خزعل الماجدي
(العراق)

بدر شاكر السيابالشاعر في لحظة التاريخ الحرجة وخدمة التراث تعني قراءته حداثياً.
قد يكون تراث البشرية كله أرضا لحراثة الشاعر أو المبدع بشكل عام، لكن الموروث الخاص المنحدر من الأمة أو الشعب أو الجماعة الخاصة يحتوي على ما يمكن ان يفك شفرة اللاشعور الجمعي المترسبة في قاع الشاعر الذي ينتمي إليها.
وهناك من يرى ان الأخذ بجزء من هذا الموروث المشرق مثلاً هو السبيل الأفضل بينما يرى آخرون ان التراث كله هو مادة خام يمكن للشاعر ان يحرث أو يتنزه فيها.
ومع علمنا بأن كل رأي هو في الأساس منبعث من رؤيا وطريقة في التصور وهو بالتالي يعبر عن منهج معين أو مدرسة معينة مما يدفع الى التفكير بأن هناك من الطرق في الاتصال مع التراث بعدد تلك المناهج المقترحة.
لكن التراث مع ذلك يبقى الباب مفتوحاً لأفضل سبل الاتصال والتفسير والشرح.
إن اللافت للانتباه هو ان اغلب هذه الآراء يقول بالانتقاء أي ان التراث خليط من مادة مشرقة ومادة ومظلمة والانتقاء بحسب هذه الآراء على انتشال المادة المشرقة من هذا التراث والتعامل معها على أنها تشكل قوة الصلة مع حاضرنا أو يجب ان تكون هكذا ! أو انتشال المادة المظلمة من تراثنا وقذفها بعيداً أو التنكر لها أو تسويغها أو إلصاقها بظل الأمم الأخرى علينا.
والحقيقة هي انه لا توجد امة على وجه الأرض تمتلك تراثاً مشرقاً بالكامل بل لابد ان تكون هناك بقع الظلام التي تسببت في حفز النور لكي يشرق أما ان يخرج لنا تراث مشرق أو تراث مظلم بالكامل فهذا ما يجب ان لا نضعه في حسابنا.
لكن السؤال المهم هو هل هذه الأمم تنكرت أو أزالت الجزء المظلم من تراثها وهل برزت قسراً ما يحلو لها وهل تجاهلت الحقيقة واعدته مشرقاً وان هي فعلت ذلك فهل تزور الحقيقة بالطبع لا يمكن ذلك؟ إذا ما بال بعض كتابنا ونقادنا يقولون ويجهدون أنفسهم في طمس معالم الجزء الآخر (الرديء في نظرهم) من التراث؟
وهم بذلك يخفون ويشوهون الحقيقة لان الحقيقة تقول بأن التراث العربي مثلاً يشبه تراثات الأمم الأخرى مر بفترات مظلمة عديدة وعانى أثناءها الكثير وأنتج في تلك الأوقات نمطاً ينسجم من طبيعة الظلام الذي سيطر على تلك الأوقات وربما كان ذلك في هذه السيطرة دافعاً لاكتشاف النور الذي حل محل الظلام.
الانتقاء ليس وسيلة للنهوض بل هو وسيلة للتغاضي وهو وسيلة لاقتطاع الحقيقة الانتقاء ربما يصلح للإعلام والقيم المشرقة أما انه يصلح للفهم والدراسة العميقة وتحديد الطرق الصحيحة للتعامل مع ماضي الأمة فهذا ما نشك فيه.
يمتاز التراث العربي عن غيره من الأمم الأخرى انه التراث الوحيد المكتوب بنفس اللغة التي يتكلمها وارثوه فلا نجد حقيقة الأمر ان هناك امة معاصرة على وجه الأرض تتكلم بلغة تراثها المكتوب قبل نحو 1600 عام غير الأمة العربية، فحتى الأمم الشرقية العريقة مثل الأمة الصينية أو اليابانية أو الهندية لا تتكلم لغة ماضيها كما هي بل أنها لغة معاصرة أخرى تبتعد كثيراً عن اللغة الأم التي عاشت بها في الماضي.
ولذلك نرى ان معالجة التراث العربي تحتاج الى معالجة مختلفة غير تلك التي طرحتها المناهج الغربية أو الشرقية لأنها اعتمدت على تراث قصير العمر قياساً الى التراث العربي.
