إلى مريم إسماعيل.. نبع الحكايات
****
(كافكا)
الحصار
أخرجتُ رأسي من السيارة، وناديت على ابني الصغير استحثه على الإسراع في المجيء.
أطلت زوجتي من نافذة البيت باسمة الثغر وقالت :
’’ سيأتي حالاً ‘‘.
طبع محمد قبلةً سريعةً على خد أمه، ثم ودعها بيده وركض نحو السيارة.
كان يوماً مشرقاً، صافياً، مؤاتياً للقيام بجولة في السيارة.
كثيراً ما يطالبني ابني، الذي لا يتجاوز الخامسة من عمره، أن أخرج به للتنزه، ولكثرة مشاغلي فقد أرجأت هذه الفسحة إلى يوم عطلة مناسب.
زوجتي فضّلت المكوث في البيت، فهي تخاف كثيراً من ركوب السيارة، ولكنها أعدت لنا الكثير من الشطائر والحلوى كأنما سنرتاد صحراء بعيدة.
شعرتُ براحة عميقة وأنا أرى محمداً جذلاً، يكاد يرقص من فرط سروره.
قلت له :
’’ سأريك جبلاً عظيماً يقع في نهايات المدينة‘‘.
قال بغبطة :
’’ وهل سنتسلق هذا الجبل ؟ ‘‘.
أومأت له بالإيجاب، وأخذت ألفق قصصاً كثيرة عن أيام طفولتي، وكيف تسلقتُ الجبل بنفسي، وتهت فيه عدة أيام، ثم خرجت سالماً وعدت إلى البيت.
رأيت الدهشة تغمر وجهه وهو يستمع إلى قصصي الملفقة، ولم يهنأ باله إلا بعد أن أجبته عن عشرات الأسئلة : عن الأشياء التي رأيتها داخل الجبل، وعن الطريقة التي وصلت بها إلى البيت، وأدق التفاصيل الأخرى.
صاح فرحاً :
’’ ها هو الجبل ‘‘.
وصلنا إلى الطريق المؤدي إلى الجبل. انعطفتُ وسرت مسافةً قصيرة، إذ بدورية الشرطة تتجه نحونا، فأوقفت السيارة لأستطلع الأمر.
’’ - ماذا حدث ؟ ! ‘‘.
ترجل أحد أفراد الدورية وتقدم بخطواتٍ واسعة نحونا. ارتبكت قليلاً.
قال الشرطي :
’’ ممنوع دخول هذه المنطقة ‘‘.
تجرأت وسألته عن السبب، فأوضح لي أن جريمة قتل قد وقعت بعد ظهر اليوم عند منحدر الجبل، وأن رجال الشرطة يقومون بتفتيش المنطقة.
رجعتُ إلى الشارع العام، وأوقفت السيارة شارداً بفكري في الجريمة التي وقعت. من القاتل ومن المقتول ؟.
قال محمد :
’’ أين سنذهب الآن ؟ ‘‘.
قلت له وأنا أحرك السيارة في اتجاهٍ أمامي :
’’ سنذهب إلى مكانٍ جميل عند شاطئ البحر‘‘.
وأقنعته بقصص ملفقة أيضاً عن السمكة الكبيرة التي تغني في البحر وتلعب مع الأطفال. وعندما ألقى عليّ بأسئلته الفضولية لم أستطع أن أجيب لأنني كنت أسأل نفسي : كيف يمكن أن يقتل الإنسان إنساناً آخر؟.
’’ - أين شاطئ البحر ؟ ‘‘.
’’ - سندخل الآن عبر بساتين النخيل، ثم نصل إلى الشاطئ، كثيراً ما جئت إلى هنا وأنا صبي صغير ‘‘.
وما أن سمع ذلك حتى ألقى عليّ بأسئلته المتلاحقة.
انحرفت عن الشارع العام، ودخلت في شارع فرعي يؤدي، حسب علمي، إلى شاطئ البحر، لكنني أوقفت السيارة حائراً حين رأيت شارعين أحدهما يتجه إلى اليمين والآخر إلى اليسار. لا أذكر أنني رأيت هذين الشارعين من قبل. ترددت في اختيار أحدهما.
قال محمد :
’’ لنذهب من هنا ‘‘.
وافقته على عجل، ودخلت في الشارع الذي يتجه إلى اليمين. وجدت نفسي في طريقٍ ضيق لا يسع إلا لعبور سيارة واحدة، وعلى طرفي الشارع نخيل كثيرة، واقفة، ميتة، والأرض تبدو، لكثرة ما استنجدت بالماء، متشققة، ومتصلبة.
كل شيء يوحي بالخراب في هذا المكان. واصلت السير مرتجياً الوصول إلى الشاطئ، أو إلى طريق آخر أقل وحشة وكآبة.
’’ - متى نصل إلى الشاطئ ؟ ‘‘.
لم أحر جواباً لأنني لاحظت أن مجموعة هائلة من النخيل الميتة تقف في منتصف الطريق وتمنعنا من المرور. شعرت بغيظ شديد. ما الذي دفعني للوقوع في هذا المأزق.
’’ - متى نصل إلى الشاطئ ؟ ‘‘.
’’ - سنعود من حيث أتينا، من المحتم أنني أخطأت المكان ؟ ‘‘.
وحتى أسلك طريق العودة فلا بد أن أرجع بالسيارة إلى الخلف مسافة ثم أعدل من وضعها. شعرت بألم في رقبتي من جراء الالتفات إلى الخلف. عند المنفذ الضيق أدرت السيارة وأصلحت من وضعها لنندفع إلى الأمام عبر الطريق الذي جئنا منه.
’’ - أين سنذهب الآن ؟ ‘‘.
’’ - سنعود إلى الشارع الذي يتجه إلى اليسار، وهو الطريق الذي سيصل بنا إلى الشاطئ ‘‘.
قطعت مسافة في الطريق ولم نصل إلى الشارع العام، ثم بغتة وجدت النخيل الميتة واقفة في طريقنا. مستحيل، كيف جئت إلى هنا ثانية ؟!.
’’ - متى سنصل إلى الشاطئ ؟ ‘‘.
’’ - اصمت ودعني أفكر قليلاً ‘‘ .
لا مجال للتفكير، يجب العودة إلى الوراء والإصلاح من وضع السيارة والخروج من هنا بسرعة.
