أمين صالحالوسط - محرر فضاءات
ضمن مشروع النشر المشترك لوزارة الثقافة والإعلام صدر للقاص والروائي أمين صالح الأعمال الأدبية «13 باباً مفتوحاً على مدى مسيج بالغيم» وقد احتوى الإصدار على مجموعة الأعمال الأدبية التي أصدرها أمين خلال مسيرته الأدبية منذ إصداره «هنا الوردة... هنا نرقص 1973»، «الفراشات 1977م «، «أغنية أ. ص الأولى 1982م»، «الصيد الملكي 1982»، «الطرائد 1938م»، «ندماء المرفأ... ندماء الريح 1987»، «العناصر 1989»، «الجواشن ( مع قاسم حداد) 1989»، «ترنيمة للحجرة الكونية 1994»، «مدائح 1997»، «موت طفيف 2001»، «رهائن الغيب 2004»، حتى إصداره «والمنازل التي أبحرت أيضا» في 2006 م وذلك في مجلدين مكونين من 1155، طباعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

أما رآه أحد منكم يا جيران يا طيبين؟ ودّعته قبل سنة وثلاثة شهور ووعدني بأن يأتي لزيارتي لكنه لم يأتِ. رحل إلى بلاد بعيدة... بعيدة جداً، لن تتمكنوا من النظر إليها من هنا. عليكم أن تعبروا البحار الواسعة والبرازخ والخلجان لكي تشموا رائحتها ورائحة ولدي. قال لي مرة: يا أبي، هل تصدق أن البَرَد يتساقط هنا كل صباح، وأن الفصول لها ملامح بشرية؟... أجبته: الشيخوخة علمتني أن للأشياء حواساً عديدة؛ لذا أصدقك؛ لأني فلاح، أعرف تقمصات الفصول وطقوس الجذور.

أصابه مكروه؟ لا توجعوا قلبي هكذا. بالتأكيد هو بخير. انقطعت أخباره عني منذ شهور، لم يكتب لي رسالة واحدة.لا، لا تلوموه. ليس ناكراً للجميل لا عاقاً، ضميره يقظ، ليس من طبعه أن يمحو اسمي الموشوم في جلده. لا تقولوا إنه نسي، قولوا: تأخر قليلاً وسيأتي. إذا طال غيابه أبلغوه سلامي وحبي، أعلنوا له: مازال سريرك يتأرجح في عينين ساهرتين تترقبان قدومك لتسدلا جفنيهما. أوصافه؟ أضيّقة هي الذاكرة إلى هذا الحد؟ حَبَا في أحداقكم، تعلم المشي على راحاتكم، أصغيتم إليه فوق السطوح وهو ينطق الأحرف الأولى، لعب في الساحات مع أبنائكم. إذا لم تتذكروا بعد، تعالوا أريكم صوره المصفوفة على الرف. تحت السرير كان يختبئ حين ألعب معه، وعلى المنضدة يذاكر دروسه، ويسبح أحياناً في نوم عميق ويحلم. في الحلم يستعير وجوهاً ملائكية عديدة، عندئذ أدرك أنه غادرني – مؤقتاً – وسافر إلى قارات السماء النائية الملأى بالنجوم والكواكب، يغمس أنامله في آبارها الارتوازية ويعتلي، مع حصانه المجنح، برج الشمس المطل على جزر ساحرة مزدحمة بالقناطر والمنارات والبحيرات والغابات. كان يحلو لي أن أصغي إلى أحلامه بغبطة ثم أندم لأنني تطفلت على مخلوقاته. تعالوا معي، إذا سمح وقتكم، فقد أرهقني المشي وليس بمقدوري وحدي أن أبحث عن ولدي.