وحتى إذا تجاوزنا اللغة والكتابة ونظرنا الى الأرض العربية فسنجد بأن تراثها المدون بلغات عدة هو أقدم تراث على وجه الأرض لان الكتابة التي بدأت في سومر في الألف الرابع قبل الميلاد استمرت تشع على الشرق الأدنى أولا ثم العالم كله بعد زمن أطول وقد احتوت هذه الكتابة على علوم وآداب وأساطير المنطقة العربية ولذلك أيضا يكون التراث المدون لشعوب المنطقة العربية قبل سيادة اللغة العربية هو أقدم تراث في شعوب الأرض قاطبة وهو تراث متنوع وثري نسجته شعوب سومر وأكد وبابل وآشور وكنعان ومصر واليمن والجزيرة وشمال أفريقيا وغيرهم.
فهو يسبق تراث الأمم الشرقية ويتفوق عليه في تنوعه وهو يسبق أقدم تراث غربي يمثله الإغريق.
ولذلك يحتاج التراث العربي باللغة العربية أو المكتوب بلغات سبقتها الى منهج يتناسب معه ومع تنوعه وعمره وطبقات نموه وأول ما يرد الى الذهن هو اعتبار ارثنا الحضاري هو كل ما وصل إلينا من الألواح والبرديات والكتب والمعلقات والرسائل والوثائق والمخطوطات أي ان رقعة التراث يجب ان لا تنقسم مزاجياً بل أننا يجب ألا نغامر ونقسم هذا التراث الى قسم جيد وقسم رديء اذ ما هي المقاييس التي سنعتمدها؟
ان هذا التراث هو كل ماسبق انه المداونة الروحية والمادية لشعوب المنطقة العربية منذ أقدم عصورها في فجر التاريخ والى الآن هو كل جيد وغير جيد وهو كل بحر وساقية صغيرة وهو كل ترتيل وكلام يومي وهو بالإيجاز كل ما نطقه الأنبياء وكونه الفلاسفة والشعراء والمتصوفة والمجانين والعشاق والفقهاء والناس انه كل نبع وسهل وواد وكل صحراء وجبل وخرابة واقحوانة وعشبة ونخلة المكتنز انه نفوسنا التي ضمت كل شيء ولا يحق لنا اقتطاع الجيد المليء المكتنز وعده وحده إرثا صحيحاً بل يجب التعامل معه كله على انه ارث صحيح اذ من يقول أننا عندما نحذف الأساطير لأنها(خرافة) والعالم اليوم يجد فيها ثراءاً روحياً وعقلياً كبيراً ومن يقول أننا سنصيب عندما نحذف (السحر) والعالم اليوم يجد فيه علماً ويجد بعضه الآخر انه بواكير علم النفس ويراه الآخر انه نوع من الخارقية فلماذا ننكر على تراثنا انه احتوى على ذلك؟
من يقول أننا نصيب عندما نحذف (الفنون الشعرية غير المعربة) بعدها ترشحت من مراحل تفسخ الشعر أو اللغة الفصحى وبداية ظهور اللهجات والعالم اليوم يجد فيها غنى وثراء شعبياً زاخراً ودالاً على حيوية خاصة وغير ذلك من الأمثلة.
التراث العربي بكامله هو تراثنا ونحن بدراسته وتمحيصه شرط ان لا نقطعه ونأخذ ما يروق لنا هذا المنهج سيكون ترقيعياً وسيظهرنا على غير حقيقتنا فلماذا نستحي من بعض ما أتى من تراثنا والأمم كلها عندها مثله أننا إذا أردنا ان نتعرف على شخصية تراثنا الحقيقية فعلينا ان نعرف كل ما ظهر في ماضينا حتى نستطيع ان ندفع بهذه الشخصية الى المستقبل خالية مما كان يشربها فالمهم ان نتخلص مما نعتقده عيوباً فيها في المستقبل لا في الماضي حيث نذهب نحن اليه قسراً وندفن بعضه ونعتقده عيوباً.
تتحدد طبيعة التراث لا من مكوناته وخفاياه ونصوصه فحسب بل من طبيعة التعامل معه أيضا فليس هناك امة تحتقر نفسها وتنقص من قيمة تراثها لان التراث الهوية الحضارية لأية امة تعيش على وجه الأرض اذ ان في كل طبقات وأنسجة التراث تكمن النقاط التي تحكي ملامح الشخصية الحضارية.
لكن التراث قد يدفن في ماضي أية امة دون ان يلعب دوراً في صياغة حاضرها عندما لا تتوفر طرق وعلاقات صحيحة معه بل انه قد يصبح عبئا على الشعب المعاصر إذا لم تتقن طرق التعامل معه هذه العلاقة بين الحاضر والماضي لا يجيد سبكها وصياغتها سوى المبدعين الذين يتوزعون بين قطاعات مختلفة تشمل الادب والفن والعلم والفكر والعلوم الإنسانية المختلفة.
