ورشة الأمل، السرد، الرؤية، الزمن

محمد أحمد البنكي
(البحرين)

محمد أحمد البنكي "سبق لي القول، في سياق محدد جداً، إنني أكتب للبحث عن هوية. والحال إنني كنت مهتما بالأحرى بما يجعل الهوية مستحيلة، كنت مهتما بضياع الهوية. وقد تحدثت في كتابيّ: الاعتراف المبتور" و "واحدية لغة الآخر" عن استحالة السيرة الذاتية، بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح، لأن السيرة الذاتية بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح، إنما تنطوي على الأقل على أن الأنا تعرف ماهيتها، وتتعرف على ذاتها قبل فعل الكتابة، أو تفترض هوية محددة. فالواقع إن إمكانية قول كلمة أنا في لغةٍ ما، إنما ترتبط بإمكانية الكتابة عموما"
جاك دريدا

حين تتراءى لنا تجربة قاسم حداد في مجلى من مجالي الكشف اليقظ، المنصت للأغوار، ستسفر المعاينة عن كثافة الأنساغ الماتحة، وعن منابت رؤيوية ومهادات حاضنة موصولة طوال الوقت بمسارات الشعرية العربية الجديدة في تحولاتها ومعارجها. تنجدل معها، وتتلابس بها. وتقترح وتتشكل. وترتشف وتكتشف. وتأتلف وتختلف. وتتفرع. بدءاً من الفتنة بقصيدة الرواد الحرة، مروراً بقصيدة النثر، وليس انتهاءً بالكتابة الجديدة وما تمضي إليه.

تنهض كتابة قاسم على هذا كله ، تندس في مساحاته، وتؤسس اندفاعاتها للأوج من خلاله. ثمة توظيف، وأساليب قطع ووصل، واكتشافات، وعذابات في الأسئلة. لاشك في ذلك. ويمكن أن نتبين بعض فرادة البنينة التي تَهْدُرُ بها التجربة من خلال حضور هذا الإصرار على التمثل والمغايرة في آن واحد. شكيمة عتيّة على الحلول الناجزة تظل تمتد وتتجاوز مستندة إلى الأمل... وإلى "الكتابة كأنها المرّة الأولى".
"الكتابة كأنها المرّة الأولى" تمنح نص قاسم قدرة مضاعفة على الهدم والبناء واختبار الخيارات والممكنات التقنية في طرائق التشكل واشتغالات التوليد... وربما أذنت لي المعايشة الطويلة أن أقول بأن خيار السرد، وأعني بذلك استدعاء السرد كتقنية مستثمرة في إنتاج شاعرية النص، هذا الخيار ظل يزهزه لقاسم منذ مخاتلات باكرة تتزيّا بأكثر من قناع، وتموِّه تلاوينها بغير شكل من الأشكال. إلا أن سجلات الذاكرة الخاصة بالتجربة فضّاحة مع ذلك، فقد تجلت صبوة أولى إلى مراودة السرد في مسرحية بعنوان "دم أوديب" لم يكتب لها أن تنشر، ثم حضرت سطوة السرد في "الجواشن" فـ "نقد الأمل"، فـ "أخبار المجنون"، فـ "ليس بهذا الشكل، ولا بشكل آخر"، ثم في "له حصة في الولع"، ثم "ورشة الأمل".
وعلى خلفية الإعتمال بهاجس السرد، في مفاصله الكبرى خلال كل تلك المراحل، كانت النصوص الشعرية تفتح على حوارية الأصوات، ولعب الضمائر، وإغناء المستويات الإيقاعية، ومراكبة عناصر المعمار، وتنويع حركة الدلالة وفضاءات تحققها في أشواط التجربة ونصوصها.

لقد جاءت العوالم السردية، في مستوى من مستوياتها على الأقل، كأحد رهانات التجربة من أجل انجاز بحثها الخاص عن فرادة الصوت الشعري. رهاناتٌ أخرى انبجست من خلال الإنفتاح على فنون الموسيقى والتشكيل والتصوير الفوتوغرافي، وأخرى اختبرت مدّ آفاقها عبر ما يتيحه تقاطع الشعر بالتشبيك العنكبوتي الإفتراضي. وسوف يكون لذلك كله ترسيباته المولِّدة في رحاب النصوص.

على إن ما يعنينا هنا هو السيرة السردية بوصفها مقترحاً من مقترحات ارتياد مساحات جديدة في الشعرية الخبيئة الكامنة في الخفاء. وهي التي ستجعل النص، حين تَمْثُلُ فيه، منفتحاً على اكتشاف جمالي مكثف ظلت التجربة متلجلجة في اقتحامه شأوا طويلاً من الزمن.

عند هذه النقطة سنلتفت إلى المسارب التي تَمَرْحَلَ بها الحضور الشاخص للسيرة في كتابة قاسم. وسنشير إلى أن إغراء السيرة مارس فتنته على هذه الكتابة في تَنَزْلٍ زمني مديد انداح حتى ناهز العقدين من السنوات، كان قاسم في مطالعها يخفي نصوص تداعياته "بشكل غامض من الاطمئنان بأن النص الشعري أكثر أهمية من الكلام النظري عليه" مع ملاحظة أن هذا الحضور السيري الشاخص قد تماهى مع: النص، والغير، والمدينة، ولم يسفر عن قوام "سيرة ذاتية" متمايزة، ومتوافقة مع النحو المتداول فيما استقرت عليه الأعراف الأجناسية لهذا النوع الأدبي. فقد كنا دائما أمام: "سيرة النص"، "مكابدات الشخص"، "شخص لا يعرف أنني هو" ، "شخص يقع في الحب باستمرار"، "يريد أن يتذكر فينسى"، ".. شخصية النص"، "محاولة لتقدير المسافة بين النص والشخص". وكلها عتبات دالة على الارتباك، والمراوحة الوجلة، والتوق إلى تفادي الإخفاق في استجواب تجربة الحياة بحساسية تليق بالأسئلة الكبرى التي تهيمن بظلالها.

يقف بنا هذا على ملمحين مهمين أولهما إن امتداد فسحة التدوين ومعاودات استعادة الذاكرة خلال عقدين من السنوات يومئ لتكرار وانبثاث اللحظات التي تدفع الأنا إلى التأمل في ذاكرتها وممارستها الإبداعية والحياتية على حد سواء، باعتبار أن انجاز الكتابة السيرية يستفرض حدوث تقاطع بين مكونات الذاكرة المستعادة من جهة ولحظة متوترة حدّية من حياة صاحب السيرة تضع مخزون الوعي والتجارب في مواجهة تأملية معرفية مع النفس من جهة أخرى. هذا يعني أن الكاتب الذي كان معنياً بمحاولة ترجمة ذاته مرة بعد مرة كان يعيش هاجسا فعلياً مخيماً يطرح الأسئلة، والتأملات، والقضايا الكبرى حول الكائن والمعنى والقيمة، في آماد متسعة من مسار الحياة، دون أن ينجز الإجابات دفعة واحدة. وكأني بتجربة قاسم تنبني، من هذه الناحية، على مشاغل جذرية ساطية تؤسس للوجود عبر الكتابة التي من خلالها ينكشف جوهر الأشياء. ولا مجال للمجانية أو الاستخفاف في هذا البعد الرؤيوي المؤسس بحال من الأحوال.

