يشكل الشعر مصدر معرفةٍ باطنية وذوقية وليس من مهماته أن يكون مصدر معرفةٍ مباشرة وتفصيلية وظاهرية، فمع تعدد وسائل الإعلام والمعرفة لا يمكن أن نوكل للشعر مهمة التفصيلات المعرفية والإعلامية. قد يكون الشعر مصدر معرفةٍ بأسلوب العصر وقد يكون مصدر استبطان للروح الكبرى التي تسري في ذلك العصر ولكنه لا يمكن أن يكون مصدراً مباشراً وأساسياً للمعرفة التقليدية.
الشعر أساس المعرفة بتاريخ الروح مع الفن التشكيلي والموسيقي ومع الأديان، فهو يختزن في بصيلاته الداخلية تحشد الروح ووثبتها وجمالها وضعفها وجنونها وبذلك يكون الشعراء سدنة الروح والجمال معبرين عن ذلك باللغة البشرية التي هي مرآة العقل. الشعرُ أساس المعرفة الذوقية أو القلبية التي حاولت الغنوصية بشكل خاص أن تعبر عنها إنطلاقاً من الدين والفلسفة، لكننا نري أن الشعر هو أساس الغنوص وهو الذي يحرره من اتجاهه الصارم الوحيد في الدين والفلسفة، والغنوصية (العرفان) هي مصدر إلهام الأديان الموحدة والفلسفات الخلاصية التي ساهمت في نهضة الحضارة الحديثة.. وسنعمل في بحثنا (الشعر الغنوصي) علي تفصيل هذه النقطة وإثبات الصلة المرجعية للمعرفة بالشعر عن طريق الغنوصية.
هل يشكل الشعريّ مصدر معرفة؟
تكوّن الرؤي والنظريات الشعرية (الشعريّ) مصدراً أساسياً للمعرفة الذوقية والعلمية والمباشرة كونها قوةً شاحنةً متحررة من القوالب الأبستمولوجية، فهي أبستمولوجيا ذوقية غنوصية بالمعني الشعري يمكن لها أن تغسل الترهلات والتكلسات التي تصيب الجسد المعرفي في كلّ حقوله. إن العقل الشعري (الخالص أو العملي) يمكن أن يكون مصدر إلهام للمعرفة وهي تجدد أشكالها وأذواقها وتكوينها لأن السيناريوهات والنظريات والأفكار التي يعلنها لتحريك الثوابت الجامدة في كل حقول المعرفة، وهو ما يجعلنا نشدد علي أن أبستمولوجيا الشعر هي القادرة علي غسل وتحرير العقل البشري من بناه التي تورط بها عبر التاريخ، أي أنها تؤدي دور المحرر من سجون العقل التقليدية والمحرَّض علي تجديد طبقاته وبناه.
أنطولوجيـا الـشعر
إذا كان لابد من شعر جديد فلابد من رؤيا جديدة، لابد من التخلي وبشجاعة عن كل الرؤي السابقة والاستعداد لتقبل رؤي شاملة وجديدة، أي لابد من يأس وألم عميقين، لابد من الرحيل إلي أرض جديدة وبناء بيت شعري جديد والتشبث بتلك الومضات التي تنبض في أنسجته، فهي الوحيدة الكفيلة بإرسال نورٍ مغرٍ يكون قابلاً لفك شفرات هذا الظلام، لابد من الذهاب إلي المنطقة التي يجتمع فيها النقيضان بيسر ودون عناء كما لو أنهما وجهان لعملة واحدة، لابد من تصور أمثل للشعر بعيداً عن الأجناس الأدبية بل وبعيداً عن الفروقات الحادة بين نشاطات الوعي جميعها.
