من تجاذبات وهواجس

علي عبد الأمير

أمين صالحأمين صالح في "هندسة أقل .. خرائط أقل":
تأملات في الكتابة والحياة وما بينهما من تجاذبات وهواجس

خارج "الاستعراض" الثقافي يأتي دائماَ عمل الشاعر والكاتب البحريني أمين صالح، وخارج "البهرجة" الاعلامية التي يتفنن كتاب وشعراء ومثقفون في تأطير ظاهرتهم، و من خلال هذا الاكتفاء والركون الى جوهر الذات المبدعة، يكتب صاحب " الجواشن"، ويراجع ويدقق مطلقاَ الكثير من الاسئلة الجوهرية حول الكتابة والمعرفة والثقافة واشكال التلقي والفنون المعاصرة، فيثبت الجوهري والحقيقي ويقشر من الظواهر المعلنة اغلفتها ويضرب بقوة على تركيبها الداخلي، ولنكتشف معه كماَ كبيراَ من أحابيل الثقافة العربية المعاصرة و أضاليلها، كما يقدم صالح من خلال كتابه "هندسة أقل – خرائط أقل" الصادر حديثاَ عن دار نشر "الايام" البحرينية مقترحات شخصية عميقة ورؤى فكرية عن الكتابة والحياة وما بينهما من تجاذبات وهواجس .
هي ليست مقالات عادية، مثلما هي ليست نصوصاَ تخلق جنسها الادبي المحكم، ليست نقداَ مثلما هي ليست انطباعات، بل رؤى وافكاراَ عن الكتابة، اللغة، الادب، الفن، ودائماَ علاقات هذه الانشطة الفكرية الخلاقة بالحياة، بالمتلقي، بتشظيات الواقع، ولكن دون ان تتخلى كتابات صالح عن صوغ شكلاَ خاصاَ، لغة على حدة وجوهراَ مضمونياَ واضحاَ دون مباشرة وعميقاَ دون غموض مجاني .
في القسم الاول من كتابه اختار المؤلف ان يضع عنوان " تأملات" لما يراه عنواناَ أولياَ "وابل من الضوء، وابل من الريبة" لافتاَ في ذلك الى عنصرين: الوضوح والظواهر المعلنة الى جانب المؤشرات المضمرة والغائبة او المغيبة والتي تحتاج سؤالاَ "مرتاباَ" للكشف عنها .

ومن بين "تأملاته"، هناك ما يراه في ان "اللغة .. كلمات، إشارات، رموز، مجازات، علاقات ... وهي تصبح مضللة ومحايدة وفاترة وبليدة إذا استخدمت كأداة توصيل فقط، أو كأداة إعلام وتعليم". وان العلاقة مع اللغة "علاقة مع انثى" لذا فأنه يرى "عندما تكون العلاقة حسية، تخرج المفردة من معجمها وتكتسب قيمة جمالية خاصة"، ويولي عبر هذا الفهم اهتماماَ خاصاَ بالجسد في الكتابة "العلاقة بين الرجل والمرأة، وبين الفرد والوطن، تكون أكثر صدقاَ حين تتشكل عبر الجسد، لا العاطفة وحدها ولا الفكر وحده. الجسد هنا مزيج من العاطفة والفكر والسائل الحي والشعاع الازرق" .
لا المفردة المشعة في انسيابها بين السطور، هي ما يختارها أمين صالح بعناية في" تأملاته" بل الفكرة ايضاَ، فعن "الوجه" بتحولاته المعلنة والخفية نقرأ اشارات عميقة: "الوجه سطح لا يمكن اختراقه والنفاذ الى عمقه"، وهناك كذلك وبمقابل الوجه كسطح عاكس "الوجه كقناع، انه الذي يموّه، يخفي، يضلّل.. ومثلما يقدر الوجه ان يفشي ويبوح، كذلك ان يحجب ويقنّع" .
ولانها "رؤى عميقة" لا تنشغل بالعابر من المشاهد المعلنة، يبثها أمين صالح في كتابه، فهي معونته وزاده حين يكتب عبر عنوان مأخوذ بالشعر "فخاخ العتمة" عن معنى البصر والبصيرة، عن الضوء الخارجي الذي يغيب عند الاعمى ويحضر الضوء الداخلي: "في غياب الضوء، الذي يحدد شكل وطبيعة وملامح الاشياء، تتجرد هذه الاشياء من اشكالها الثابتة وتصير متحولة ومتعددة . انها تطفو في هاوية الظلمة . العتمة تنتصر وتحكم، وكل شيء ينسحب الى الداخل حيث انحسار الضوء واختلاط ما هو كائن بما هو محسوس . الابواب تنفتح الى الداخل، فالخارج الان محض انعكاسات داكن" .

