محمود الزيباوي

الإمام علي في رسم طباعي إيراني حدي
(الإمام علي في رسم طباعي إيراني حديث)

تحت عنوان "تصاوير الإمام علي، مراجعها ودلالاتها التشكيلية"، يقدم الباحث العراقي شاكر لعيبي قراءة تحليلية لمجموعة كبيرة من الأعمال الفنية المتعددة المصدر في كتاب من الحجم الكبير صدر حديثاً عن دار "رياض الريس للكتب وللنشر". تتطرق هذه القراءة إلى صور أُنجزت في بلدان مختلفة عبر عشرات القرون، غير أنها تُهمل الأساس، كما أنها تتشتّت وتتعثّر في مواقع عدّة، مما يجعل منها دراسة ناقصة.

يتألف هذا البحث من ثماني مقاربات، ويحوي مئة وثماني وخمسين صورة. يبدأ الكاتب بحثه بـ"مدخل عام إلى دراسة التصاوير المنسوبة لعلي بن أبي طالب"، ويستهلّ كلامه بـ"ببعض الملاحظات التحذيرية والمنهجية"، مؤكداً أنه يعتمد مقاربة "لا شأن لها بأي نزوع ديني أو طقسي أو إيماني قبولاً أو رفضاً، بمقدار ما تهتم به من الطبيعة التشكيلية والتاريخية والمغزى الجمالي لمجموعة من الصور التي قدمت الخليفة الرابع علي بن أبي طالب على طول العالم العربي وعرضه: في الفن الفطري التونسي على الزجاج، وفي الفن الفطري السوري (أبو صبحي الشيناوي)، وفي مثيله المصري بوفرة، كذلك في المغرب الأقصى، لكن وبشكل أخصّ في الجانب الشرقي من العالم العربي، لدى الشيعة في العراق ومناطق كثيرة في الخليج العربي"، إضافة إلى "مناطق آسيوية في إيران وتركيا وأفغانستان وباكستان والهند وغيرها من البلدان الإسلامية".

تظهر هذه المقدمة أن الدراسة تتناول في الدرجة الأولى صورا تعود إلى الماضي القريب، وهي من النوع "الشعبي" أو "الفطري"، غير أن الباحث سرعان ما يتطرّق إلى "الأصول البيزنطية" لهذه الصور، مستشهداً بنص مثير للمعتزلي ابن أبي الحديد، مفسّر "نهج البلاغة" في زمن نهاية الخلافة العباسية. ينطلق الكاتب من هذه الإشارة التي قيلت في تعظيم الإمام علي، ويقارن بين صور علي "الحديثة" وأيقونة للمسيح أُنجزت في القرن السادس، برغم الفارق الجذري في الأسلوب. نقع على مقاربات مشابهة في أبواب الكتاب الثمانية حيث تختلط الأزمنة والأعمال بخفة لا تليق بالبحث الجدّي. من هذه "الأصول البيزنطية" المزعومة، ينتقل شاكر لعيبي مباشرة إلى عالم "المنمنمات الإيرانية والتركية المتأخرة بوصفها أصلاً"، وهذه المنمنمات تخرج على نطاق الفنون "الشعبية" و"الفطرية" تماماً، وتدخل في نطاق الفنون "الرفيعة". ينقل الكاتب عن المتخصص الإيراني يعقوب آجند معلومة تقول إنّ أقدم رسوم معروفة للنبي وآل بيته تعود إلى القرن السادس هجري، وهي في "مرزبان نامه" لسعد الدين الوراويني، غير أن الباحث يكتفي بهذه الإشارة المثيرة، تاركاً للقارئ مهمة تحديد هذا المخطوط، وكل ما نعرفه أن "مرزبان نامه" قصص وضعت على لسان الحيوانات والبشر تشبه "كليلة ودمنة". يواصل الكاتب العراقي بحثه مستنداً إلى كلام يعقوب آجند، ويذكر في حديثه عن أقدم صور للإمام علي مخطوط "جامع التواريخ" لرشيد الدين فضل الله، ومخطوط "الآثار الباقية" للبيروني، وهما بحسب الكاتب يعودان إلى القرن السادس الهجري، ويحوي "جامع التواريخ" "منمنمة تجسّد يوم الغدير ونرى فيها الرسول يرفع يده نحو علي مشيرا إليه كخليفة له"، مما يعني "أن الرسام كان شيعيا". يحتاج هذا الكلام إلى المراجعة والتصويب، وتكفي لذلك العودة إلى مقالة بالإنكليزية ذكرها لعيبي في هوامش الباب الثاني.