ومن أجل ذلك لابد من رؤيا جديدة للكون (الوجود والانسان واللغة) لأن الرؤيا الجديدة هي التي تخلق الشعر الجديد، فبمجرد أن نغسل ذاكرتنا من الرؤي القديمة (التي تكبل ظهور الشعر الجديد) ونكون علي استعداد لقبول وربما لابتكار رؤي بديلة جديدة، ستبدأ أول خطوة في ظهور الشعر الجديد.. ومع العناء الذي سنحكم فيه نظام الرؤيا هذه ستتضح معالم هذا الشعر، بعد وقت، ومع رسوخ هذا الشعر سنكون مهيأين للدخول في مغامرة التخلي عن هذه الرؤيا التي انتجت أو أسهمت في إنتاج هذا الشعر والاستعداد لقبول رؤيا جديدة أنشط وأشمل وهكذا. والرؤيا الجديدة من وجهة نظرنا ليست رأياً أو تصوراً سريعاً في الوجود والمعرفة بل هي حزمة من البيانات والنظريات المتماسكة التي يعمل الشاعر علي صياغتها من خلال تجربته الابداعية وطريقة فهمه وتلقيه لمعارف عصره، ومهما قدر للشاعر الالتقاء مع مجموعة أو تيار أو جيل شعري في نظرة موحدة للعالم وللشعر فلابد أن تكون نظرة كلّ شاعرٍ علي حدة بما يتوفر لها من تعميق وتخصيب وحيوية أشد تماسكاً وأسبر غوراً لأنها ستتضمن الحوار المتصل للشاعر مع عصره وجيله ووجوده كله، وكلنا يستطيع اكتشاف الطابع التلفيقي في البيانات الجماعية والتي تقتضيها، من وجهة نظرنا ضرورات موضوعية فقط، أما الضرورة الذاتية للشاعر فتكمن حقاً في بيانه الشخصي ولذلك آثرنا أن نقدّم بياناً شخصياً نطرح فيه رؤيتنا، كما البيانات السابقة، التي نعتقد بحدتها والتي نري ضرورتها الملحة في توليد شعر جديد، علي الأقل بالنسبة لنا، وقد تكون عملية كتابة هذا البيان وظهوره جزءاً من المران الشخصي للتثبت من هذه الرؤيا ووضع مستلزمات تماسكاً وصمودها، ومن المؤكد، ان بياناً من هذا النوع سيكون قابلاً للحوار وللنقاش، لأنه مقترح رؤيا، ولأنه زاوية نظر واحدة للحقيقة الشعرية التي تحتمل ما لا نهاية له من زاويا النظر، بعضها كتب وبعضها مازال في نفوس وعقول المبدعين من الشعراء والمثقفين والقراء علي حد سواء. يبقي الشعر لغزاً مستعصياً شريداً بعيداً عن التعريف الدقيق، وتبقي القوي التي يندفع منها أو التي يدفع بها غريبة متبدلة لا يمكن حصرها ووضعها في أطر صارمة ولذلك كان التعامل مع الشعر، ومازال، أمراً يشوبه الكثير من التشويش والارتباك فقد نظرت مختلف المدارس الأدبية والفكرية إلي الشعر نظرتها إلي غيره وفق ما انطوت عليه من مناهج ورؤي، وأتبعت، بالضرورة، حقيقة الشعر إلي هذه المدارس، ولم تنجح في وصفها كما هي.لقد نشأ الشعر، في بدايته، من رحم فنون القول البدائية كالسحر والخرافة والأسطورة، ولم يتطور إلا في مراحل لاحقة عندما ارتبط بالطقس الدرامي ثم انفصل عن الدراما ودخل في الملاحم ثم انفصل عن الملحمة وارتبط بالأدب ومازال.
وهكذا نري الشعر يتقلب في حقول التعبير، ويمكننا إجمالاً النظر إلي هذا التطور علي أنه تطور الروح، الانساني ومحاولته الظهور بشكل أرقي عبر التأريخ. لقد اختلف تاريخ النظر إلي الشعر، أيضاً، حسب العصور التي مرّ بها واختلفت زوايا النظر إليه بشكل حاد بدءاً من النظر إليه علي أنه أرقي أشكال الروح الانساني وحتي عده نوعاً من الهذر وشكلاً من أشكال الخوف والبدائية القابعة في أعماق الانسان. لكننا يجب أن نميز بين نمطين أساسيين في مبحث الشعر يختلفان عن بعضهما في النوع لا في الدرجة، وهما: البحث في ما كان عليه الشعر (الدرس الشعري) وهو تقصي وتحليل المادة الشعرية التي تكونت وأصبحت أنموذجاً لحقيقة الشعر وماهيته، والتي تبحث في ماضي الشعر الذي تكوّن ووصل إلي ما وصل إليه. ويشكّل البحث في ما كان عليه الشعر أكبر المباحث وأغزرها بحكم اعتمادها علي النصوص الشعرية التي ظهرت، ويكاد الدرس الشعري هذا أن يكون هامشاً وتعقيباً وتحليلاً علي المتن الشعري لا يتدخل في النصوص ولا يوجهها، بل يمارس نوعاً من التأطير عليها، وقد كان الشعر يهربُ دائماً من هذه الأطر التي يفرضها الدرس الشعري، ويمكننا تلمس الدرس الشعري في عدة حقول، الحقل الأوسع والأشمل هو حقل العلوم الانسانية الذي يشمل (التأريخ ـ البحث في تاريخ الشعر، النفس ـ البحث في التحليل النفسي للشعر، اللغة ـ البحث في الشعر من خلال الدلالة والبلاغة والأسلوب، الأدب ـ النقد الأدبي والبحث الأدبي) وتكاد العلوم الإنسانية تغطي الجزء الأكبر من مباحث الدرس الشعري.