بعد لأي وصلتُ إلى المنفذ الضيق، وانطلقت بسرعة إلى الأمام. قطعنا مسافة في الطريق، ثم رأيت أمامي النخيل الميتة من جديد.
يلج الخوف قلبي فاضحك ضحكة باهتة.
’’ - لنعد إلى البيت، لا أريد أن أرى السمكة الكبيرة‘‘.
قلت له والقلق يستبد بي :
’’ أنا أيضاً أريد العودة إلى البيت ‘‘.
نزلت من السيارة لاستكشف الأمر. تبعني محمد. مشينا معاً في الطريق الموحش الكئيب. وقفتُ أنظر إلى الطريق الذي جئنا منه. المفترض أن يُرجعنا إلى الشارع العام، فكيف إذن نعود في كل مرة إلى هذه المنطقة ؟ !.
سحبت يد محمد وعدتُ مسرعاً إلى السيارة. أرجعت السيارة إلى الوراء. كنت مضطرباً جداً، ولم أعرف إن العجلة الخلفية تنحرف لتنغرز في حفرة طينية.
حاولت مراراً إخراج العجلة من الحفرة ولكن دون جدوى.
’’ - أريد أن أعود إلى البيت ‘‘ .
غضبت وصرخت في وجهه :
’’ أنا أيضاً أريد العودة إلى البيت ‘‘.
لم يحتمل غضبي فبكى. انتابني شعور بالندم فقرّبته من صدري، وطلبت منه السكوت والسكون ريثما أجد حلاً، لكنه أصر على بكائه.
قلت له :
’’ امكث هنا وسأحاول إخراج العجلة من الحفرة ‘‘.
توقف عن البكاء، وتبعني ثم وقف يراقب ما أفعله.
أجهدت نفسي وجربت كل الوسائل، كان واضحاً أنني أحتاج إلى مساعدة شخص آخر، وهذا الصغير ليس بوسعه أن يأتي عملاً. تمنيت لو أن سيارة تمر من هنا، أو يأتي أحد لنجدتنا.
كانت الشمس تنحدر نحو المغيب، وهذا ما زاد من قلقي. رفست العجلة ولعنت اللحظة التي فكرت فيها أن أخرج من البيت.
كان محمد خائفاً، يلتفت حواليه كثيراً، ويلتصق بي كأن شيئاً ما سيخطفه مني.
عدت للمحاولة مرة أخرى ولكن ذهبت محاولتي سدى، والظلام بدأ يرخي أسجافه، ويزيد من الوحشة والكآبة. توقفت بعد أن دهمني الإنهاك والتعب.
’’ - ألن نعود إلى البيت ؟ ‘‘.
’’ - سنبقى هنا الليلة، وفي الصباح الباكر سنعود إلى البيت ‘‘.
لكنه بدا غير راضٍ عن فكرتي. أدخلته في السيارة وجلسنا ننتظر.
’’ - أريد أن أذهب إلى أمي ‘‘.
سألت نفسي : هل سأجد حلاً لهذه الورطة ؟.
طلبت منه أن يحكم إقفال باب السيارة ويرفع زجاج النافذة تحسباً من تسرب الزواحف إلى الداخل. أخرجت له بعض الشطائر. تناولها، وحكيت له بعض الحكايات المسلية فاسترد بعض هدوئه.
فكرت في أن أخرج وأمشي إلى نهاية الطريق، فقد اهتدي إلى الشارع العام، ولكن حلكة المكان ووحشته جعلاني أستعيض هذه الفكرة بالانتظار.
نام محمد ، بينما بقيت أصيخ لأية حركة تصدر في الخارج، وبين الفينة والأخرى التفت إلى الوراء للتأكد من عدم وجود أي شيء.
قلت لنفسي : لماذا يورط الإنسان نفسه هكذا ؟.
فجأة تجمدت في مكاني، وارتعدت فرائصي. في البدء خلت نفسي أتوهم، ولكن تأكد لي أن شيئاً يتحرك في الظلام. وضعت يدي على مفتاح التشغيل ثم تذكرت أن السيارة لن تتحرك بسهولة، فخفضت رأسي حتى صرت تحت المقود.
كان الظلام كثيفاً، والنجوم منطفئة، والقمر شحيح الضوء، ولكنني استطعت أن أرى فتاة تقف أمام السيارة. يبدو أنها عرفت أنني في الداخل فأخذت تشير إليّ أن أذهب إليها. رفعت رأسي وأمعنت النظر فرأيتها تذهب ثم تعود وتشير إليّ. أشعلت فجأة المصابيح الكاشفة فاختفت الفتاة وبقيت النخيل الميتة الواقفة.
أطفأت المصابيح حتى لا يسبب اشتعالها في موت البطارية، وأخذت أرقب بتوجس ما يدور في الظلام الكثيف.
حدثت نفسي : سأنام ولن أصحو حتى يبزغ الفجر. ولكن عيني أبتا أن تركنا للنوم في مثل هذا الوضع، فبقيت ساهراً.
أخافتني حركة محمد وهو يهب من نومه. كان يريد أن يتبول.
أخرجته بهدوء من السيارة، وطلبت منه أن يتبول بسرعة بينما قمت بفتح الصندوق الخلفي وأخرجت منه آلة حادة يمكن أن ندافع بها عن أنفسنا.
أنهى تبوله فأدخلته السيارة، وأحكمت إغلاق الباب من الداخل. أمسكت الآلة الحادة بيد ثابتة ورجعت للمراقبة.
رأيت الفتاة ثانية. أشعلت الضوء. اختفت.
نظرت إلى الساعة، كانت تشير إلى الحادية عشرة. أمامي خمس ساعات على الأقل لينبلج الصباح. كيف ستمر هذه الساعات الطويلة ؟ .
أغمضت عيني محاولاً النوم، ويبدو أنني نمت بالفعل، فحين استيقظت فجأة، اعتقاداً مني بأن شخصاً ما يسترق النظر إلينا، كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل.
تابعت النظر في الظلام الذي بدأت عيناي تتعودانه. رأيت الفتاة الصغيرة تتقافز وترقص وتدور حول النخيل الواقفة ثم تقف وتنظر إلي طالبة أن أذهب إليها.
رأيت أنها في هذه المرة تدنو الهوينى نحوي. أشعلت الضوء. اختفت.
