يحيى الشيخ

المكان: شرفةٌ، على جانبِها طاولةٌ خشبيةٌ مربعةٌ حولَها كرسيانِ للجلوسِ، بجانبِها مروحةٌ عموديةٌ (تستندُ على ساقٍ واحدةٍ).. خلف الطاولةِ بابٌ يؤدي إلى مطبخٍ يظهرُ ضلعٌ منه، تتوسطهُ نافذةُ واسعةٌ تكشفُ ما في داخلِ المطبخِ. على جانبِ الشرفةِ الأخرى كرسيٌّ هزازٌ للاسترخاءِ. في عمقٍ المكانٍ، وعلى عرض المسرح، شبكةٌ للنومِ معلقةٌ بين عمودين يرفعان السقفَ. تتدلى من هنا وهناك، شباك عناكب.

 

الشخصيات: زوجٌ وزوجتُهُ، ومجموعةٌ كبيرةٌ من العناكب، ثلاث أو أربع منهم كبير بحجم الإنسان (العدد حسب الحاجة).

 

المشهدُ الأولُ

 

(الجوُ حارٍ وخانقٌ... الزوجُ بدينٌ، ذو أثداءٍ مترهلةٍ، صدرُهُ شبهُ عارٍ، يرتدي سروالاً قصيراً يقرأُ على كرسيٍّ هزازٍ، المروحةُ تشتغلُ بصوتٍ منفرٍ عالٍ.  فوقَ رأسه وعلى الحائطِ وبين الزوايا  وعلى درازين الشرفةِ، تزحفُ العناكبُ، بعضُها يتأرجحُ في الهواءِ).

(تدخلُ الزوجةُ من بابِ المطبخِ برداءٍ رقيقٍ قصيرٍ، يكشفُ أكتافَها وظهرَها، حافيةَ القدمينِ، تحملُ مكنسةَ قشٍ بذراعٍ طويلةٍ تلوّحُ بها في الهواء). 
الرجل: من تقاتلين في هذه الظهيرة الجهنمية؟.
الزوجة: العناكب .

الزوج: خلتك تنوين الطيران كالساحرات.

الزوجة: عندما يتأكد لي الخلاص منها... ومنك.
(تبدأ الزوجةُ في كنسِ زوايا الحائط وحافات السقف الخشبي، والدرازين، والأرضية المحاذية بهستيرية وحقد، وكأنها تقاتلُ أشباحاً، تزيلُ الشِباكَ وتُسقطها. تهرب العناكبُ وتختفي خلف أعمدة الشرفة. أغلبها يصعد عاليا يتأرجح باضطراب، مرعوباً وهو يشاهد الدمار الذي حل بحياته. الزوج يراقب زوجتَه بلا مبالاة، ويتابع خطواتها، وينظر إلى مؤخرتها باشتهاء، يشيّعها بنظراته حتى تدخل المطبخ. بعد مغادرتها يسترخي ويغمض عينيه ويأخذ يهز نفسه. من المطبخ تأتي موسيقى جاز مع أصوات ترتيب أواني. 

يهبط ظلام بالتدريج، معه تهبط العناكب وتغطي الزوج تماماً، لتنسج حوله خيوطها. يقف متصارعا معها في محاولة للخلاص... بلا جدوى، عبر عملية طويلة، تتمكن العناكب من تغطيته تماما بخيوطها، حتى يغدو مومياء محنطة، ثم تحمله وتسجيه على الشبكة. يختضّ ويرفس برجليه حتى يخفت أنينُه ويهدأ تماما.)

( تتصاعد أصواتٌ ولغطٌ مبهمٌ، والعناكب تطوف حول الشبكة) :
عنكبوت 1: إنه يصحو... دعوه يفيق تماماً... 
عنكبوت 2: إنه قبيح جداً ومرآه يفسد الذوق. 
عنكبوت 3: لا بد أن طعمه مقرف.
(يتحرك الزوج بعنف في محاولة للنهوض، ويتمكن أخيراً من فك رباط ذراعيه، يتشبث بالشبكة وينزل على الأرض، ويظل واقفاً مثل فزاعة في حقل. يتهستر ويصرخ  بأعلى صوته):
الزوج: النجدة... !
عنكبوت 1
: لا تصرخ! فلا أحد يسمعك.

الزوج: تنوون أكلي؟ (برعب شديد)

عنكبوت 1 : نحن لا نأكل الجِيَف.
الزوج
: فكوا وثاقي... إذن!
العنكبوت 2: أنت رهينة.
الزوج
: لماذا؟
عنكبوت 3: بدلا عن زوجتك، أما تأتي بها إلينا، أو تقضي حياتك هكذا، تتقدّد في الهواء الطلق على مهل.