يعود تاريخ "الآثار الباقية" إلى عام 1307، ويحتوي على خمس وعشرين منمنمة يغلب عليها الأسلوب العباسي، منها خمس تشكّل أقدم مجموعة رسوم خاصة بالنبي العربي. يظهر الإمام علي في ثلاث من صور هذه المجموعة بشكل يوحي بأن الرسام كان من الشيعة. في المقابل، أُنجزت نسخة "جامع التواريخ" عام 1314، وتحوي أكثر من مئتي منمنمة تحمل طابعاً آسيوياً جلياً، منها مجموعة تصوّر أهم مراحل سيرة النبي. تخلو هذه المجموعة من أيّ طابع "شيعي" خاص، وليس فيها أي "منمنمة تجسّد يوم الغدير".
في هذه اللمحة السريعة عن "المنمنمات الإيرانية والتركية"، يعلّق الكاتب على منمنمتين تعودان إلى عام 1480، مصدرهما شيراز، من دون ذكر عنوان المخطوط. نشر الباحث الشهير بازيل غراي هاتين المنمنمتين في كتابه "التصوير الفارسي" في مطلع ستينات القرن الماضي، مما ساهم في شيوعهما، وهما من مخطوط يضمّ مجموعة هائلة من المنمنمات، عنوانه "خاوران نامه". تُعتبر هذه المنظومة أشهر رواية قصصية فارسية خاصة بالإمام علي، ألّفها ابن حسام الجوسفي خوسفي القائني، وجمع فيها قصصاً وحكايات تتناول حروب الإمام علي الخارقة مع الجن والأفاعي، وفتوحاته في أفغانستان وبلاد خاوران الشرق، وقد أشار لعيبي إلى هذا الأثر الأدبي في الباب الثالث، وقال إن هناك "مخطوطة مطبوعة بمنمنماتها في إيران"، غير أنه لم يحصل "حتى اللحظة عليها"!.

في المقاربة الثانية، يسأل الباحث "هل يمثل بورتريه علي الشائع ملامح وجهه وتقاسيمه الحقيقية؟"، غير أنه لا يتعرض إلا لماماً لموضوع وصف علي في الميراث الإسلامي. يقفز الباحث إلى الزمن المعاصر، وينقل عن السيد علي سيستاني تأكيده أن صور الإمام علي ما هي سوى "صور تخيلية ولا بأس باقتنائها"، كما ينقل عن السيد محمد سعيد الحكيم قوله إنّ "الصور المذكورة لا يقصد منها إلا التمثيل والتشبيه فليست هي الصور الحقيقية". يتوقف الباحث أمام منمنمة من "مخطوطة عربية متأخرة من القرن الثامن عشر" تمثّل "الرسول محاطاً بابنته فاطمة وعلي وإلى جواره الحسن والحسين"، والواقع أن هذه المنمنمة مأخوذة من نسخة عثمانية مطابقة لنسخة "الآثار الباقية" القديمة، وهي من القرن السابع عشر، وتمثل "مباهلة النبي عليه السلام مع نصارى نجران وإخراجه الحسن والحسين مقام أبنائه وفاطمة مقام نسائه وعلي بن أبي طالب الذي قرّبه إلى نفسه ائتماراً بما أمره الله تعالى به في آية المباهلة". يعود الكاتب إلى نسخة "الآثار الباقية" الأولى، محللاً المنمنمة التي تصوّر عيد الغدير، ثم يتوقف أمام منمنمة أخرى تمثل "مقتل آل الرسول"، وهي في رأيه "منمنمة عثمانية مرسومة في بغداد العثمانية، نهاية القرن السادس عشر". نضيف أن الصورة تعود إلى مخطوط تركي عثماني بعنوان "حديقة السعداء"، وأسلوبها فارسي الطابع. صاحب النص هو فضولي البغدادي، أمير الشعر التركماني، الشيعي الهوى والعثماني الولاء، وكتابه مخصص لواقعة كربلاء. وصلتنا من هذا الكتاب نسخة مزوقة تحمل صوراً "علويّة" الطابع تشكّل مادة غنية لدراسة تكوين هذا النوع من التصاوير، غير أن الباحث لم يعر هذا النوع من المنمنمات الإهتمام الذي تستحقّه.

في المقاربة نفسها، يتوقف الكاتب أمام "منمنمة تركية من القرن الثامن عشر" تصوّر "عقد قران علي بن أبي طالب على فاطمة"، والصحيح أنها من مخطوط "جامع سير النبي" الذي أُنجز بطلب من السلطان مراد الثالث، وهو مؤلف من ستة أجزاء تزينها ثمانمئة وأربع عشرة منمنمة أولاها صورة لمولد الرسول وآخرها صورة تمثّل وفاته. يضمّ هذا الأثر الفني الكبير مجموعة كبيرة من المنمنمات يظهر فيها الإمام علي، منها منمنمتان تظهران في كتاب شاكر لعيبي، إضافة إلى المنمنمة التي تمثّل زواج علي وفاطمة، غير أن الباحث لا يحدّد مصدرها. تعكس هذه الصور الرؤية "السنية" للإمام علي في العالم العثماني، بينما تعكس المنمنمات الفارسية المماثلة في موضوعها الرؤية "الشيعية" للإمام في العالم الصفوي، وهذه المنمنمات متعددة المصدر، نجدها في نسخ "فالنامه" كما في العديد من الكتب ذات الطابع التاريخي، غير أن الباحث لم يأت على ذكرها للأسف.

