محمود الزيباوي
(لبنان)

مصلب الحلاج في الميراث الصوفي كالوردة التي تحني رأسها بحياء اتّهم الحسين بن منصور الحلاج بالدعوة إلى الربوبية وأُعدِم في بغداد سنة 922 للميلاد بعد محاكمة سياسية يتردد صداها في عدد من الأسانيد المخطوطة، منها ما يظهر عداء وإدانة لهذا المنبوذ من الجماعة، ومنها ما يحيطه بالإجلال والإكرام. ونجد في التراث العربي استمراراً لهذا السجال الحاد الذي أثاره مذهب الحلاج في العشق الإلهي والتضحية الحقيقية. فعلى مر السنين، وجد الشاهد القتيل من يدينه ومن ينصفه وينصره من بين الفقهاء والمتصوفة وعلماء الدين المتعددي المذهب. اللافت أن هذا السجال يكاد يغيب عن الأذهان في الدول الإسلامية غير العربية، حيث ساهم الانتشار الواسع للقصائد الفارسية الكبرى في تثبيت صورة العاشق الكامل والشفيع الكوني الذي بذل نفسه ليظفر بجوهرة الجمال الإلهي، وذلك في مبارزة فردية شهد فيها لسر التوحيد عينه.

قيل في مقتل الحلاج الكثير. وقد تكون أقدم الروايات المعروفة تلك التي رواها ابنه حمد، وهي الرواية التي أملاها مسعود السجزي على أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب نقلا عن المؤرخ السلفي ابن باكويه الشيرازي. أثار الحلاج، بحسب هذه الشهادة، في أقواله ودعواته الكثير ممن عرفوه، وتعددت فيه آراء الناس، فمنهم من وصفه بالساحر، ومنهم من حسبه مجنوناً ومنهم من رأى فيه وليا "له الكرامات وإجابة السؤال". وقد قبّح بعض أهل العلم صورته عند الخليفة حتى أخذه وسجنه. ولا يظهر البطل هنا كضحية مظلومة بقدر ما يتراءى كمنذور رغب في الموت جهاداً في العشق الإلهي. ويتجلى هذا النذر في مناجاة الحلاج الأخيرة حيث يصعد في معراجه إلى عروش الأزليات قائلا: "إني احتضرت وصلبت وأحرقت واحتملت سافياتي الذاريات ولجّجت بي الجاريات".
تعرّض المنبوذ إلى الضرب بالسوط وقٌطعت يداه ورجلاه قبل أن يُصلب وهو لا يزال حياً. ويروي حمد أنه سمع أباه يناجي ربه من أعلى الجذع ويقول: "إلهي، أصبحت في دار الرغائب أنظر إلى العجائب. إلهي، إنك تتودد إلى من يؤذيك، فكيف لا تتودّد إلى من يؤذى فيك". وجاء الإذن من الخليفة بضرب عنقه مع حلول العشي، فأُرجىء الإعدام إلى صبيحة الغد. وفي اليوم التالي، أنزل المصلوب عن الجذع واقتيد إلى ساحة الإعدام حيث قال بأعلى صوته "حسب الواحد إفراد الواحد له"، وكان آخر كلامه قبل أن تُضرب رقبته قراءته الآية 17 من سورة الشعراء :"يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق".

الشفيع الكوني
نال الحلاج هذا التعذيب لأنه تعدى على "حقوق الله"، وقُُطع رأسه بعدما علّق على الجذع ليلة كاملة وهو مقطوع الأطراف الأربعة، ثم أُنزل جسده ولفّ ببارية وصبّ عليه النفط وأُحرق بالنار، ثم حُمل رماداً إلى رأس المنارة لتنسفه الريح في نهر دجلة. وبعد مرور أكثر من قرن على هذه الواقعة، توقف الوزير البغدادي علي بن المسلمة لصلاة قصيرة عند مصلب الحلاج مؤكدا براءة القتيل المطرود من الجماعة. وقد سار المؤرخ أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب على خطى هذا الوزير، فأقدم على نشر ترجمة للحلاج في كتابه "تاريخ بغداد"، مثبّتاً ذكرى الحلاج كمسلم سني مثالي، وجاء هذا التثبيت ليخرج الحلاج من النسيان ويبرزه كمرجع ودعامة في التاريخ الإسلامي، إلا أن تبرئته لم تحظ قط بالإجماع الكامل، وفي حين ذكره بعض كبار علماء الدين والتصوف بتعاطف وإعجاب بلغ أحيانا حدّ التقديس، ومنهم القشيري والغزالي والسهرودي وابن العربي، سخر البعض منه وحملوا عليه أشدّ الحمل. وبقيت تهمة الحلولية تلاحق قتيل بغداد، فقبله عدد من العلماء بتحفظ وأدانه البعض الآخر إدانة صريحة. وفي حين دافع نصر المنبجي وابن عبد الله الزعيم الثالث للشاذلية عن الحلاج، هاجمه ابن تيمية مفترضاً أنه أول من قال بوحدة الوجود، وهو المذهب الذي نادى به ابن العربي وابن سبعين.
وتحول الحلاج في الأدب الصوفي من شخصية تاريخية إلى بطل "أسطوري" تتبدّل تفاصيلها بين رواية وأخرى. وقد بلغت هذه الأسطورة مقامها الأعلى في الشعر الفارسي حيث غدا الحلاج أيقونة للشفيع الكوني الذي تجاوز الوجد الأعلى بموته البطولي. يمجّد فريد الدين شهيد بغداد نثراً في "تذكرة الأولياء" قبل أن ينظم فيه أجمل الأبيات في ملامحه الشعرية الأربعة. يمسح الحلاج هنا على وجهه وساعده بقدمه من الدماء التي أريقت من يديه المبتورتين، لأن من عرف سر العشق وجب عليه التوضؤ لصلاته بالدماء، وإلا كانت صلاته باطلة. يخطو العاشق في جادة المعشوق بعزم، فالقلب القائم بالقيوم لا يخاف لوم لائم ولا يخشى ملامة لائم. يقف وسط الحلبة في حال من الالتحام الكامل بالمشيئة الإلهية، ويغدو في استشهاده جسدا منتصرا على الموت. يبوح العاشق في سكرة الوجد بسر التوحيد وتفيض صرخته العليا "أنا الحق" مع دمه المراق الذي يسيل على العالم، فتضطرب العناصر و"تحلج الكون"، تماما كما في موعد قيام الساعة.
على خطى العطار، يستعيد نجم الرازي في "مرصاد العباد" بحماسة بالغة ذكرى الشفيع الكوني الذي قُتل لأجل جلاديه، وينصر جلال الدين الرومي الولي القتيل في "المثنوي" حيث يروي حلمه البديع عن إدانة رجل الله الظالمة. في المقابل، نجد في نتاج كبار الشعراء في اللغة التركية الشرقية تبجيلا عظيما باستشهاد لحلاج، ويبلغ هذا التبجيل مقامه الأرفع في القصيدة التي أهداها لامعي إلى السلطان سليمان الكبير، وفيها يرى الشاعر وجه "الولي الأكبر" في صورة "الوردة التي تحني رأسها بحياء وهي تموت مثل منصور على الجزع"، هذه الوردة الحمراء التي لها "قلب محترق كالشمعة" و"ذراعان مخضبتان بالدم، مثل العاشق منصور".

ليل الروح
مصلب الحلاج في الميراث الصوفي كالوردة التي تحني رأسها بحياء وتجد هذه القصائد ترجمتها التشكيلية في المنمنمات التي وضُعت لترافق بعضا منها، كما في نسخة "مجالس العشاق" المحفوظة في المكتبة البريطانية، حيث يظهر الحلاج في صورتين تجسدان ما جاء في تذكرة العطار. أنجز هذا المخطوط في شيراز في نهاية القرن السادس عشر، زمن اختمار فن التصوير الإسلامي الفارسي، وتتميّز المنمنمتان الحلاجيتين اللتان يحويهما، بكونهما تمثلان مشهدا قاسيا في ظاهره، على عكس ما نراه عادةً في هذا الميدان الشاسع، حيث يسود الطابع الفردوسي بشكل جلي على الصور بموضوعاتها المتعددة، مما يهبها عمقا واحدا. يظهر البطل في الصورتين معلّقا على مشنقة، ولا يشكل هذا المشهد خروجا عن السيرة الموروثة. فبعد مرور قرنين على صلب الحلاج، لم يعد التصليب الذي تشدد عليه المصادر العربية يشير إلى الصلب بل إلى الشنق، وهي الصورة التي تتردد وتثبت في النتاج الصوفي الفارسي والتركي والهندي.
في المنمنمة التي تحتل ظهر الورقة الأربعين، يظهر الحلاج فوق المشنقة وسط حشد يقوم برجمه. يحتل البطل وسط التأليف، ويظهر بثوب أصفر طويل، مستسلما لقدره، ملقيا بيديه خلف ظهره. العينان مغمضتان والوجه هادئ خال من أي تشنج، مما يذكّر بالحال الخارقة التي اختبرها المتهم عندما تعرّض لأقسى صروف التعذيب. ونجد تعبيرا مماثلا في المنمنمة التي تحتل ظهر الورقة الثامنة والأربعين، حيث يظهر الحلاج مقطوع اليدين معلقا فوق المشنقة أمام حشد كبير من الشهود. ملامح الوجه واحدة لا تتغير. يتشح المجاهد بقوة العشق فينتصر على الخوف والألم والوجع، متجاوزا في وجده ليل الروح. هو هنا بجسده ثابت وسط الحلبة، يهيم وجداً حول العالم مثل الفلك. ولن يدركه حدّ الموت، فهو بكليته للحبيب، وكما قال فيه حافظ الشيرازي، "لن يموت أبداً من يعيش قلبه من العشق".
عندما قطعوا يدي الحلاج فجأة فوق المشنقة بقسوة، مسح الحلاج على وجهه وساعده بقدمه من الدماء التي أريقت من يديه، فقالوا له : أيها البائس لماذا لوثت بدنك بدمائك، فقال : من عرف سر العشق يجب أن يتوضأ لصلاته بالدماء. وأنت إن لم تتوضأ بالدم فصلاتك باطلة. اخط في جادة المعشوق مثل الرجال ولا تخش وصمة أو عارا من مخلوق، فكل قلب قائم بالقيوم لا يخاف لوم لائم. تعال برجولة وتقيد بأمر الله وابتعد عن الأغيار، وكن للحبيب، إنك تهيم حول العالم مثل الفلك. اخط خطوة أوسع من وجودك برجولة. إن سيطر عليك عشق مثل هذا العالم الوضيع، تتألم أعضاؤك من الخجل. ما أكثر الأسود أصحاب القوة الذين صاروا بقوة العشق مثل النمل، وأنت أقل من نملة في القوة والحيثية عندما تواجه العشق .

ملحق النهار
العدد 683
الأحد 10 نيسان 2005