خشيت أن أصاب بمكروه من جراء هذا التوتر والضيق الذي أنا فيه، ولكنني تماسكت، وأخذت أفكر في طريقة أخرج بها العجلة من الحفرة في الصباح الباكر.
انتفضتُ من رقادي مفزوعاً، كان محمد يهزني ويطلب مني أن أتحرك. نظرت إلى الساعة. كانت الساعة السادسة صباحاً. قمت على عجل لأنفذ الفكرة التي ومضت في رأسي.
أخذت أبحث عن بعض الألواح الخشبية القوية، ثم رفعت السيارة بالرافعة، ووضعت الألواح على الحفرة الطينية، وأسرعت لإبعاد السيارة قبل أن تتكسر الألواح.
نجحت الفكرة، فصفق محمد وصاح مبتهجاً. ركبنا السيارة وعدت إلى الوراء. أصلحت من وضع السيارة، واندفعت إلى الأمام بسرعة جنونية محاولاً الخروج من هذا المكان.
قطعت مسافة قصيرة وجسدي كله يرتعش خوفاً من أن تظهر أمامي النخيل الميتة، ولكنني أطلقت صيحة فرح عندما رأيت الشارع العام الذي دخلنا منه أول مرة.
قال محمد مغتبطاً :
’’ لنعد بسرعة إلى البيت ‘‘.
قلت له :
’’ بأقصى سرعة ‘‘.
على جانب الشارع العام رأيت صبية تلوّح بيدها طالبةً أن أتوقف.
وصلت إليها وتوقفت. لم تكن تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، تلبس ثوباً ضيقاً مشدوداً على جسدها النحيل. شعرها قصير جداً، ومسحة من الشر الغامض تكسو وجهها الصغير.
حدجتني بنظرة ماكرة، وتقدمت نحونا. تذكرتُ وجه الفتاة التي كانت تظهر أمامي ليلة البارحة، فحركت السيارة مبتعداً عنها قبل أن تصل إلينا.
نظرت في المرآة الخلفية فرأيتها واقفة تنظر إلينا وتطلق ضحكات ساخرة جداً.
***
(1)
كنت ومنذ فترة قد اتخذت قراراُ بألا أستمع إلى المذياع، أو أشاهد التلفزيون، أو اقرأ الجرائد اليومية، حتى لا تثور أعصابي ويرتفع ضغط دمي مما يحدث في هذا العالم :
كوارث طبيعية / مجاعة / انقلابات عسكرية / اغتيالات / اختطاف طائرات / أعمال عنف / عصيان مدني / احتلال مدن.
كل شيء يقول لي إن هذا زمنٌ تعيش فيه الدنيا تحت خيمة الشر. وإن المنقذ الوحيد الذي يحميني من الدخول في هذه الخيمة هو ابتعادي عن الآخرين.
انقطاعي عن عادة قراءة الجرائد اليومية كان أمراً سهلاً، وحتى المذياع كان أمره سهلاً أيضاً، فقد حددت مؤشر المذياع على محطة لا تبث إلا الموسيقى، فهي اللغة الوحيدة في هذا العالم التي لا توحي بالشر. وأمرت زوجتي وابني الصغير ألا يديرا هذا المؤشر حتى لو قامت القيامة.
ولحسن الحظ فإن زوجتي لا تقرأ الجرائد، ولا تستمع إلى المذياع، وابني لا يحب إلا الموسيقى.
لكن انقطاعي عن مشاهدة التلفزيون كان أمراً صعباً جداً، فأنا أحب التلفزيون، إنه الجهاز الذي يمنعني من أن أقابل أحداً، أو اضطر إلى الخروج من البيت.
أنا أحب البيت لأن فيه تلفزيوناً، ولكنني كنت قد قررت، وكان القرار قاسياً جداً.
في الليلة الأولى حبست نفسي في حجرتي، ورفعت صوت المذياع حتى أنسي أمر التلفزيون الذي يؤنس زوجتي في الحجرة الأخرى.
لم أطق صبراً ولم أهدأ حتى جلست أمام الشاشة الصغيرة. ضحكت زوجتي وقالت :
’’ هذا ترياقنا ‘‘.
وبعد فشلي عدة مرات، أمرت زوجتي أن توثق يدي بالسلاسل وتربطهما بحافة السرير بينما هي تقوم برفع صوت التلفزيون.
كانت المسألة فوق طاقتي واحتمالي. أرغيت وأزبدت وصرخت في زوجتي أن تفك قيودي، ولكنها لم تكسر تعليماتي وأخذت تنظر إلي بشفقة مبالغ فيها.
شعرت بأنني سأصاب بانهيار عصبي، صرخت آمراً إياها أن تفك قيودي وإلا طلقتها. ولكنها لم تتحرك من مكانها. حاولت رفع السرير ولكنه كان ثقيلاً جداً، فقبلت بالهزيمة.
حين تعب التلفزيون من بث برامجه، جاءت زوجتي وحررتني من السلاسل، وبعطف شديد أخذت رأسي إلى صدرها تهدهدني كطفل صغير.
قلت وأنا أخترط في البكاء :
’’ بعد أسبوع لن احتاج إلى الترياق ‘‘.
(2)
أنا الآن في حالةٍ جيدة، فأنا لا أقرأ الجرائد اليومية، ولا أستمع إلا إلى الموسيقى في الراديو، ولا أشاهد التلفزيون. بعد انتهاء الدوام الوظيفي أعود إلى البيت ولا أخرج منه حتى صباح اليوم التالي.
كل شيء يسير على ما يرام، لا أحد يقلق عالمي الخاص، هنا أستوي على صهوة الحكم، أقود مملكة شعبها زوجتي وابني الذي هو في الخامسة من عمره.
أنا الآن في حالةٍ جيدة، فزوجتي طيبة وسعيدة لأنني معها طوال اليوم. وابني سعيدٌ لأنني أسرد عليه الحكايات وألعب معه.
فكرت في أن أستقيل من عملي وأتفرغ لبيتي، فلا أخرج منه أبداً، وفكرت بأنني سأحتاج إلى موردٍ مالي يؤمن سعادة مملكتي، فاهتديت إلى فكرة كتابة مقالات منتظمة للصحف عن دور العنف في إحلال السلام العالمي، على أن لا أذهب إلى مقر الجريدة إلا لاستلام مكافآتي. ثم بعمليةٍ حسابية اكتشفت بأنني سأضطر إلى العمل في ثلاث جرائد إلى أن أستطيع أن أفي بمتطلبات المملكة الأساسية، لذا أزحت فكرة الاستقالة من العمل جانبا.
