محمد بنيس

محمد بنيسأصبحنا، أكثر مما مضى، ننتبهُ إلى حياة الكتاب في فضاء الثقافة العربية الحديثة. لا حيلة لكل متتبع لملاحظة ما يحدث للكتاب. حياته أصبحت شيئاً فشيئاً تقصُر. وربما كنا، في غمرة فرحنا بصدور بعض العناوين المفيدة أو المثيرة، نتلكأ في إلقاء نظرة أشمل على الكتاب العربي، اليوم. ندخل إلى مكتبة فلا نجُول في أروقتها كما ينبغي للقارئ المتمرس أن يفعل وهو يزور مكتبة. عدمُ انتباه، أو هيَ السرعة التي تفرض علينا عدم إضاعة الوقت.

أتحدث، بطبيعة الحال، عن القارئ الذي لا يَزال يقرأ الكتاب الورقيّ، حسب ما أصبح عليه الاصطلاحُ اليوم، بعد انتشار وسيلة النشر الإلكترونية. كتاب يبدو بعيداً عن العديد من القراء، الذين يواظبون على مراجعة المواقع الإلكترونية. ولا أعرف بالضبط ما الذي عليه واقعُ قراءة هذه المواقع. فنحن لا نتوفر حتى الآن على دراسات موثقة، باستثناء أرقام الزيارات التي تعلن عنها بعض المواقع أو التعليقات التي نجدها على هامش مقالات ومواد ثقافية.

أهتمّ بالكتاب الورقي، هنا. اهتمامي لا يعود إلى صنف من الحنين. أفضل، بدلاً من ذلك، أن أتأمل شيئا آخر. حياة الكتاب. وما يحرضني على التأمل هو ما أصبحت أخافه في المكتبات. وهي ظاهرة عالمية، لكنها تحمل، في العالم العربي، دلالات أوسع ممّا لها في الغرب وبلاد آسيوية. كان عمر الكتاب، في بداية القرن الماضي، يبلغ في بلادنا العربية سنّ الشيخوخة، ولكن الكتاب لم يكن يشيـخ. يزداد عمره طولاً، في تعدد الطبعات، وفي اهتمام القراء والباحثين والنقاد. بهذا قرأنا كتباً عربية قديمة أو حديثة، وقرأنا كتباً مترجمة إلى العربية.

نحن اليوم نفترض أن العالم العربي اتسعت قاعدة المتعلمين فيه، وازدادت أعداد بنياته الثقافية والعلمية، من مكتبات عمومية ومؤسسات تعليمية، بتصنيفات شتى. لكن ما الذي يحدث؟ عندما زرتُ مؤخراً مجموعة من المكتبات في الدار البيضاء، بحثاً عن الجديد والقديم في آن، وجدت نفسي أصطدم بأجوبة مكتبيـين. هناك التأسف والحسرة. أو هناك الحيرة. مكتبيون يصرحون بأن الكتاب الحديث غير مطلوب، وخاصة منه البحوث والدراسات الفكرية والأدبية، بالعربية أو مترجماً إليها. ما يقبل عليه القليل من القراء ينحصر في أعمال إبداعية، وبخاصة الرواية. ولذا فالمكتبيون لا يتكتمون. يصرحون بهذه الملاحظة، التي تطغى على تعاملهم مع الكتاب كما مع القراء.

مكتبيون آخرون يحتارون في تعليل سبب توقف ناشرين عن تزويد السوق بالكتب القديمة في مجال النقد والأدب واللغة. ما يكثر طبعه وترويجه اليوم هو المؤلفات الدينية، يقولون لي. مؤلفات من عدة مجلدات. والطبعات متنوعة وتتنافس في استمالة قراء يحرصون على الكتب المجلدة، المذهبة، وذات الألوان الجذابة. تلك هي الكتب التي يتخطفها قراء من أعمار مختلفة، ومن طبقات اجتماعية متباينة.

ولا تسأل عن الكتب التي كانت لنا منذ نصف قرن، في الثقافة العامة كما في الأدب. بعد السؤال الأول والثاني، لا يبقى سوى الخجل. أخجلُ من طلب ما لم يعد مطلوباً، في سوق كتاب عربي. وبدلاً من الاستمرار في السؤال والإلحاح، أتوجه إلى رفوف الكتب وأجنحة المكتبة. أراجع العناوين، واحداً واحداً، لعلي أعثر على ما بإمكاني العودة إليه بعد أن كان فاتني الحصول عليه من قبل، عندما صدر في طبعته الأولى أو التالية. وأبحث بتؤدة. أحب البحث عن الكتب. في كل مكان، حيث توجد مكتبة يمكن أن أفهم معنى عناوين الكتب وأسماء المؤلفين، أقضي وقتاً طويلاً. أتفحص الكتاب باليدين. أقلّب الأرواق. أنظر إلى الخطوط والتصفيف وتوزيع الصفحات. أقرأ. وأقرأ. أتلذذ بأناقة الطبع، بتصميم الغلاف، بمكانة المؤلف. تلك الكتب أخذتني، بعيداً عن عالم المشتريات العادية، أو عن عالم المتجولين في الأسواق أو الملازمين للمقاهي.

ما معنى أن تكون حياة الكتاب، في عالمنا العربي، معرضة لتناقص متسارع؟ هذا هو السؤال. أقصد: هل دلالة هذا المعطى محصورةٌ في الكتاب، ككتاب، أم هي تمتد إلى وضع أشمل؟ لا شك أن المقروء الورقي يتعرض للاضمحلال، هناك وهنا، بوتيرة مفاجئة. لا تغيب عنّا قراءة أخبار الصحف الورقية في أمريكا وأوروبا وآسيا وهي تعلن، منذ سنوات، عن تاريخ قريب لتوقفها عن الصدور في شكلها الورقي وانتقال الإصدار إلى الشكل الإلكتروني. والكتب بدورها تسير في هذا الاتجاه. مع ذلك فإن الكتاب لا يزال حاضراً في الغرب، على الأقل. ناشرو الكتاب وقراؤه والمؤسسات المعتنية به. ذلك هو التاريخ الثقافي الحديث. ثم يصعب أن تبحث عن كتاب ولا تعثر عليه. آلاف الشركات تقوم ببيع الكتب الجديدة والمستعملة. والمكتبات العمومية والجامعية توفر لك هذه الكتب، مهما اشتدت صعوبة الحصول على الكتاب في المكتبات، أو في المحلات المختصة.

هذا ما يعنيني. عندما نجد حياة الكتاب في عالمنا العربي تتقلص، وعندما نبحث عن الكتاب المطبوع في العقود الأخيرة ولا نعثر عليه، فمن الصعب تخيل أن ثقافتنا يمكن أن تكون في منأى عن الانهيار، بين عشية وضحاها. وحتى إذا بادرت جهات ثقافية أو تجارية بالنشر الإلكتروني لهذه الكتب فمن المستحيل أن نعطي الكتاب ما أصبح يفتقده، أي حياة طويلة وكريمة في آن، تحترمه، تحترم مؤلفه وتوفر له قارئه في الحياة التعليمية والثقافية كما في الحياة العامة.

أحس بالكتاب الحديث في العربية يهْرب من بين يدي. أحسه منسياً في مخابئ تنخره الرطوبة وتخرمه الحشرات. ثقافة مضادة للثقافة والحرية، ومعرفة مضادة للمعرفة والمغامرة. أليس هذا خبر ما تؤول إليه حياة الكتاب؟

القدس العربي
26 مايو 2009