استولى الجيشُ على أغلبِ عرباتَ النقلِ الصالحةِ للعملِ، وكانت ترحلُ محملةً بالجنودِ وصناديقَ العتادِ، وتعودُ محملةَ بجثامينهم كل يوم؛ كانت الجبهةُ على حدودِ البلادِ مشتعلةٌ.
عجزت الأم، طيلة النهار، منذ جاءها جثمانُ ابنها الوحيد، عن العثور على عربةِ لنقله إلى المقبرة. لم يكن التابوتُ تقليدياً، بل صندوقاً مربعاً، عُلبت فيه أعضاءً فصدتها القنابل، وعظاماً مهروسة، ملفوفة بقطن أسمر رخيص. لم تتمكن الأم الثكلى من النظر إليه وتفحّص أعضاءه، وأكتفت برفع الغطاء والقاء نظرة خاطفة عليه. مهما كان ما فيه، وكيفية ترتيب الاعضاء غير الواقعية، فهو ابنها حتى لو جاءها ذرات متناثرة، بعد أن شخّصت في معصمه عند منشأ الابهام المقطوع نقاط الوشم الثلاث.
قبل المساء، صادفت، في منعطف السوق، عربة خشبية تنقل السمك. توسلت بالسائق وهي لا تتمالك نفسها عن البكاء والنشيج، أغلبه كان توسلاً وتضرعاً. ردّ عليها السائق بحزم:
"خالة، كيف يمكن نقل تابوت مع السمك... اي رزق سأجني من وراءه؟"
" ابني، حبيبي، السمك ميت وابني ايضا ميت. ماكو فرق! والرزق على الله"
تنبّه السائق إلى كلامها، ونزلت على روحه سحابة من رضى طفح على وجهه، وكأنه لأول مرة يعرف أنه ينقل سمكاً ميتاً. بهدوء تام وورع ردّ عليها:
"إنا لله وإنا إليه راجعون... انتظرينا حتى نكمل الحمولة"
قبل المغيب رفعوا الصندوق/التابوت إلى سقف العربة ووضعوه فوق صناديق السمك. صاح السائق على مساعده فوق العربة يشد الحبال:
"اربط الصندوق جيدا وتأكد من الحبل!"
"سيدنا، يلزمنا تغيير الحبال فهي متهرئة"
"اربطه جيدا الآن وسنشتري حبالاً جديدة في عودتنا".
صعدت الأم داخل العربة المكتضة بصناديق السمك المطمور بالثلج المجروش، وحشرت نفسها قريباً من النافذة. كانت رائحة السمك النيء كفيلة باقافها عن البكاء والانشغال بتكميم انفها بشالها الاسود الذي تفوح منه رائحة دخان حطب حيواني.
تخطى المساء عتبة الليل، وانعطفت العربة إلى طريق جانبية زراعية أقصر مسافة إلى المقبرة. كان ظلام دامس كثيف يلتصق في الفضاء. تعتعت العربة، تنزل وتصعد في الحفر والسواقي، مالت واستعادت استقامتها عشرات المرات. في كل مرة تفز الأم وتنده ابنها:
"ماما ... وليدي"
كانت تسأله السلامة في صندوقه فوق سقف العربة بين صناديق السمك. قبل أن يجيبها ابنها على نداءاتها، جنحت العربة وغطست جانبا، ارتجّت وتساقطت الصناديق من سقفها كما تتساقط حبات التين الناضجة. صرخت الأم ونهضت من مكانها، ارتطم رأسها بسقف العربة وسقطت مغشياً عليها.
نزل السائق لاسعافها ورش الماء على وجهها وتضميد جرحها. فيما راح مساعده يتدّبر أمر الصناديق المبعثرة في الارجاء والتي تطاير ما فيها في الظلام بعيداً، جمعها كيفما اتفق وبسرعة اعادها إلى سقف العربة.
فتحت الام عينيها:
"وليدي... ماما!"
"لا تخافي خالة، سلامات، سلامات، كل شيء تمام"
"وليدي ... ماما"
صاح السائق على مساعده وهو يسند الام ويعيدها إلى مقعدها:
"... كيف الحال؟"
"سيدنا كل شيء تمام، رجع كل شيء في مكانه"
طمأن السائق الأم على ابنها واستأنف المسيرة حتى وصلوا بعد ساعات إلى المقبرة. أنزل التابوت/ الصندوق على الأرض، رفض السائق أخذ اجرته واعتبرها ثوابا لروح موتاه، ودعا للام ولابنها بالرحمة والغفران.
من عمق المقبرة جاء شاب يحمل فانوساً غازياً:
"ها... خالة، الدنيا ليل!"
"ماما.... حبّوب، السيارة غرست بالطريق ... وتأخرنا"
"أين التابوت؟"
"ماما... عندي صندوق مو تابوت... بهذا الشكل استلمته"
أقترب الشاب من الصندوق وتساءل بغرابة:
"ريحة سمك خائس"
"اي ماما، جلبته بسيارة السمك... ماكو سيارات بالبلد"
"مغسّل ؟"
"اي... ماما، وملفوف بالقطن"
بعد أقل من ساعة انزل الصندوق برائحة السمك النيء في حفرة بين قبرين. أهالت علية الأم حفنات من التراب وكانت تنوح بصعوبة بالغة.