كل شيء يسير على ما يرام، حتى مساء الأربعاء الماضي، حين جاءتني زوجتي وعلامات هلع مرسومة على وجهها تسألني عن ابني .
قلت بارتباك ظاهر :
’’ ماذا حدث ؟ ‘‘.
رأيت وجهها يمتقع ويزداد هلعاً.
’’ - ابني اختفى، بحثت عنه في كل مكان ولم أجده!‘‘.
حاولت تهدئتها وطلبت منها أن تواصل البحث عنه لأنه كثيراً ما يختفي في خزانات الملابس. تركتني مسرعة لتبحث عنه من جديد. ساورتني الوساوس واقشعر بدني حين فكرت في أن يكون حقاً قد اختفى أو اختطف.
عادت زوجتي بعد قليل وأخذت تلطم وجهها بقوة. صرخت فيها أن تكف عن ذلك، ولكنها واصلت الصياح طالبة مني أن أخرج إلى الشارع بحثاً عنه.
فتشت البيت كله. فتحت الباب وخرجت إلى الشارع. سألت الجيران. بحثت عنه في المناطق السكنية الأخرى، ولكن دون فائدة.
عدت إلى البيت. استقبلتني زوجتي بالكثير من الأسئلة، وحينما عرفت أنني لم أجده واصلت البكاء.
جلستُ أفكر بهدوء : أين يمكن أن يكون قد ذهب ؟. وفكرت متى رأيته آخر مرة. تذكرت أنه جاء إليّ قبل نصف ساعة تقريباً من مجيء زوجتي، وأراني كتاباً مصوراً وطلب مني أن أقرأ له القصة ولكنني تمانعت فتركني وعاد إلى حجرته.
جاءتني زوجتي. منذ زمن بعيد لم أرها تبكي، والبكاء يعني قدوم الشر. طلبت مني بتضرع أن أتصل بالشرطة. فشعرت بقشعريرة في بدني. فأنا أخاف من رجال الشرطة خوفاً شديداً، وما زلت أتذكر كيف ضربني شرطي ذات مرة بطريق الخطأ حين أعتقد أنني ضمن الأشخاص الذين حطموا نوافذ المدرسة في تظاهرة طلابية.
’’ - أرجوك اتصل بالشرطة ‘‘.
اتصلت بهم فطلبوا مني أن أذهب إلى أقرب مركز للشرطة، وأقدم بلاغاً بما حدث.
خرجت مع زوجتي ومشينا مسافة طويلة حتى وصلنا إلى المركز. توقفت زوجتي عن البكاء. عند باب المركز استوقفني شرطي. سألني. شرحت له ما حدث، فأشار إلينا أن نذهب إلى مكتبٍ على الشمال.
في الطريق إلى المكتب فكرت، قد يستقبلني الشرطي الذي ضربني قبل عشرين عاماً، وقد يوجه إلي اللوم لأنني لم أحافظ على أمن المدرسة في الصغر، ولم أحافظ على أمن البيت في الكبر، وقد يتفرس في وجهي ملياً ثم بغتة يقول هذا هو الذي أبحث عنه منذ سنوات طويلة، اقبضوا عليه.
دخلنا المكتب فقابلنا شرطي باحترام . شعرت بطمأنينة حين رأيت الوجه مختلفاً عن وجه الشرطي الذي ضربني. شرحت له كل ما جري، فدهش في بداية الأمر، ثم علل بأن ابني قد يكون خرج من البيت ثم اختطفته عصابة من المجرمين، أو قد تكون سيارة دهسته ونقلته إلى المستشفى.
كلامه هذا كاد يسقط زوجتي على الأرض، شعرت بيدها تقبض على ذراعي بقوة شديدة.
قال الشرطي الذي لاحظ الخوف على وجهينا:
’’ سنتصل بجميع المستشفيات ونسأل كل أقسام الشرطة، اطمئنا ‘‘ .
وطلب مني الجلوس خارجاً حتى ينتهي من اتصالاته. جلسنا على كرسي خشبي طويل مثبت في الردهة.
قالت زوجتي وهي تمسح دموعها :
’’ كيف خرج من البيت والباب مغلقٌ بإحكام؟!‘‘.
قلت عاجزاً عن التفسير:
’’ لا أدري ‘‘ .
لاحظت أن أحد رجال الشرطة الجالسين في المكتب المواجه لنا يختلس النظر إلى زوجتي، ويمسح بين اللحظة والأخرى على طرف شاربه الكث الذي يخفى فمه. فكرت ماذا أفعل لو هددنا بالسلاح واغتصب زوجتي أمامي.
’’ - اعتقد أن ابنكما موجود بالمستشفى ‘‘.
نهضنا بوجل.
’’ - ماذا أصابه ؟ ‘‘.
’’ - سنكتشف الأمر الآن ‘‘.
ركبنا سيارة الشرطة التي تحركت بسرعة فائقة. في الطريق قص علينا الشرطي بعض الحكايات المشابهة، وكيف أن رجال الشرطة يكتشفون ما يحدث بسرعة، وقال شيئاً مضحكاً عن قطة سرقت دجاجة وأدخلتها في محطة لتوليد الكهرباء، فأصاب القطة والدجاجة تيارٌ كهربائي قوي صعقهما فوراً.
تساءلت : ماذا حدث لابني ؟. هل سرق المفتاح وفتح باب البيت وخرج إلى الشارع ؟. ماذا بعد ؟ لعب في الشارع وجاءت سيارة مسرعة ودهسته ؟. هل يمكن أن يكون قد مات ؟.
وصلنا إلى المستشفى. وجود الشرطي معنا سهل مهمة الدخول إلى قسم المعالجة الطارئة. تركنا الشرطي وتكلم مع ممرضة أجنبية. شاهدت شخصاً ممدداً على السرير ووجهه مغطى بالدم. الممرضة طلبت من الشرطي أن يتبعها، وهو طلب منا أن نتبعه. توقفت الممرضة وأشارت نحو طفل صغير في النزع الأخير.
’’ - هل هذا هو ابنكما ؟ ‘‘ .