أمين صالح: خارج "البهرجة" الاعلامية التي يتفنن كتاب وشعراء ومثقفون

ولانه شاعر مفتون بعميقين: اللغة خافتة الجرس، والفكرة الغنية الدلالة، فأنه وهو يعالج موضوعة "العماء" يصوغ نصاَ اكثر مما "تأملاَ"، فيصف عكاز الاعمى عين خشبية "وانه يريد للاصابع ان تضيء المسالك" وانه حين يستخدم العصا أو العكاز " يطرق الفراغ معلناَ حضوره".
وعن "النوستالجيا" أو الحنين، بما فيه من حٍل ميتافيزيقي، عبر العودة الى الماضي، يكتب صالح ناقداَ الفكرة بقوة: "الكتابة عن الماضي هي محاولة يائسة لاستعادة مرحلة معينة، للامساك ثانية بما كان في متناول أيدينا وأعيننا وصار الان مفقوداَ وغائباَ "مؤكداَ"، النوستالجيا انحياز الى الماضي، الى قيم وعادات ومفاهيم سابقة، الى علاقات قديمة انتهت، والاستغراق الكلي في الحنين، هروب من ازمات ومشكلات راهنة، انه اعتراف صريح بالعجز عن فهم الواقع" .
وليس بعيداَ عن الماضي بابعاده الزمانية، يستحضر"الحارة" ليضيف الى الماضي بعداَ مكانياَ، فيرى حضورها في النص على نحو ان "البعض يستخدمها كموقع أو ديكور فحسب . البعض يستخدمها ذريعة لسرد تجربة ذاتية عن الطفولة أو المراهقة . لكن تظل الحارة : رهينة الذاكرة وضحية النسيان"، لكنه وإن كان هو من هجا الحنين بقوة، تلتبس عليه النوستالجيا عبر كتابته عن الحارة كمكان يحيل الى الماضي.
وعن المكان في النص فأنه بحسب ما يراه صالح "يفقد حقيقته وطبيعته وصفته الواقعية"، والكاتب "يخلق عالمه الخاص، وفي هذا العالم تتعايش كل الامكنة والازمنة والاحداث والشخوص، التي تولد وتموت ، لتولد من جديد" .

وفيما إذا كان المكان وطناَ، ثم ما الوطن ذاته؟ الفكرة مابين الوطن – الام، ثم الوطن – المدرسة، فالوطن – الصداقة، والوطن – المرأة، ثم العائلة غير ان "الشك يلازمك فتبدأ في استجواب حقيقة هذا الوطن: هل هو الملاذ الحقيقي الذي كنت تنشده؟ اذن لماذا تتوق الى الحرية الى هذا الحد؟ لماذا تلهث وراء حلم غامض، سديمي، ولا تعرف هويته ؟".
المكان مفتتح أول لمعنى الوطن وهذا بأشكالات وعي العلاقة معه قد يصبح " منفى " وهذا ما يثبته أمين صالح في نص قد يكون الاعذب في لغته وغنى فكرته بين ما كتب في العربية عن المنفى وفيه: "حتى عندما تطول اقامتك في المكان الغريب .. فأن جسدك فقط هو الذي يكون حاضراَ، اما روحك وذاكرتك ومشاعرك فمشدودة الى الماضي، الى المنبع الى الوطن الام . تحاول ان تسد سديم النسيان على القلب اللاهث، لكن تباغتك الذاكرة من حيث لا تدري، صورة ما، نبأ ما، حلم ما، يبلل روحك الغافية فترتعش اطرافك من فرط الحنين الموجع" .
وعن المنفى كفكرة عن انفصال الانسان عن مكانه يقول : " لكن من قال اننا، الذين هنا، لسنا مثلك .. نخوض رئة المدينة بحثاَ عن شيء مفقود ولا نصل . هنا أيضاَ يوجد المنفى ، حولنا ، وفي دواخلنا".
وفي القسم الثاني من كتابه حيث عنوان "عن الكتابة، عن غيرها" يتوقف أمين صالح عند قضايا مفصلية في الكتابة العربية الادبية المعاصرة، حاضاَ على التجديد، والمغايرة، ومعّنفاَ النقاد المرتابين من ذلك فيوجه نداء عميقاَ لحامل فكرة التجديد : " لا تعبأ بما يقال عنك .. لست فقير الموهبة كما يشاع . انت غائص، حتى الوجع، في واقع يرميك بالالتباس .. ولاحماية لك. تبحث عن مكان تستطيع فيه ان تنتزع الاعتراف، لكنك لا تشعر الاّ بالتجاهل الوقح. موحلاَ تمشي وسط حلبة من التحذيرات والوصايات، والكثيرون يراهنون على انهيارك العاجل ليؤكدوا اعتقادهم الخبيث بأنك قد ولدت هزيلاَ، ناقصاَ، معوقاَ، وسوف تنتهي سريعاَ قبل ان يتصلب عودك. لا تكترث ايها الصغير، ارشقهم بالاسئلة الموحشة، مارس جنونك وخروجك الى مداه" .
أمين صالح المتوحد في كتابه مع نبض عميق في أدبه، يقدم وثيقة هي أبعد من مجرد "تأملات"، بل هي شهادات من شاعر حفر موقعه في اللغة الادبية العربية المعاصرة بصمت ودأب .. انه صاحب الغني من الافكار والمشرق والجاد من الكلام.