، بصورة رجل "بطنه حبلى" وينجب: "ستنجب ولداً/ متكئاً على عكّازيه". كما يخصّص قصيدتين للأشجار، لأنها مثله "عاطفية/ ومقبلة على الموت".

يسأل شاعرنا، ولا يلقى جواباً. فسؤاله يحمل جوابه معه. يقول: "ما دام لي يدان/ لِمَ لا أربطهما خلف ظهري وعنقي؟" وحين يسأل الحبيبة: "ألم تلمحي زورقاً في الشارع/ يمخر عباب الساهرين؟"، يجيب عنها: "إنه زورقي". إلى أن تسأله هي: "إلى أين تذهب؟"، فيردّ: "إلى أيّ مكان يتسع لصدري".

يكثر النفي في الديوان، فيكون نفياً قاطعاً لا يرقى إليه الشك. يتقاطع في بعض المواضع مع الوصايا العشر، مع كونه نفياً: "مخفياً ولا تسرق/ مخفياً ولا تقتل".

أما التكرار فمثلّث، والتثليث للتأكيد. أحياناً يكون تكراراً حرفياً: "إذهب إلى أمستردام/ إذهب إلى أمستردام/ إذهب إلى أمستردام". وأحياناً تتغير الكلمات، كما في: "مخفياً ولا تسرق/ مخفياً ولا تقتل/ مخفياً ولا تداعب فتياتك المتأهبات". حين يكرر الشاعر عبارة "ألم ألم ألم" يجملها، ثم يفصلها في: "ألم ذاك الذي تلوكينه حين تجوعين/ ألم تلك الكلمات التي تطلقينها عنوة/ ألم هذا السؤال/ إلى أين تذهب؟"، وبالعكس، يفصل: "نجمة صغيرة لكل ولد... وعلبة زهرية لكل بنت"، ليعود فيجملها في: "ولد وبنت".

نلاحظ أحياناً تصاعداً تدريجياً في عدد الكلمات، كما في: "أن تضحك/ أن ترفع خديك/ وتنعش تجاعيد جبينك/ وتسير هانئاً في هذه العلبة". وفي: "أتساءل دائماً/ من أين تأتيك العزيمة/ تمسكني بكلتا يديك ثم تدلّيني/ وتصفر من رئتيك نفساً مبللاً بالنيكوتين".

يلعب الشاعر أحياناً لعبة الموازنة في: "أعدل جلستي/ أفك رجلاً عن أخرى/ وأنت قادمة من البحر/ يحملك ملاكان/ أبيض وأسود". هنا، الأنا والأنت، من جهة، في موازنة مع "ملاكان" المثنى، و"أبيض" و"أسود"، من جهة ثانية.

تشكل اللازمة في بعض القصائد مفتاحاً لها. قد تكون حرفية كما في: "أن تضحك"، وتتغير صيغتها في أحيان أخرى: "لا تتململ، لا تقلق، لا تنفعل، لا تحزن". أما لازمة "لن ترتاح لا تنعب"، فتتكرر مرة على شكل "لن ترتاح"، ومرة على شكل "لا تنعب"، لتعود كما بدأت، لكن مع زيادة واو بين العبارتين: "لن ترتاح ولا تنعب".

القصائد متفاوتة الطول. متوسطة حيناً، وقصيرة أحياناً، بمقدار كلمة كلمة على كل سطر. كما في الصفحة 62، حيث نشهد سلسلة كلمات متتابعة: "هديل/ صهيل/ سعال/ موال/ ثغاء/ هناء/ حفيف/ رفيق"، مما يشي بالفوضى والاضطراب، وربما بكلام لا معنى له، وُجد فقط ليسدّ فراغ الصمت، إذ يختم الشاعر هذه السلسلة بالقول: "يا إلهي لن تنتهي/ هذه القصيدة/ قبل أن تنطقي بحرف". وقد تتألف قصيدة كاملة من جملة واحدة تساوي ثلاث كلمات. هذه هي حال قصيدة "وقاحة": "لم أخجل بعد". وقصيدة "لوعة" التي تقول: "الكتابة/ أمل مضنٍ".
لا يخفى ما تحمل القصائد الأخيرة في الديوان من حكم موجزة وقصيرة: "المنتحر بالكحول/ اختار الوسيلة الأكثر كلفة"، "الفرح كالسم/ كلاهما/ يمكنه أن يقتل/ وكلاهما/ يمكنه أن يصير ترياقاً". فتغيب بذلك الشعرية، وتأخذ طابعاً نثرياً.

لا يتألف هذا الديوان من قصائد فقط، بل تضاف إليها ستة نصوص نثرية أيضاً، مما يُكسب المجموعة تنويعاً وجدّةً. تتكامل هذه النصوص مع القصائد، إذ يحضر فيها الشاعر ولو بضمير الغائب "هو". فعبارات "يتكور حين يجلس" و"الضجر"، تعيدنا إلى عبارة "أنا الضجر المكور في رجل"، الواردة في قصيدة سابقة.

تستوقف قارئ الديوان، الصور الغريبة فيه، مثل "يدك تتركها في الخزانة/ وأنفك في السرير"، "يحمل دماغه في يده، يداعبه بأصابعه... ينظفه بفرشاة الأسنان". فهي تخرج على المألوف، العنف بطلها والقتل منْفذها. يطغى بذلك مناخ من الإجرام والعنف الذي قد يجد مبرّره في قول الشاعر نفسه: "أن تقول إن الحرب حياتك، وإنك لم تعش سوى الحرب منذ ولدت". لكنه عنف يقف وراءه ألم صامت: "لو أنّ الحزن في عيني باقٍ فيهما". وكأنّ هذا الألم السادي بممارسة العنف على الآخرين، ينقلب مازوشياً حين يرفض الشاعر الضحك، ويفضّل الاحتفاظ بالحزن: "أن تضحك/ أن ترفع خديك/ وتنعش تجاعيد جبينك... يا لسخافتك". لذا نفسه سوداء قاتمة، بلون الليل الذي يناديه: "أيها الليل الأسود المعلن/ مبيتك في رأسي".

لا تخلو القصائد من بعض الأخطاء الطباعية، كما في: "أطوّح عكازاك"، "لما كل علامات التعجب؟"، "الضجة التي تصطنعيها"، "إن عينا رضوان"، "ما زال بعضها عالقاً".
يبقى أنّ المناخ العنيف والقاسي يجمع القصائد، وإن اختلفت في الموضوعات. هي قصائد مقتصدة، تضمر وتبوح في الوقت نفسه. يسطّرها الوضوح، من دون عناء في فهمها. الصور فيها على شكل مشاهد حية، فلا يلعب الإيحاء فيها عظيم الدور.

المهار
يناير 2009


إقرأ أيضاً:-