طاقة اللغة محفوظة غير مبددة عكس طاقة اللغة في الحقول الاخري فانها تؤدي الي المنفعة والتداول والفهم.. اما طاقة اللغة الشعرية فمحفوظة داخل الشكل الشعري لاتتبدل ولا تستهلك.
هل يمكننا اذن وفق هذا الفهم ان نعيد تعريف الشعر لغويا فنقول بانه اللغة عندما تحتفظ بطاقتها وهل يمكننا ان نعرف النثر لغويا فنقول بانه اللغة عندما تتبدد طاقتها او تستعمل طاقتها او تستفيد من اجل شيء معين.
يمكننا ان نمضي في هذا الاستنتاج ونقول ان اللغة في الشعر طاقة غير متحولة في حين تكون اللغة في النثر طاقة متحولة الي نوع اخر فمثلا النثر الخارجي (الموضوعي والعلمي) يحول اللغة الي العمل والاخبار والتحريض والوصف والنثر التعليمي يحول الي معارف ومعلومات وهكذا، اما طاقة الشعر اللغوية فلا تتحول بل تبقي متوهجة داخل ذاتها ولذلك يندرج النثر في التاريخ ويستعصي الشعر علي التاريخ لانه لا يتعاقب ولا يتحول ولا يستنفذ بل يبقي شيئا وسط الاحداث والخطابات المنوعة التي حوله.
فمثلا تقف قصائد المتنبي واقفة في القرن الرابع الهجري في حين ان سلطات واعلام واخبار وقوانين وعادات القرن الرابع الهجري اندرجت في التاريخ.
وتقف قصائد رامبو في القرن التاسع عشر المليء بالاحداث والاخبار تقف نضرة مشعة يتأملها انسان في نهاية القرن فيجدها طازجة قوية مليئة بالحيوية.
هل يعني هذا ان اية رسالة يكون موضوعها الرسالة نفسها (لاتأخذ موضوعها مما حولها ولا تدل عليه).. هل يعني انها يجب ان تكون رسالة شعرية بالمعني المتعارف عليه أو لنقل نصوصا شعرية؟
بالتأكيد كلا.. لاننا عندما نتحدث عن وظائف اللغة ونجد ان احدي وظائفها هي الشعرية (لان مضمون الرسالة او اللغة هو اللغة نفسه وليس ما تدل عليه) فهذا امر مختلف تماما عن حديثنا عن فن الشعر الذي هو الاجراء الفني وليس غايتها فقط.
ولنقل بصورة ادق ان الشعرية هدف لايتحقق الا بالفن اما الوظيفة الشعرية فامر يمكن ان نضعه في الغايات او النوايا الشعرية التي قد تنجح او لا تنجح في تحقيق ما تذهب اليه.
هذه المقولة تنسف كليا تهم (الذاتية واللغوية والغموض) للشعر وتحلها حلا معقولا لان من طبيعة الرسالة التي تعالج فيها موضوع الرسالة نفسها ان تكون ذاتية لغوية غامضة بعض الشيء.
لابد من اثارة هذا المفهوم لان خلطا كبيرا يحصل دائما بين الوظيفة الشعرية والوظائف الاخري (الاجتماعية، السياسية، التعليمية، الانفعالية، النفعية.. الخ) التي تندرج ضمن الوظائف الموضوعية الاستهلاكية للغة.
لااقصد هنا مطلقا عدم انفتاح الغاية الشعرية للغة وهي في طريقها الي التحقيق علي هذه الوظائف ولكننا يجب ان نطالب الشعر بأن يخضع لهذه الوظائف فتنحرف الغاية الشعرية وتصبح تابعه لوظيفة اخري.
لانستطيع هنا ان نحسم امرا ونقول بأن ما يكتب من شعر يجري في هذا المجري ولكن الشاعر وهو يصنع من نفسه شاعرا حارسا لعظمة الشعر ولنقائه وقوته يزداد وعيه الي درجة من هذا النوع لاتسمح له ان يكون تحت مطرقة الغايات الاخري ثم تابعا ذليلا لها.
ان الشاعر وهو يتقدم الي الغاية الشعرية يحتاج الي بطولة وعي شعري تتماسك وتزداد وتشمخ مع الوقت ويجب قطع الطريق دائما علي تراجعها ومجاملاتها وتهافتها.