المبدع الحقيقي يحول التراث الى قطع نار يعيد بها صياغة العالم ويشمل بها حرائق جديدة يضيء لنا الكون والنفس ويستطيع هذا المبدع ان يمس بناره هذه ما تراكم أو كسد أما (المبدع) الرديء فهو يحول التراث الى ماء يطفئ حرارة الحاضر ويجعل من كل شيء غير قابل للاشتغال أو التوقد انه يذهب بمشاعلنا ويغطسها في الماء لكي تنطفئ والتراث منه لأنه هو الذي حدد العلاقة السلبية هذه.
وهكذا بسبب العلاقة قد يتحول التراث الى نار وقد يتحول الى ماء المهم ليس التراث بحد ذاته بل طريقة التعامل معه.
الإبداع حالة متدفقة ومشرقة وطابعها الحقيقي يكمن في الحركة والتجاوز فإذا ما فسد الإبداع نتج السكون والاجترار والإبداع على هكذا شرط من شروط الحياة الحية في داخل الانسان المبدع وفي مجمل الحركة الاجتماعية.
ان الإبداع هو القانون الوحيد الذي لا يناقش على أساس انه سبب رئيس أو ثانوي في خلق الحضارات أو خلق القمم المبدعة العظيمة فهو دائماً السبب الاول لأنه أساس البزوغ وإهماله أساس الانحسار والتردي ان الإبداع يحتاج دائماً الى نفوس عظيمة لان من مميزات النفس العظيمة قدرتها على الارتفاع عما يعلق بجوهر الحياة كل المغربات والشؤون التي تثقل النفس والتحليق ابدأ في فردوس الانجاز الذي خلفته نفوس عظيمة سابقة أما النفوس الصغيرة فهي التي تنحط دائماً الى النسخ والتكرار.
لذلك فأن الإبداع مضاد للتكرار ومضاد لإعادة الصياغة وفي الشعر والأدب بعامة تبدو المسألة اشد ووضوحاً فالأدب الذي ينسخ ويكرر ويعيد البناء هو ميت وليس فيه من الإبداع شيء.
أما الادب الذي يبتكر ويؤسس ويتدفق بألوان فريدة واستثنائية فهو الادب الوحيد الجدير بأن نطلق عليه انه إبداع أصيل.
يلجأ أحيانا الكثير من الأدباء في لحظات امتحان حقيقية لنهوض قادم الى وسيلتين فاشلتين ليسدوا من خلالها عجزاً انطوت نفوسهم عليه.
الوسيلة الاولى هي اللجوء الى الماضي والموت فيه تحت غطاء بعث التراث والعودة الى الأصول لكني اشك في ان النسبة الكبرى من الذين يلجأون الى الماضي يعرفون بقوانين حركة الماضي والحاضر ولا يتفادون السقوط السريع في أحكام فاشلة وميتة ظناً منهم أنهم امتلكوا قوة الأصول وأحاطوا أنفسهم بحصانة قوية.
العودة الى الماضي تحتاج في الوقت نفسه الى قوة تجاوز الماضي فهي بين ان تلامس الماضي وان يقفل قيد الماضي يدك وهي بين ان تلامس وترجع وبين ان تلامس وتتوهم الرجوع.
التراث أعظم قوة بحدين حد الحركة وحد القيد والذي يعرف بدقة كيفية تحول الحرية الى قيد والقيد الى حرية هو المؤهل الوحيد لأنه لا يدخل التراث ويخرج منه بطلاقة أما الذين لايحصلون على شيء والذين ولاينجزون أي شيء من خلال استخدامهم للماضي والتراث فهؤلاء يظلون يتكئون على التراث لسد عجزهم ويظلون يرفعون راية الماضي بطريقة مزايدة أحيانا.
ان خدمة التراث تتجلى في القدرة على الإتيان بالجديد وليس بالإمكانية التقنية في تقليد ونسخ التراث ليس بإعادة بنى التراث وليس بصياغة لغوية تراثية كما يقال ان خدمة التراث تتمثل في خلق تراث جديد للأجيال القادمة تراث يختلف عن الذين سبقه ويمتد معه الى المستقبل الذي له هو إبداع آخر ولكنه متواصل مع أمواج الماضي والحاضر.
الوسيلة الثانية في التعويض عن العجز الإبداعي تكمن في التبني المبالغ فيه للآداب الأجنبية وفي تمثل تياراتها وإعلامها وآخر شؤونها وفي تكريس نمط من الكتابة هي النتيجة ظل لتلك الآداب وصدى لها.
ان النزوع المتطرف للأدب الأجنبي ولتمثله عن نقص خطير في النفس وإحساس دائم بالعجز والاستلاب لان الأدباء الذين يؤمنون بهذا يجدون أنفسهم دائماً في درجات السلم الواطئة ويجدون الآداب الأجنبية في الأعالي أبدا هذا من ناحية إما الناحية الأخرى فأنهم بحكم ذلك مقلدون فهم في الحقيقة تقليديون من الدرجة نفسها التي يدعي بها يتعاملون مع التراث بشكل جامد.
وعلى هذا فقد آلت الأمور الى ان نجد أدبنا العربي المعاصر أسير قوتين قوة تأتي منا الماضي وقوة تأتي من الخارج وفي كلتا الحالتين يكون المأسور ضعيفاً لا شخصية ولا طموح له.
الإبداع الذي هو الحياة هو يحل إشكالنا مع هاتين القوتين الداخلية والخارجية اذ نستطيع به ان نطوع التراث ونمتزج معه بخصوبة وبه نستطيع ان نطوع الآداب الأجنبية ونمتزج معها بخصوبة.
وفي كل ذلك يحتاج الى الموازنة الفريدة والتي هي ليست حالة قلقة وغير مستقرة بل هي ثبات على الابتكار والخلق هذه الموازنة هي الإبداع..الذي هو شعور بالجدة ونفي للتقليد وتطلع متعطش الى المستقبل.
الإبداع حالة من الحرية النادرة التخلص من اسر الماضي والحاضر والداخل والخارج والشروع في دخول المستقبل وابتكار النص الذي لا شبيه له.
الإبداع الأدبي يتحرك في فضاء مفتوح لاحدود له فهو منطقة ابتكارات وعمليات خلق متلاحقة لا سبيل الى وقوفها طالما ظل الروح الإنساني نشطاً متعطشاً الى مستويات أرقى وابعد الإبداع الشعري هو بوصلة هذا الإبداع الأدبي لان الشعر يتضمن كثافة اشد في عملية التعبير بل تكاد الشعرية القفز الى مرحلة المعيار الذي من خلاله يكون النص الأدبي أو لا يكون.والشعر شيء والشاعر شيء آخر.
وعلاقة الشعر بالشاعر علاقة التكامل فمهما كبر الشاعر وأسس وجدد وغير فأنه يظل محدوداً أمام قضيته الكبرى (واعني بها الشعر).فتبدو أوسع من كل ما فعله الشعراء حيث ان كل شاعر ما هو إلا حلقة واحدة من حلقات لا حصر لها (مضت وستأتي) وان انجازها ما هو إلا انجاز محدود في قضية بعيدة الغور في الماضي بعيدة الاحتمالات في المستقبل فإذا اتفقنا على هذا فأننا يمكن ان نقول ان الشاعر(أي شاعر) قابل للتجاوز بل ان شرط الشعر الذي يكتب بعده هو ان يكون متجاوزاً له.
ان النفس البشرية وخلفها الوجود كاملاً مستويات يضرب الانسان أزميله في ترابهما ليكشف عن هذا النسق أو ذاك الاضطراب أو هذا الناموس أو تلك العلة بل ليلتمس هذه الحصاة وتلك الماسة وهذه الموجة وتلك الضفاف.
والشاعر احد مهندسي هذه المهنة العظيمة ولا يستطيع شاعر واحد مهما تيسرت له سبل الكشف ان يكشف كل هذا دفعة واحدة خلال حياة محدودة.
ولذلك تنفتح النفس البشرية وخلفهما الوجود كاملاً في كل عصر على مستويات جديدة وعلى مناطق كانت مجهولة في العصور السابقة بإمكان الشاعر الحاذق والبصير ان يلتقط و يتوغل في هذه المناطق فإذا ما انكشفت وظهرت عليها شمس الشعر فيجب ان لاتتحول هذه المناطق الى ارض ملغومة أو الى تخوم نهائية لأنها محطة وقوف تليها مناطق وغابات مظلمة لابد من الذهاب إليها ويجب ان لاتتحول الى عائق يحجب إمكانية فتح السبل لمناطق أخرى وهكذا ان الشعراء العظام هم الذين يقودون شعوبهم نحو انتصارات كبرى ونحو نور جديد ويظل الشعراء الضعاف والمحاربون الخانعون أسرى الخوف وأسرى نفوسهم المحدودة ولابد ان يكون التمييز بينهم وبين غيرهم صريحاً وواضحاً يميز الشاعر المبدع في لحظة حرجة من تاريخه الإبداعي بين احترامه لسلالة الشعراء الكبار الذين سبقوه وبين ضرورة تجاوزهم ولا يعني هذا الأمر تناقضاً بل هو عين التوافق فالذي يعرف كيف استطاع غيره ان يبني صرحاً كبيراً لابد ان يعرف كيف يبني له صرحاً وهكذا يعمل الشعر السابق على تثقيف وصقل إرادة الشاعر الجديد بحيث يدفعه الى مغامرة أعلى لاتسمح بتحول الشعر وتاريخ الشعر الى ظاهرة اجتماعية صرف كغيرها من ظواهر الاستهلاك فعند ذلك سيتحول الشعر الى ما يشبه المعبد والشعراء الذين فيه الى أصنام يرى فيها الشاعر الضعيف أنها هي الخالقة للإبداع فقط وانه عبد يتمشى قرب أقدامها وهكذا يتحول الاحترام الى تقديس وتنطفئ روح الشاعر الجديد وتختلط عليه الرؤية الصحيحة ويتنهي كل شيء ولذلك لا أتردد وأقول بأن الشاعر الفاشل هو الذي ركع طويلاً أمام نصوص من سبقوه فسلبته هذه النصوص ولذلك فهو في أفضل أحواله مكرر مقلد ناسخ أما الذي يرى في النصوص السابقة قصوراً ونقصاً يحاول ان يسده أو ان يبتكر ما لم تبتكره النصوص السابقة فهذا هو الشاعر الذي يجب ان يكون كذلك إن الذي يعبد نصوصه هو شاعر فاشل أيضا لأنه يقع في حكم أطلقه على غيره ولم يطلقه على نفسه ولا فرق بين نصوص الشاعر ونصوص غيره من الشعراء في هذا الأمر لان الشاعر المبدع هو الذي يبتكر أساليب جديدة حتى آخر يوم من عمره ولا يجوز ان يستريح أو يتراجع أو يتعذر بجمال نصوصه.
المبدع الحقيقي إذا هو الذي يستوعب إبداع السابقين ثم يقوض هذا الإبداع في داخله ليبدأ بتأسيس البراعة على أنقاض ما تقوض وهو يعيش هذه العملية دون ان يشطب على الآخرين ولكنه يمارس فعل الخلق من اجل ان يبتكر لا من اجل ان ينسخ والشاعر الحاذق وذو المهارة العالية في التقاط وتأشير عيوب الآخرين له كل الحق ان يتجاوز هذه العيوب داخل نفسه وهو في هذا يمارس تجديداً وتحديثاً خاصاً به.
ان الشاعر يعيش مرة واحدة فلم يبتكر كونه الخاص ويغادر هذا العالم باحترام فإذا كان يعتقد بأن هذه شاقة وتحتاج الى عمر طويل جداً فعليه ان ينجز ما يعتقده كافياً شرط ان يكون هذا الانجاز له هو لا لغيره أو لا يعتاش على غيره ان صح التعبير وهذا هو اضعف الإيمان.
الجذور اللوغوسية والايروسية والشعبية للشعر العربي الحديث
تمتد أصول السحر العربي الى جذرين كبيرين غائصين في النسيج الحضاري للأقوام السامية التي عاشت في الوطن العربي أول هذين الجذرين خرج من المعبد وشكل قديماً ما يسمى بالأدب الديني الذي أسهم في كتابته وإشاعته رجال الأديان التي سبقت الإسلام وثاني هذين الجذرين خرج من البلاط وشكل قديماً ما يسمى بالأدب الدنيوي الذي أسهم في كتابته وتدوينه أدباء وشعراء خرجوا من بين الناس ودخلوا بلاطات الحكام ولكنهم على أي حال كتبوا أدبا وجدانياً ذاتياً وغنائياً في اغلبه بينما وسمت الموضوعية والميتافيزيقية والحكمة والموعظة الادب الديني الذي خرج من المعبد.

وتبدو لنا هذه الثنائية المعبد /البلاط مرادفة لثنائية الدين /الدنيا ، السماء /الأرض ،وعلى مستوى الكتابة العمق/السطح أو الباطن/الظاهر، ولان الادب الديني والأدب الدنيوي أصبحا على أفواه الناس فيما بعد فقد اختلطت قيم ومواصفات الاثنين ونتج عنهما ما نسميه (الادب الشعبي وهو الصورة الشائعة التداولية لكلاهما وبحكم الوسائل الشفاهية التي تستعمل وتتداول الادب الشعبي فأنه يتعرض الى عمليات قص وإعادة ترتيب وانحرافات وتغير مراكز وتصبح بنيته معرضة للتهشم الى كسر صغيرة أو التضخم بفعل الإضافات الكثيرة (الادب الشعبي) كان المصدر المباشر للشعر العربي الجاهلي أولا ثم الشعر العربي الكلاسيكي كله.
يحفل الجذر الديني للشعر بالقوى الروحية والميتافيزيقية .. والتأملية بينما يحفل الجذر الدنيوي للشعر بالقوى الغنائية الحسية النفعية المباشرة وهو ما أطلقنا عليه في مكان آخر بالمركز اللوغوسي والمركز الايروسي في الشعر اللذين يشكلان من وجهة نظرنا جوهر الشعر.
تتحشد في القطب اللوغوسي روح العالم وعقله ويتسامى الشعر في الأعالي وتسري فيه شحنات لامرئية داخلية تتعدى الأفق الإنساني والروح الإنساني لتشمل روح العالم كله أما القطب الايروسي فتتحشد شحنات مادية ونرى جسد العالم وتفاصيله ويجر هذا القطب تسامي القطب الاول ويجعل منه اكثر واقعية واشد قبولاً واقتراباً من الحاجات الإنسانية.
وهكذا يظهر النسيج الشعري متماوجاً في لوغوس وايروس يختلطان فيه ويتداخلان ولا نستطيع فك اندماجها بسهولة في النص الشعري المتفوق أما النصوص الركيكة فهي أما ايروسية خالصة أو لوغوسية خالصة أو يرتبط فيها الايروس باللوغوس بطريقة مضحكة.
وعودة الى حديثنا بشأن ظهور الشعر العربي القديم من أصلين لوغوسي (ديني) وايروسي(دنيوي) فأننا نرى الشعر العربي في تطوره اللاحق من الادب الشعبي السابق للإسلام يعود ثانية فينقسم في العصور العربية الإسلامية الى قطبين الاول دنيوي (ايروسي) يستحوذ على كل أشكال النظم الشعرية ويعطي القوالب الشكلية الموسيقية الجاهزة لهذه النظم فيجذب غالبية القصائد العربية وبالتالي ما اصطلحنا عليه بـ(الشعر العربي) أما القطب الديني (اللوغوسي) فيستقطب العربي ويعبر من خلاله عن الشحنة الدينية والروحية التي أصبح الإسلام معبراً عنها وبذلك يحقق امتداد التعارض الاول الذي كان بين الدين والشعر فيصبح النثر (الصوفي الاشراقي العرفاني) خزين الروح اللوغوسي العربي الاول بينما يتنحى الشعر النظم باتجاه استقطاب الحياة الدنيوية بكل تفاصيلها.
ان النثر العربي الإسلامي الديني ذي التوتر الشعري والذي تمثله كتابات التوحيدي (الإشارات الإلهية رسالة الغفران) و(الفصول والعاديات) للمعري والنصوص الشطية للمتصوفة (الحلاج، الجنيد، البسطامي ذو النون المصري وغيرهم) والكتابات الدينية النثرية لابن عربي والمسعودي والكتابات الاشراقية اللاحقة منذ السهر وردي والكتابات العرفانية الكثيرة كلها تختزن اللوغوس الشعري وتعبر عن توتره القوي وتصلح فضاءاتها لان تكون الحاضنة الأم الكبرى للروح الشعري العربي الشرقي الذي فقدت القصيدة الشعرية ولم يكن بالإمكان على ما يبدو تمثل الروح الشعرية المرتبطة بها في ذلك الوقت بسبب فقر الآليات الشعرية واقتصارها على الفهم الضيق لمعنى الشعر والقصيدة.
ان الشحنة الدنيوية الايروسية استأثر بالقصيدة الشعرية ساقتها في ما بعد من البلاط الى السوق فنشأت أنماط كثيرة من الشعر الشعبي الذي حطم الهيبة الكلاسيكية للنصوص الدنيوية هذه وجعلها في كسر مغناة ومستعملة ورتب لها بحور خاصة وتنظيمات تتفق مع أشكالها الجديدة.
