محمود الزيباوي
(لبنان)

في روضة الورد ترك سعدي الشيرازي آثارا أدبية خالدة اتسمت بطابعها الإنساني العميق، أشهرها "أريج البستان"، وهي منظومة حكمية طويلة أهداها الشاعر إلى الأتابك أبي بكر بن سعد الزنكي في منتصف القرن السابع الهجري حين عاد إلى شيراز  بعدما طاف في بلاد العراق والشام والحجاز. وفقا للتقليد المتبع في الأدب الفارسي، استهل الشاعر منظومته بقصيدة في مدح الذات الإلهية، تلتها قصيدة في مدح النبي  تُعتبر من أشهر ما نُظم في هذا الميدان، وتتضمن ذكراً للخلفاء الراشدين ولآل الرسول. يتردد صدى هذا الذكر في منمنمة من الهند تزيّن نسخة من تحفة سعدي النثرية التي حملت عنوان "الكلستان"، ومعناه "روضة الورد".  
في القصيدة التي تشكل مقدمة لمنظومة "أريج البستان"، يؤكد سعدي عجز الفكر عن إدراك ماهية الذات الإلهية المنزّهة. وحده التأمّل في مرآة القلب يهب المرء تدريجياً صفاء النفس، ولا رجاء إلا بنفخة من العشق تُسكر السالك وتجعله طالباً لما يدعوه الشاعر "عهد ألَستُ"، في إشارة إلى الآية القرآنية: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم، قالوا بلى شهدنا" (الأعراف 172). على الطامع في القرب من صاحب الجلالةـ يقتضي أن يسلك الطريق بقََدَم الطلب كي يطير بجناح المحبة نحو المنزل الذي بلغه المصطفى. من مدح الذات الإلهية، ينتقل شاعر شيراز إلى مدح الرسول، مستهلاً قصيدته الفارسية ببيت باللغة العربية يقول:

كريم السجايا جميل الشيم/ نبي البرايا شفيع الأمم

يستعيد الشاعر صفات الرسول والمعجزات التي ارتبطت به منذ ولادته، مشيرا إلى شمولية دعوته التي قضت على اللات والعزّى، ونسخت التوراة والإنجيل. ثم يحتفي بليلة الإسراء في خمسة أبيات تختصر بإيجاز قلّ مثيله أسرار تيه القربى عند سدرة المنتهى. وبعد أن يبوح بعجزه عن وصف الرسول بما يليق به من نعوت، يتوجه سعدي بالدعاء ويستدعي ذكر أصحاب الرسول وتابعيه من الخلفاء الراشدين وأهل البيت في خمسة أبيات هي في الترجمة التي وضعها محمد موسى هنداوي:

ليكن سلام الله على روحك/ وعلى أصحابك وتابعيك
على أبي بكر، الشيخ المُريد/ وعلى عمر، قاهر الشيطان المَريد
وعلى العاقل، عثمان، محيي الليل/ والرابع علي، راكب الدلدل
أسألك إلهي، بحق بني فاطمة/ أن تؤمن على قولي بالقبول
فإنك، أن رددت دعوتي، أو قبلتها/ فإني متعلق بأهداب آل الرسول

أصحاب الرسول وتابعوه هم الخلفاء الراشدون وأهل بيته من ابنته فاطمة الزهراء. يبدأ الشاعر بذكر أبي بكر الذي يصفه بـ"الشيخ المُريد"، وهو الصحابي عبد الله بن أبي قحافة، ولقبه الصدّيق والعتيق. كان أول الخلفاء الراشدين. دامت خلافته سنتين وثلاثة أشهر، وتوفي في المدينة في العام الثالث عشر للهجرة، وعمره ثلاث وستون سنة. بعد أبي بكر، يأتي ذكر "قاهر الشيطان المَريد"، عمر بن الخطاب، الفاروق العدوي القرشي. وقد آلت إليه الخلافة بعد وفاة الصديق، فتولاها إلى أن توفي سنة 23هـ في المدينة المنورة، بعدما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي. في حديث أخرجه أحمد، روت عائشة أن النبي قال:"إن الشيطان يَفرَق من عمر". وأخرج البخاري حديثا يقول فيه الرسول: "إيه يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك"، ومعناه أن الشيطان لا يسلك طرقاً يسلكه الفاروق. بعد مقتل عمر، آلت الخلافة إلى القرشي الأموي عثمان بن عفان. حدثت في الفترة الأخيرة من خلافته فتنة، وقُتل في داره وهو يقرأ القرآن في شهر ذي الحجة سنة 35هـ. يصفه سعدي بـ"محيي الليل"، والمعروف عنه أنه كان يختم القرآن في ركعة. ذكره الأصفهاني في "حلية الأولياء" ونقل عن جدة له يقال لها زهيمة قولها: "كان عثمان يصوم الدهر، ويقوم الليل إلا هجعة من أوله". كذلك، نقل عن امرأته حين قتلوه: "إن تقتلوه أو تتركوه، فإنه كان يحيي الليل كله في ركعة يجمع فيها القرآن". تولّى الخلافة من بعده علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم رسول الله، وزوج ابنته فاطمة الزهراء، وأبو الحسن والحسين، " سيدي شباب أهل الجنة". عُرف ببأسه وشجاعته وكان حجة في الفقه وقدوة في الورع.  قضى سنة 40هـ بعدما طعنه عبد الرحمن بن ملجم الخارجي وهو يصلي الفجر في مسجد الكوفة. يصفه سعدي بـ"راكب الدلدل"، وبحسب ما رواه ابن الأثير المؤرخ في "أسد الغابة"، كان للرسول "بغلة اسمها دلدل، أخذها علي بعد النبي صلى الله عليه وسلم فكان يركبها، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم محمد ابن الحنفية، فكبرت وعميت، فدخلت مبطحة، فرماها رجل بسهم فقتلها". وفي "بحار الأنوار"، وهو من أهم مصنفات الامامية، يقول العلامة المجلسي إن حاكم مصر المقوقس أهدى الرسول بغلة تدعى دلدل ، "وكانت شهباء فدفعها إلى علي عليه السلام ، ثم كانت للحسن عليه السلام ثم للحسين عليه السلام ، ثم كبرت، وعميت، وهي أول بغلة رُكبت في الإسلام".

الرؤيا الجامعة
يمتدح سعدي الخلفاء الراشدين، ويذكر في دعائه أبا بكر وعمر وعثمان، مما يعطي القصيدة النبوية طابعاً سنيا. وفي رأي أهل الاختصاص، كان الشاعر الشيرازي على مذهب السنة، والمعروف عنه أنه أقام في صباه في بغداد حيث درس العلوم الدينية والأدبية في المدرسة النظامية الخاصة بأتباع المذهب الشافعي. وقد رثى سعدي الخلافة العباسية وبكى سقوط بغداد في قصيدتين، إحداهما فارسية، وفيها رأى السماء تمطر دماً "بزوال ملك أمير المؤمنين المستعصم"، والثانية عربية، ومطلعها:

"حبست بجفنيّ المدامع لا تجري/ فلما طغى الماء استطال على السكر
نسيــم صبا بغـداد بعـد خرابها/ تمنيت لو كانت تمــر عـلى قبري

في قصيدته المحمدية، يذكر الشاعر بإجلال الخلفاء الأربعة ويحلف بـ"حق بني فاطمة"، معلنا تعلّقه "بأهداب آل الرسول"، سواء ردّ الله دعوته أو قبلها، مما يجعل منه شاعرا مسلما "شاملا" يجمع بين المذهب السني والهوى الشيعي. ويتردد صدى هذه القصيدة في منمنمة تزيّن نسخة من تحفة سعدي النثرية "الكلستان"، أي "روضة الورد"، وهو كتاب في المواعظ والحكم تتخلله مقطوعات شعرية، قدّمه الشاعر إلى الأمير سعد بن أبي بكر الزنكي في عام  656 هـ. تعود هذه النسخة إلى عام 873 هـ، ومصدرها هرات، وتحتوي على ست منمنمات أنجزت في الهند بعد ما يقارب القرنين من الزمن، وهي من "مجموعة تراست للفن والتاريخ" الخاصة بعائلة سودافار في هيوستن.
على وجه الصفحة السادسة والأربعين من المخطوط، يظهر الرسول متربعا على منبر من الرخام، وقد تحلق من حوله جمع يتألق من أربعة رجال وولدين فتيين، مما يعيد إلى الذهن صورة الخلفاء الأربعة والحسَنين اليافعين. تزين المنمنمة القصة الرابعة من الفصل الثالث من "الكلستان"، وفيها تحدث سعدي عن عالم عجمي أرسله ملك من ملوك الفرس إلى بلاد العرب ليعرض خدماته على الرسول، إلا أن أحدا لم يسأل عنه، فما كان منه إلا أن توجّه بنفسه إلى المصطفى ليسأله إن كان في إمكانه أن يقدم له ما ينفعه أو ينفع صحابه. اللافت أننا لا نجد في هذه القصة أي ذكر مباشر للخلفاء الأربعة، مما يشير الى أن النص لم يشكل سوى حافز لتصوير صورة جماعية تضم الرسول وخلفاءه الراشدين إلى جانب ابني فاطمة، وهما ريحانتا جدّيهما من الدنيا، بحسب الحديث المتناقل. يظهر العالم الآتي من بلاد فارس من خلف المنبر حيث يسجل حضورا ثانويا في الصورة. في المقابل، يبرز الرسول في وسط التأليف، وقد خصّه الرسام دون سواه بهالة دائرية من الذهب، وصوّر من خلفه محرابا مزخرفا تعلوه الشهادتان. الهوية الشخصية الخاصة بكل من الخلفاء الأربعة ليست واضحة تماما، إلا أن بعض العناصر تتيح لنا التعرف الى اثنين منهما على الأقل. حامل السيف المقوّس الجالس عند الطرف الأيمن من الصورة هو علي بن أبي طالب، وفي الروايات التي نقلها أهل التاريخ أن رجال محمد  سمعوا في ساحة الجهاد تكبيرا من السماء وقائلا يقول: "لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي". وحامل الكتاب الجالس عن يمين الإمام علي هو حتما عثمان بن عفان ألذي أتم جمع القرآن الكريم، وقد قُتل في داره بينما كان يقرأ القرآن.

على الصعيد التشكيلي، تنتمي هذه المنمنمة زمنياً إلى مدرسة القرن السابع عشر الهندية، وهي المدرسة التي رأت النور في عهد الأمبراطور جلال الدين أبو الفتح محمد أكبر. وقد سعى هذا الحاكم السنّي المذهب إلى الجمع بين الإسلام والهندوسية في ما دعاه "العقيدة الإلهية"، واستقدم أكبر بعثة من اليسوعيين، وافتتح لها مقرا في بلاطه عاهداً إليها مهمّة تعليم الرسامين الذين يعملون تحت رعايته أصول الرسم وقواعده. تتلمذ المصورون الهنود المسلمون على أيدي اليسوعيين فأتقنوا مبادئ المحاكاة اتقانا كاملا وسعوا إلى تطبيقها في حقل فن الكتاب، وقد شكل هذا الأسلوب مفترقا أساسيا في المرحلة الأخيرة من تاريخ التصوير الإسلامي. تتميّز منمنمة مخطوط "الكلستان" بمحافظتها على الجذر الفارسي التيموري الذي يظهر في كثير من عناصر التأليف، في حين يظهر الأثر الأوروبي في الهالة الدائرية التي حلت مكان الهالة النارية، كما في بروز مبدأ التجسيم الذي يتجلى بنوع خاص في رسم ثنايا ثياب كل من الرسول وابن عمه. حكم المغول الكبار الهند حتى عام 1857 مـ، وكانوا من أهل السنة. ويتجلّى هذا الانتماء في حجب الهالة القدسية عن علي بن أبي طالب، على عكس ما نراه في المنمنمات الشيعية حيث يحظى أمير المؤمنين بأرفع علامات الإكرام.  من جهة أخرى، نجد في حضور الحسنين في منمنمة "الكلستان" شهادة في حب أهل البيت، وهو ما يربط الصورة التي رافقت قصة العالم الفارسي بالقصيدة التي عبّر من خلالها سعدي عن حس إسلامي جامع.

السلالة النبوية
تحتفظ المكتبة البريطانية بمخطوط فارسي شيعي يعود إلى نهاية القرن السابع  عشر ومصدره البنجاب في الهند. في واحدة من المنمنمات العديدة التي تزين هذا المخطوط، يظهر الرسول وعلي والحسن والحسين مكللين بألسنة الذهب المشتعلة فوق قاعدة تحتل أعلى التأليف، في حين يقف أبو بكر وعمر وعثمان في الجزء الأسفل من التأليف، بعيدا عن هالة  النور الخاصة بالعترة الطاهرة. وتحتفظ  مكتبة فيينا الوطنية بمنمنمة من نوع "السلالات" التي اشتهر بها العثمانيون، وفيها يظهر الرسول والخلفاء الأربعة في خمس دوائر متلاصقة على شكل أسورة. تختفي ملامح الرسول خلف قطعة من قماش أبيض تنسدل على وجهه، بينما تظهر ملامح الخلفاء الأربعة جلية واضحة. يحتل الرسول وسط الدائرة الأعلى، وهي الأكبر حجماً، وقد حرص المصور على تكليله بهالة نارية تجعل منه الأرفع شأناً. في مقارنة سريعة مع هاتين الصورتين، تبرز منمنمة "الكلستان" في صياغتها التي تجمع بين الهوية السنية والهوى الشيعي. يبرز النبي العربي وسط حلقة تتألف من الخلفاء الأربعة وحفيديه اليانعين ويرفع يمناه في حركة تعبر عن فعل المخاطبة. يتردد صدى الأحاديث التي تناقلها الرواة:

"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ".
"حسين مني وأنا منه أحب الله من أحبه، الحسن والحسين سبطان من الأسباط".

النهار الثقافي
الأحد 28 أيار 2006