غسل الكلمات
المفردة في الشعر القديم مغيبة الهوية تركض باتجاه المعني الذي اقترح لها اعتباطا ذات يوم، تكرس ما خلقت من اجله ولذلك فهي اداة استعمال واداة توصيل لا اكثر ولا اقل.. المفردة في الشعر القديم لاشخصية لها.. حيث المعني سيد الموقف.
واذا افترضنا ان اللغة تناظر الحياة في تكوينها وعفويتها وقوانينها الداخلية لانها تنشأ من نمو الحياة وتطويرها فلماذا لانعد المفردات (الكلمات) هي الكائنات الحية في هذه الحياة وان لكل منها استقلاله وشخصيته فهي مثل انواع النباتات وانواع الحيوانات وانواع الاحياء المجهرية التي نعيشها لها حياة خاصة وخفية لانري منها في احيان كثيرة الا ظاهرها وان لها علاقات ببعضها هي علاقات تعايش وتجارب ونقض وبقاء.
في الحياة اليومية الاستهلاكية يمكن ان تعمل اللغة اداة توصيل وتفاهم حيث تضحي الكلمات (الكائنات الحية) بحياتها وشخصيتها ونبضها من اجل ان يتفاهم الانسان مع الانسان وان يتواصل هذا التفاهم فهي اي المفردات لا تقبل بمثل هذه التضحية طواعية بل يرغمها الاستهلاك علي ان تكون هكذا لكن الادب هو الذي ينصف هذه الكائنات وعلاقتها ويعيد لها الاعتبار والشعر هو اكثر اجناس الادب حرصا علي عدم التبديد بالكلمات (المفردات) وبعلاقتها فهو يغسلها من الاستخدام اليومي الروتيني الذي مسخ شخصيتها ودمرها ويعيد لها الاعتبار والقوة.. يضعها في استخدام جديد يوحي ان الحياة (الحياة اللغوية) كلها مجسدة في هذه المفردة ويضعها في علاقة غير عادية.. غير متوقعة يتخذ لها مكانا ويجلسها فيه ولهذا يصبح النص الشعري مدهشا لانه:
- اعطي معني جديدا للمفردة.
- وضعها في علاقة جديدة. وهكذا تتجدد اللغة مما يسبب في تجدد حياة الانسان وانعاشها وتوترها وتطورها.
العلاقات اللغوية القديمة في الشعر والنثر علاقات محددة او مصنفة بلاغيا حيث لاخروج ولا تدافع ولا تسلح ضد البلاغية بل اجادة وسبك لها، ووضعها في قوالب جامدة.
ويأتي كساد المفردات وعلاقتها في الشعر القديم من صرامة النظام اللغوي والعقلي الذي سجن داخله الروح الانساني وكبلها وهكذا تأتي الرؤية ضرورة جذرية لتحرير الشعر والعقل من قواهما السلبية هذه الرؤية تتضمن شيئا لاتفصح عنه الحياة العادية الاستهلاكية شيئا خارقا للعادة شيئا استثنائيا ومفاجئا يتضمن بالضرورة وضع المفردات والعلاقات في صيغ جديدة.
لقد تبنت البنيوية دراسة العلاقات بين المفردات بكونها حقيقة اللغة وجوهرها فاللغة في نظرها علاقات وليست مفردات وهكذا اهتمت الدراسات الالسنية الحديثة بالعلاقات اللغوية (الصوتية والصرفية والبلاغية والاسلوبية) وتوصلت الي نتائج في غاية الاهمية في هذا المجال لكنها بالمقابل اهلت وجود الاشياء اللغوية اي المفردات وعدتها مجرد قطع شطرنج يمكن ان تكون خشبا او حديدا او عجينا او طينا لافرق المهم في ذلك هو ان لعبة الشطرنج وبالتالي لعبة اللغة تخوض وفق قوانين داخلية معروفة وقد كشفت عنها حقاً في نظريات متعددة كان اهمها نظرية شومسكي التوليدية التي اعطت تصورا مقنعا عن قوانين اللغة التوليدية والتحويلية.
لكن المفردات ظلت بمنأي عن البحث اللغوي الشامل ثم تخصص به فرع اسمه علم الدلالة .. ولم تتضافر علوم اللغة مع علوم الدلالة لاظهار تصورات مقنعة عن اللغة بصورة عامة واللغة الشعرية بصورة خاصة.