ثم تأتي الفلسفة التي درست الشعر من خلال علم الجمال والذي يعد غصناً من غصون مبحث الأخلاق في الفلسفة، ثم الدين الذي أعطي مواقف عابرة في ما كان عليه الشعر، ثم العلم في نظرته الضيقة المبتسرة عن الشعر. في هذه الحقول انتشر الدرس الشعري وترعرع وكاد يشكل الرأي العام حول الشعر والذي تتبناه أجيال الدارسين والباحثين والمثقفين والأدباء والكثير من (الشعراء) بل وحتي عامة الناس.
ومعروف أن الدرس الشعري هنا يتناسل وفق آلية شبه حتمية لان الآراء في الشعر والموقف منه تأخذ بعضها من بعض، بل وتعد المواقف السابقة أسسا وأعرافا وقوانين لاسبيل الي خرقها ، وهكذا اصبحت أمامنا مادة ثخينة تستنسخ بعضها وتعطي صورة مشوهة عن حقيقة الشعر. البحث في ما يجب أن يكون عليه الشعر (الرؤيا الشعرية) وهو اقتراح وتشكيل صورة ما للشعر، إنه بناء وجهة نظر عن الصيغة التي يري فيها الشاعر الشعر وتعتمد الرؤيا الشعرية علي ما يختزنه وعي الشاعر من تصورات كبري وشاملة ومعارف وتجارب شخصية تفضي إلي فهم خاص عن الكيفية التي يري بها الشعر، فهي ليست مأخوذة من الماضي الشعري وهي ليست هوامش وتعقيبات علي ما كان عليه الشعر، بل هي رؤيا مقترحة متصورة عن الشعر ويمكن أن تظهر هذه الرؤيا عبر أشكال وصيغ مختلفة مثل البيان الشعري والإنشاء الشعري والنظر الشعري. فالبيان الشعري هو صيغة شاملة تضم داخلها مجاميع من وجهات النظر الشعرية يسودها نوع من الانسجام والايقاع الذي (لابد لكي يكون بيانا مؤثرا) أن يعمل تمفصلا بين مرحلة أداء شعري معينة ومرحلة أخري. أما النظر الشعري فهي الأنظمة النظرية المقترحة التي يراها الشاعر مناسبة لاحتواء الفهم الخاص للشعر. والانشاء الشعري يمثل افقر أشكال الرؤيا الشعرية لأنه ومضات مقترحة وليس أنظمة نظرية ولذلك يظهر بين الحين والاخر علي شكل خواطر واعترافات وحوارات وأمانٍ وغير ذلك. وبذلك تكون الرؤيا الشعرية مكونة من درجات ثلاث هي البيان والنظرية والانشاء. وكلها تأمل في ما يجب أن يكون عليه الشعر من وجهة نظر الشاعر. ومن أجل أن تكون الرؤيا الشعرية جديرة بتمثيل الشعر فأن عليها أن تطرد أو تتحاشي في الأقل النظام الاصطلاحي الفلسفي أو النقدي أو العلمي وتحاول خلق نظامها الاصطلاحي الأكثر حرية والأشد التصاقا بطبيعة الشعر، ولذلك سنعتمد في هذا البيان علي نظام إصطلاحي رؤيوي شعري(عماده الحروف) من أجل أن تتساوق النيات مع الانجاز ومن اجل أن نفك اشتباكاً مربكا طال عهده يخلط بين الدرس الشعري والرؤيا الشعرية وبين نظامين اصطلاحيين يتضمن الأول أنظمة ثانوية عديدة مرّحلة من مناطق أخري ومقسورة بالقوة علي الشعر، بينما يحاول الثاني أن يري الشعر كما هو وينحت من أنساغه نظاما إصطلاحاً خاصاً .
