يحيى الشيخ
(العراق)
في واحدة من المدن التي دخلتها متسولاً، ولم يدخل اسمها ذاكرتي، دلفتُ إلى زقاق ضيقٍ طمعاً بالظل وبرودة الحجر، كان مغلقاً بالناس، رافعين رؤوسهم يتفرجون على رجل يمشي على حبل مربوط بين سقفين. وقفتُ أتفرج معهم. علمتُ من رجل بجانبي، أن متسولي المدينة يمارسون هذه اللعبة القاتلة طمعاً بالمال أو الموت العاجل.
بعد عدة جولات ناجحة تخللتها آهات المتفرجين العالية وصراخهم واستحسانهم، نزل المتسول يجمع ما جادوا به، وكان غزيراً، شكرهم وراح في سبيله، تبعته وحييته بود واعجاب، وأخذت معه أطراف الحديث:
"إنها لعبة قاتلة... كيف تضمن نجاتك لتجمع المال؟"
ردّ عليّ بصوت جريء وجاد، تعلو شفتيه اليابستين ابتسامة مرة:
"أفضل طريقة للنجاة، هي أن تفقد إحساسك بجسدك، وتفقد شعورك بالمسافة بينك وبين الأرض... تفقد احساسك بالحياة، وسيكون الأمر سهلاً وخفيفاً عليك إذا سقطت ودق عنقك، وإذا حالفك الحظ ونجوت، تنزل فاقد الاحساس كلياً، مثل موجة تتبدّد على ساحل، تجمع النقود من جبناء يسومونك الجوع في حياتك، ويتفرجون على موتك الوشيك... وأنت! لماذا لم تعطنِ شيئاً؟"
قلت له:
"أنا متسولٌ مثلك، إنما أعزفُ على الناي..."
ردّ بسخرية واستياء:
"تباً لك!... تعزف على الناي لتتسول؟ ... من يسمعك؟ ... الناس تسحرهم المشاهدة، وأشد أغراءً لهم؛ مشاهدة الموت... إنّه صناعتهم، ونحن صنيعتهم... ينتظروننا نموت أمام أعينهم لنبرهن على جودته"
هوّم بيده وأعطاني ظهره وغادرني مسرعاً وهو يزفر.