***

عد إلى بيتك أيها الطاعن في الحزن، فلا جدوى من استنطاق ظل مختوم بالهجرات. تربكنا يا صديق الوحدة والذكريات، يا شيخنا الجليل. من منا يجرؤ على إخبارك بالحقيقة ويكسر بكلمة هيكلاً ينوء بسنوات ثقيلة، مرهقة، مستبدة؟ يقتضي أن يكون شجاعاً ولبقاً، في آن، ذلك الذي سيقف في حضرتك ويهمس بصوت مشحون بالأسى: ابنك مات، وكلنا نتألم لموته.

***

انفضوا من حوله، انسحبوا من غير أن يبدّدوا قلقه. توسلوا للريح أن تتكفل بالمهمة الشاقة نيابة عنهم، فهي أكثر فصاحة ولا تراوغ. اعتذرت للريح لأنها لا تستطيع أن تمسح أحزان البشر، فهي كثيرة. إذاً – فكروا – لن يحل المشكلة غير ساعي البريد: مخلوق أثيري، يقرّب المسافات ويباعدها كيفما يشاء، قادر أن يشكّل التضاريس، بفضله تتداخل التخوم وتتشابك العواطف، وهو أخيراً ابن الريح بالتبني.
كانت فرحة الأب عظيمة لما جاء ساعي البريد يبشره بوصول الرسالة. صار خفيفاً، خفيف الروح والجسد، وصار العالم صغيراً بحجم طفل. أراد أن يحتوي الكون بذراعيه. وها هو العزيز الغالي يستجيب لصلواته ويبعث أنفاسه للمشتاق. ضحك كثيراً، وعاد شاباً يفيض حيوية ومرحاً. أما الجيران فقد كانوا يشاركونه فرحته في الظاهر ويسألونه عن ابنه، أين هو وماذا يفعل، متى سيفكر بزيارتنا؟... وفي العمق كان الرثاء والشفقة والجزع.

ظل ساعي البريد يزوره بين الحين والآخر جالباً معه الرسالة تلو الرسالة، خارجاً بردود – أملاها عليه الأب – يحتار أين يضعها. مع مرور الوقت بدأ الساعي يشعر بعذاب رهيب، لقد ابتكر لعبة لا نهاية لها، والمضي فيها يُعد جريمة. يجب أن يعرف الشيخ الحقيقة. حرام أن يخدعه ويضلله لفترة أخرى لا يعلم كم ستطول.
حضر إلى الأب يوماً، وتردد قبل أن يفتح الرسالة. قرر أن يحسم المسألة، وقرأ. هذا خطاب من صديق يقدم تعازيه. مات الابن.
هنا ساد صمت صاعق، خلاله كان الأب يحدّق في الساعي بذهول، ثم قال بنبرة أراد أن تكون متماسكة، لا رعشة فيها:
لا، أنت تمزح. أعطني الرسالة. سأقرأ، أنا الأمّي، ما كتبه لي وحيدي... اسمع ما يقول: في هذه المدينة الفضية، الأخاذة بحشائشها وغيومها وبراءتها، يتساقط البرَد كل صباح، ويتسلق الثلج تلك التلال البعيدة التي ألمحها من هنا، والناس يطلون من الشرفات، تغمرهم السعادة، وأرى أباً يحتضن أطفاله. هل تصدق أن للفصول ملامح بشرية؟... أبي، بإمكانك أن تفخر بي، لقد تفوقت في دراستي، وسأعود في العطلة... ربما بعد أسبوعين. إنني أتسلّح بكلماتك الحنونة وبنصائحك الحكيمة. لا تنس أن تعدّ لي سمكاً مقلياً مع الرز، إنها وجبتي المفضلة... أريد، عندما أعود، أن نرتاد معاً كل الأماكن التي زرناها في بلدتنا وكأننا نشاهدها للمرة الأولى. وأود كذلك أن ...

استمر الأب في القراءة وكأنه ينشج. صوت متهدّج مشحون بالألم واللوعة، والدمع ينسلّ مبللاً تجاعيد حافلة بالوحشة والعزلة.
لم يحتمل الساعي؛ لذا نهض في صمت وهدوء وخرج، بينما الأب يواصل القراءة دون توقف.

صحيفة الوسط
19 أغسطس 2010م