لكن الشاعر وهو يخوض في دراسته كل هذه العلوم لايمكن له ان يتقيد بها بل عليه دائما ان يفهمها ويهضمها ثم يخرج ويجعل من قوانينها الصارمة في حرج دائم.
ان عدم انصياع الشاعر لعلوم اللغة لايعني عدم دراسته وفهمه بل العكس هو الصحيح فالخروج الواعي يتم بعد الدراسة والتقصي الكثير من الشعراء لهم سليقة فطرية للخروج علي القانون وهذا شيء اساسي ومهم ويجب ادامته حتي وهو يخترق ويفهم طبقات المعارف التي تخص اللغة بمعني ان العفوية وعادة الخروج علي السياق يجب ان تنشط اكثر عندما ينتقل الشاعر من مرحلة الامية الثقافية الي مرحلة التسلح بالمعرفة.. وهذا يفتح امامنا باب النقاش واسعا وكبيرا.
فاذا كان الشاعر كبير الموهبة قليل الثقافة يحتاج الي قدر معين من العفوية والفطرية .. فان الشاعر كبير الموهبة كبير الثقافة يحتاج الي اضعاف هذا القدر من العفوية والفطرية لانه مضطر دائما الي تذويب هذه الكتل المعرفية بالكثير من العفوية والخروج الدائم عليها.
وهنا يمكننا ان نحل الاشكال السابق ونقول:
ان الشاعر الجيد المثقف هو اكثر عفوية وفطرة من الشاعر الجيد غير المثقف لانه تسلح وهو يخترق الثقافة بالكثير من العفوية والفطرية حتي يكون جيدا او حتي يحافظ علي طراوة موهبته.
وهذا يعني ان الكثير من الشعراء الجيدين غير المثقفين يخافون من المزيد من الثقافة لانهم يشعرون بان ذلك سيتطلب منهم فطرة اعمق واخصب مماهم عليه الان.
وهذا التحليل نفسه يلقي الضوء علي ان الشعراء الجيدين الذين ضعفت مواهبهم الشعرية بعد المزيد من الثقافة هم شعراء يحملون قدرا محدودا من العفوية والفطرة لايتحمل هذا القدر من الثقافة والمعرفة ولذلك تحطمت مواهبهم تحت هذا الثقل.. انهم لم يقدروا حجم موهبتهم فخسروها ولا اقول كسبوا المعرفة والثقافة لانها ليست بديلا عن موهبة الشعر التي هي اعظم كنز يعثر عليه الانسان في حياته ومن المؤسف حقا ان يبددها بهذه الطريقة او بطرائق اخري كثيرة.
وعودة الي سياق الموضوع نري ان الشاعر الحقيقي هو الذي ينظر الي اللغة (مفردات وعلاقات) بطريقة اخري ولا يهادن في ذلك اذ ان عليه دائما ان يقول كلاما مدهشا جديدا غريبا لم نسمعه من قبل.
الشعر والكلام
اذ عدنا الي تفريق (دي سوسير) الشهير بين اللغة باعتبارها نظاما اجتماعيا والكلام باعتباره اجراء فرديا داخل هذا النظام الاجتماعي فسنجد ان اللغة تسكن وتنطوي علي نفسها في الكتب والقواميس والقواعد اللغوية اما الكلام فيتحرك في الشارع والمعمل والبيت قويا نشطا.
اما الشعر وهو اجراء فردي خاص داخل الكلام (الكلام هنا لايعني اللهجة) فمشكلته تكمن في انه كان جزءا خاصا او ذاتيا داخل الكلام وهكذا كان الشعر القديم اما الشعر الحديث فقد ظهر بعد ان ظهرت الطباعة التي اشاعت الكتاب والكتابة بين الناس واصبح بالامكان قراءة الشعر في كتاب وعدم سماعه وهكذا ظهرت الكتابة التي هيأت لظهور الشعر الحديث وبدأت تفصل الوظيفة السماعية للشعر عن نظامه.