ويبدو ان الشعر الحديث وجد الأمر أمام مواجهة السلم الموسيقي الصارم للشعر أو النظم العمودي فأخذ على عاتقه في مدة الريادة خصوصاً تنفيذ هذه المهمة لكن المشهد الحقيقي للشعر العربي الحديث لن يكتمل إلا إذا هضم في أعماقه الأقطاب الثلاثة التي تنبض في التراث العربي وهي:
1- القطب اللوغوس ممثلاً بالنثر الديني(الصوفي الاشراقي العرفاني) .
2- القطب الايروسي ممثلاً بالشعر الدنيوي.
3- القطب الشعبي هو خليطهما وناتج تحللهما وتفسخهما.
هذه القوى هي التي ستحدد الوجهة القادمة للشعر العربي الحديث بل ستكون الموجهات الإستراتيجية له مادام الشعر العربي مرتبطاً باللغة العربية فلابد ان يختزل تاريخ تشكل هذه اللغة البلاغي والأسلوبي وتاريخ التشكل هذا لاينفصل مطلقاً عما تحدثنا عنه.
ان الشعر العربي الحديث يخوض اليوم مشكلات اجتماعية وسياسية وحياتية ملحة تفرض عليه أنماط تعبير ورؤى مختلفة لاتشكل إلا الجزء الواعي أو القشرة الواعية للعقل الشعري أما الجزء اللاواعي الغاطس فتعمل الأقطاب الثلاثة التي ذكرناها على إعادة تشكيله دائماً ولاتشكل (قصيدة التفعيلة) أو (قصيدة النثر) إلا انماطاً شكلية موسيقية للدلالة على الشعر العربي الحديث أما حقيقته فأبعد من هذين النمطين وانه لمن الضروري حقاً ان يتخطى الشعر العربي الحديث الإشكالية (التفعيلة،النثر) لينتقل الى آفاقه الرحبة الحقيقية التي تنتظره لان ما ينتظر الشعر العربي بعد تخطيه لهذه الإشكالية هو أعظم واكبر مما واجهه في تاريخه الطويل بأكمله وسينجز هذا الشعر أعظم صيغة وأشكال ظهوره القادمة في نصوص كبرى تستجيب حقاً لإعادة صياغة مكوناته وموجهاته وتعبر بالتالي عن حقيقته وخصوصيته.
الموسيقى والرؤيوي من الموروث الى الشعر
لم يكتسب الشعر العربي (والشعر عموماً) تبدلاً جوهرياً وهو يخرج على النثر بل عنه بفعل توتر موسيقي/عروضي أما التبدل الرؤيوي فلم يحصل إلا مع مجيء ثورة الشعر الحديث وهذا يعني ان الشعر العربي القديم هو نثر فني يتحلى بالموسيقى في اغلبه ويشذ عن ذلك عمالقة الشعر العربي القديم الذين كانوا يبتكرون فضاء بلاغياً وأسلوبيا جديداً تطوف فيه التماعات أرواحهم الفذة لم يكن هذا عاماً أو شائعاً بل كان استثناء مرتبطاً بعلو همة وروح الشاعر أما باقي الشعر العربي فقد ظل يجرجر قيود النثر والموسيقى معه لمسافات طويلة .
ان التوتر الموسيقي /العروضي الذي دخل الى النثر حول النثر الى نظم وتراتبت في أفق الشعر منظومات كثيرة خنقت (الروح الشعري) الذي كان يرف تحتها ويحاول الظهور لكنه كان يمس بحرارة بعض النفوس العظيمة المتطلعة الى الأعالي فتقدح شعراً مذهلاً بالرغم من القيد الذي تعمل تحته.
لقد كان مصدر الموسيقى العروضية هو الغناء فهو الذي يجمع الكلمة والنغم معاً وكذلك الشعر فقد جمعها التطريب الغنائي بل اكتفى بالتلاوة أو الإنشاد كما كان يسمى وهذا يعني ان الحاجة الى الموسيقى في الشعر لم تكن حاجة صميمية بل كانت لإغراض الأداء والحصر وترتيب الشكل ولتميز الشعر عن النثر.
لكن الغريب في الأمر هو ان الموسيقى الشعرية للشعر السامي القديم (البابلي، المصري، الكنعاني، الاارامي، اليمني) كانت محدودة لاتتعدى البحر أو البحرين وهي من موسيقى أو أوزان نبرية بسيطة تشبه الأوزان الأوربية المعاصرة فما الذي حصل بالضبط واكتسب فيما بعد الشعر العربي قبل الإسلام هذا الكم الزاخر من البحور والموسيقى العروضية المساحة؟
هذا السؤال يحيلنا بالــتأكيد الى المساحة التاريخية التي فصلت حضارات الأقوام السامية القديمة عن الحضارة العربية الإسلامية.
ما الذي حصل بين سقوط بابل ومصر في القرن السادس قبل الميلاد وبدايات ظهور الإسلام في القرن الخامس بعد الميلاد؟ أي ماذا حصل للشعر العربي خلال ألف سنة فصلت بين الشعر السامي والشعر العربي فتحول الشعر السامي من بحوره النبرية المحدودة الى الشعر العربي الزاخر بأكثر من ستة عشر بحراً منوعاً يحتمل الإضافات والفروع؟
اعتقد أننا يجب ان لا نكل ولا نمل من البحث في هذه المدة الغامضة التي مازال تاريخها غير واضح بشكل دقيق وتفصيلي إلا في العموميات المعروفة ولاشك في ان غياب التفاصيل وغياب الآثار والمدونات في مثل هذه المدة يحجب عنا حقيقة الموقف لكننا إجمالا يمكن ان نستقرئ بعض جوانب هذه المدة في ما يخص الشعر..
تملاً هذه المدة مجموعة كبيرة من اللهجات السامية التي كانت تتحول الى لهجات اصغر هي لهجات القبائل والمدن وهذا يعني ان اللغة كانت آنذاك تتعرض الى عمليات تفكك وإعادة بناء متصلة أو عمليات انقراض ونمو متواترة وقد انعكس كل هذا الشعر وعلى طريقة أدائه الموسيقية فظهرت إيقاعات مختلفة توافقت مع هذه العمليات المتصلة هذا من ناحية أما من الناحية الأخرى فأن الشعر من المعبد والبلاط الى الناس بحكم غياب مراكز القوى الدينية والسلطوية كما كانت عليه سابقاً واندماج هذا الشعر وهو على أفواه الناس بحاجاتهم اليومية واستعمالاتهم المتعددة خارج سياقات نموه المعروفة الذي جعله يتخصب موسيقياً فحياة الأسواق والبيوت والأعراس والندب والحروب والمسرات هي التي جعلت من هذا الشعر يمتلئ باحتمالات عروضية كثيرة والذي يتأمل في الدائرة العروضية للشعر العربي يجد ان تدرجها الى أوزان مختلفة لا يتعدى حذف وإضافة المتحرك والساكن وهذا ما يتفق معه تفسيرنا في ان هذه الدائرة العروضية هي في حقيقتها دائرة واستعمالات مختلفة استعمالات اجتماعية وفردية واحتمالات رياضية يزاد عليها أو ينقص منها ولذلك فهي تغطي كل درجات الدائرة وهو ما يفسر وجود البحور المهملة والمختلفة لأنها احتمال رياضي أما البحور المستعملة فهي استعمال اجتماعي إضافة الى ان هذه الدائرة العروضية تخفي خلفها إيقاع الكون كله بل إيقاع الحياة والموت معاً.
هذا الفهم يؤيد ما ذهبنا اليه من ان الغنى الموسيقي الذي اكتنز به معه الأيام الشعر السامي ظهر الشعر السامي ظهر بقوة في القرون القليلة التي سبقت الإسلام في الشعر العربي زاخراً بهذه الغلالة الموسيقية الكبيرة أي ان سبب ظهور هذه البحور الكثيرة هو ان الشعر السامي تحول الى شعر شعبي عربي ضج بالبحور الجديدة حتى اشتق من هذا الشعر الشعبي من خلال سيادة لهجة قريش التي أصبحت نموذج اللغة العربية قبل الإسلام بسبب التجارة ثم أصبحت قياس اللغة العربية بعد الإسلام بسبب القران فحملت معها تنوع الشعر الشعبي موسيقياً وظهرت به كما هو معروف.
ومما يؤيد هذا ان اللغة العربية عندما تفسخت الى لهجات بعد الوهن الذي أصاب الدولة العربية الإسلامية واستمر هذا التفسخ لنحو إلف سنة أيضا ظهرت ألوان موسيقية وعروضية جديدة كثيرة في ما نصطلح عليه ألان بالشعر الشعبي وفي بقاع الوطن العربي وقد أحصى احد الباحثين ذلك فوجد أنها اكثر من (500) احتمال عروضي شعبي وهكذا نعيد السؤال كيف تحولت البحور الـ(16) الى (500) بحر إنما في هذه الحادثة مايفسر الحادثة المتشابهة لها قبل الجاهلية.

ألف ياء - الزمان - 25/08/2004


إقرأ أيضاً: