طاقة اللغة محفوظة غير مبددة عكس طاقة اللغة في الحقول الأخرى فإنها تؤدي الى المنفعة والتداول والفهم.. أما طاقة اللغة الشعرية فمحفوظة داخل الشكل الشعري لاتتبدل ولا تستهلك.
هل يمكننا إذن وفق هذا الفهم أن نعيد تعريف الشعر لغويا فنقول بأنه اللغة عندما تحتفظ بطاقتها وهل يمكننا أن نعرف النثر لغويا فنقول بأنه اللغة عندما تتبدد طاقتها أو تستعمل طاقتها أو تستفيد من اجل شيء معين.
يمكننا أن نمضي في هذا الاستنتاج ونقول أن اللغة في الشعر طاقة غير متحولة في حين تكون اللغة في النثر طاقة متحولة الى نوع آخر فمثلا النثر الخارجي (الموضوعي والعلمي) يحول اللغة الى العمل والأخبار والتحريض والوصف والنثر التعليمي يحول الى معارف ومعلومات وهكذا، أما طاقة الشعر اللغوية فلا تتحول بل تبقي متوهجة داخل ذاتها ولذلك يندرج النثر في التاريخ ويستعصي الشعر علي التاريخ لأنه لا يتعاقب ولا يتحول ولا يستنفذ بل يبقي شيئا وسط الأحداث والخطابات المنوعة التي حوله.
فمثلا تقف قصائد المتنبي واقفة في القرن الرابع الهجري في حين أن سلطات وإعلام وأخبار وقوانين وعادات القرن الرابع الهجري اندرجت في التاريخ.
وتقف قصائد رامبو في القرن التاسع عشر المليء بالأحداث والأخبار تقف نضرة مشعة يتأملها إنسان في نهاية القرن فيجدها طازجة قوية مليئة بالحيوية.
هل يعني هذا أن أية رسالة يكون موضوعها الرسالة نفسها (لاتأخذ موضوعها مما حولها ولا تدل عليه).. هل يعني أنها يجب أن تكون رسالة شعرية بالمعني المتعارف عليه أو لنقل نصوصا شعرية؟
بالتأكيد كلا.. لأننا عندما نتحدث عن وظائف اللغة ونجد أن احدي وظائفها هي الشعرية (لان مضمون الرسالة أو اللغة هو اللغة نفسه وليس ما تدل عليه) فهذا آمر مختلف تماما عن حديثنا عن فن الشعر الذي هو الإجراء الفني وليس غايتها فقط.
ولنقل بصورة أدق أن الشعرية هدف لايتحقق الا بالفن أما الوظيفة الشعرية فأمر يمكن أن نضعه في الغايات أو النوايا الشعرية التي قد تنجح أو لا تنجح في تحقيق ما تذهب إليه.
هذه المقولة تنسف كليا تهم (الذاتية واللغوية والغموض) للشعر وتحلها حلا معقولا لان من طبيعة الرسالة التي تعالج فيها موضوع الرسالة نفسها أن تكون ذاتية لغوية غامضة بعض الشيء.
لابد من إثارة هذا المفهوم لان خلطا كبيرا يحصل دائما بين الوظيفة الشعرية والوظائف الأخرى (الاجتماعية، السياسية، التعليمية، الانفعالية، النفعية.. الخ) التي تندرج ضمن الوظائف الموضوعية الاستهلاكية للغة.
لااقصد هنا مطلقا عدم انفتاح الغاية الشعرية للغة وهي في طريقها الى التحقيق علي هذه الوظائف ولكننا يجب أن نطالب الشعر بأن يخضع لهذه الوظائف فتنحرف الغاية الشعرية وتصبح تابعه لوظيفة اخري.
لانستطيع هنا أن نحسم أمرا ونقول بأن ما يكتب من شعر يجري في هذا المجري ولكن الشاعر وهو يصنع من نفسه شاعرا حارسا لعظمة الشعر ولنقائه وقوته يزداد وعيه الى درجة من هذا النوع لاتسمح له أن يكون تحت مطرقة الغايات الأخرى ثم تابعا ذليلا لها.
إن الشاعر وهو يتقدم الى الغاية الشعرية يحتاج الى بطولة وعي شعري تتماسك وتزداد وتشمخ مع الوقت ويجب قطع الطريق دائما علي تراجعها ومجاملاتها وتهافتها.