اننا هنا امام مفارقة جديدة.. الشعر القديم يرتبط بالكلام المحكي او المسموع ولذلك ينتشر وفق تطابقه مع ذائقة الكلام المحكي في ذلك العصر ويحتجب عندما تختفي هذه الذائقة.. والشعر الحديث يرتبط بالكلام المكتوب الذي يقلل عادة من اهمية تطابقة مع ذائقة الكلام الشائع في عصر معين، انه يحفر في مفصل الكتابة نفسها (اللغة وهي مكتوبة).
ويعد التحول في اعتماد الشعر علي الكتابة اهم التحولات التي ادت فيما بعد الي قلب وظيفة الشعر بكاملها والي تغير ستراتيجي في اهداف الشعر حتي ان الشعر الشعبي هو الذي حافظ علي اتصاله بالكلام للتداول ولم يتصل بالكتابة (من حيث الجوهر) وبذلك اصبح هناك، دون قصد، نوعان من الشعر احدهما يبتكر نفسه ويجددها وينفعل بها من خلال الكتابة والاخر يعوم علي سطوح اللغة او الكلام بوصفه احد اشكال تمفصلها مع المجتمع.
ان الوظيفة السماعية (الاثارية) الجماعية للشعر القديم او الشعر الشعبي تختلف كثيرا عن الوظيفة البصرية (العميقة) الفردية للشعر الحديث وبذلك نجد انفسنا امام تجنيس جديد يقضي باعتبار احد النمطين شعرا والاخر لاشعر وهنا تكمن خطورة جديدة تشيع اشكال تذوق وتبدل قد يطرح خارج المفهوم الادبي نفسه في منطقة الصيرورة الانسانية كلها .. اي من الادب الي الوجود الانساني ذاته.
لم ينجز الادب القديم نمطا جذريا ساخنا من الادب بل عجل في تحولات اسلوبية كثيرة ناتجة في حقيقة الامر عن الوعي الشقي للكتاب امام عصور لا تستجيب لتفتح ذواتهم الفائرة العميقة القلقة .. ولم يكن نتاجهم ناتجا عن تبديل البنية الذهنية لهم بحيث تنتج بني ادب جديد.
اللغة افقية مشتركة بين الناس والاسلوب الكتابي عمودي يمثل داخل الكاتب واعماقة فاللغة اذن تاريخ علم نازح من الماضي اما الاسلوب الكتابي، الشعري الحديث فقفزة فردية داخل هذا التاريخ العام ومحاولة او محاولات لزحزحة بنيانه وانعاش تواتره الرتيب.
التاريخ الادبي القديم علي هذا الاساس تاريخ بطئ مضجر تتقافز فيه تغيرات غير منهجية في المضامين والاشكال وفي الاجناس الادبية اما التاريخ الادبي الحديث فهو متسارع وهو ليس تاريخا تطوريا بل هو تاريخ خلقي ابتكاري لايتناسل وفق السلالة ولذلك تبدو محاولات خلق اباء واجداد واصول في الادب الحديث عملية اسقاط من الادب القديم.. فالمبتكر في الادب الحديث فرد لا اب له ولا ابن .. انه صانع وحسب اما منطق السلالات الذي اشاعه الادب القديم فيبدو انه واحد من معوقات قوة ونهوض وجمال الادب الحديث.
تنشيط اللغة عن طريق الشعر
بعد ان يجهد البيريس (الناقد الفرنسي) نفسه كثيرا في ايجاد تعريف دقيق للشعر في ضوء خروجه الدائم عبر سياقات وبعد ان يقيم تعارضا حادا بين الشعر الذي هو المخاطرة دائما والنثر الذي هو ما يخاطر ضده دائما..
بعد كل هذا ينتهي الي القول بما يلي (انما الشعري هو ما لاتستطيع اللغة التعبير عنه، وبذلك يصبح الشعر مخاتلة تمردا، نضالا ضد اللغة).
كيف اذن يمكن التوفيق بين الجملتين التاليتين (الشعر يعبر عنه باللغة) (الشعر هو التمرد ضد اللغة)؟ قد يكون مفهوم الانزياح الذي اقترحه كوهن نوعا من الحل ولكن حله هذا يفترض لغة قياسية (غير موجودة) يتم الانزياح عنها ليتكون الشعر ولان الكلام اليومي الذي نتداوله انزياح عن اللغة القياسية لذلك يمكن القول ان الانزياح يتداخل مع الانزياح الكلامي اليومي الاستهلاكي مما يشوش الصورة نوعا او يفتح تلاقيا مخصبا بين الشعر كونه صبوة لغوية عالية وكلاما يوميا عاديا.. ولذلك يتراجع حل كوهن لاعتماده المطلق علي الانساق البلاغية (في القياس والانزياح) وتتقدم امامنا اقتراحات جديدة لتعريف او لمحاولة القبض علي تعريف الشعر.
ان المشكلة القديمة البائسة التي تدور حول العلاقة بين الشكل والمضمون لا تشكل سوي محطة صغيرة يمكن ان نقف عندها لنغادر بعيدا فلقد دأبت الدراسات التقليدية للشعر علي ترديد جملة (فقيرة وباهته) تقول بانه لا يمكن فصل الشكل عن المضمون ثم ان الشعر هو ما يتعادل او يتوازن فيه الشكل والمضمون وهو حل توفيقي سهل وبارد ولا يحتاج الي عناء والحقيقة هي ان عناصر الشكل معروفة ويمكن ان نحددها ونحدد وظائفها وكذلك يمكن ان نحدد عناصر المضمون ودراستها ولكن النثر والنثر الادبي علي وجه التحديد هو الذي يفترض توازنا بين الشكل والمضمون اما النثر العلمي فيغلب المضمون علي الشكل لان الشكل اداة لتوصيل المضمون الدقيق لكن الشعر وحده هو الذي يتفرد بارجحية الشكل علي المضمون فالشكل يتقدم المضمون اهمية وبالشكل اولا يمكننا ان نقيس مدي تقدم او تراجع القصيدة فنيا.ان الشكل هو الذي يحدد المسارات المضمونة للقصيدة وهو سيد الحركة والغاية التي تسعي لها القصيدة فكلها عتلات تجرها حركة الشكل القوية.
ان خلع الطابع الشيئي للشكل الملموس للشكل يحدده او يقيده بمضمون محدد اما حقيقة الامر فهي ان الشكل يمثل منهجا نستطيع من خلاله القيام بعملية تمثيل لاي مضمون مهما كان.
تتكون اللغة من عناصر ترتبط بنسق معين يجعل من اللغة شكلا لا جوهرا ولذلك يكون الشعر عملا او شغلا في هذا النسق اي انه عمل في الصورة لافي الجوهر وهو لذلك شكل في الشكل او ميتاشكل، وهو غير الشكل اللغوي ولذلك يحق لنا ان نسأل اين ذهب الجوهر اذن اذن اين هو جوهر الشعر وكيف يتحقق؟ ان الجوهر موجود في العناصر لا بعدها لغة بل بوصفها موجودات خارج اللغة (اشياء مدركات ..الخ) وهذا يتطابق مع الجوهر الفيزيائي المعروف فأين الجوهر الشعري لا الجوهر الفيزيائي ؟ اعتقد انه في تحقق الموجودات بصورتها الشعرية، ولان هذا يتحقق باحتمال ضعيف وينتمي الي المستحيلات في عمومه لذلك يختبئ الجوهر الشعري في نفوسنا اشبه بالوهم الكامن الجميل الغريب المدهش وهكذا بعد هذه الملاحقة يمكننا ان نقول بان الجوهر الشعري يكمن في الشاعر لا في الواقع ولا في القصيدة وجوهر الشعر هذا بندول يترنح بين الشاعر وبين ما يكتبه اما متي يهدأ فهذا ما يستطيع عليه الموت وحده وأعني موت الشاعر.
لقد قامت الكتابة باختزال اللغة وبقص ترهلاتها واستفاضاتها الشفاهية المعقدة ثم قام الادب (داخل الكتابة) باختزال النمو السريع والمركب لانسجة الكتابة وقام الشعر علي وجه التحديد بالدور الاخير وهكذا يبدو لنا الامر مثل هرم تفرز قاعدته العريضة اتجاها مستدقا نحو القمة والقاعدة العريضة هي اللغة اما القمة فهي الشعر ان الشكل الشعري يتوهج هناك باعتباره كتلة من الرموز والاشارات ويحاول ان يكون (ميتاشكل متعالي) للغة ان تنقية اللغة بهذه الطريقة واحالتها الي نسيج موسيقي اشاراتي هي محاولة تطهيرية لعقل الانسان ايضا وضرب من التفتيت الدائم لكل الثوابت البلاغية وغير البلاغية التي تعتمدها اللغة.
ان المحاولات المتكررة من الشعراء الكبار لانجاز مستويات جديدة من الكتابة هي بالتاكيد المحاولات الوحيدة التي تنقذ الشعر من سقوطه المحتمل اذا ما نمط او ظل محصورا بمستوي واحد لذلك فان القفز بالكتابة من مستوي الي مستوي اعلي لايعني فقط الرقي العقلي والروحي بل هو تشذيب للغة وهكذا يحول الشعر اللغة الي نص مفتوح بل تتحول الآليات الشعرية الي معاول لفتح الثغرات في جدار اللغة لكي تتنفس وتستمر في الحياة.
ان نحت اللغة (عن طريق الشعر) لايعني تقليل المفردات المستعملة في الشعر بل يعني غسيلا دائما للمفردات الثابته المنهكة الاستعمال ثم يعني نقلا للمفردات المتكررة الي سبل استعمال جديدة وحفزا للمفردات الجديدة للتداخل في اللغة السائدة وهكذا تنفتح اللغة واذا ما انفتحت فان العقل سيتفتح ايضا وتفتح الحياة كلها، لقد زاد الشعر سعة الحياة مثلما زاد سعة العقل وسعة اللغة وهذه هي وظيفته الاولي بامتياز.
اذا كناقد استبعدنا الواقع او ذات الشاعر بوصفها مقر تحقيق جوهر الشعر فلابد لنا ان نقول بان القصيدة هي شكل تحقيق هذا الجوهر، هي ظهوره وهكذا تلعب اللغة دورا غير عادي في الشعر فهي ليست مقابلات لفظية لامور واقعية او نفسية او مشاعرية داخل وخارج الشاعر وان اللغة في الشعر ليست دالات لمدلولات نجدها في القاموس او نجدها في انفعال ومشاعر الشاعر.. انها هنا بالضبط كيان اخر مستقل، يقول جاكوبسن (ولكن كيف تتجلي الشاعرية؟ انها تتجلي في كون الكلمة تدرك بوصفها كلمة وليست مجرد بديل عن الشيء المسمي ولا كأنبثاق للانفعال وتتجلي في كون الكلمات وتركيبها ودلالتها وشكلها الخارجي والداخلي ليست مجرد امارات مختلفة عن الواقع بل لها وزنها الخاص وقيمتها الخاصة) ان اللغة اساسا عالم مستقل عن الواقع ولكن اللغة تقيم مع الواقع علاقة نفعية برغماتية كبيرة، اما الشعر فهو لغة مستقلة داخل اللغة ينفصل بخطوة واحدة عن اللغة وبخطوتين عن الواقع ولذلك فان علاقته باللغة والواقع علاقة تضاد وجمال وعدم خضوع.
ان الشعر هو انفراط اللغة والواقع من خيوطهما واشتباك خرزهما من جديد واقتراح انتظام اخر لهما.. لقد اندرج الشعر ضمن معطيات اللغة واصبح عاديا لانه لم يضع بينه وبينها مسافة وقد اندرج الشعر ضمن معطيات اللغة لانه اراد ان ينسخ الواقع فكان جزءاً ميتا منه.
ان الشعر بوصفه منطقة الخطر في الوعي ومنطقة الشرارة في اللغة والواقع يستعيد قوته الآن بطريقة فهم جديد قد تبعده عن ماكنا نسميه شعرا في الماضي حيث الوقت لا يسمح باعطاء مثل هذه الوظيفة للشعر انذاك.
ان ما طرحناه هنا لايمثل محاولة عزل الشعر عن الجمالية الواقع او عن اللغة بل يؤكد علي استقلالية الوظيفة للشعر من ناحية ويحاول ان يقدم خدمة كبيرة للغة والواقع معا لان (تلوثهما) بالشعر سيتيح لهما امكانية رائعة لنشاط جديد . لحركة مغايرة.. لهزة في خلاياهما ولانبثاقة جديدة لهما يسعي الشعر اذن، في النتيجة، الي تنشيط اللغة والواقع لا الي الانعزال عنهما.
جريدة (الزمان)
العدد 1933
التاريخ 2004-10-5