(الزوج يحاول الفكاك من أسره، يسقط على الأرض، عنكبوت يدور ويتراقص حوله ساخراً وهو يقوم بحركات وكأنه يلف الخيوط، يساعد الزوج على النهوض والوقوف على قدميه)
الزوج: ما ذنبي؟... أرجوكم فكروا قليلاً.
عنكبوت 1: إسمع! لا وقت لدينا نضيّعه في التفكير بشأن حثالة من أمثالك... ذنبك أنك شاهدتَ ما اقترفته زوجتك بحقنا: دمرت بيوتنا، وقتلت صغارنا، ونهبت طعامنا،
واستباحت منا العشرات. شاهدتَ المجزرة كلها ولم يرمش لك جفن... وكنت تتفرج علينا بدم بارد... هل تنكر ذلك؟
الزوج: لا أنكره، ولكني أنكر وسيلتكم في معالجة الأمر... هل يعاقب المرء على صمته وتجنبه للمشاكل؟ فكوا وثاقي لنتفاهم.

(ضحكات العناكب وضجيجها يهز أركان المكان.)

عنكبوت 3: تعترف بجريمتها وصمتك إزاءها، وتطلب العفو... لابد أنك مختل العقل لتبني معادلة كهذه: تدين نفسك وتدافع عنها... يا للهول!.

عنكبوت معلق في السقف: يا نتانة، متى تجيز لنا الدفاع عن انفسنا؟

(يهبط بسرعة فوق الزوج وكأنه يسقط فوق رأسه. يرتعب الزوج ويصرخ. يبقى العنكبوت يتأرجح فوق رأسه):

العنكبوت المعلق: كان بإمكانك منعها، تحذيرها، إعلان رفضك واحتجاجك... كان بإمكانك الكثير لتفعله غير الصمت ... يا رجل.

(يهبط العنكبوت إلى الأرض)

الزوج: أنتم لا تفهمون طبيعة العلاقات الإنسانية، إنها مواقف. كل امرئ يتحمل نتائج سلوكه ويبرره بما يقتضي... و... و

عنكبوت 1: ويمنحونكم أوسمة وجوائز على عمق صمتكم.

الزوج: الأهم من الجوائز والأوسمة هو النجاة من وطيس الصراع. الصمت طوق نجاة، قوقعة مسلحة.

عنكبوت 2 : حسناً، سنلقي لك طوق النجاة إذا دام صمتُك وقدمت لنا زوجتك لنتعرف عليها.

الزوج: ماذا تعني؟

عنكبوت 1: يعني أن تأتي بها إلى الشرفة لنتفاهم معها ونحاورها.

الزوج: تقصد ... كما تتفاهمون معي الآن؟... تطلبون مني التآمر عليها وتسليمها لقمة سائغة لكم. يمكنكم اعتقالها بدون مساعدتي... ما تطلبونه مني نسميه خيانةً.

العناكب أفي آن واحدٍ: خيانة!... ماذا تعني خيانة ؟

(يسأل بعضهم بعضا)

الزوج: تعني تدنيس الضمير.

العناكب في آن واحد: الضمير!... ماذا يعني الضمير؟

(يسأل بعضهم بعضا)

الزوج: يعني القيم والمعايير الباطنية.

عنكبوت 1: هل الصمت من قبيل ...

(يلتفت حوله ليسعفه أحدهم في تذكر الجملة.)

عنكبوت 2: القيم والمعايير الباطنية.

الزوج: نعم، وهو اقدسها.

عنكبوت 1: هذا يعني أن الصمت لديكم إزاء القتل والتدمير والنهب والتخريب، قيمة ومعيار باطني.

(يبدو على الزوج الانهيار ويكاد أن يسقط، لكنه يتشبث بالشبكة.)

عنكبوت 2: أتركوه يجف قليلا، علّه ينتج لنا قيماً ومعاييرَ باطنيةً أكثر قدسية.

 

(من المطبخ يأتي صوت الزوجة وهي تغني) :

 Lonely table just for one, while the music has began.

يتصاعد صوتُها منفرداً. تظهر عبر النافذة وتختفي عدة مرات وعلى رأسها تضع  سماعات كبيرة لأجل الموسيقى، تغطي أذنيها. تختفي العناكب الا واحد يطوف حول الزوج وهو واقف مثل فزاعة الزرع فاتحاً ذراعيه...)

 الزوج: (يصيح عاليا) إعتقوني! إعتقوني!

عنكبوت 1: أنصحك أن تختصر الوقت، فالعمر قصير. فكلما تحركت تضيق الخيوط حولك؛ وتجففك كما يجفف السمك في الملح... بعد ساعات ستتحول الى شرنقة يابسة.

الزوج: هل تعدوني بسلامتها؟

عنكبوت 1: هذا مرتهن بتعاونك معنا واعترافها بالجريمة. نحن عموما لا نؤذي أحدا، وأنت تشهد أننا نطوف حولك كل يوم بسلام تام.

الزوج: حسنا، اتفقنا... فك وثاقي.