غسل الكلمات
المفردة في الشعر القديم مغيبة الهوية تركض باتجاه المعني الذي اقترح لها اعتباطا ذات يوم، تكرس ما خلقت من اجله ولذلك فهي أداة استعمال وأداة توصيل لا أكثر ولا اقل.. المفردة في الشعر القديم لاشخصية لها.. حيث المعني سيد الموقف.
وإذا افترضنا أن اللغة تناظر الحياة في تكوينها وعفويتها وقوانينها الداخلية لأنها تنشأ من نمو الحياة وتطويرها فلماذا لانعد المفردات (الكلمات) هي الكائنات الحية في هذه الحياة وان لكل منها استقلاله وشخصيته فهي مثل أنواع النباتات وأنواع الحيوانات وأنواع الأحياء المجهرية التي نعيشها لها حياة خاصة وخفية لانرى منها في أحيان كثيرة الا ظاهرها وان لها علاقات ببعضها هي علاقات تعايش وتجارب ونقض وبقاء.
في الحياة اليومية الاستهلاكية يمكن أن تعمل اللغة أداة توصيل وتفاهم حيث تضحي الكلمات (الكائنات الحية) بحياتها وشخصيتها ونبضها من اجل أن يتفاهم الإنسان مع الإنسان وان يتواصل هذا التفاهم فهي أي المفردات لا تقبل بمثل هذه التضحية طواعية بل يرغمها الاستهلاك على أن تكون هكذا لكن الأدب هو الذي ينصف هذه الكائنات وعلاقتها ويعيد لها الاعتبار والشعر هو أكثر أجناس الأدب حرصا علي عدم التبديد بالكلمات (المفردات) وبعلاقتها فهو يغسلها من الاستخدام اليومي الروتيني الذي مسخ شخصيتها ودمرها ويعيد لها الاعتبار والقوة.. يضعها في استخدام جديد يوحي أن الحياة (الحياة اللغوية) كلها مجسدة في هذه المفردة ويضعها في علاقة غير عادية.. غير متوقعة يتخذ لها مكانا ويجلسها فيه ولهذا يصبح النص الشعري مدهشا لأنه:
1. أعطى معنى جديدا للمفردة.
2. وضعها في علاقة جديدة. وهكذا تتجدد اللغة مما يسبب في تجدد حياة الإنسان وإنعاشها وتوترها وتطورها.
العلاقات اللغوية القديمة في الشعر والنثر علاقات محددة أو مصنفة بلاغيا حيث لاخروج ولا تدافع ولا تسلح ضد البلاغية بل إجادة وسبك لها، ووضعها في قوالب جامدة.
ويأتي كساد المفردات وعلاقتها في الشعر القديم من صرامة النظام اللغوي والعقلي الذي سجن داخله الروح الإنساني وكبلها وهكذا تأتي الرؤية ضرورة جذرية لتحرير الشعر والعقل من قواهما السلبية هذه الرؤية تتضمن شيئا لاتفصح عنه الحياة العادية الاستهلاكية شيئا خارقا للعادة شيئا استثنائيا ومفاجئا يتضمن بالضرورة وضع المفردات والعلاقات في صيغ جديدة.
لقد تبنت البنيوية دراسة العلاقات بين المفردات بكونها حقيقة اللغة وجوهرها فاللغة في نظرها علاقات وليست مفردات وهكذا اهتمت الدراسات الألسنية الحديثة بالعلاقات اللغوية (الصوتية والصرفية والبلاغية والأسلوبية) وتوصلت الى نتائج في غاية الأهمية في هذا المجال لكنها بالمقابل أهلت وجود الأشياء اللغوية أي المفردات وعدتها مجرد قطع شطرنج يمكن أن تكون خشبا أو حديدا أو عجينا أو طينا لافرق المهم في ذلك هو أن لعبة الشطرنج وبالتالي لعبة اللغة تخوض وفق قوانين داخلية معروفة وقد كشفت عنها حقاً في نظريات متعددة كان أهمها نظرية شومسكي التوليدية التي أعطت تصورا مقنعا عن قوانين اللغة التوليدية والتحويلية.
لكن المفردات ظلت بمنأى عن البحث اللغوي الشامل ثم تخصص به فرع اسمه علم الدلالة.. ولم تتضافر علوم اللغة مع علوم الدلالة لإظهار تصورات مقنعة عن اللغة بصورة عامة واللغة الشعرية بصورة خاصة.
لكن الشاعر وهو يخوض في دراسته كل هذه العلوم لايمكن له أن يتقيد بها بل عليه دائما أن يفهمها ويهضمها ثم يخرج ويجعل من قوانينها الصارمة في حرج دائم.
أن عدم انصياع الشاعر لعلوم اللغة لايعني عدم دراسته وفهمه بل العكس هو الصحيح فالخروج الواعي يتم بعد الدراسة والتقصي الكثير من الشعراء لهم سليقة فطرية للخروج علي القانون وهذا شيء أساسي ومهم ويجب أدامته حتى وهو يخترق ويفهم طبقات المعارف التي تخص اللغة بمعني أن العفوية وعادة الخروج علي السياق يجب أن تنشط أكثر عندما ينتقل الشاعر من مرحلة الأمية الثقافية الى مرحلة التسلح بالمعرفة.. وهذا يفتح أمامنا باب النقاش واسعا وكبيرا.
فإذا كان الشاعر كبير الموهبة قليل الثقافة يحتاج الى قدر معين من العفوية والفطرية .. فان الشاعر كبير الموهبة كبير الثقافة يحتاج الى أضعاف هذا القدر من العفوية والفطرية لأنه مضطر دائما الى تذويب هذه الكتل المعرفية بالكثير من العفوية والخروج الدائم عليها.
وهنا يمكننا أن نحل الأشكال السابق ونقول:
أن الشاعر الجيد المثقف هو أكثر عفوية وفطرة من الشاعر الجيد غير المثقف لأنه تسلح وهو يخترق الثقافة بالكثير من العفوية والفطرية حتى يكون جيدا أو حتى يحافظ علي طراوة موهبته.
وهذا يعني أن الكثير من الشعراء الجيدين غير المثقفين يخافون من المزيد من الثقافة لأنهم يشعرون بان ذلك سيتطلب منهم فطرة أعمق وأخصب مماهم عليه الآن.
وهذا التحليل نفسه يلقي الضوء علي أن الشعراء الجيدين الذين ضعفت مواهبهم الشعرية بعد المزيد من الثقافة هم شعراء يحملون قدرا محدودا من العفوية والفطرة لايتحمل هذا القدر من الثقافة والمعرفة ولذلك تحطمت مواهبهم تحت هذا الثقل.. أنهم لم يقدروا حجم موهبتهم فخسروها ولا أقول كسبوا المعرفة والثقافة لأنها ليست بديلا عن موهبة الشعر التي هي أعظم كنز يعثر عليه الإنسان في حياته ومن المؤسف حقا أن يبددها بهذه الطريقة أو بطرائق اخري كثيرة.
وعودة الى سياق الموضوع نري أن الشاعر الحقيقي هو الذي ينظر الى اللغة (مفردات وعلاقات) بطريقة اخري ولا يهادن في ذلك إذ إن عليه دائما أن يقول كلاما مدهشا جديدا غريبا لم نسمعه من قبل.
الشعر والكلام
إذ عدنا الى تفريق (دي سوسير) الشهير بين اللغة باعتبارها نظاما اجتماعيا والكلام باعتباره إجراء فرديا داخل هذا النظام الاجتماعي فسنجد أن اللغة تسكن وتنطوي علي نفسها في الكتب والقواميس والقواعد اللغوية أما الكلام فيتحرك في الشارع والمعمل والبيت قويا نشطا.
أما الشعر وهو إجراء فردي خاص داخل الكلام (الكلام هنا لايعني اللهجة) فمشكلته تكمن في انه كان جزءا خاصا أو ذاتيا داخل الكلام وهكذا كان الشعر القديم أما الشعر الحديث فقد ظهر بعد أن ظهرت الطباعة التي أشاعت الكتاب والكتابة بين الناس وأصبح بالإمكان قراءة الشعر في كتاب وعدم سماعه وهكذا ظهرت الكتابة التي هيأت لظهور الشعر الحديث وبدأت تفصل الوظيفة السماعية للشعر عن نظامه.
إننا هنا أمام مفارقة جديدة.. الشعر القديم يرتبط بالكلام المحكي أو المسموع ولذلك ينتشر وفق تطابقه مع ذائقة الكلام المحكي في ذلك العصر ويحتجب عندما تختفي هذه الذائقة.. والشعر الحديث يرتبط بالكلام المكتوب الذي يقلل عادة من أهمية تطابقه مع ذائقة الكلام الشائع في عصر معين، انه يحفر في مفصل الكتابة نفسها (اللغة وهي مكتوبة).
ويعد التحول في اعتماد الشعر علي الكتابة أهم التحولات التي أدت فيما بعد الى قلب وظيفة الشعر بكاملها والي تغير إستراتيجي في أهداف الشعر حتى أن الشعر الشعبي هو الذي حافظ علي اتصاله بالكلام للتداول ولم يتصل بالكتابة (من حيث الجوهر) وبذلك أصبح هناك، دون قصد، نوعان من الشعر احدهما يبتكر نفسه ويجددها وينفعل بها من خلال الكتابة والآخر يعوم علي سطوح اللغة أو الكلام بوصفه احد أشكال تمفصلها مع المجتمع.
إن الوظيفة السماعية (الاثارية) الجماعية للشعر القديم أو الشعر الشعبي تختلف كثيرا عن الوظيفة البصرية (العميقة) الفردية للشعر الحديث وبذلك نجد أنفسنا أمام تجنيس جديد يقضي باعتبار احد النمطين شعرا والآخر لاشعر وهنا تكمن خطورة جديدة تشيع أشكال تذوق وتبدل قد يطرح خارج المفهوم الأدبي نفسه في منطقة الصيرورة الانسانية كلها .. أي من الأدب الى الوجود الإنساني ذاته.
لم ينجز الأدب القديم نمطا جذريا ساخنا من الأدب بل عجل في تحولات أسلوبية كثيرة ناتجة في حقيقة الأمر عن الوعي الشقي للكتاب أمام عصور لا تستجيب لتفتح ذواتهم الفائرة العميقة القلقة .. ولم يكن نتاجهم ناتجا عن تبديل البنية الذهنية لهم بحيث تنتج بني أدب جديد.
اللغة أفقية مشتركة بين الناس والأسلوب الكتابي عمودي يمثل داخل الكاتب وأعماقه فاللغة إذن تاريخ علم نازح من الماضي أما الأسلوب الكتابي، الشعري الحديث فقفزة فردية داخل هذا التاريخ العام ومحاولة أو محاولات لزحزحة بنيانه وإنعاش تواتره الرتيب.
التاريخ الأدبي القديم علي هذا الأساس تاريخ بطئ مضجر تتقافز فيه تغيرات غير منهجية في المضامين والأشكال وفي الأجناس الأدبية أما التاريخ الأدبي الحديث فهو متسارع وهو ليس تاريخا تطوريا بل هو تاريخ خلقي ابتكاري لايتناسل وفق السلالة ولذلك تبدو محاولات خلق آباء وأجداد وأصول في الأدب الحديث عملية إسقاط من الأدب القديم.. فالمبتكر في الأدب الحديث فرد لا أب له ولا ابن.. انه صانع وحسب أما منطق السلالات الذي أشاعه الأدب القديم فيبدو انه واحد من معوقات قوة ونهوض وجمال الأدب الحديث.
تنشيط اللغة عن طريق الشعر
بعد أن يجهد البيريس (الناقد الفرنسي) نفسه كثيرا في إيجاد تعريف دقيق للشعر في ضوء خروجه الدائم عبر سياقات وبعد أن يقيم تعارضا حادا بين الشعر الذي هو المخاطرة دائما والنثر الذي هو ما يخاطر ضده دائما..
بعد كل هذا ينتهي الى القول بما يلي (إنما الشعري هو ما لاتستطيع اللغة التعبير عنه، وبذلك يصبح الشعر مخاتلة تمردا، نضالا ضد اللغة).
كيف إذن يمكن التوفيق بين الجملتين التاليتين (الشعر يعبر عنه باللغة) (الشعر هو التمرد ضد اللغة)؟ قد يكون مفهوم الانزياح الذي اقترحه كوهن نوعا من الحل ولكن حله هذا يفترض لغة قياسية (غير موجودة) يتم الانزياح عنها ليتكون الشعر ولان الكلام اليومي الذي نتداوله انزياح عن اللغة القياسية لذلك يمكن القول أن الانزياح يتداخل مع الانزياح الكلامي اليومي الاستهلاكي مما يشوش الصورة نوعا أو يفتح تلاقيا مخصبا بين الشعر كونه صبوة لغوية عالية وكلاما يوميا عاديا.. ولذلك يتراجع حل كوهن لاعتماده المطلق علي الأنساق البلاغية (في القياس والانزياح) وتتقدم أمامنا اقتراحات جديدة لتعريف أو لمحاولة القبض علي تعريف الشعر.
أن المشكلة القديمة البائسة التي تدور حول العلاقة بين الشكل والمضمون لا تشكل سوي محطة صغيرة يمكن أن نقف عندها لنغادر بعيدا فلقد دأبت الدراسات التقليدية للشعر علي ترديد جملة (فقيرة وباهته) تقول بأنه لا يمكن فصل الشكل عن المضمون ثم أن الشعر هو ما يتعادل أو يتوازن فيه الشكل والمضمون وهو حل توفيقي سهل وبارد ولا يحتاج الى عناء والحقيقة هي أن عناصر الشكل معروفة ويمكن أن نحددها ونحدد وظائفها وكذلك يمكن أن نحدد عناصر المضمون ودراستها ولكن النثر والنثر الأدبي علي وجه التحديد هو الذي يفترض توازنا بين الشكل والمضمون أما النثر العلمي فيغلب المضمون علي الشكل لان الشكل أداة لتوصيل المضمون الدقيق لكن الشعر وحده هو الذي يتفرد بارجحية الشكل علي المضمون فالشكل يتقدم المضمون أهمية وبالشكل أولا يمكننا أن نقيس مدي تقدم أو تراجع القصيدة فنيا.أن الشكل هو الذي يحدد المسارات المضمونة للقصيدة وهو سيد الحركة والغاية التي تسعي لها القصيدة فكلها عتلات تجرها حركة الشكل القوية.
إن خلع الطابع الشيئي للشكل الملموس للشكل يحدده أو يقيده بمضمون محدد أما حقيقة الأمر فهي أن الشكل يمثل منهجا نستطيع من خلاله القيام بعملية تمثيل لأي مضمون مهما كان.
تتكون اللغة من عناصر ترتبط بنسق معين يجعل من اللغة شكلا لا جوهرا ولذلك يكون الشعر عملا أو شغلا في هذا النسق أي انه عمل في الصورة لافي الجوهر وهو لذلك شكل في الشكل أو ميتاشكل، وهو غير الشكل اللغوي ولذلك يحق لنا أن نسأل أين ذهب الجوهر إذن أين هو جوهر الشعر وكيف يتحقق؟ إن الجوهر موجود في العناصر لا بعدها لغة بل بوصفها موجودات خارج اللغة (أشياء مدركات..الخ) وهذا يتطابق مع الجوهر الفيزيائي المعروف فأين الجوهر الشعري لا الجوهر الفيزيائي ؟ اعتقد انه في تحقق الموجودات بصورتها الشعرية، ولان هذا يتحقق باحتمال ضعيف وينتمي الى المستحيلات في عمومه لذلك يختبئ الجوهر الشعري في نفوسنا أشبه بالوهم الكامن الجميل الغريب المدهش وهكذا بعد هذه الملاحقة يمكننا أن نقول بان الجوهر الشعري يكمن في الشاعر لا في الواقع ولا في القصيدة وجوهر الشعر هذا بندول يترنح بين الشاعر وبين ما يكتبه أما متى يهدأ فهذا ما يستطيع عليه الموت وحده وأعني موت الشاعر.
لقد قامت الكتابة باختزال اللغة وبقص ترهلاتها واستفاضاتها الشفاهية المعقدة ثم قام الأدب (داخل الكتابة) باختزال النمو السريع والمركب لأنسجة الكتابة وقام الشعر علي وجه التحديد بالدور الأخير وهكذا يبدو لنا الأمر مثل هرم تفرز قاعدته العريضة اتجاها مستدقا نحو القمة والقاعدة العريضة هي اللغة أما القمة فهي الشعر أن الشكل الشعري يتوهج هناك باعتباره كتلة من الرموز والإشارات ويحاول أن يكون (ميتاشكل متعالي) للغة أن تنقية اللغة بهذه الطريقة وإحالتها الى نسيج موسيقي إشاراتي هي محاولة تطهيرية لعقل الإنسان أيضا وضرب من التفتيت الدائم لكل الثوابت البلاغية وغير البلاغية التي تعتمدها اللغة.
إن المحاولات المتكررة من الشعراء الكبار لانجاز مستويات جديدة من الكتابة هي بالتأكيد المحاولات الوحيدة التي تنقذ الشعر من سقوطه المحتمل إذا ما نمط أو ظل محصورا بمستوي واحد لذلك فان القفز بالكتابة من مستوي الى مستوي اعلي لايعني فقط الرقي العقلي والروحي بل هو تشذيب للغة وهكذا يحول الشعر اللغة الى نص مفتوح بل تتحول الآليات الشعرية الى معاول لفتح الثغرات في جدار اللغة لكي تتنفس وتستمر في الحياة.
أن نحت اللغة (عن طريق الشعر) لايعني تقليل المفردات المستعملة في الشعر بل يعني غسيلا دائما للمفردات الثابتة المنهكة الاستعمال ثم يعني نقلا للمفردات المتكررة الى سبل استعمال جديدة وحفزا للمفردات الجديدة للتداخل في اللغة السائدة وهكذا تنفتح اللغة وإذا ما انفتحت فان العقل سيتفتح أيضا وتفتح الحياة كلها، لقد زاد الشعر سعة الحياة مثلما زاد سعة العقل وسعة اللغة وهذه هي وظيفته الأولى بامتياز.
إذا كناقد استبعدنا الواقع أو ذات الشاعر بوصفها مقر تحقيق جوهر الشعر فلابد لنا أن نقول بان القصيدة هي شكل تحقيق هذا الجوهر، هي ظهوره وهكذا تلعب اللغة دورا غير عادي في الشعر فهي ليست مقابلات لفظية لأمور واقعية أو نفسية أو مشاعرية داخل وخارج الشاعر وان اللغة في الشعر ليست دالات لمدلولات نجدها في القاموس أو نجدها في انفعال ومشاعر الشاعر.. أنها هنا بالضبط كيان آخر مستقل، يقول جاكوبسن (ولكن كيف تتجلي الشاعرية؟ إنها تتجلي في كون الكلمة تدرك بوصفها كلمة وليست مجرد بديل عن الشيء المسمي ولا كانبثاق للانفعال وتتجلي في كون الكلمات وتركيبها ودلالتها وشكلها الخارجي والداخلي ليست مجرد إمارات مختلفة عن الواقع بل لها وزنها الخاص وقيمتها الخاصة) أن اللغة أساسا عالم مستقل عن الواقع ولكن اللغة تقيم مع الواقع علاقة نفعية برغماتية كبيرة، أما الشعر فهو لغة مستقلة داخل اللغة ينفصل بخطوة واحدة عن اللغة وبخطوتين عن الواقع ولذلك فان علاقته باللغة والواقع علاقة تضاد وجمال وعدم خضوع.
أن الشعر هو انفراط اللغة والواقع من خيوطهما واشتباك خرزهما من جديد واقتراح انتظام آخر لهما.. لقد اندرج الشعر ضمن معطيات اللغة وأصبح عاديا لأنه لم يضع بينه وبينها مسافة وقد اندرج الشعر ضمن معطيات اللغة لأنه أراد أن ينسخ الواقع فكان جزءاً ميتا منه.
أن الشعر بوصفه منطقة الخطر في الوعي ومنطقة الشرارة في اللغة والواقع يستعيد قوته الآن بطريقة فهم جديد قد تبعده عن ماكنا نسميه شعرا في الماضي حيث الوقت لا يسمح بإعطاء مثل هذه الوظيفة للشعر آنذاك.
أن ما طرحناه هنا لايمثل محاولة عزل الشعر عن الجمالية الواقع أو عن اللغة بل يؤكد علي استقلالية الوظيفة للشعر من ناحية ويحاول أن يقدم خدمة كبيرة للغة والواقع معا لان (تلوثهما) بالشعر سيتيح لهما إمكانية رائعة لنشاط جديد . لحركة مغايرة.. لهزة في خلاياهما ولانبثاقة جديدة لهما يسعي الشعر إذن، في النتيجة، الى تنشيط اللغة والواقع لا الى الانعزال عنهما.
ألف ياء