كون الوجود(خرائط الظلام)
في الكون مستويان، الأول عياني ظاهر بيّن نسميه (ع)، والثاني ضمني داخلي دفين سنسميه(ن) ، وهذان المستويان غير مفصولين ميكانيكيا، بل انهما متداخلان ، لكن أحاسيس الانسان وتكوينه البايلوجي مصمم لإدراك المستوي العياني ، أما (ن) فلا يمكن إدراكه بسهولة بل انه يتبدي لنا في ومضات كشفٍ أو تجلٍ، ولكن هذا لايمنعنا من معرفة أغوار النسيج الكوني وبعض صفاته. وبرغم أن الكون يتمدد خارج أية خريطة أو معادلة أو تعريف أو نظريات أو رؤي من لكن هذه الرؤي من جهة اخري تقيم اتصالا غامضا بالطبيعة، إن معالجتنا للكون بطريقة فصل الظواهر وعزلها ثم دراستها جعل من الكون بالنتيجة مجموعة من القطع والظواهر المنفصلة، واختفت تدريجا الوحدة الشمولية التي تعمه وبذلك فسد وعينا العميق له مقابل مجموعة من الفوائد العملية التي حصل عليها الانسان من تجزيئه للظواهر. وطغت العلوم بصورتها المشوهة المبتسرة وكان ذلك مضراً بالحقيقة الكلية أولا ثم بمن يمثل هذه الحقيقة تعبيريا ونعني به الشعر. لقد سقط الشعر ضحية النظرة التجزيئية للظواهر، ولم يعد يغذيه مصل يتدفق من رؤيا شمولية كان يمكن أن تكون سبباً في إنعاشه وظهوره القوي، وهكذا نشأت أنماط شعرية عيانية مبتسرة لا عمق فيها ولا غور، تتناسب مع محدودية إحساس الانسان بالظواهر التي علي السطح ومع التجزيء الذي يعم هذه الظواهر. ومن هنا بالذات.. من هذا الاعتراض الاساسي سنعيد بناء رؤيتنا للكون وللشعر معا وسنري أننا أمام مفارقات يصعب علينا تبني جوانبها الضعيفة والهزيلة لانها ستزيد الأخطاء كل مرة .
يري الشاعر الكون كله علي أنه بحر هائل من الطاقة وما وجودنا المادي فيه سوي نبضة ضئيلة تظهر علي سطح هذا البحر ثم تندمج أو تختفي في هذا البحر لتظهر في ما بعد علي شكل نبضةٍ أخري، إن وجودنا اشبه بالموجة التي تظهر وتختفي في بحر الطاقة الهائل هذا.
ولهذا السبب تنتقل بعض قوانين هذا البحر(ن) الي الموجة من مستواها الضمني إلي المستوي العياني، ونتوهم في هذا الظهور وفي هذه القوانين أشياء وملاحظات لا تمثل حقيقة الكون كله. ان الظاهرة وهي تنتقل هكذا تفقد الكثير من صفاتها الكلية، وتظهر بصفات مغايرة وقد تكون معكوسة يظهر أي شيء أمام عيوننا علي أنه مستقل منفصل عن حركة الكون الكلية، أما حقيقة الامر، فهي أن هذا يحمل معه انعكاسات ومعلومات وخرائط الكون بأكمله، ولذلك يقترب وصفنا لأي شيء في الكون من تحديده علي أنه حزمة من الطبقات أو الكثافات التي تحمل نظاماً رمزياً لكل شيء آخر سواه.
لاتوجد أجزاء منفصلة في الكون لأن كل شيء متداخل مع كلَّ شيء في النظام العميق (ن) حيث الأشياء تلتف حول بعضها وتكون ابعادها هناك متعددة وليست ثلاثية أو رباعية، أي أن المكان والزمان في المستوي الضمني(ن) لايعود كما أدعت الفيزياء الكلاسيكية بثلاثة أبعاد، أو بأربعة أبعاد كما ادعت الفيزياء الحديثة ولكن الاشياء عندما تطفو أو تظهر علي السطح العياني (ع) نتوهم أبعاداً ثلاثية ورباعية لها (تكون العين مستبطنة للنون ومتقدمة ظاهرة بحرف العين).
إن الحركة في المستوي (ن) ليست كما تظهر لنا في المستوي (ع) فهي ليست الارتحال من نقطة لأخري عبر المكان والزمان بل أن حركة الاشياء هناك هي درجات متفاوتة من الكشف موجودة كلها في ذات الوقت، ولذلك فالحركة في الزمن (أ) هي شكل ظهور المادة في الحاضر والحركة في الزمن اللاحق (ب) هي شكل آخر (وليس متتابع) من نفس الحاضر، أي أنه درجة أخري من درجات الكشف، وهذا التقسيم المخطوء يصح علي الاشياء وهي في المستوي العياني، ولكنه من اختراعنا نحن لا كما هو في الحقيق%