الإمام علي في رسم طباعي إيراني حدي
(واقعة الغدير خمّ، "الآثار الباقية في القرون الخالية"، تبريز، 1307، مكتبة أدنبرغ.)

من جديد، يعود الكاتب إلى موضوعه المفضل في "المقاربة الثالثة"، مقارناً "بين تصاوير الإمام علي والفن المسيحي"، خالطاً بين الأزمنة والمراحل والأساليب من دون أي تدقيق. في هذه القراءة الهجينة، نقع على "مواجهة" بين آراء السيد علي سيستاني الذي عاش بين القرنين العشرين والحادي العشرين، وآراء ثاوذوروس ابي قرة الذي عاش بين القرنين السابع والثامن. تغيب المسافة التي تفصل بين الفنون المسيحية "الكبيرة"، والصور التبشيرية الحديثة التي تنتمي في أغلب الأحيان إلى ما يطلق عليه الغرب اسم "فن الكيتش"، وهذه التسمية "لا تعرف لها ترجمة في العربية" كما يشير لعيبي. نقع على العديد من المغالطات في هذا الميدان، فالصورة رقم 66 ليست من نتاج يوسف الحلبي في القرن السابع عشر كما يرى الكاتب، بل هي من نتاج القدس في القرن التاسع عشر. الصورة رقم 73 لا تظهر "العذراء والمسيح في الأوساط المسيحية المارونية في لبنان"، بل هي صورة غربية تبشيرية تمثل استشهاد القديس بهنام مع شقيقته القديسة سارة. الصورة رقم 79 لا تمثل واقعة الجمل، بل موت علي الأكبر في واقعة الطف. يصرّ الكاتب على المقارنة بين صور "الإئمة الإثني عشر" الحديثة وصور "الرسل الإثني عشر" في مشهد "العنصرة" الذي تشكّل في القرن التاسع، غير أن هذه المقارنة لا تقدّم على الصعيد التشكيلي الصرف أي تشابه في التأليف والصياغة. كذلك، يماثل الباحث بين صور علي وصور القديس جاورجيوس، متسائلاً: "هل صورة رستم وبهرام غور وكوشتاسب قاتلي التنين في الرسم الفارسي مستلّة من مار جرجس أيضا؟". يبدو هذا السؤال خاطئاً من الأساس، ذلك أن قصة جاورجيوس مع التنين تظهر في القرن الثالث عشر وتأخذ ترجمتها التشكيلية في القرن الخامس عشر.

يدخل المؤلف في "المقاربة الرابعة" عالم "التقاليد المشرقية ومثيلاتها المغربية في تمثيل الإمام علي"، عارضاً أمثلة عدة من نتاج الفن "الشعبي" الذي شاع في هذه البلاد. ثم ينتقل في "المقاربة الخامسة" إلى "صور الأولياء مع الأسد بوصفها ترحيلاً لصورة الإمام علي مع الأسد"، مستعيداً قصة النبي دانيال في الرواية الإسلامية ذات الأصول التوراتية، خالطاً من جديد بين فنون الغرب والشرق بعيداً من أن أي رابط زمني منطقي. نصل إلى "المقارنة السادسة"، وعنوانها "الرسامون الشعبيون لصور الإمام علي بن أبي طالب"، وهي في الواقع لوحات من الحجم الكبير تشهد لخروج الصور من بطون الكتب إلى جدران المقاهي الإيرانية في عهد سلالة القاجار. طوّر الرسامون في ذلك العهد أسلوباً خاصاً، وكوّنوا تقليداً بتصوير واقعة كربلاء يستمر إلى يومنا هذا. مرة أخرى، ينسج الكاتب مقارنات سطحية بين التقاليد المسيحية والتقاليد الإسلامية، مخصصاً "المقارنة السابعة" للحديث عن "تصاوير الإمام علي بوصفها أيقونات منزلية". تشكل المقارنة الأخيرة ملحقاً لهذا الباب، وفيها قراءة تتناول سبع عشرة صورة تعود إلى الأزمنة الحديثة.

في الخلاصة، أهمل شاكر لعيبي في كتابه الميراث القديم ولم يتطرّق إليه إلا لماماً بشكل سطحي. نقرأ على الغلاف الخلفي أن هذه الدراسة هي "الأولى من نوعها"، وتستند "إلى بعض المراجح والمخطوطات المجهولة حتى الآن"، غير أننا لا نجد في الكتاب أثراً لهذه المخطوطات. تحضر في الدرجة الأولى صور طباعية معاصرة مصدرها بالتأكيد شبكة الإنترنت، وهي صور من فصيلة "الكيتش" في غالبيتها العظمى. يغلب على النص الطابع الأدبي الإنشائي، وتبدو القراءة التشكيلية سطحية وواهنة. على رغم ذلك، يشكل الكتاب ألبوماً مثيراً للفضول يعكس المقام الذي بلغه الإمام علي في العالم الإسلامي. يختزل هذا المقام قول الرسول للإمام عند فتح خيبر: "لولا أن تقول طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم قولاً لا تمر بملا من المسلمين الا اخذوا من تراب رجليك وفضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك ترثني وأرثك، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي".