عندما بلغني نعيُ هنري ميشونيك عن طريق زوجته ريجين بليج، في يوم 9 آذار (مارس)، الموالي لوفاته، وهو في السادسة والسبعين من العمر، انتابتني حالة من الكآبة. لم أكن أفقت بعد من صدمة رحيل عبد الكبير الخطيبي. هنري ميشونيك يرحل هو الآخر. وأمامي صور وأصوات أصدقاء كبار فقدتُهم. فقدانهم شخصيٌّ بقدر ما هو يمس عائلة الثقافة الحديثة، هنا وهناك في العالم. وفي الفقدان ما يتراءى من بعيد. أزمنة الثقافة وقيمُها. مغامراتُ الكتابة والفكر. ارتجاجاتُ الواقع في الكتابة والأعمال الفنية. لا تملك الصورة غيرَ أن تتسع. ولا تعرف أين يمكن أن تنتهي. هي تتوالى في الاتساع. ومن جهتي، عينان تنظران إلى ما كانَ لهذه النخبة الفريدة من فعْل حقيقي في الحياة الثقافية.
عندما تعرفتُ على الأعمال الأولى لهنري ميشونيك، ثم تعرفت عليه شخصياً، تغيرت أشياءُ كثيرة في فهمي للشعر والشعرية، على السواء. هل هناك في الحياة شيءٌ غير الصدفة؟ بهذه الصدفة كنت عثرتُ على كتابه الأول 'دفاعاً عن الشعرية'، الصادر عن غاليمار سنة 1970، وأنا أستقصي الكتب المعروضة في قسم الشعر في مكتبة 'كومباني' جنب الكوليج دو فرانس بباريس. ثم بعد مدة قليلة عثرتُ على كتابه 'نقد الإيقاع' في بيت الصديق شوقي عبد الأمير، الذي كان من أصدقاء ميشونيك. كنت انتهيتُ من عملي الجامعي الأول عن الشعر المغربي المعاصر. وما زلت أذكر درجة القلق العليا التي كانت تصاحبني بعد هذا العمل. أسئلتي كانت كثيرة. وفي نفسي ضيق. ثمة ما لا أستوعبُ بعد، أوْ ما لا أطمئن إليه. رحلاتي الدائمة إلى باريس كانتْ تساعدني في الاقتراب من حركة الأفكار ومن مغامرات الشعر والفنون. لستُ أدري ما الذي كنت سأكون عليه من دون تلك الرحلات التي لم تتوقف لسنوات. المكتبات. لقاء الأصدقاء. معارف جديدة. زيارات المتاحف والمؤسسات الفنية. مشاركة في قراءات وندوات. في غمرة الرحيل نحو التعلّم، جاء اللقاء مع ميشونيك حاسماً وفاتناً. مثلما هو اللقاء مع كُتاب أفتخر بكونهم أساتذتي، علموني ما لم أكن أعلم. لا أنساهم ولا أخونهم.
الشيء الذي كان همّني في أعمال ميشونيك هو مقاربتُه النقدية للتصورات السائدة في العصر الحديث عن الشعرية، ثم نقده للسيميائيات في تصورها للشعر. أقصد بداية الثمانينيات. أظنها الفترة التي كانت الدراسات الشعرية والسيميائية والبلاغية فيها تتجاوب مع ما كانت الحياة الثقافية الفرنسية والأروبية تعرفه بقوة في الفلسفة والتحليل النفسي واللسانيات. ميشونيك كان أستاذ اللسانيات. وهو شاعرٌ خاص جداً.
شيئاً فشيئاً كان ميشونيك يضيف مجالات جديدة إلى مجال قراءاته النقدية للنظرية الشعرية، منذ أرسطو حتى زمنه. وهو برأيي أهم شاعر أوروبي بعد ياكبسون في الدراسات النظرية الشعرية. عمله، الذي كان يتنامى بقوة عبر السنوات، كنت أجده متشعباً وحاضراً في خطابات. ولكنه، في الوقت نفسه، يملك من المعرفة ما يسمحُ له بالانتقال السريع والمفاجئ من ثقافة غربية إلى ثقافات شرقية (ومنها العربية) بطريقة تحسّ معها أنك في مكتبة ذات أجنحة متداخلة، رغم التباعد الحاصل بينها. مكتبة تعيد قراءة مكتبات عديدة تراكمت عبر التاريخ والحضارات. وهي كلها تسير نحو هدف واحد، هو النظرية النقدية للشعرية في زمننا الحديث.
منطلق هنري ميشونيك ربما يبدو صعباً، في البداية. وهذا شأن كل معرفة جديدة وعميقة. لكن البحث في النواة يدلنا على الأبواب المؤدية إلى مرتكزات وجهة نظره. إنها الانتقال من شعرية الاستعارة إلى شعرية الإيقاع. أي الانتقال من شعرية أرسطو في تجلياتها القديمة والحديثة إلى منظور متخلف تماماً هو عكس ما تستند إليه الشعرية الأرسطية، وصيغتها الحديثة لدى ياكبسون. وحتى معنى الإيقاع لديه يخضع للنقد. نقطتان تنطلقان نحو قضايا مركزية في مشروع ميشونيك لم يكن من السهل عليّ استيعابها. لكنني كنت مهيأ لذلك. معرفتي بلسانيات دوسوسير، وأعمال ياكبسون والشكلانيين الروس، ثم جان كوهين في فرنسا، أو بكتابات نظرية لشعراء حديثين، جعلتني أتتبع ما الذي يعنيه مشروعه النقدي. النظريات وأدواتها.
أحياناً كنت أتوقف وأتساءل: ما الذي يمكن لشاعر أن يفيده من قراءة كلّ هذه النظريات والوقوف على تدقيقات صارمة ومضنية؟ تساؤلي كان نتيجة الضغط الذي كنتُ أشعر به من الثقافة الشعرية المنتشرة في العالم العربي. نعم، كان التعليم الجامعي يفرض علي هو الآخر أن أتعلم هذه النظريات، بل وكنتُ آنذاك أشتغل على عملي الجامعي الجديد عن الشعر العربي الحديث. لكنني لم أتعامل في يوم ما مع الشعر منفصلاً عن نظرياته، ولا مع كتاباتي الشعرية بانفصال عن البحث في المسألة الشعرية. تلك إحدى خصائص الكتابة. وأظن أن البحثَ الجامعي ألزمني بقراءة أعمال ليست دائماً من اهتمام الشعراء. وتلك النظرية النقدية هي من بين ما أضاء لي إعادة قراءة كل منَ الشعر العربي الحديث ونظريات الشعر عند العرب. وهي التي شجعتني، لاحقا، على أن أفكر في قضايا مختلفة عن تلك التي انشغل بها ميشونيك.
لست أدري ما الذي فعلتُ حقاً. لكن ما يرسُخ في ذهني هو أن أعمال ميشونيك، ثم علاقتي معه التي تحولت مع الأيام إلى صداقة، أدخلتني في صلب قضايا حديثة ومتجددة في آن. فإذا كانت أعماله الأولى دلّـتني على كيف أعيد قراءة الشعرية، فهي، في الوقت نفسه، قادتني نحو الوجه الآخر لهيدغر، القارئ للشعر، وفي مقدمته شعر هلدرلين. ما الفرق بين القراءتين الشعرية والفلسفية للشعر؟ سؤال كهذا لم يكن ليتبلور على نحو جديد في غياب نظرية ميشونيك. لكن ميشونيك كان نقدياً تجاه الثقافة الفرنسية في زمنه، أيضاً. فهو كان يلحّ على الصلة بين الشعر والحياة. هذه الصلة التي أصبحت مفتقدة في البنيوية إجمالاً. وكان من أبرز معالمها عودته إلى فيكتور هيغو وتقديمه بوعي مختلف تماماً عن القراءة التي كانت تجعل منه شاعراً ينتسب إلى الماضي. أتى ميشونيك ليجعلَ من هيغو شاعرَ المستقبل. وفي كل ذلك ما يفيد معنى النظرية النقدية ومعنى الثقافة الحديثة في الغرب.
كان من أجمل ما أهداني إياه كتيبٌ أصدره سنة 2006 بعنــــوان كنتُ احتـرتُ في كيفية ترجمته، بسبب طبيعة تركيبه، الذي يصعب العثورُ على مطابق له في العربية. لأقل (مؤقتاً) إنه 'الحياة القصيدة'.
كتابة شعرية مكثفة تلخّص حياة ميشونيك والعلاقة التي أنشأها بين ممارستيه، الشعرية والنظرية. كتيبٌ كنتُ قرأته في مطار روما، وأنا أتأمل حركة المسافرين.
قرأته كرحلة في حياة ميشونيك وكرحلة في حياة الشعر ونظريته. أعودُ وأتذكر. ثمة ما كان يربطني بهذا الشاعر الإنسان، الذي وهب حياته لمقاومة لم تعرف الكلل. من أجل الشعر ومن أجل الحياة.
القدس العربي
21/04/2009