آخين ولات
(سوريا)

آخين ولاتسأغادر الكومبيوتر، لدهشة "ميتان".
يكتشف إتقانه الأحرفَ، والأرقام، ورموزاً، يفكّها ببراعة.
ابن الجيران في الحديقة. يلعب فوق الرمل...
له جناحان صغيران. يحلّق عالياً. يسقط في بركة ماء، وفي كفّيّ، إذ تنفرجان بلا تنبيه.

***

ظلّي، أوّلُ ما تركته يرتع هناك.
ضحكٌ لأنبّه الجدران أنّي هنا.
لم أكترث للحظة، إذ طفا من العمق قمرٌ،
ظننته وجه أمي.
ضحكةٌ شرسة.
لم يكن ثمة داعٍ، للقهقهة.
الظّلّ على مقعدٍ مبلل.
آخر ما أفكّر باسترجاعه
عجوزاً منهكة.
يجلس ظلّي،
وكجليدٍ سأتكسّر...
يكسوني بخارٌ،
ثمرةً، ثمرة
يتقطّر..

***

سيرتدّ ظلي، بعد قليل.
لن يكونني بالضبط، لن ألتفت إليه وهو ينفلش.
يطبق الكفّينِ، مفتوحتين على بعضهما. يضع رأسَيْ إصبعيه الأوسطين أسفل رأس الأنف.
يلامسانه مباشرةً. جالساً جلسة بوذا، يغمغم صلاةً، لم يصلني منها سوى الانكسار.
هو ذا ابن الجيران.
فوق الكيبورد.
Wرأسه بين فخذيه، وساقاه مفتوحتان، كحرف:
عيناه مثل نافورتين،
تذران رماداً.
موجّهتين صوب غصنٍ معينٍ، من شجرة.
W ظله في السماء، كحرف
كلما اقترب ازداد اتساعاً.
يتّسع.
يتّسع.
يمتدّ ويميد،
يتمطّى...
يا لها من غيمةٍ وقحة، تكتم أنفاسي.

***

يبدو الظلُّ صافياً، نقيّاً فوق الحائط.
سأترك جموحي،
للصدفة.
لن تكون بمنأىً عن يديّ.
يداي القادرتان على اجترارك، كلّما فاجأهما الجوع.
أستدير نصف استدارةٍ حَذِرة...
لن يكلّفني ذلك أكثر من خيبة،
أكثر من غوصٍ في أعماقك الغائرة.
أنت الكائن العصيّ.
من قال: ظلّي هو أنا؟
إنّه لا يشبهني.
أنا المشوّهة بكل هذه الرّتابة،
والخمول.

***

تكاد رقبة الطفل تنقرف بين ساقيه، أو انقرفت بشاعريةٍ، بهية.
جناحاه تنموان كغيمة.
غيمةٌ تتكاثف مثل غابة.
قريباً ستلِجُ ظلّي النّقي.
تُنهضه.
تشدّه إلى الأعلى.
تتشبّث قدماي بالكرسيّ أكثر، بينما أنا منكبّة على مفاتيح الكيبورد.
ظلّي، ليس أنا.
ألامس جبينه، هذا الطفلُ المشاكس.
أمسك بيديه ترفرفان.
وطائرٌ،
لن أتقن مداعبته.
ستصفعني جناحاه
حتى الاختلاج.

***

يحكي "ميتان" حكاية طفلٍ ـ نافورة.
الطفل الذي صار طائراً...
كنت أحبه فقط، وأفكّر في اللحظة ذاتها ـ لحظة انفصل رأسه ـ أنّ المدينة هذه ستكون قد غطّتها المياه بعد خمسين سنة.
كنت أفكر بالاحتباس الحراري، عندما بلا قصدٍ، تمرّغ جسد الطائر في الرماد.
يتواثب فوق الرمل، ويرشقني بمياه البركة، إذ صارت كشراب التوت.
ظلّي ميتٌ في الحديقة،
وأنا على الحائط.
كفّاي تنقبضان على قطعة لحمٍ،
كأنّها غيمةٌ ثقيلة.
كأنّها كبد طائرٍ مذبوحٍ للتو.

***

طائرٌ من فصيلة السلاحف. يبيض بيضةً واحدة كل سنة. يطمرها. يتركها للرمل. تفقس البيضة وحدها.
سلحفاةٌ، وحيدٌ، في العراء.
سيكبر وتنمو له جناحان.
يسأل "ميتان":
ـ ماما هل أنا سلحفاة؟
ـ لا حبيبي، أنت أسد.

***

يرتفع منسوب المياه بنسبة مخيفة. البحر المتوسط يمتص الحرارة بشكل ملفت، وترتفع ملوحته.
سنأكل أسماكاً مالحة. والمياه تغمرالعالم.
رئيس جزر المولديف، يبحث عن وطنٍ يشتريه.
وطنٌ، لا يدخل البحر.
كنت أفكّر بجبال الجليد إذاً، لحظةَ، تثاءب الطائر.
قالت صديقتي أنها ومنذ أربعة أعوام، تتذكّرني بشدة، كلما رأت طائراً ـ لا تعرف اسمه ـ يحط فوق بحيرة زيورخ.
ـ هل تعرفين اسمه بالكردية أو العربية؟
ترسل صورته عبر الماسنجر.
طائرٌ غايةٌ، في الجمال. يحط على كتف رجل. ينقر رأسه.
رقبته طويلة؛ عيناه ثاقبتان، ورشاقةٌ غريبة في جناحيه، يهمّ بالتحليق.
تملّكني الغرور، إذ يذكّرُ كل هذا الشموخ بي.
ـ هل تعرفين ما اسمه؟
ـ كلّ كائنٍ له جناحين، هو عصفورٌ بالنسبة لي.
الدجاجة أيضاً عصفور.
تضحك صديقتي. ضحكةٌ لم أتوقعها. ذكّرتني بضحكتي الهوميروسية؛ لم ألتفت لمنبّه لحظتها.
أكان وجه رجلٍ لمحته من نافذة المطبخ؟
أكانت رائحة البصل؟
أم نكتةٌ بذيئة، سمعتها في عزاء؟

***

يسأل" ميتان":
ـ ماما، هل أنا طائر؟
ـ نعم حبيبي.
أنت نسر.