فيديل سبيتي
(لبنان)

1-رجل الظل

فيديل سبيتيأراد ان يدعس ظله لكنه لم يوفق. كلما قفز ليسقط عليه تنزل قدماه على قدمي الظل. رجله ترتطم بالاسمنت الصلب والقاحل كلما مدها نحو بطنه ورأسه.
يتناسى الأمر لثواني، ليباغت ظله بدعسة تمتصه. لكن عبثا ترتطم قدماه بالأرض، وهو ما عاد يحتمل ظلا اسود يهرب منه كلما اختفى من عين الشمس. ما عاد يغريه ان يكون وظله والشمس في مكان واحد، أرهقته هذه المجموعة وأثقلت عليه جسده الذي يقبع فيه كفقاعة هواء في هلام.
اليدان لا تكفان عن الصعود والنزول من الخصر الى الرأس، كأنهما تغرفان السواد لتمحيا الضوء الذي يفصلهما عن الجسد. لكن هباء هذا الاحتيال على الضوء المحنك والموصول بآلة النار الأبدي.
كصخرة جوفاء، كباب مغارة من زمن ما قبل الصقل، يتكوّر حين يجلس. وهو يرمقه بعينين زائغتين لكثرة الضجر المقيم حوله كرجل آخر يجلس فيه.
ما هكذا ظن الحياة، ان يكون معقودا بظل.
ظن ان الحياة لا تتدخل في حال الأجساد التي تفنيها في النهاية، وان انحناء الظهر هو اقتراب من الأرض ينشده من امتد به العمر، لا دخل للعيش تحت الضوء ولصق الهواء بحدوثه.
خاب ظن رجل الظل هذه المرة كما يخيب في كل مرة يخرج من جيبه مقصا ويروح يقص الهواء بين رجليه والأرض.

2-الطابق الرابع

صعد الى الطابق الرابع ظانا ان المشهد من الأعلى سيكون أكثر وضوحا.
طرق الباب طرقات خفيفة متقطعة. انتظر قليلا. دعسات بطيئة متكاسلة تقترب من الباب.
في الباب امرأة سمراء قسماتها مهملة. من دون ان تنظر في وجهه استدارت نحو باب غرفة مظلمة، اختفت خلفه بعد ان أغلقته، فتردد رجع صدى عميق.

في منزل الطابق الرابع ممر طويل على جانبيه أبواب الغرف. خطى نحو باب الغرفة الخامسة وفتحه. ثلاثة أولاد ينامون في سرير ابيض واسع. امرأة سمينة تجلس على كرسي وتنظر بوجه ثابت نحو الأطفال النيام. شرفة الغرفة مضاءة بشمس الخارج، هواء خفيف يتماوج في الستائر. رمقته المرأة السمينة بعينين شاردتين كأنها تطلب منه ان يخرج.

خطوات قليلة نحو الباب الأخير. فتحه مضطربا. هواء يرتطم بوجهه كأنه يولد الآن. تذكر غرفته المظلمة التي لم يخرج منها منذ زمن طويل.

في الأسفل أشجار الشارع متوسطة الطول، كانت اقصر حين مرّ بقربها في المرة الأخيرة.
ليست شرفة منزله تلك التي يقف عليها. يعلم ذلك من المشهد الذي يراه.
تسلق سياج الشرفة. دلى رأسه الى أسفل، كي يصل أولا الى الأرض. مسرعة كانت تقترب الأرض. سوداء مسفلتة كنهر قهوة جاف.

"جميلة لحظة ملامسة الأرض قبل الارتطام بها"، قال، فيما الاشياء مقلوبة أمامه. كان الظلام قد عمّ حين عادت الاشياء الى وضعها الطبيعي.

3-رجل القلق

يحمل دماغه في يده، يداعبه بأصابعه كتفاحة مقبلة على الاهتراء. يرميه الى اعلي ثم يستقبله بيد مكورة كأنها تغرف ماء. يقذفه نحو رأسه، يسقط في مكانه. قطرات من ماء ابيض لزج تتناثر في المكان.
يعشق رجل القلق ان يمضي وقتا برأس مفتوح. يلاعب دماغه كلاعب كرة سلة يتهيأ لرمي الطابة.
في المرحاض ينظف رجل القلق دماغه بفرشاة الأسنان، يمررها في الشقوق والنتوءات والحفر، يريد دماغه ابيض لامعا كسكين طعنت الحيطان.

كل ذلك يحدث أمام المرآة حين يتساوى مع الذي في داخلها ويروح ينثر مديحا يلتصق بزجاجها، وهو يعلم ان المرآة فكرة وأنها حين تنكسر تتوسع الفكرة كانتقام.

وهذا كله قبل ان ينزل في الماء وتستعيد خياشمه حياتها، ويصير كائنا مائيا، تناديه الأعماق:"انزل انزل. اترك الضوء يموت خافتا".

4- "ويسكي لهذا الليل الحنون"

في السهرة الماضية، كنت قد رأيت النادلة نفسها خلف البار، وكانت حينها تضع ربطة الشعر البرتقالية نفسها. وكانت قد دهنت وجهها بمسحوق طيني اللون تكفّل بإخفاء الاسوداد تحت عينيها والبثور التي تنتشر فوق انفها، وفي التجاويف التي تفصل بين انفها وخديها. وكانت الابتسامة التي ترسمها على ثغرها هي نفسها. تلك الابتسامة التي تتقن اصطناعها كلما نظرت الى زبون أو نظر زبون اليها.
في السهرة الماضية كانت الحانة كما هي الآن. مضاءة بضوء خفيف. موسيقى صاخبة تنبعث في جنباتها، يختارها شاب لا يتوقف عن كرع الويسكي الذي يقدم له مجانا. لا وجه له. رائحة الدخان المنبعثة من السجائر ومن أفواه المدخنين تضحي أكثر حدة، رويدا رويدا. الأفواه التي تضخ سوائل نحو الأدمغة منشغلة عن الأنوف تلك التي يتوقف عملها في تلك الاونات. فرائحة دخان التبغ المشتعل، ورائحة الطعام الذي يحضر في المطبخ، ورائحة الكحول المتسربة من الكؤوس ورائحة هواء سهر البارحة وروائح الأجساد، رجالا ونساء، جميعها ممزوجة في فضاء الحانة الكئيب والنشط. ومع ذلك فان السهرة تسير على خير ما يرام، لا وقت للتنشق الآن.

اطلب كأسا. النادلة تعرف كأسي. جاك دانيلز وثلاث ثلجات، لايضير لو كانت ثلجتان، مملوءة أكثر بقليل عن كؤوس الزبائن الآخرين. النادلة تعرف انني اكرع كأسي كرعا، وتعرف انني لا اشري كأسي الا مملوؤة حتى نصفها.

لا تنظر اليّ ولا انظر اليها، فهي لا تراني وأنا لا أراها. انظر في كأسي، وهي تنظر في حياتها الكئيبة التي ما إرادتها على هذه الحال.

كأسي تتناغم مع الضوء الخفيف الذي تبصقه لومبديرات ملصوقة على جنبات الجدران. مضاءة الكأس بذاك النور الخفيف، وكأنها منشغلة عني، أنا محوّل ما فيها الى أفكار. جرعة أولى وجرعة ثانية وجرعة ثالثة والكأس الثانية والكأس الثالثة. يا الهي ما أطيب الويسكي. ماذا كان ليكتب النفري لو كان يعاقر الويسكي؟ ماذا كان ليكتب هنري ميللر بلا ويسكي؟ أتساءل ووجهي الى الطاولة ملّ كونه ملحقا بعضو محمول على الأكتاف. الوجه يريد الزحف الى القدم، يتنقل بين الفخذ والركبة، أحدس هاذيا.
محمد أبي سمرا في ذهني. اريد ان اتصل به كي اطلب منه ان يتبناني، يعجبني ان يكون محمد أبي سمرا أبي. فادي توفيق يحضر ويغيب كما ينتقل الممثلون في فيلم "ستار تريك" من مركبتهم الى الكواكب المفجوعة في المجرات. أتتصل بفادي توفيق؟ يا للوحشة.

النادلة تتناول اسفنجة زرقاء تمسح بها البار الخشبي، تمررها تحت الكؤوس وفي المساحة التي مسحتها قبل قليل. ترمق أصابعها كأنها تراها للمرة الاولى. بهدوء وحزن وانتظار طير خرافي يحملها فوق قصر السحرة، تتأمل أصابعها الذاهبة والايبة فوق الاسفنجة. يا لسوء حظ النادلة انني زبونها، أنا الحائط المدكوك دفعة واحدة.

ويسكي لهذا الليل الحنون كما يقول يحيى جابر. ويسكي لهذا الليل المجنون، ويسكي لي أنا.