 (يفك العنكبوت وثاق الزوج وهو يدور به مثل دوامة.)

العنكبوت: احذرك من اللعب معنا.

 

 

 

 

المشهد الثاني

 

نفس المكان


(الزوج وكأنه قد خرج من الحمام لتوه ولبس أجمل ما عنده. يقوم بإعداد المائدة لتناول الغداء على أنغام موسيقى هادئة. طيلة الوقت وهو يعد الطعام، يدخل إلى المطبخ، يقضي وقتا يدندن بنفس الأغنية التي كانت زوجته تغنيها، ويخرج إلى الشرفة.
فرش الطاولة بشرشف مورّد وملأها بأواني الطعام وبأطباق زرق، فتح قنينة نبيذ أحمر، صب منه في قعر الكأس، دوّره وقرّبه إلى أنفه، صعدت رائحته المسكرة إلى رأسه.

 تدخل الزوجة بأناقة عالية، يسحب لها الكرسي ويجلسها، يصب لها قدحاً مترعاً يشيع في وجهها إبتسامة جميلة. يجلس قبالتها مستسلما لشعور غامض...  ينظر في الفراغ.

الزوج: لديّ شهية شديدة للأكل.

الزوجة: لديك مزاجٌ عدميٌّ... كل الذين يأكلون بشراهة مثلك يدفنون في اعماقهم مللاً ويأساً عدمياً. كيف يتناقض الدافع مع السلوك؟

الزوج: في العدم، يتفقان تماماً.

(الزوج يصب الكأس كلها في فمه ويسحب نفساً عميقاً وهو يستحلب آخر قطرات الخمرة من الكأس، ويتذوق قطع الجبن، ويتلمظ ويمص شفتيه.)

الزوجة: تشرب وتأكل وكأنك في العشاء الأخير.

الزوج: العناكب تنوي محاكمتك.

المرأة: كان عليّ رشّها بالمبيدات... أكرهها.

الزوج: طلبوا شهادتي على المجزرة.

الزوجة: ها ... تصفها بالمجزرة ! يبدو أنك فكرت طويلا بهذا الوصف.

الزوج : جاء هذا على لسانهم.

الزوجة: وماذا عن لسانك ؟ الذي بلعته ساعتها عندما قامت المجزرة.

(تنطق كلمة المجزرة بطريقة خطابية)

الزوج: لا علاقة لي بها، فقد قمتِ بفعلتكِ بوعي تام.

الزوجة: والآن جاء فعلك في التدليس؟

الزوج: لحمايتك... انصحك بالاعتراف بجرمك.

الزوجة: وهل تفاهمت معهم على طبيعة الاتهام؟ وصيغة الحكم؟ وطريقة إعدامي؟

الزوج: وعدوني بعدم إيذائك.

الزوجة: هل وقعت معهم عقدا موثّقا؟

الزوج: لا، وثقت بكلامهم.

الزوجة: تغسل ضميرك بكذبة.

الزوج: الضمير كذبة كبيرة... انصحك بنسيانه وانقاذ رأسك.

(يقول ذلك وهو يصب النبيذ في الكؤوس بانفعال شديد، وكان يتبدى منها. تهبط العناكب مثل غيمة سوداء فوق رأسيهما.)

الزوجة: لأول مرة أراك صادقاً وحقيقياً مثل هدية غير متوقعة. (تشير إلى أعلى) غيمة سوداء.
(في لحظات ادلهمت السماء كما يحدث في العواصف الخاطفة، لم يسعف الزوج الوقت ليرفع رأسه ويرى، كان منشغلا يصب النبيذ في الكؤوس الفارغة، وكانت العناكب قد سبقته وهبطت، وغطت الزوجة بخيوطها. وبأسرع مما هبطت عادت تتأرجح في الهواء، حتى اختفت.)
الزوجة: "ساعدني!" (صاحت مرعوبة.)

الزوج: إهدأي! فكلما تحركتِ كلما ضاقت الخيوط وخنقتك.

الزوجة: تتكلم وكأنك واحدٌ منهم... إسرع أرجوك... فأنا أخخخخخ.....! (وكأنها تختنق فعلا)

الزوج: دعيني أتفاهم معهم.
(ينهض من مكانه بعزم شديد ويتوجه للمطبخ يبحث في الخزانات، ويبدو أنه يضيّع الوقت، يظهر عدة مرات عبر النافذة ويختفي، وأخيراً يستل سكينا كبيرة كانت أمامه طيلة الوقت، ويعود إلى الشرفة.

(كانت العناكب قد سبقته وأغلقت الباب بوجهه باجسادها مثل جدار محكم، كما هبطت من أعلى بكتلة متراصة وأغلقت الشباك. يصرخ في المطبخ وهو يحاول فتح الباب، وأصوات تحطم أواني وكؤوس)

الزوج: خونة... خونة...

 

 

(تسدل الستارة)