محمد بنيس
(المغرب)

دُخَـان

محمد بنيسفي الفخّارين (أقصدُ فاسَ) شيءٌ مَا يبدَأُ
سفْحٌ علَى طريق الشرقِ
ينْبـثقُ
الدّخَانُ وهْـوَ يُلطّخُ السّماءَ
بالغسْـلينِ هُنا
جَزيرةٌ
لا تعْرفُ هلْ
صُورَتُهَا في دَاخلكَ
أوْ
خَارِجكَ

جهْلٌ يتكـثّرُ
كما لوْ لَمْ يكُنْ قطّ أجْلسَكَ عندَ عَتبَـتهِ

عَلى طريقِ الشرْقِ (مَا معْنَى الشرْقِ؟)
تنظُرُ إلى الدّخَانِ
منْ
بعيدٍ كتلةٌ
ثابتةٌ تقـتلعُ أفُـقاً
منْ جذُورهِ

تتدفق المقابرُ نحْوَ الطريقِ
ثمّ العينُ
تبحثُ عن حدَقةٍ أوْسعَ
عنْ أزرَقَ
في جزيرةٍ كبُرتْ مساحتُهَا بأمْرٍ مَا
تعْجزُ عن مُلاحظتهِ
منْ دونِ جدْوَى

دُخَانٌ كيْفَ لي أنْ
أقيسَ
مَا جئتُ إليْهِ
بياضُ المقابرِ عنْدَ أقدامِ
شـوْقٍ لا يكُفُّ عنِ التـردُّدِ
كُنْ منْ أزرَقِ
إلَى أزرَقٍ

رميةُ العـيْنِ تُهْدي لكَ المجْهُولْ

مَا تــرَاه

هُنا أتْركُ العيْنَ
تَسْرحُ
بيْنَ قطعِ منَ
الطّينِ أشَكالُهَا تتكَرّرُ يوْماً
بعْدَ يوْمْ

ألْواحٌ

طينٌ يتخمّرُ
تلكَ أجْفانٌ لمَا سيَصيرُ تحْتَ بصَرِ
الفخّاريِّ
قوْساً يكْتملُ ثمّ يبدَأُ
دائماً

ذاكرَةُ الشّرْقِ مُهـدّدَةٌ علَى
مُسْتقـبَلِ الأشْكَالْ

صفوفٌ منَ الرّماديِّ
لوْنٌ
سيكْسُوهَا بعْدَ أيّامٍ بالصّفَاءِ

علَى اللّسانِ
مَديحٌ لأهْلِ المَكانْ

قُـــبَالتَك

ضَعْ جسَدَكَ قُرْبَهُ
تنفّسْ عميقاً
حتّى لا يبْقَى منكَ غيرُ الصّمْتِ

هَا هُوَ الفخّاريُّ بانتظامٍ
يُحرّكُ القدمَ
كيِْ يدُورَ سطْحُ آلةٍ
خشبيّةٍ
ورثَهَا عنْ أجْدادٍ لا تُغادرُ وجوهُهمُ المكانْ

قطْعةٌ من الطّينِ
تنْفرجُ
شيْئاُ فشيْئاً تسْتوي
فوْقَ أسْطوانةٍ بحَركةِ اليديْنِ

دائرةُ الغمُوضِ تنمُو
دورةً بعْدَ دوْرةٍ
إنّكَ في حضْرةِ السُّـرورِ
تَشْرَبُ منْ مَنبَـع مَا يُحـرّكُ أعْضَاءَكَ

دوْرةُ اللاّنهَايةْ بطيئةٌ
منذُ مرّاتٍ عاجزٌ أنَا
عنْ عدّهَا

أنظرُ إليْهِ صانعاً شـكْلاً
منْ هُنَا وليْسَ منْ هُنا

جَسدي غُبارٌ
ذرّاتُهُ
تنْقسمُ إلى نعَمٍ ولاَ
وأنَا أسْألُ
هلْ
غبتُ عنْهْ

***

سَاحِـــــر

ثمّ النّارُ في فُـرْنٍ لأجْلِ مَا أنشأتْ حركةُ اليدَيْـنِ منْ مُربّعاتٍ ومنْ أشْكالِ آنـيةٍ هُنا الفخّارُ يَنْضجُ عساليـجٌ لهَذا اللّهبِ تزْدادُ ارْتفاعاً في دُوَار الفُـرْنِ يقفُ عاملٌ يُروّضُ النّيرانَ ساحرُ انْبثـاقاتٍ سريعةٍ حتّى يتلهّـبَ الفخّارُ في لمْحٍ منَ البصَرِ يُفْـرغُ النّارَ في غوْرٍ كأنّمَا رعْـدٌ تهيّأ منْ جبالٍ تُحيطُ بالمدينـةِ يَأتي

***

بيْنَ الظَّهْــرِ والوَجْــــه

يترنّمُ الزّوَّاقُ
بأقْوالٍ يتعذّرُ سمْعُهَا

بيْنَ الأصَابعِ فُرشاةٌ منْقوعَةٌ
في مَحْلولٍ منَ المعَادنِ
ماءٌ
لا يَبينُ اللّوْنُ
زُخْرفٌ
تُراقبُ كيْفَ يدٌ توزّعُ بانْتباهٍ
أضْلاعَ شكْلٍ هَندَسيٍّ
يعُودُ قاعدةُ
الزّوايَا تضْبطُ
مَا تسيرُ نحْوَهُ يدُ الزّوَّاقِ

نشْوةُ التّناسُبِ
لحْنٌ لا تُغادرُهُ الأصابعُ رقّةُ
الفُرشَاةْ
تَتبعُ ما يُحيطُ بهِ الوَفَاءْ

سيَبْدُو الوجْهُ مرآةً
لشيْءٍ لا نراهُ
شكْلٌ
بيْنَ الظّهْرِ والوَجْهِ
امْتلاءٌ
يَضمُّ الفراغَ تحْتَ إبطيْهِ
فراغٌ
يكْتبُ اللاّمعْنَى

*****

جسَـــد

ذاكَ مَا يظلُّ مجْهُولاً
ماءٌ
علَى بشَرةِ آنيةٍ
أوْ مُربّعاتٍ منَ الفخّارِ

شكْلٌ لهذَا اللّوْنِ في لحْظةٍ عمْيَاءْ

بعْدَهَا نيرانٌ تسْتعيدُ
أسْرارَ
مَا يتبدّلُ (هُناكَ منْ
أقْصَى الحَرارةِ) واقفاً علَى حدِّ
اللاّوُجُودِ ـ الوُجودِ
خبيءَ الفُرْنِ
بيْنَ الماءِ اللّوْنِ الفخّارِ النّارِ

قيلَ مُعْجـزةٌ
قيلَ سحْرٌ
قيلَ موادُّ بدَوْرهَا
تبْحثُ عنْ جَسدٍ سيخْرجُ منَ الماءِ

بعْدَ قليلْ

انْبــثَاق

منْ شُرفتهِ يُطلّ أزرقُ
انْبثاقٌ
لأشْكالٍ يسْتضيفهَا بياضُ الطّلاءِ

مُوسيقى
تُحسُّ في الأعْضَاءِ دبيبَهَا

يَصُفّونَ الصُّحونَ الأطباقَ الجَبّاناتِ فوْقَ طاوُلةٍ
(انْـظُرْ
إلى نهْرٍ منَ
الخُطوطِ يجْري)

هُنا
يَرتفعُ الأزرقُ
باتّجاهِ العيْنِ
يصْعدُ
محْمُولاً على بياضٍ

مَا يُضيءُ
مَا يلْمعُ مَا يتلألأُ
مَا يحْتدمُ عنْدَ النّظرِ
إلَى
زَخارفَ كلّهَا زرقاءْ

يتضاعفُ اللاشيْءُ في الشيْءِ
تُمْسكُ يدُكَ عن الحَركةِ
لسانُكَ يعْصَى

عيْنٌ تلبسُ المُحالَ
تحْتَ دَاليةٍ
أزرقُ سيّـدٌ منْ نفْسـهِ
يتلقّى الضّوْءْ

***

لُعْبـــــة

طريقةٌ تتوَارَى عن العـيْنِ
عندَما التّـزاويقُ
فوْقَ وجْهِ الصّحْنِ تتجلّى مُعلّقةً
في مشْهدٍ
تشتـدُّ نبضاتُهُ
أمَامَ منْ ينْظُرُ بدونِ
كَلماتْ

لا تظْهرُ في التّـزاويقِ
غيْرُ التّـزاويقِ
أقلُّ منْ سُؤالٍ هَذا الذي يشْغلُ النّاظرَ
إلى لُعْبةِ الزّوايَا مرّةً تدْنو
مرّةً
تَتركُ تحْتَ النّظرِ شيْئاً
يَضيعُ

في النّهَارِ
أزرقُ صريحٌ دائرةٌ قلْبَ دائرةٍ
للبياضِ يُسلّمُ خطّاً
كُوفيّاً
هُوَ اسْمُ المَدينةِ يتوَقدُ فاسْ

بيْنَ أصابعِ الزّوَّاقِ
خُطوطٌ تلتفُّ أغصانٌ
تسيلُ ببُطْءِ
شَهْوةٍ

مُوسيقَى منَ البعيدِ الأبْعدِ
عتَمةٌ
تتراكمُ فوْقَ جلْدِ
الحُروفْ

****

هَامِـــش

صحْنٌ
بقدَمٍ صَغيرةٍ
يرْقصُ في هَواءٍ هُوَ البيَاضُ

نجْمةٌ
لمَا سيُصْبحُ مرْكزاً منْهُ
التمَاثلُ
يُولَدُ بيْنَ السُّطُورِ
أخُوّةُ الرّضَاعِ

كذلكَ الأزرقُ
يُثبّتُ كلمَاتِ السّماءِ
منْ جديدْ

لكنّ
الهَامشَ مُقامُ
العَيْنِ
(سَماءُ الكلمَاتِ تَهْجُرُ المرْكزَ)
تنْكسرُ السطُورُ خلْفَ
زاويةٍ منَ
الكلمَاتِ

دوَائرُ صغيرةٌ
مُنعَرجاتُ
إكْليلٍ تفتّحَتْ بَراعمُهُ
في
الضّوْءْ

***

وَصِيــَــة

ولْيكُنْ مَا تشاءُ
مـاءٌ فـي هَواءٍ
هَواءٌ يحْضُنُ اسْترَاحَةَ المَاءْ

حكْمةُ أزرقَ
يَسْبحُ
امْتدَادُ الماءِ في أفقٍ هُوَ البحْرُ
لا تكْتُبْ سوَى
الذي شَاهدْتَ عنْ
قُرْبٍ

لكَ العيْنُ لاَطِفْـهَا بقطْرٍ
منْ سَريرةِ
مَا تُشاهدُ ليْلةُ
أزرقَ
فوْقَ آنيةٍ منَ الفخّارٍ
هُناكَ

هُنَا
ينْشُـرُ الزّليجُ سكينةً طافتْ
بالمَكانِ أنْصِتْ
إلى الأزرَقِ يترنّمُ فراغٌ
تحْتَ قبّةٍ
يَصْفُو

شُعَاعيّاً
لمْ
يُغادرِ الأنْفاسْ

***

أزْرقُ فـــــاس

بأيٍّ منْ هُناكَ ستنظُرُ إلَى الأزرقِ طافحاً يُلازمُ الصّحْنَ أشعّةً تزَاويقَ نباتاتٍ هبّتْ رياحٌ عليْكَ حرارةً هيَ اتّقادُ مَا لمْ تكُنْ تُدْركُ تكْوينَهُ
أزرقُ
مَعْدنُ الكُوبَلْتْ

قدَامةٌ أبعدُ منْ نهْرِ النّيلِ حافيةَ القدَميْنِ جاءتْ إلَى فاسَ إنّكَ لاَ تدْري منْ أيْنَ غصْنٌ في أغصَانٍ يضيعُ سلّمْ علَى أزرقِ الصّينِ خالصاً وأنتِ أيتُهَا المُوسيقَى انْهمِري فوْقَ أرضٍ هيَ العطشُ البياضُ الهَواءُ
لا تُعوّلْ
على مُقارنةٍ
أزرقُ
يزهُو
قاشَانَ
سُلْطانبَادَ
الأرْضُ الزّرقاءُ
البُرتـغَالُ
لكنّهُ
أزرَقُ فـاسْ

***

مُشاهَــدَة

ما دُمتَ تُشاهدُ
في
مسْرحٍ
أزرقَ واقفاً قُرْبَ العيْنِ
صفّاً منَ الأزرقِ
أوْ
فِرْشَـةَ الزلّيجِ

في الأزرَقِ لألأةٌ
خريرٌ
نغَـمٌ

لكَ الأزرقُ
أوْسعُ
منْ مسَاحتهِ
أبْعدُ

معَ العيْنِ الأنفاسُ
في صحْراءَ عطشُهَا أقْوَى منَ الأمَلِ
منَ اليأسِ

كذلكَ العيْنُ تُشاهدُ الأبيضَ يتحرّكُ
فوقَ قطعةٍ
كتابُـكَ القادمُ
الذي لنْ تمْـلأهُ الكلمَـاتْ

***

لسْعَـــة

زاهياً يظلُّ الأزرقُ
رافعاً قدميْهِ إلى هَـواءٍ
يَضْحكُ

اتْبَعْ تدفّقَ الأزرقِ
تُخومَهُ المتقابلةَ بأضْلاعٍ تتضاعفُ
خطّهُ الكوفيَّ
في أثناءِ حركةٍ أبديّـةٍ
حتّى
تلْسعنّكَ رقْصةُ مجْنونٍ
سيكُونُ أنتْ

جسدٌ يطْفـو جسدُكَ
فوْقَ أسْـوار فاسَ
يدْخُلُ في نشوةٍ بهِ الْتبسَتْ

لاَ جرَارَ هُناكَ
لا أقْدَاحْ

***

دَواة

أزرقُ الدّاوةِ ضوْءٌ
يعيشُ بيْنَ أصابعكَ حالَمَا
تتركُ لأجْلهِ
سَطْحَ المكْتبِ فارغاً
إلاّ منْ دفْترٍ يحيطُ بهاويتهِ الصّمْتْ

أزرقُ يترنّحُ
منْ غيْرِ نأَمَةٍ أزرقُ الدّواةِ
تشْربُ العيْنُ أشْكالهُ
ليلاً صباحاً
بعْدَ ظهيرةٍ غسقاً
يرقصُ
تحتَ ظلّ دوْحةٍ هيَ اللامعْـنَى

فخّاريّونَ من قبْلُ صنعُوا
دَواةً
ثمّ دَواةً
ثم أخْريَاتٍ
بيْنهـنّ فرْقُ ما بيْنَ يدٍ ويدٍ
عيْنٍ وعيْنْ

هذه الدّواةُ
أنظرُ إلى قواريرهَا الثلاثةِ
يوْمَ القلمُ
كانَ فوْقَ صَلْصَال اللّوْحِ
يخطّ كلماتٍ كأنّها مذعورةٌ في وحْدتهَا

عندَ كلّ نظرةٍ
أشـربُهُ وأسْـقـيهِ
أزرَقُ الدّواةْ

******