أما الملمح الآخر فقد أشرت إليه لِماماً عابراً حين أومأت إلى التباس السيرة/السير التي كتبها قاسم حداد أمام مقترحات التصنيف الأجناسي للنوع كما استقرت عليه تنظيرات الكتابة الأوتوبيوغرافية في الدرس النقدي. فقاسم يكتب سيرة للنص وسيرة للمحرق تاركاً لنا حرية ذرع المسافة بينهما من أجل توليد سيرة للشخص رديفة ومتمفصلة. لقد "بقيت هذه السيرة في شتات من هواء الكتابة، متخفية، متماهية في رغبة النص الفاتنة في الذهاب إلى القارئ...... وعندما يجري التعامل مع هذه السيرة بوصفها مكتوبة على هامش النص، فإن نشرها، مرصوفة بليلٍ كثيف يشغل الهامش بهواجس رافقت حياة الشخص وتجربة النص، هو ضربٌ من أشكال الرغبة......... في تحقيق تجربة قراءة الكتاب بوصفه قطعة من حياة الكاتب". هذا هو ما يكتبه قاسم حداد ذات محاولة سيرية في العام 1997م. وهو يكتب، في ذهاب سيري لاحق: "إن تأمل التجربة الذاتية في ضوء التجربة الأغنى، لمدينة المحرق، هو سياق يضعني في مهبٍ كنت قد تولعت به وأنجزت له نصوصاً متفاوتة الشكل والسياق، الأمر الذي منحني حرية الزعم بأنني لا أكتب سيرة الشخص بقدر ما أحاول كتابة النص الذي سألتني عنه مدينة المحرق ذات درس: كيف ستكتب النص؟".

"النص" و" الشخص" و "المدينة- ورشة الأمل". مفاهيم مركزية ثلاثة يمكن رصدها بوصفها مجازات كبرى تنهض على طاقتها الغزيرة كل خبايا وعود وعذابات تجربة قاسم حداد الإبداعية. تقتضي المقاربة هنا أن لا نحيل إلى ازدواج ثنائي تنسرب فيه علاقة "ذات" بـ "كتابة" ، أو "نص" بـ "واقع"، أو "داخل" بـ "خارج" فقط. ففي مثل هذا الإفقار ما يسعف نوايا تحليلية تستبق تفسير التجربة بإقامة جدل قابل للتنظيم والإدراك، بل والتنبؤ بالمسارات مسبقا. لكن سيرة/ سير قاسم تؤسس وفرة ليست قابلة للإرتسام في النظام الإزدواجي. وهي تدين بقدرتها على اجتذابنا في طياتها المتراكبة إلى قدرتها على افتتاح حقل تمفصل لا ينضب في الخانة الفارغة التي ينقلب فيها المفهومان المتعارضان : نص وذات، كلٌ إلى الآخر. لقد جرى تفنيد فكرة الهوية الصافية. صارت الذات تولِّد اختلافها من صميمها وكذلك النص يفترع فوارقه من داخله. هنا لم تنكتب السيرة إلا متمفصلة بعد أن ارتبكت المسافة بين النص والشخص، وانخرطت في ورشة الممارسة كل المكونات، فصار للنص شخصية، وللمدينة نص، وللنصوص سيرة وهي كلها متماهية في مشروع "أمل" دينامي، تتفلت عناصره وتندفع ولا تكف عن الحركة. لقد ذابت الإزدواجية المتعارضة في نسيج ثلاثي متداخل حتى جاء عنوان السيرة التي نحن بصددها هكذا: ورشة الأمل. سيرة شخصية لمدينة المحرق. أي أن "النص" و"الشخص" و"المدينة-ورشة الأمل" قد إلتأموا في مشروع سيري واحد ما فتئ يتكشف، ويعالج المسافات، ويقاوم كل إغلاق. هنا تتلابس البؤر التوليدية المجازية الثلاث في مجاز أكبر هو السيرة مستدامة الانكتاب (تماما مثل ورشة، مثل مشروع لا يكتمل) والتي تتمثل في: "نص" "شخصي" للـ "مدينة".

ترى ما الذي سيعنيه إذن نص المجاز الأكبر: نص المدينة- ورشة الأمل: السيرة دائمة الإنكتاب. المشروع الذي لا يكتمل. ولماذا تغدو المحرق ورشة الأمل؟ إنها -كما يقول حداد- "ورشة أمل، لأنني أرى في المحرق مشروعاً لا يكتمل إلا إذا اتصل بحيوية الأمل الإنساني، ويمكن لملاحظ التاريخ الإجتماعي لهذه المدينة، أن يكتشف كيف أن ثمة مشاريع عديدة ارتبطت بأشخاص، في حقول مختلفة، وقد نهضت بهم هذه المشاريع كلما شعروا بالطاقة الصادرة عن الجمرة الخفية في شهوة الحياة والتغيير المتأججة في حركة لا تكف عن الإنتاج. كل ذلك صادر من كون هذه المدينة، طوال تاريخها المعروف، مصدر بناء وحيوية وبوتقة أفكار نابضة بالعمل" .

لقد وضعنا قاسم حداد أمام المحرق-ورشة الأمل، الممعنة في الإنتاجية كونها تتوهج من أقاصي الرغبة في الحياة. إن هذا المشروع غير المكتمل هو الخانة الفارغة التي تؤجج التناقض بين أمل النص ويأس الشخص وتتصعد به إلى أفق جديد. خانةٌ تَمْثُلُ، تماما، في المكان الذي يتقرى معنىً مفقوداً وغير قابل للإنغلاق. وعن طريق الإضطلاع بهذه الخانة الخاوية وإدارة الرؤى من خلالها أفلتت التجربة من تأله النصي الجامح، وإمبريالية الشخصي النسقي، فيما تعثرت تجارب إبداعية عديدة وراوحت دون تحدي المجاوزة والتخطي.

دعونا، إذن، نقرأ ورشة قاسم حداد من بدايتها لنَرَ كيف وضعنا هكذا منذ المنطلق أمام خرائطية شبكية فريدة للمحرق. المحرق بما هي لحظتين باهرتين: أبواب مفتوحة وورشة أمل.

إن مخطط "الورشة" شبكي، بطبيعته. ودينامي أيضا. الأجزاء فيه تتصل وتتعاشق. والفاعلية تتولد من الجوف، بحركته التي لا تكف، واشتغاله الذي لا يهدأ. وبمناولاته وإنتاجيته وبنشاطه وكثافة التجدد في داخله. الترحلات في مجال الورشة قصيرة المدى سريعة الدوران. من الواحد ينبثق المتعدد، ومن النويات الصغرى تنتشر الهيتروجينية. ليس في الورشة تراتب أو بداية أو نهاية. كل شيء يتكون طبقاً لشبكة الاتصال والتعدد، والملابسة والتماسات المحمومة. و "ورشة الأمل" تشغيل للمخيلة على هذا الأساس من إزاحة منطق البداية والنهاية، والتنضيد المتراتب الكرونولوجي المتصل بينهما. ضداً لمنطق السلسلة، ضداً للإنتظام المطرد، والحدود القاطعة؛ ورَش يرِش ورْشاً : تناول. وورَش فلان بفلان: أغراه، وورَّش بينهم توريشا أي بَثَّ التحرشات بينهم فكان وَرِشا أي نَشِطاً خفيفاً، وكانت وَرْشة أي جماعة معلمين وفَعَلَةٌ يشتغلون. إن الورشة كلمة مفتاحية تقذف بالمحرق، والشخص، والسيرة، في أتون التحول والصهر والتشكلات متعددة الأبعاد منذ البداية. وحين يختلج قاسم حداد في سؤال الزاوية التي يمكن انتخابها للحديث عن المحرق، في الصفحات الأولى من الكتاب، يعثر على بؤرتين توليديتين تسعفانه كدلالتين نموذجيتين: الأبواب المفتوحة والمشروع المستأنف الذي لا يكتمل (تماما مثل ورشة لا تكف عن الإنتاج).

لا تقترح الأبواب المفتوحة البدء والانتهاء. معها يحسن فقط الخروج والدخول. الباب المفتوح تحرير من الحدّ. مضاعفة للحدس الجوّاب. أن نجعل الفضاء مناخا مشتركاً تلك هي المهمة الأكثر جوهرية. بل هي المهمة الضرورية من أجل حرية الاتصال ومكايدة الحواجز والفواصل. والمسار الذي يذرع أبوابا مفتوحة ليس خطاً يبدأ بنقطة ويتوقف عند نقطة أخرى. ليست البداية ولا النهاية أبداً هما الأمران المهمان المهم هو الـ "ما بين" المتوسط بينهما، شريطة أن لا نفهم الوسط كنقطة تنصف المسافة بين طرفين. فالوسط انخراط، وحركة اختراقية: ممعنة وتأخذ الأطراف كلها في غمارها -كما يمكن أن نتذكر دولوز-. إن ذلك على وجه التحديد ما يحدث في المحرق التي هي ورشة الأمل. رحابة البيوت مفتوحة الأبواب تمتص المتظاهرين من الخارج إلى حنانها الآسر ومبيتاتها الآمنة. ومجرد كلمة "هُوودْ" تمنح قائلها إذنا بدخول البيوت والاندماج في مألوف حياة أفرادها المضيافين الوادعين. وما أن تضع يدك على أحجار مدرسة الهداية العتيقة حتى يتحدر شيء من رمل قديم في أصابعك وحضنك كمن يبدأ الاتصال بالتاريخ أما مع ارتفاع المد فتجيء (الماية) ويقتحم البحر البيوت وقتما يحلو له دون موانع أو استئذان. بل إلى الحد الذي يتفنن الأهالي في صناعة حيطان البيوت بشاكلة تؤمن استضافة البحر وإفساح المكان أمامه.

مثل هذا الانفتاح، والفضاءات التي تتداخل، والنَوْل الكوني الساهم في الدوران والإنتاج ستدلف إلى نصوص "ورشة الأمل" مرسخة أليغوريا "الباب المفتوح" و "الورشة" في كل الجنبات وشتى الصور. وسيتحول الأمر إلى تراسل نشط مع استعارات هلوسية ألقت بروعها في قيعان تجربة الشاعر منذ قديم. سيكون للورشة رزحتها المجازية في مدينة الطفولة: فالمحرق هي مشروع بناء وحيوية وتغيير يتأجج ويهدر في كل حين. والبنية المورفولوجية للمدينة مشاكلة لأيقونتها المعنوية: فأحياء البنائيين لصق أحياء الصاغة، وهذه متجاورة مع أحياء الحياك، والأخيرة بمحاذاة مساكن القلاليف.. وهكذا. وبيت الكاتب جرم صغير ينظوي فيه عالم الورشة الأكبر، فهو حسينية لا تهدأ طوال العام، وخلية نحل يومية ينهمك جميع أفرادها في عمل متنوع ومتواصل منذ الفجر حتى المساء. تربي الجدة البقر، وتشتغل إحدى العمات بتطريز القصب المُذّهّب على الملابس النسائية، فيما العمة الكبرى تشتغل بأجر شحيح في مهن مختلفة، والأم تخيط ملابس أهل الحي بمساعدة الشقيقة الكبرى نظير بعض الدراهم النادرة. بل إن مجاز الورشة سيتعمم ويستحوذ على صورة كل شيء، وفضلا عن الكلام على "ورشة الحدادة" و "ورشة القلافة" ، سيجري الحديث عن "ورشة الرسم" المسؤول عنها الأستاذ زنتوت في المدرسة، والدراسة التي "تأخذ طابع الورشة النشطة المتنوعة التي يتسابق إليها الطلبة" ، ونزهة العبور البحري بين المحرق وعراد التي تتطلب من الركاب العابرين مساعدة صاحب القارب في تفريغ ما يرشح من ماء البحر إلى قاع القارب طوال مدة الإبحار، وبالتناوب من الجميع، رغم أنهم دفعوا ثمن هذه "العبرة" سلفا. والورشة التي ينخرط فيها كل من يصادف عبوره لجسر المحرق-المنامة وقت فتح الجسر الأسفلتي ليتاح للسفن أن تعبر إلى الجانب الآخر من الخليج. وهو عمل جماعي يتنادى إليه كل من يشهد الموقف حتى ليترك سائقو العربات مقاعدهم نازلين للمشاركة على وقع الأهازيج من أجل إدارة مفتاح إزاحة كل طرف من طرفي الشارع الضخم، كأنهم يعرفون ما يفعلون. والاستعارات الهَلْوَسِية، ذات التعاودات الملحاحة على عالم الورشة هي التي ستقود الكاتب إلى التأمل في المعنى الغامض الذي يجعله يعيش تجربة فريدة في العلاقة بالمكان داخل مبنى المكتبة العامة الذي اشتغل فيه أوائل السبعينات، فيرى في باطن هذا المبنى المكون من طابقين ذلك الموقع القديم لورشة صناعة السفن، غير المرئي الآن، والمطابق للمكان الذي يمتهن الاختلاف إليه اليوم. وأكثر من ذلك سيتذكر عبر رائحة المجلدات القديمة التي يقوم بتصنيفها روائح الخشب المنقوع في البحر لتلك الورشة العالقة بالذاكرة. وحتى حياة الكاتب ستتحول إلى ورشة متنوعة الإمعان في العمل، فقد اشتغل منذ بكورته عاملا مع النجارين، وصبياً في أحد الدكاكين، ومنادياً على باصات النقل الخشبية، وملاحظا لماكينة الحفر، وصباغا وعاملا في الحفريات، وبنّاء، وبائعا، وحداداً، وأمينا لمكتبة.

إن عالم الورشة متكاتف. دينامي. يتناغم، وتفيض دوائره عن بعضها بعضا. الحركة فيه تراسلية، تروح وتجيء، تجعل الداخل والخارج متضاعفان متلابسان، وفي أهبة تبادل المواقع دائما. الورشة تجربة في العالم. في الصيرورة والتحول. معايشة، ودرس يعبر الفضاءات. رفع للخطوط الفاصلة، وأبوابُ مشرعة على تكامل الإمكانيات. الورشة باب مفتوح. كما الأمل. والعمل، والمحرق.
أليغوريا المحرق هي الباب المفتوح. وتاريخها هو تاريخ الحركة بين الأبواب، هكذا تؤشر معاينة قاسم في "ورشة الأمل". فالمناخ الاجتماعي كان يقترح صيغة ودودة تفتح الأبواب للمعاطاة السمحة بين الدور والعائلات والفئات والمذاهب والأحياء والزائرين من أصدقاء البيوت. وأبواب المحرق مفتوحة أمام الطفولة، إلى حدٍ شَعَرَ معه طفل الورشة أن كل دار هي بيته الإفتراضي بعد تجربة تيه عن الدار في اليوم الأول لدخول المدرسة. والأبواب مفتوحة في الممارسة اليومية لسكان المدينة عبر صور التواصل المحموم حين انتقال أطباق الطعام، لحظة الوجبة، بين البيوت حتى "إنك سوف تعرف، بعد جولة صغيرة في أحد أحياء المدينة، ماذا ستأكل كل عائلة على الغداء في ذلك اليوم". والأبواب مفتوحة، كذلك في المناسبات العامة حيث الجولات الجماعية أيام الأعياد، والناس يجوبون المدينة خروجاً من باب ودخولا في باب لتبادل التهاني على موائد مفتوحة "اتصالا بالأبواب المشرعة" طوال النهار. ثم إن الأبواب مفتوحة، للطرافة عميقة المعنى، أمام زيارات ألـ(ازكرت) من أصدقاء العائلة، الذين لا يرون في تخوم التقاليد حاجباً يحول دون الاستئذان العَجِلِ بكلمة يطلقونها بصوت مسموع: "هُوودْ"، من أجل إعلام نساء البيت وتَنبيههن إلى إن أحد أصدقاء العائلة على وشك تَغَشِي المنزل.

وأبواب المحرق -ورشة الأمل- مفتوحة، مرة أخرى، من أجل دعم النضال الوطني في انتفاضة عام 65 من القرن الماضي، وما بعدها، حيث يقف الأهالي على أبواب بيوتهم المشرعة حاملين قطع القماش المبللة بالماء وحبات البصل لمساعدة المتظاهرين في مقاومة قنابل شرطة الشغب المسيلة للدموع. بل أكثر من ذلك، تنفتح هذه الأبواب طوال الليل والنهار من أجل إيواء المناضلين وتهيئة المبيت والطعام لهم كما لو أنهم من أبناء الدار، حماية من ملاحقات رجال المخابرات.

ستهاجر صور كل هذا الانفتاح، والانهماك في العمل، والإنتاج، وستترحل ضمن النسيج الشبكي لسيرة مدينة المحرق الشخصية، وأكاد أقول لامتداد تجربة حداد في الكتابة، وعلى هذا النحو يمكن لنا أن نفسر انفتاح النصوص وتواشجها وتداخلاتها، ووفق هذه الشاكلة يمكن اقتراح تأويل أكثر استيعابا للهاجس الرؤيوي الساري في التعددية التي تنمو وتتفرع، وفي تكرارات نصوص كانت قد تضمنتها إصدارات سابقة، وإعادة لحمها بورشة الأمل. بل وأيضا تكرار بعض المجازات، وأهمها مجاز عنوان الكتاب نفسه.

عند هذا المفرق الحاسم سنفترض أن الفضاء الأوتوبيوغرافي الذي تنضحه الدوافق الجوفية لنصوص "ورشة الأمل" لا ينضوي، بإرتياح، تحت معطيات الميثاق السردي التعاقدي الذي تذهب إليه التنظيرات الأجناسية الشائعة. فالفضاء السيري الذي تشيّده تجربة حداد هو فضاء تمفصلي، مرة بعد مرة، والكاتب يبدو حريصا على بث تشذرات السيرة في مستويات وطبقات وطيات عديدة، تحتفظ بمكرها ومراوغتها، واندساسها في "النص" و "المكان" والحضورات الخلاسية "للشخص" لا "للذات" ، أو " للفرد". ومن هنا يقترح الكاتب تلقي كتابه "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر" بوصفه سيرة للنص والأصدقاء والحبيبة. وهو يعزز هذا المنظور، الذي يتفادى الأوتوبيوغرافية، في "ورشة الأمل"، من جديد، حين ينص على كون الكتاب سيرة شخصية لمدينة، هي مدينة المحرق.. أي أننا أمام تحوط مسبق مما يمكن أن تؤول إليه التنظيرات الأجناسية المعيارية في سياق تداول الكتاب، وسيفصح عن ذلك قاسم حداد مبينا الأسباب التي حدت به إلى الانهماك كثيراً في "كتابة سيرة النص متفاديا الكلام عن سيرة الشخص" يقول: "لست ممن يحسن كتابة السيرة بالشكل المتعارف عليه في هذا الحقل، ليس فقط بسبب ما ينتابني من القلق والارتباك عندما يتطلب الموقف كلاما عن الشخص، ولكن لأنني، خصوصا، لا أشعر بقدرتي على كتابة ما ينتمي إلى السرد التاريخي المتسلسل والمقيد بتسجيل الأحداث متتالية".

من الواضح أننا هنا أمام ذريعة متصلة بالمنظور المعرفي للتاريخ بما هو زمنية خارجة عن نطاق الكرونولوجية، والخطّية مطردة الإنتظام. وسنرى أننا أمام تصور للذات، وكتابة كتاب السيرة، ومفهوم "الكتاب" نفسه تدور كلها في مدار هذه الرؤية المعرفية بالأساس.

إن السيرة، كما يكتب حداد، في نص كاشف بعنوان "عن السيرة"، قد بقيت عنده، يوم أن كتب "ليس بهذا الشكل"، "في شتات من هواء الكتابة"، وقد كانت استجابة لسياقات متنوعة تفرض نفسها: أجوبة على أسئلة في حوار، تعليق، مقال، مداخلة في ندوة، ذهاب ذاتي للبوح في صورة تأمل.. وهكذا "إذا كانت هذه السيرة، بادية التفاوت، في درجة الانفعال والسبر والشعرية، فربما لأن الحياة هي أيضا عرضة لمثل هذه الحالات المختلفة المتفاوتة".

لقد غدت الكتابة السيرية عند قاسم حداد، منذ ذلك الحين، وطوال الوقت، رغبة عارمة في تحقيق تجربة جديدة لقراءة الكتاب بوصفة جامعا للحظات عديدة غاية في التنوع، مثل الحياة، "وبهذا نكون قد أتحنا لأنفسنا -الكاتب والقارئ في آن- محاولة إعادة النظر في مفهوم "الكتاب" في الأساس. بمعنى أن تجاوز حدود النوع الأدبي، يمكن أن يقترح علينا، في الوقت نفسه، العمل على تجاوز مفهوم الكتاب وصورته المحددة -تقنينا- والمقتصرة على "شكل" واحد، ثابت، لمادته".

هاكم، إذن، ما سيكونه "ورش الأمل": كتاب ملحوم، يتجاوز حدود النوع ومفهوم "الكتاب" الهيكلي، المحدد والثابت. وإذا كنا نحس بأن بعض الفصول تسير متصاعدة بنوع من الترتيب، فإننا لن نجد روحاً تسجيلية، أو تقيداً بحرفية الأحداث وتسلسلها ولا بواقعية الإحالات المرجعية وتوثيقيتها. ولنا أن نتعامل مع النزر اليسير من التداعيات التي قد تُوهِمُ بانتظامات من نوع ما على أنه الحد الأدنى من استصحاب حال بعض من المواضعات، فحسب، التي يحتشد بها الدرس النقدي. ذلك لأن سيرة المدينة هنا ليست محاكاة ولا مطابقة. إنها انزياح واختلاف. واستراتيجيات الكتابة السيرية، في الورشة، تأتي متواشجة مع تصورات الذات لهويتها. ذات ممحونة في ليل المعنى. تنقد الأمل وتتشبث به. مساراتها في السديم، وسيرتها في الكتابة. المتاه. الفوات. والمشي خارج التقويم: ستنزع "ورشة الأمل" لمضاهاة هذا كله، وسينقش قاسم حداد اختلافية المدينة من هذا السبيل.

يكتب البعض وفي قرارة نفسه أنه قد وجد مدينته. وأنه قدم للقارئ الصورة الأكثر أمانة وترجمة للمدينة. وأدعي أن قاسم حداد لم يتلبس بهذا الزعم أبداً، بل إنه يقبل على المحرق من منطلق حالة ذهنية مختلفة. حالة تنبثق معها المدينة من منظور جديد نكتشف فيما ندلف إلى الدواخل معه أننا ننحّي الصورة التسجيلة الواقعية بيد، ونزيح، بالأخرى، عن مدينة خبيئة، وأندلس أعماق محجوبة، متعددة المداخل، يثقب الكاتب الضوء من أجل قصّ آثارها وإنارة جنتها البعيدة.

لقد جرت العادة أن يتكرس كتّاب إرشيفيون، لهم دراية بالهستوريجرافيا، لكتابة سيرة المدن، فتراث التقاليد المرعية في هذا الصدد ينحاز، غالبا، إلى خيار من اثنين لتدوين بحثه المديني؛ اختطاط تاريخ عام مع التركيز على وقائعة الرسمية وشيء من المظاهر الأخرى: اقتصادية ومعمارية واجتماعية، أو العكوف على سيرة موضوعية تكف عن التعامل مع تاريخ المدينة ككل واحد، مركزة على جوانب محددة وثيمات خاصة. إلا أن "ورشة الأمل" لم تعد إلى إي من هذين المقترحين؛ فلم تكن "المحرق" هي التاريخ الوقائعي المتعارف بشوارعه وأحداثه وصراعاته وسياق مجرياته، ولا هي بالمقاربة الثيماتية بميكروسكوبيتها وحفائرها وتصنيفاتها وشروحاتها التحليلية المتشعبة. إنها، كما يمكن أن نقول، السيرة التي تتقاطب حول دلالة مفهوم جديد للكتاب. كتاب تتعدد مداخله، وتتشظى تمركزاته، وتتحقق تواصلات نصوصه على هيئة شبكات لمسيرات لا متناهية ترتسم فيها حالات توهج عالية الكثافة، هنا وهناك، بين النصوص، ووفق تعدديات لا منتظمة، حيث الحركة والانتاجية لا تكف ولا تهدأ، وحيث الكتاب شتات من خطوط التمفصل، وتسويات الهروب، وحركات الترحيل في ورَشٍ وتورشٍِ وتوريشٍ ووَرشَان. هو الكتاب: الجذمور- كما سيقول ديلوز- أو الكتاب: الورشة كما سيسمّيه حداد. وبين هذا وذاك "ثمة تركّب جماعي للتعبير، وتركَّب مكائني للرغبة، أحدهما في الآخر، وكلاهما موصولان بخارج رائع يشكل في جميع الأحوال تعدديةً وترحّل وانطلاق يولِّد الفوارق والاختلاف.

دوماً من أجل "ورشة الأمل" لِنعُدْ إلى نصوص حداد في امتدادها، نعود على افتراض أننا غادرناها. إن ما سيغلب على انتباهنا هذه البرهة هو العمق الغامض للزمن. الضياء المظلم والعتمة المنيرة، والإلتباس المثنوي للأمام والوراء، والمضي والإستقبال. الأمر من هذه الوجهة وثيق الاتصال بسؤال الوجود، وانكشافات الكينونة في زمنيتها، والقلق الأنطولوجي لتباعد الذات عن صميمها. إن صورة الكائن المتناهي في عذاب البحث عن امكانية المستحيل صورة تطفو وتغوص في امتداد التجربة، مثل مجازٍ متواتر، وعنيفٍ رؤيوياً، يخترق مدارات التجربة كلها لكنه يتبدى في ذرى مجاليه في "قبر قاسم" و "علاج المسافة" و "ورشة الأمل". وعموماً، فانطلاقا من منظور معين، يمكن المصادقة على إن تجربة حداد بمجموعها هي تجربة مواجهة لسؤال الزمان. مواجهة على أرضيةٍ ذاتٍ ليست منسجمة ولا مهيئة للإنسجام، وفي ظل رؤى عنفوانية، قصوى وانتهاكية، لهذا تتعهد الكتابة هذا اللاتساوق الغريب بين اليأس والأمل: "أضع الكتابة في اليأس وأزعمُ أنه الأمل. ماذا أفعلُ، ليس ثمة مكان آخر يمكن أن يلجأ إليه ذئب مثلي. فماذا يعني أن تكتب روح وحيدة إلى هذا الحد. وحيدة حتى أن يأساً كاملا لا يكفي لكي تتيقن من أن الأمل الذاهب. لم يذهب سدى". إن هذه الوحدة والإستذءابية هي ما يجعل النص جحيما لا تسبقه جنة ولا تليه على حد تعبير حداد. هنا تكتسي اللحظة الزمنية بعداً تركيبيا مضاعفا وتتحول الكتابة إلى طروس لذات مشروخة تحاول الأمل كتجربة للمستحيل بينما ينهشها التناهي والقصور الضاربان في ليل الوجود. ولا يخرج "ورشة الأمل" عن هذا السديم النصي المتحرك في زمن رجراج وشيزوفريني. والمحرق، هي الأخرى، لا تخرج عن الأمل المؤجل. إنها حركة متناهية نحو هذا التطلع الغامض والسر الغريب، تماماً كإصرار الأهالي على قلافة الفُلك وركوب الأزرق المستحيل، يتمرءاي ذلك في مخيلة حداد، فيكتب: "شعرت بالمحرق كناية عن العمل الدائب لإنجاز الشيء الغامض الذي لا يدرك أهلها كنهه طوال التاريخ. لقد بنى أهل المحرق المزيد من السفن، وفي معظم هذه السفن أبحروا في ماء هائل غير قابل للتفسير".
تتخذ المحرق سمة "ورشة الأمل" تحت هذه المشروطية، إذن، ونشخص إليها، في معناها السيري (والسري) حين تتعين في باطن الذات جغرافية أخرى، متجذرة في رغبة المجاوزة وإمكان تحويل النماذج البشرية البسيطة إلى بؤر توتر تنضح بالمساءلة والوجود الواجئ نابضة بما يشبه الحدس أو الكشف أو وعود المعنى. ولعل في هذه الطبيعة بعض من المغزى العميق الذي تمتلئ به وتفيض عنه محرق قاسم حداد، وما ينبعث عنها من حكايا القسمات المتغضنة، الطافرة الغائرة، الممزوجة بتراب الجدران، وحديث البراحات، وأفنية المساجد والمآتم، وعرصات الدكاكين ودور الفن، وهمهمات القهاوي والسواحل. إنها رائحة البشر عراة إلا من خطرات شجن تتساقط في مرمى الوجود، وتؤول بكائنات المحرق وخمائر أرواحهم إلى تحرير المدينة من أبعادها المباشرة الملموسة لِتشفّ، وتتصعد، ذوبا إنسانيا، ومشروعا للتخييل والأمل وتحمل عبء الوجود.

إن ثمة شرط إنساني لا يستمد حيويته واتصاله إلا عبر معالجة هذا الأمل الغامض الممعن في المفارقة والإنفصال. والمحرق لا نبحث عنها لأنها متعينة في المتحقق والمتاح والذي على مرمى البصر. المحرق تغرينا لأننا نفتقدها بالضبط، لأنها ندّاهة منذورة لاستدعائنا والنداء علينا والزهزهة لحنينا الأندلسي الذي يتضوع لصق زهرة القلب.
كل المخلوقات التي مرت في مخرطة "الورشة"، وتحدرت صفا صفاً في سيرة المدينة جاءت كبقع ولطخات في امتداد المشهد الذي لا ساحل له: المطوعة أمينة، وأساتذة الهداية، ومحمد بن حمد، وصالح بن حمد، وعلي بوتاكي، وعبود الطبّاخ وغيرهم، كلهم مثلوا نقط ضوء لالتقاء مصائر، وارتطام دلالات، شكلت في النهاية، أصوات حوارية تتجرد من المكان والزمان وتتجه لمساءلة الحياة والمغزى والتجربة الإنسانية من منطلق علاج المسافة بين اليأس الضارب من ناحية، وإدراك ائتلاق الأمل المختلج في جمرة الروح الخفية من ناحية أخرى.
المحرق هي هذا العَوْدُ الأبدي لما يكهربنا ويسري فينا كلما قبضت الرؤية على رفيف يلتمع من السر المحجوب بالنسيان في كينونتنا المحتبسة.

والآن لنسأل: هل العذاب كامن في السر؟ أم في انتهاكه؟
وسنلتمس الإجابة عبر مقاربة أحد نصوص "ورشة الأمل".
علينا أن لا ننسى هنا أبدأً "ربان مذعور، خير مرشد إلى الهلاك" ، الفصل غير القابل للعفاء من الذاكرة في ورشة الأمل، وألا نقول إنه نص مثل النصوص الأخرى، برغم أنه مليء بأنماط نغمات مستخفية مبثوثة في ملاء التجربة وهيولاها على الإمتداد الرحيب..
إن السر كامن هنا، وليس ثمة ما يقال.
وإذا كان تضامن نسقي قد أخذ طريقه بين شخوص أسطورية من مثل سيزيف ، ويسوع، ووالد الشاعر، وصديقه المعاقَب في السجن الصحراوي، والشاعر نفسه، فإن صارية الصلب وكائنها موثق اليدين والرجلين كانت قاسما مشتركا، لأن انكشاف الناموس أمر لا ينبغي أن يحدث أبداً. وبالفعل فإن هناك "ربان مذعور" لأن انتهاكاً ملعوناً للقانون قد وقع.. "وكانت الصارية جوابا على كل سؤال.

في نص من أجمل النصوص السيرية تبلغ كتابة قاسم حداد درجتها القصوى في الحركة المزدوجة نحو "السر" ؛ حماية هذا "السر" وانتهاك حرمته. والحال أن فتنة هذا النص الآخاذ، نص الربان المذعور، تتولد من مستويات متعددة : أسلوبية ومضمونية ورؤيوية. فمن الوجهة الأسلوبية يتوسل النص تقنية بناء ذكية يستعيدها حداد من تجارب ناجحة سابقة كانت قد لفتت أحد النقاد في "قبر قاسم" فكتب يسميها "هزهزة الغموض" ويوصفها "كما يحصل تماما عند إلقاء حجر في البحيرة الراكدة، يتحرك الوحل فيموّه الصورة، ثم سرعان ما تظهر على رقتها ورونقها". إن هذه الحيلة الأسلوبية هي التي يتأسس عليها بناء المشاهد في النص الذي نحن بصدده.

يتوزع السرد على خمسة مشاهد مرقمة ومتوازنة الطول إلى حد ما. وينفرد المشهد الثالث من بينها بفاصلة غرافيكية ومعنوية تتلاءم مع نوع من الفصل في اللقطات والتوالي الزمني للأحداث ضمن انتظام السرد. وإن من شأن الحبكة التي يتعهدها قاسم حداد، بإقتدار وتمكن لافتين، مازجاً بين حالات نفسية متقاصية التضادات، أن تفسح لعنف جذري ضد كل دلالة مغلقة تريد أن تخضع نص "الربّان المذعور" لتفسير أحادي مطمئن ونهائي. فالغامض يموقعنا في فتنة غير متناهية إزاء الطابع الإستيهامي الذي نتبين منه الحدث الأول في خيط السرد.
حدث صاعق. أشد إيلاما من احتمال الضحايا.والبحارة المغدورون موصولون بالهلاك المحدق. هكذا ينفتح المشهد على عاصفة تضرب السفينة في عرض البحر. الربان يوزع أوامره بصرخات مذعورة. والريح تصفق في أسمال الشراع فيخرج عن السيطرة. الملاحون على ظهر السفينة، ريشة الريح، يركضون في كل الإتجاهات متشبثين بما يصادفهم في مهب الضياع.
يُقَدِمُ عنفوانَ هذا الحدث ساردٌ ينبثق من قلب المشهد. لن نتبين على وجه يقين إن كنا أمام حلم؟ رؤيا؟ شريط سينمائي؟ أو أننا أمام جزء من ولع والد الكاتب بسرد حادثة الصلب التي سينبني عليها التكوين السردي ككل في هذا النص. لا شيء يكشف السرّ، وكل شيء يزعزع ويموِّه؟ لقد تسجَّر البحر فادلهمت الصورة وأُبْهِمَت.
"وفي لمحة خاطفة أضاء البرق سطح السفينة لتشخص الأعين في قاعدة الصارية، كان ثمة شخص لا يزال مصلوباً هناك.
لحظتها فهمنا ذلك الصمود الغريب الذي كانت تتحصن به الصارية، إنها محتفظة برهينتها، ففي غمرة ذلك المشهد العاصف، حيث الكارثة تحاصر السفينة، وتحدق بالجميع، لم يزل ذلك الشخص موثق اليدين والرجلين في أصل الصارية، عيناه طائرتان مثل عصفورين أفزعتهما العاصفة في غابة تحترق "

يكاد طفل الورشة أن لا يكون حاضراً في مطالع هذه المشهدية المرفوعة إلى مصاف غواية رمزية فاتنة وأسرارية وغير قابلة للإحتواء. غواية ستنداح من مشهد البدء لتجلل كل الفضاءات بعد ذلك. المرَّة الوحيدة اللافتة التي ستزيح عن حضور شاحب لهذا الطفل في غضون السرد الأول هي الإحالة التي تستدعي إلى ذاكرة السارد رغبة طفل في مباشرة احتمالات الموج: "تذكرت يوم قلتُ لأبي إنني أصبحت رجلاً كبيراً وأستطيع دخول البحر معك، حيث قال ساعتها: أسمعْ، ليس على البحر كبير، إنه أكبر من كل شيء، وما عليك إلا أن تجرّب ذلك. الآن فقط أفهم المعنى الخطير في تلك الكلمة".

الآن فقط كيف نفهم المعنى الخطير في تلك الكلمة؟
أمام البحر كليُ القدرة لماذا تستحيل التهلكة إلى فعل مقاومة، وتضحي تعزيمات الموت الهاذية دفاعا يرتد على الموت ذاته؟ أتكون خبرة الصلب التي ستتكرر وتتضاعف في المشاهد التالية رجوعاً دائرياً إلى العمق نفسه. أننا سنكتشف، شيئا فشيئا، أن بقية النص تنضم بكاملها، وباستمرار، إلى مقابلة تكرارية بين ذكرى أولى هي عقوبة ما قبل العاصفة (الصلب) وذكرى ثانية هي الرغبة في تجربة المستحيل (دخول البحر). من المؤكد أن الصوت المتكرر عقب كل حادثة صلب: "لقد كنت معه هناك، أعرفه ويراني، ونحن في المشهد العاصف نختلج في حضرة موت وشيك"، "تذكرت صلب ذلك الصديق في ذلك المشهد، لقد كنت معه هناك، أعرفه ويراني"، مؤكد أن هذا الصوت كان يحيل إلى ذات متعددة. انشطار كينوني. تكرار مطلق للذات، لكن للذات بما هي إحالة. كما لو أن الشخص الماثل في آخر ذكريات ما قبل العاصفة ليس حاضراً هناك ولا يوجد بعيداً عما يحملنا إلى المصائر نفسها، ذلك ما لا يكف عن الرنين في حكمة النبرة الأبوية المُحَرَّقة، حين يوجِّه الطفل السؤال ويتلقى تنهيدة الأب: "بادرته بسؤال يتلجلج في حنجرتي طوال الوقت، عما إذا كان يتذكر اسم الشخص الذي كان مصلوباً في الصارية. نظر في عيني يلومني على السؤال الفاضح، ثم حاول أن يبتسم، فاندلعت تنهيدة مريرة مثل جمرة تحرق الشفتين والعينين معا:
لا أهمية للأسماء، أي شخص منا يمكن أن يكون هناك، لقد كانت الصارية جواباً على كل سؤال".
هذه اللحظة الفلسفية، الأكثر صميمية في هذا النص، لا يُلَمّحُ إليها السرد إلا بصورة مومضة، خاطفة للأبصار في مرورها العابر، لكنها فعالة بدرجة فائقة. مشحوذة واستحواذية ، وفارضة لإيقاعاتها خلف غلالة المشهد.

إن نموذج الكائن الموثق إلى صارية الصلب من يديه ورجليه له ملامحنا. له جعدنا ولحمنا وعظمنا. وهو ينتهك الحياد فينا، ينفذ إلى القلب، لأنه يمضي إلى نهاية مصيره، فاديا، أو متمّاً ما لم نتمّه بعد. ما لم نتمّه ونوشك أن... .
ليس من شك في أنه محمد بن حمد الحداد (والد قاسم) الذي بقي مربوطا في الصارية، ثلاثة أيام، يؤدي عقابا سابقا دون أن يجرؤ أحد على إطلاقه..، ومع ذلك فهو ليس أبداً محمد بن حمد الحداد. كما، بالضبط، أن المقيد على الخشبة المغروسة في حوش الدار هو الطفل الذي كانه قاسم، لكنه أيضا، وباليقين نفسه، الشبيه المختلف الذي شُبِهَ لنا... .
والصديق المصلوب على البوابة الداخلية في باحة السجن....
ورهينة الصارية فَزِع العينين فيما السفينة تحت رحمة البحر.. .
وتنهيدة يسوع، والصخرة في إثر سيزيف، حيث المصائر تتعدد عدداً لا متناهياً من المرات، كلها -بعبارة لقاسم حداد- طين تحت العذاب. وإننا لمدفوعون إلى التذكر بأن ما يشبه أسباباً تعترى الكائن، غفلة وحلماً وشهوة، قد هيئت لهم جميعا، وبشكل ما، التناوب على صلافة الصارية.

إن حركة الأحداث في طريقة القص هي بعينها صوت من الرؤيوية الحاضرة في متخيل الخبرة بالوجود لدى الكاتب، فنحن أمام سرد متراكب يُدَشِنُ هجنةً، وتعدداً في الأصوات، يخترق كل أحادية مصمتة. إذ ما أن نفترض أن صوت الطفل الذي يسرد "ورشة الأمل" متموقع في مركز النص حتى يتحايل علينا السارد بترحيل سلطة الصوت إلى الأب الذي ينسرب في الذاكرة المضرمة فيحكي ويستعيد كما لو في الوقت الذي يحكي، أمام طفله الشَغِف باستعادة الحكاية، يكون على مقربة شديدة من التأسيس المتجدد للحدث: الصلب على الصارية. إن هذه الذكرى تطلق بالفعل كل المكبوتات الموغلة في السر، التي لم يحدث أن انصاعت للنفي والبدد.

إن الحكاية التي تحتفظ بقوة المراوغة في البداية تفسح المجال لمستويين توليديين ينهض عليهما النص بعد ذلك؛ مستوى ثيماتي، يتطور في أفق المستوى الآخر، ويتجسد في العودة المحاكاتية، لفكرة الإنسان الراسف في قيود العقاب. عودة متكررة دائما وأبداً. ومستوى آخر تتألف بواسطته القصة المتنامية، التي تتصعد في سمائها الثيمة المشار إليها سابقا، وهي قصة أب يروي ذكرى سيرية أليمة بينما يقشر حبات الكستناء، حول مجمرة ليل شتائي، لإبنه المأخوذ بحكاية الصلب المروية، ثم تحدث المفارقة، في سياق لاحق، فيقع الإبن في تواردات مذهلة تتكرر معها نفس حكاية الصلب، ولكن وفق تغيير في مواقع الشخصيات ذات العلاقة، فالأب المصلوب في الحكاية السابقة يتحول إلى معاقب صارم يوقع عقوبة الصلب على طفله. والإبن المروي له، أولاً، يتحول إلى رواية جديد لحكاية الصلب. صلبه هو في هذه المرة.

من الممكن، بالطبع، أن نتوقع تقدم هذا السرد وفق خط واحد يضطرد في التنامي المتسلسل المنتظم. لكن الكاتب، إلتئاما مع طابع عام في الرؤية إلى العالم غضون الكتاب، يحرص على الزوغان من منطق الخط الواحد ويفتح ثغرات في القص المستمر للحكاية، ثغرات تتساوق مع لعبة السرد المحبوكة بتيقظ، ومن خلال ذلك سيجري تعزيز تعدد الأصوات، ورفد إمكانيات استنطاق الشخصيات، وتنمية أدوات رسم الأزمنة والفضاءات. هنا ستتغشى حوارية متنوعة الوظائف، سنميز من بينها: في صورة أولى: صوت الذكرى في أحلام رفاق السجن يتجرعون اليأس والمذلة فيما العذاب يتضاعف على الرفيق الفَزِعِ المصلوب، في صورة ثانية: متعة من لا يريد التوقف عن السرد في أصوات رجال المحرق وهم يتحدثون عن البحر في الليل المكتنز بالقصص، في صورة ثالثة: صوت الأسئلة التي اختلج بها الطفل وذابت في الصمت حتى الفوات الفادح بموت الأب. إن هذه الحوارية تعطي طابعها الخاص للحكي حيث يتيح تناوبها المستمر مع الخط الأساسي فرصة لا تضاهى للحبك المتعدد في البناء الفني، وهو ما يعمّق لحوارية أوغل بين عالمين: عالم التجربة الذي يحيا الكائن في ليله ويكتوي بمحنته، وعالم الأمل المستحيل الذي يتطلع إليه (يتطلع ولا يصل).

ومن ناحية أخرى فإن لهذه الإستدخالات الحوارية والذكريات المتطيّفة أثرها الإيقاعي في رسم مجاري الزمن، وإحالة البناءات المشهدية إلى خروقات ينثقب بواسطتها منطق التسلسل المنتظم، ويتهيئ النفاذ للتلميحات المقلقة حول عبء الكائن ومحنته في مفارقة الوجود.

في النص الذي بين أيدينا يبدأ زمن الوقائع المروية في منتصف المشهد الثالث (من مشاهد النص الخمسة) تقريباً، حينما يحصر النص رواية محمد بن حمد الحداد بين قوسين، يُفْتَتَحُ الأول منهما للإيذان بإطلالة شخصية الأب على زمن الأحداث من أجل إضاءة حادثة الصلب "الأصلية"، هكذا: "(كل شيء كان على طبيعته، وكنت أتولى طرف الحبل الذي كان عمك (صالح) يغوص بطرفه الآخر على محار الأعماق.. ". وينغلق قوس الواقعة على صورة الأب المصلوب والعم الحسير لأنه لم يقوَ على دفع العقاب عن أخيه هكذا: "في تلك الليالي المقمرة، والبحر في هدوئه، والجميع في آبار النوم، وأنا أحدق في بريق غامض يتراقص فوق سطح الماء، كان عمك وحده يجلس ساهراً بجانب (السريدان) يحرك الجمر الكسول ليبقى توهجه ساهراً معنا في صمت السفينة الدامس. كان عمك يحرك الجمر في تلك المجمرة متخيلاً خشب الصارية وقوداً طيباً للشتاء القادم. لكنه ظل شتاء لم يأت، لم يأت أبداً يا بني" . من الواضح، إذن، أن حركة الزمن السردي كانت تتقدم على امتداد ستة عشر صفحة (لا تمثل واقعة صلب الأب إلا ثلاث صفحات منها) إعتماداً على اقتصاد إيقاعي محبوك يتعهد إيقاف وتسريع وتبطيئ الزمن، والتلاعب بحضوراته وطرائق تبنين نسقه السردي بما يجعل مساحة الخطاب النصي مراحاً لتبلور المكون الرؤيوي الكاشف لدلالة الزمن في علاقته بالوجود. بوصف الزمن، في هذه الحالة، عودة أبدية تَتكَرَرُ ولا تُكَرِرُ.

إن الحدث المبأر، كما يتضح لنا حتى الآن، هو حادثة صلب الأب على صارية سفينة الغوص التي يعمل، هو وأخيه صالح، في جملة بحارتها. لقد صادف وجود الشقيقين معا في مركب واحد فكان لا بد من إعمال التقاليد المرعية في قانون الغوص، وهي تقضي بأن يغوص أحدهما فيما يستلم الآخر مهمة نتر الغواص بمجرد أن يومئ بالإشارة المتفق عليها في الحبل الواصل بينهما. لكن الأب الذي كان ضحية أرق منهك للقوى في الليلة الماضية تغشته سِنَةٌ من النوم فلم ينتبه لإشارة أخيه، ولولا تدخل النوخذة وسحب الحبل، بعد صفعة قوية للأب، لكان صالح (الأخ) قد شارف على الهلاك. لقد تم التعامل مع هذه الغفلة باعتبارها جرم خطير، ولم تنفع تضرعات صالح، ومساءلاته للربان، وصرخاته بإعلان الصفح، فالجرم في حق الجميع، والبحر لا يغفر لأحد، والصارية جواب لكل سؤال.

ولكي نتمكن من التقاط التمظهرات المتعارضة للزمان الأنطولوجي في صيغه القصوى ضمن الكون النصي علينا أن ندير الأعناق جهة المكر الأسلوبي الذي يوظف حداد من خلاله التقنيات في بناء النسق الزمني للسرد: حيث تنفتح المشاهد عبر تبئير مزدوج في مشهد الرجل المصلوب وسط عاصفة تتناهب السفينة. وتتقاذفنا الاحتمالات حول كنه الصوت الراوي: أيكون الأب (ولدينا من الدلائل ما يرجح هذا المحتمل)، أم يكون الطفل الذي كانه الكاتب وهو المتماهي في شخصية الراوي الرئيسي على امتداد الصفحات (ولدينا ما يشفع من دلائل كذلك!)؟ بمثل هذا الإلتباس سيتدشن السرد الإطاري الذي سيغلف حكاية صلب الوالد كما ستنتظم في هذا السرد استذكارات وحوارات وحكايات أخرى. وسنقرر، بشيء من الإطمئنان، أن الراوي الأساسي، الذي يسرد من داخل الحكي (كونه عنصراً في المادة المحكية وأحداثها) يسيطر علينا من خلال التحكم في حركة السرد وتحولاته وتشكلاتها حسب الرؤية التي تحمل منظور الكاتب المركب للزمن.

فالسرد الإستفتاحي يتخلله استرجاع لحوار بين الأب والإبن حول خطورة دخول البحر، وهو استرجاع حاذق لأنه في حقيقته، استباق في صورة استرجاع، يأتي ليمهد لحدث سردي لاحق (هو عقوبة صلب الأب)، بالرغم من صورته الشكلية الأولى التي توهم بالنكوص إلى الذاكرة المرتدة للوراء. إنه مستقبل الماضي الذي يداخل بين أبعاد الزمن من ناحية، ومن خلاله يتحايل الراوي على تسلسل التنامي السردي الأول (بغية تبطيء السرد وبناء نوع من التداخل الجدلي للزمن) من الناحية الأخرى.
بعد ذلك سيعمد الراوي إلى تقنيات عديدة للتحكم في زمن السرد الذي يتكاثف حول الحكاية المتمثلة في حادثة صلب الأب على الصارية. ستطول الوقفات الوصفية التي تجسد حالة الأب وهو يتأهب للحكي، ومشاهد تقشير الكستناء أمام المجمرة الشتائية، والوصف لعلاقة رجال المحرق بالبحر، واسترجاع حكاية الصديق المصلوب على بوابة السجن أمام رفاقه، ومونولوج الأسئلة التي كان الراوي يتمنى طرحها على والده ولم يطرحها.. إلخ. إن زمن السرد يتسع ويتطاوح ويمتد في الخطاب. وتنبث هذه التقنيات بين أعطاف النص، وفي جنباته، متلاعبة بالثغرات، وموظفة للإنقطاعات من أجل تهيئة أفضل التموضعات النموذجية للحكاية الأبوية كي تفعل فعلها في السحر والتأثير.

عند هذا الحد سيكون عليّ أن أنوّه بالأشكال الغنية التي يجري بها توظيف حضور الأب في "السيرة الشخصية لمدينة المحرق"، سأنوّه متفاديا، في الفسحة المتاحة ها هنا على الأقل، الإشتباك مع مقاربات نقدية عديدة حاولت العثور في تمثيلات الأب، ضمن الكتابات السيرية العربية، على تنميطات تجعل من ذلك الحضور رمزاً للتقاليد البالية تارة، أو للبنى البطريركية تارة، أو لتمجيد الذات والأنا النرسيسي تارة أخرى. يتعذر، بالفعل، مناقشة مثل هذه القراءات بطريقة عابرة، لا سيما وإن البعض منها يقرأ النصوص بدأب وذكاء وكثير من المكر، ولكن، لا مناص من القول بأن حضور الأب في نصوص ورشة الأمل يخلق تحديات جمّة للسياقات التفسيرية السابقة. فالأب الذي يحضر بوتيرة لافتة في هذه السيرة، ويبلغ ذروة الغني الرمزي في نصيّ: "(قوت لا تموت) يلثم وجهي بقبلة حسبت أنها الجنة"، و "ربان مذعور، خير مرشد إلى الهلاك" يثير الكثير من الوهج الإستحواذي إلى الحد الذي أحسب معه أنني سأتسبب بإهدار امكانيات مترعة، تستحق السياق الأنسب من الدراسة والتأمل، فيما لو تماديت في التورط بإرشادات عجلى في المساحة المتبقية من تناول شارف على نهايته، كما هو حالي الآن. ومع ذلك ينبغي الإشارة إلى أن متابعة التواصلات بين صورة الأب (وتمظهراتها في طرفة بن العبد، والمحادين أستاذ اللغة العربية بالمدرسة، والبحر)، وكذلك صورة الأم (وتمظهرها الأهم في المدينة نفسها) يمكن أن يفضي إلى اتساق، له دلالاته، مع تنظيم معين للمفهومات والعناصر الفلسفية الأسطورية والمجازات المتعاودة في الكون الإبداعي لتجربة حداد. إن مثل هذه الصور، في ذلك، مثل المحرق، ولعلها باستدخالها في خصوصية الرؤية الشعرية، على هذا النحو، الملحاح والمتناوب، أن تترادف مع لغة اسرارية للرموز في مكونات عالم قاسم ونصوصه، وتتحول هي بذاتها إلى بؤرة توليد ونثر للدلالات، مثلها مثل غابة الشاعر حيث الفهود والذئاب وبنات آوى واللبؤات والوعول سيرورات واستعارات في اللغة لكشف الكائن وجوهرة المرئيات، ومثلها مثل خرقة تصوفه حيث القيامة وعزلة المخلوق وتآويل النصوص والباب الموارب وجنة الأخطاء مجازات لترقي الكينونة وتقصي تجوهراتها في الأعيان، ومثلها، مرة أخرى، مثل مدونة قاسم التأريخية التي تفسح للرواة الكذّابين، والرقع المسقطة من سجلات الوراقين، والغوايات الملائمة للمزاج الممسوس أن تروي التاريخ منذ السقيفة والنهروان إلى فبراير الثلجي والجزيرة الحبلى، وصولا إلى قول شيء عن ليلى والحب الذي في جوهر الروح. ومثلها، كذلك، مثل الندماء وأصدقاء السهرة الذين يحضرون دائما فيما يرى قاسم على امتداد التجربة، مخفورين بمقتصليهم وانتحاراتهم، ينتابهم الوقت فيتبادلون الأنخاب وتجحظ أحداقهم في فتنة المرايا. ومثلها، من جديد، مثل إنمحاء الحدود وعفاء الرسوم بين المفردات المجبولة من أقاليم اللغة ومناخاتها وتعابيرها الاصطلاحية: شفاهية أو سامية رفيعة، حيث التعابير اليومية دالفة إلى أفياء الفصحى بكل سهولة وتمكن، دون أدنى مساس بإستطيقية الجوهري من ممكنات الدلالة.

إن هذه الحقول التي كثيراً ما يخوض قاسم محاوَلَةً مع المعنى عبرها، وصياغةً للرؤية من خلالها: (عالم الخلق والمخلوقات بأنواعها، التصوف وتخطي الرسوم العينية، التاريخ حين يتحول إلى حكاية، الندامى وخمرتهم وفقدهم، اللغة وولوج بعضها في بعض) إن هذه الحقول سيضاف إليها حقل جديد هو حقل المدينة/الورشة، المدينة المروية بوصفها "التجربة الإغنى" كما يصف حداد المحرق. وهو حقل كان قد شهد تبرعمه منذ قصيدة "المدينة" في المرحلة الوسطى من تجربة الشاعر (هذا إن لم نرتد إلى المدن وخيانتها للرأس المقلوع في الدواوين الأولى)، وقد طرح هذا الحقل نثاره الأنضج الآن مسجلا مسارات تستحق الرصد لمسرى المدينة في الكون الشعري الخاص. المدينة باعتبارها فضاء أمومياً، ونوستالجيا راعفة، وانفصالاً متصلاً بالآخر والعالم والمغزى قبل كل شيء.