نظرنا إلى الطفل الصغير، لم يكن ابننا.
تساءلت : أين هو إذن ؟ !.
قال الشرطي :
’’ إذن لا بد أن عصابة اختطفت ابنكما، حتماً سيتصلون بكما طلباً للفدية ‘‘.
(3)
مر أسبوع كامل على اختفاء ابني دون أن نعلم عن أمره شيئاً. توقعنا، حسب ما قاله لنا الشرطي، أن يتصل بنا الخاطفون ليطلبوا فدية مقابل إرجاعه، كما يحدث عادة في الأفلام السينمائية، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
لماذا انهارت مملكتي فجأة ؟. لقد قطعت كل وشيجة تربطني بالآخرين فكيف استطاع الشر أن يهز بيده القوية أركان الأمن في مملكتي ؟.
زوجتي أصيبت بانهيار عصبي، واصبح شكلها مخيفاً جداً. أحياناً تنهض في الليل وتهزني هزاً عنيفاً، وتقول إنها تسمع صوت الصغير يناديها ويناديني.
لست في حالةٍ جيدة الآن، فقد جلستُ طيلة الأسبوع أفكر بمنطقية في أسباب اختفاء ابني، ولم اهتد إلا إلى نتيجة واحدة هي أن أحداً ما قد اختطفه أو قتله. ولكن لا أدري لم راودني إحساس غريب بأن ابني حي ولم يمت حتى الآن، وهذا ما جعلني رابط الجأش ولا أنهار.
لاحظت في ليال عديدة أن زوجتي تنهض من فراشها وتذهب إلى حجرة الصغير، ثم تعود وعلى وجهها عشرات الأسئلة. تهزني، وتطلب مني أن أستيقظ لتقول لي إنها سمعت صوت ابني هذه المرة أيضاً.
دفعني فضولي في ليلةٍ من الليالي إلى أن أتفحص حجرة الصغير، فأعدت تفتيش كل الأشياء من جديد، وحين تعبت جلست على سريره أجيل النظر فيما حولي. وكانت مفاجأة مذهلة لي حين سمعت صوته يأتيني من مكان ما. قد أكون جننت أو تأثرت برواية زوجتي عن سماعها الصوت في كل ليلة، ولكنني أجزم بأن الصوت كان واضحاً جداً، وهو بلا شك صوت ابني، ينبعث من مكان ما خلف الجدران الأربعة. لكن كيف يأتي الصوت من خلف الجدران ؟
قلت لنفسي : إنها فكرة مجنونة. عدت إلى حجرتي وجلست أفكر بمنطقية أكثر.
جاءت زوجتي ووقفت دون أن تتكلم. قلت لها :
’’ أنا أيضاً سمعت صوته ‘‘.
فتقهقرت إلى الوراء وسقطت على الأرض فاقدة الوعي.
وضعتها على السرير وربتّ خدها ورششت بعض الماء على وجهها حتى استفاقت، طلبت منها أن تخلد للهدوء والسكينة ريثما أفكر فيما يحدث بهدوء.
عدت من جديد إلى حجرة ابني. وقفت أصيخ بدقة. بعد قليل عبر صوته إلى أذني واضحاً، لا يزال يناديني تارة وينادي أمه تارة أخرى.
ركزت على مصدر الصوت فكان خلف سريره مباشرة. جلست على السرير، ووضعت أذني على الجدار، وفجأة هويت إلى داخل الجدار فأطلقت صرخة عنيفة، وتراءى لي سأسقط على إسفلت الشارع ويتحطم رأسي، ولكنني وجدت نفسي أسبح في فضاء لا متناهٍ تملؤه الكواكب والنجوم المضيئة. أسبح في الألوان، وأسمع صوت موسيقى شجية كأنها تنبعث من الكواكب.
لم أستطع أن أسيطر على نفسي، كنت أهوى بسرعة شديدة، ولم أتوقف حتى وجدت نفسي في مكانٍ غريب لا يمكن أن يكون على الأرض.
وقفت مشدوهاً، واسترعى انتباهي سماعي أصوات الموسيقى العذبة التي تنبعث من كل مكان، كأن المجرة كلها تبعث أنغاماً.
فزعت وبحثت عن سبيل للفرار والعودة إلى بيتي. تساءلت : أين أنا ؟ وكيف جئت إلى هنا ؟.
لم تمض دقائق حتى رأيت ابني أمامي، ينظر إلي وابتسامة جميلة ترتسم على شفتيه. احتضنته بقوة، وقبلته كثيراً وسألته:
’’ ماذا تفعل هنا ؟ ‘‘.
فلم يجب، إنما ظل مبتسماً طوال الوقت، وطلب مني بإيماءة أن لا أتكلم.
أخذ يدي ومشي. توقفت. سألته :
’’ إلى أين ؟ ‘‘.
هسهس وأشار عليّ بالسكوت، ومضى يتقدمني. وبغرابة شديدة مشيت وراءه. رأيت في منظرٍ مدهش وأخاذ مئات الأطفال الصغار، لا تتجاوز أعمارهم خمسة الأعوام ، جميعهم يبتسمون كأنهم يحيونني. كدت أضحك من نفسي. لابد أنني جننت، وإلا بأي منطق أفسر كل ما يحدث أمامي.
لاحظت أن الموسيقى لا تتوقف أبداً، والأطفال يلعبون ويمرحون دون أن يتشاجروا أو يصرخوا أو يبعثوا أصواتاً. اللغة الوحيدة هنا هي الموسيقى.
رأيت الأطفال يتحلقون حولي ويمدون أيديهم الصغيرة إليّ. أنظر إلى ابني مستفسراً، فيمد هو أيضاً يديه إليّ. أذعن لطلبهم وأسير معهم.
أرى جهازاً غريباً بحجم الرجل العادي. نقف عند الجهاز. يشيرون بأصابعهم نحوه. أنظر إلى ابني، فيشير هو أيضاً بإصبعه نحوه.
تجرأت وخطوت وحيداً نحو الجهاز، التفت إليهم، ما تزال الابتسامات الجميلة مرتسمة على شفاههم.
دخلت في الجهاز فشعرت بما يشبه الانفجار في داخلي. وخرجت بعد لحظة من الطرف الآخر للجهاز، ولكنني كنت طفلاً صغيراً لا يتجاوز الخامسة من عمره. كنت مبتهجاً مغتبطاً إلى أقصى الحدود.
رأيت الأطفال يصفقون جميعاً ويهرعون نحوي لتحيتي. تضاءلت عندي حاجة النطق وشعرت بصفاء ونقاء وطهارة، أنا الآن طفلٌ سعيد.
جاء ابني وأمسك بيدي. وجاء طفل آخر وأمسك بيدي الأخرى. وجاء أطفال آخرون وأمسكوا بأيادي بعضهم حتى صرنا دائرة كبيرة من الأطفال، وأخذنا نرقص على أنغام الموسيقى التي لا تتوقف.
(4)
وقفنا، أنا وابني، يممنا وجهينا شطر الكوكب البعيد، وأخذنا ننادي على المرأة التي تنتظر زوجها وابنها.
*****
(1)
... أرى نفسي سائراً في غابة موحشة يحلق فوقها الضباب. أرى الأشياء من حولي تلبس اللون الأسود : الطرق المتعرجة / الأشجار التي تساقطت أوراق أغصانها / النهر الذي توقف ماؤه عن الجريان.
ووراء سدف الضباب الكثيف، أرى نفسي في مقبرة كبيرة. كل شواهد القبور فيها مغطاة باللون الأسود. القمر يدور حول نفسه في دائرة مضيئة، يحاول تجنب الضباب الذي يزداد كثافة.
أنبش قبراً، أزيح التراب حتى أصل إلى عمق القبر. أرى جثة ملفوفة في كفنٍ أسود. أسحب الجثة، وأنزع الكفن منها، فتظهر امرأة جميلة، ناصعة البياض. أمسح التراب عن جسدها المثير. ابتعد عنها بضع خطوات وأتأمل جسدها الساكن الجميل. يتدفق من جانبي فمي زبد لا يتوقف، وينصهر جسدي شهوة فأعوي كذئبٍ جائع، وانقض عليها بضراوة ووحشية.
أنتهي فأنتشي فاستلقى على ظهري، وفي لحظة غيبوبة أشعر أن ثمة شيئاً يجثم عليّ ويخنقني. أفزع وأحاول الخلاص منه. أفقد القدرة على الصراخ والاستغاثة. أتنفس بصعوبة بالغة. يزداد خفقان القلب. أستجمع قواي وأطلق صرخة قوية ثم أنهض.
أشعر أن حلقي صحراء قاحلة. أنهض لأروي عطشي. أعود وأستلقي على الفراش. أستعيد شريط الكابوس الذي لا ينفك يتردد على أحلامي. تلوح مني التفاتة إلى زوجتي فأراها تحملق فيّ دون أن تنبس بكلمة. أغمض عيني وأوهمها بأنني أخلدت للنوم.
عذاب حياتي مع هذه المرأة، وعذاب حياتها معي. وهذا الاحتمال الذي يبديه كل منا سيتحول إلى بارود ينفجر في يوم من الأيام.
من كان يعلم أن كل هذا سيحصل ؟
من كان يصدق بأن قنديل الحب المشتعل في صدرينا سينطفئ ويخمد ؟
من كان يعرف بأننا سنصل إلى هذه النهاية المفجعة؟
هذا هو الشهر الثالث منذ أن تزوجنا، بعد أن أتعبنا القمر بالسهر معنا في الليالي الجميلة. هذا هو الشهر الثالث الذي لم أستطع فيه أن أقر برجولتي أمامها، وأي رجولةٍ هذه؟. كان الموت أرحم من اكتشاف الكارثة، كنت أظن أنني سأستطيع أن أفعل ما يفعله الرجال، لم يكن عندي أي شك في أنني قادر على هذا الفعل، ولكن أن تتوقف عن أداء هذه الوظيفة بعد الزواج، كارثة.
حاولت أن أتعلل في بداية الأمر بأن المسألة لا تعدو أن تكون حالة مؤقتة نجمت عن شعور بالخجل والارتباك، وبمرور الوقت ستعود الأشياء إلى طبيعتها، ولكن هذا هو الشهر الثالث ولم يحدث أي تغيير يذكر.
رأيت ما يشبه الصدمة على وجهها حين عرفت بالأمر، ولكنها لا تزال تحاول أن تقنعني، وإن كنت غير مصدقٍ ما تقوله، بأن هذا العجز لا يعني نهاية قصة الحب الجميلة التي بيننا. من يصدق هذا الكلام ؟.
إنها الآن، ونحن في الشهر الثالث، تبدي استياءً خفياً أدركه بسهوله. إنني أسمع جياد الرغبة تصهل بداخلها، تشتهي الانطلاق إلى عوالم أخرى. وهذا العجز، العجز الرهيب، يكبل حياتي وحياتها، ويقيم الحواجز بيني وبينها.
(2)
... أرى نفسي منبطحاً فوق أحد القبور، متوارياً عن أنظار مجموعة من الرجال يحاولون دفن جثة في القبر. أنتظرهم حتى ينتهوا. يرحلون عن المكان، ويتركون لي صمت المقبرة والليل الأسود.
أرى نصفي الأسفل شبيهاً بذكران الماعز، فأهرع إلى القبر، وأحفر بسرعة جنونية. الزبد لا يتوقف عن التدفق من جانبي فمي. أخرج الجثة. أمزق بأسناني الكفن الأسود الذي يلفها. إنها نفس المرأة الساكنة الجميلة. الشهوة بركان ينفجر بداخلي. أنتهي فأنتشي وأستلقي على ظهري. أشعر بجوع شديد فأنهض وآكل بنهمٍ غريب الحشائش الصغيرة المنتشرة على أطراف القبور. لا أنتبه إلى أفعى هائلة الحجم تزحف نحوي، تنقض عليّ وتلتف حول عنقي وتضغط . أحاول الخلاص، لكنها تلدغني في جبهتي فأطلق صرخة قوية.
أنهض. أرى زوجتي تحملق فيّ دون أن تنبس بكلمة. أتمنى لو أعرف فيم تفكر الآن. هل تخطط لاقتراف خيانة دون أن تقع في شرك الخطأ ؟. فهذا هو الشهر الرابع على الاحتمال. إلى متى تستطيعين أن تحتملي ؟. كيف ستخونينني ؟. هل تختارين أحداً من أصدقائي، أو قد تفكرين في رجلٍ فحل من الجيران ؟ .
إن الفرصة مؤاتية لكِ لاقتراف الخيانة، ففي الصباح لا أكون موجوداً في البيت، وأنتِ طيلة اليوم بلا سجان أو محاسب، تستطيعين أن تسمحي بدخول أي رجلٍ إلى البيت، مثل تلك المرأة التي أدخلتني حجرتها ذات مرة، وقد تدعينه ينام على سريري هذا.
قلت لنفسي : حتى أختبر طهارتها وعفتها لابد أن أرجع في يومٍ على حين غفلة، وأفتح الباب بهدوء، ثم أتسلل إلى حجرة النوم. وماذا إن رأيتها مع رجل آخر، ماذا يمكنني أن أفعل في هذه الحالة؟. أضربها، أقتلها، أو أحرق البيت، ولكنني أضعف من أن أقوم بهذه الأعمال. الحل الوحيد هو أن أبصق عليها وأخرج من البيت.
ليتكِ تخونينني ، ستكون فرصة ثمينة لأبرر للناس طلاقي منكِ. الخيانة، لا العجز، هي السبب. العجز، ما أبشعها من كلمة.
(3)
... أرى نفسي قائد مجموعة من الرجال الأشداء. نمتشق السيوف، ونمتطي صهوة الجياد، ونعتمر خوذاً على شكل قرون التيوس، ونندفع نحو المدن نغزوها، ننشر فيها الدمار والخراب والحرائق.
أرى نفسي جالساً على كرسي أسود، وعلى رأسي تاجٌ يشع بريقاً قمرياً، أتفرج على رجالي وهم يسبون النساء ويغتصبوهن. أطلب من كل النسوة أن يتقدمن إلي راكعات ويقبلن مؤخرتي.
أرى نفسي أمام قبر المرأة الساكنة الجميلة. أدخل معها في جوف القبر وأحتضنها بشدة. أنتبه إلى مجموعة من الرجال وهم يهيلون علينا التراب، ويدفنونني معها. أجاهد في الخروج من القبر. يرفع أحدهم قدمه العارية وينزلها بقوة على صدري. أصرخ بألم. يضربني مرة أخرى. يرفعون أقدامهم جميعاً ويضربونني دفعة واحدة فأصرخ بألم.
أنهض. أرى زوجتي تحملق فيّ دون أن تنبس بكلمة.
تذكرت أيام المراهقة. تذكرت الخوف والخجل من النساء. تذكرت كيف أن أصحابي كانوا يدفعون بي دفعاً للدخول مع امرأة تبيح نفسها للرجال، ولكنني كنت في كل مرة أمتنع عن الدخول فكانوا يقولون لي محذرين : إذا لم تدخل فستصاب حتماً بالجنون.
تذكرت كيف تجرأتُ وتركت يدي المرتجفة ليد امرأة قصيرة القامة، مشعثة الشعر، وضرسها الأمامي مكسور. اقتادتني إلى حجرة ضيقة كريهة المنظر والرائحة. ببلاهة وقفت وكدت أفر من أمامها، ولكنها سحبتني بقوة من يدي فسقطت على السرير كأسير مذعور.
تذكرت نتيجة تلك الليلة المنكودة، حين أصبت بعد أسبوعين بالسيلان. أنا وحدي من بين كل أفراد المجموعة.
تذكرت : إفراز السوائل اللبنية / الآلام المحرقة في مجرى البول / ليالي العذاب والخوف من حدوث مضاعفات أخرى أكثر رهبة / الكذب على الصيدلي وادعاء أن المصاب صديق يخجل من الحضور بنفسه / إخفاء الدواء / غسل الثياب الداخلية. كل هذا بسبب امرأة واحدة قصيرة القامة، وضرسها مكسور.
تذكرت أنني لم ألمس جسد امرأة أخرى بعد ذلك خوفاً من تكرار العذاب المر. ولكن هذه المستلقية بقربي ليست بامرأة أخرى، إنها زوجتي، زوجتي، زوجتي.
(4)
ذات صباح باكر، خرجت من البيت. كان الضباب يحجب رؤية الطريق بوضوح. أوقفت سيارتي على طرف الشارع حين لحظت مجموعة من الرجال يهرعون نحو سيارة منقلبة. ركضت إليهم بدافع الفضول. حين وصلت رأيتهم يخرجون جثة امرأة ويضعونها على الأرض، ثم يهرع أحدهم لطلب الشرطة والإسعاف.
حدقت ملياً في المرأة الساكنة الميتة، إنها لا تقل جمالاً عن امرأة كوابيسي. ثيابها الممزقة كانت تكشف عن جسدٍ فاتن. بعد قليل جاءت سيارة الإسعاف، أخذوها، وتحركوا بسرعة فائقة مخترقين الضباب.
عدت مبتسماً إلى سيارتي، ونظرت إلى ساعتي، وقلت لنفسي مبتسماً : أمامنا ساعات طويلة حتى يجيء الليل.
*****
(1)
... أرى نفسي واقفاً عند رأس جمل نائم. ألكزه بقوة في جنبه مستحثاً إياه على النهوض. أرى الجمل ينهض غاضباً، ويصيح مهتاجاً، ثم يركض ورائي، فأنطلق بأقصى سرعتي، والجمل ورائي، بيني وبينه مسافة بسيطة. فجأة أهوي في حفرة عميقة وأسقط على ظهري. أرى الجمل يطل برأسه في الحفرة. يتحوّل وجه الجمل إلى وجه مدرس الحساب. يأمرني بصوته الغليظ.
’’ - انهض ‘‘.
أفتح عيناً واحدة. أرى أختي فأشيح بوجهي عنها، وأعود للنوم. ترفسني برفق في بطني، فأنقلب وأعطيها ظهري.
’’ - انهض، عليّ أن أنظف السطح ‘‘.
أنا مصرٌ على النوم، فالمدرسة معطلة، ولا حاجة للنهوض مبكراً.
’’ - انهض ‘‘.
هذه الملعونة لا تتوقف عن إيذائي، تحسب أنها تستطيع أن تلقي علي بأوامرها لمجرد أنها تكبرني بسبع سنوات. أنا الآن في العاشرة ويجب أن أعامل كرجل.
تمد يدها وتسحب الغطاء من على جسدي، فأظهر عارياً. أسمع ضحكاتها الساخرة المتواصلة.
’’ - تحسب نفسك طفلاً حتى تنام عارياً ‘‘.
أحب أن أنام عارياً تماماً، فحرارة أغسطس المحرقة تضطرنا إلى النوم جميعاً، أبي وأمي وأختي وأنا ، على سطح البيت. لقد انتظرنا سنوات على أمل أن يشتري أبي مكيف هواء، ولكنه كان يقول لنا دائماً : في الصيف القادم لن ننام على السطح.
أنني أقوم في كل ليلةٍ برش بعض قطرات الماء على فراشي، فهذا يمنح الفراش برودة ولطافة. أستلقي عارياً فأشعر بانطفاء لهيب الحرارة في جسدي.
’’ - ما هذا الذي يزحف على استك ؟ ‘‘.
لم أفهم ما تعنيه، لذا لم أكترث بما قالته. ولكنها أطلقت ضحكة رنت في رأسي. التفت إليها. كانت مستندة إلى الحائط، تخفي وجهها بيديها.
’’ - لماذا تضحكين ؟ ‘‘.
تتالى الضحك فانفجرتُ غاضباً :
’’ لماذا تضحكين ؟ ‘‘.
قالت بكلمات متقطعة وهي تواصل ضحكها :
’’ هناك قرادةٌ تزحف على استك ‘‘.
يبدو انها فقدت رشدها. بتوجس مددت يدي، فشعرت بقرادةٍ حقيقية. إنها لم تكن تمزح. نزعتُ القرادة وقذفتها على الأرض، وضربتها عدة ضربات استوت معها بالأرض وانبجس الدم منها.
’’ - هذا دمك الذي مصته منك ‘‘.
شعرت بالحرج والضيق، إن لسانها حتماً لن يتوقف عن سرد ما حدث لأبي وأمي، وربما إلى كل شخص سيدخل بيتنا، وسأكون موضع تندرهم وسخريتهم.
قلت لها مفتعلاً الهدوء :
’’ هذه خدعة منكِ حتى أنهض، على كلٍ سأساعدكِ في تنظيف السطح إذا أردتِ، مقابل سكوتكِ عما حدث ‘‘.
قالت بخبث :
’’ وتنفذ كل أوامري ؟ ‘‘.
وقعتُ في الشرك ولا مفر من تنفيذ أوامرها.
اضطررتُ أن امكث طوال الصباح معها، أنظف وأكنس وأمسح. أمرتني بأن أجمع الثياب وأرتبها، ولم تتركني إلا حين بدأ برنامج ( ما يطلبه المستمعون ) في البث من الراديو.
الآن يمكنني أن أتفرغ لصيد العصافير، ريثما تستمع هي لبرنامجها المفضل.
أحضرتُ طستاً وأسندته بوتد، وربطت خيطاً طويلاً بالوتد، ثم تواريتُ وراء الجدار بعد أن نثرت بعض الحبوب تحت الطست. مهمتي الآن أن أنتظر قدوم العصافير.
أخيراً ظهر عصفور. انزل، ألا تريد أن تشبع بطنك الصغير؟. انزل. انزل. إنه الآن تحت الطست يلتقط الحب. أستطيع أن أرى فزعه وتخوفه، كأنما يعرف بأنني أبتغي اصطياده، يجب إعطاؤه فرصة ومنحه الأمان.
أسحب الخيط، يرتد الوتد، ويقع الطست على العصفور. بغبطة شديدة مددت يدي تحت الطست، وأخرجت العصفور. تعال يا عصفوري الجميل، أنت الآن تحت رحمتي.
وضعت عنقه بين أصابعي وسحبته بقوة فانفصل عن الجسد، وتفجر الدم.
جلست تحت الشمس الحارقة أنتف ريشه حتى صار عارياً ضعيفاً، ولكنه يصلح كوجبة خفيفة قبل الغداء.
أسرعت إلى أمي في المطبخ. كان العرق يهطل من وجهها بغزارة، ويبلل ثوبها. رأت العصفور في يدي فقالت بتأفف :
’’ ألا تخاف من عقاب الله ؟ ‘‘.
وتحت إلحاحي قذفت بالعصفور في المقلاة فانشوى بالسمن الحار وصار جاهزاً للأكل.
جلست آكل العصفور بتلذذ، وفكرت أن أصطاد عصفوراً آخر.
(2)
عند الغداء حكي لنا أبي عن سقوط عامل من برج سفينة شحن، مما أدى إلى مصرعه على الفور. كان يسرد الحكاية وأنا أحدق في وجه أختي خشية أن يفلت لسانها وتحكي لهما عما حدث اليوم.
كانت تنظر إليّ بين الفينة والأخرى وابتسامة خبيثة مرتسمة على شفتيها، ولكنها لم تقل شيئا أبداً.
كانت الساعة تقارب الخامسة حين وقفت أنظر إلى الجدار العالي الذي يفصل بيننا وبين بيت جارنا الغني، الذي يعيش مع زوجته وأخيه المقعد.
انتظرت أن أسمع بين لحظة وأخرى صوت الموسيقى التي تنبعث كل يومٍ في مثل هذا الوقت من وراء الجدار.
لم تمض فترة قصيرة إلا والموسيقى تخترق الجدار وتصل إلى أذني، فتبعث في داخلي طرباً ونشوة، لكن الموسيقى توقفت فجأة.
انتظرت دون فائدة، فكرتُ أن أحضر سلماً وأصعد الجدار، فهناك ثقوب كثيرة يمكن من خلالها اختلاس النظر ورؤية ما يحدث هناك.
صعدت السلم الخشبي، ثم تسلقت الجدار ونظرت عبر الثقوب إلى الداخل. هالني ما رأيت، كان الرجل المقعد يعتصر جسد المرأة بين يديه ويمتص شفتيها. ماذا يفعلان ؟. سألت نفسي، ونزلت بسرعة إلى الأرض. شيء ما حرك فضولي، فالزوج غير موجود بالبيت، وهذا أخوه، وتلك زوجته.
لماذا لا أحاول الذهاب إلى الزوج وأعلمه بما حدث، فقد يعاقبها وأحصل منه على بعض المال لشراء قميص جديد. لكن قد لا يصدقني فيوسعني ضرباً وركلاً. بالتأكيد إذا كبرتُ وتزوجت فلن أترك زوجتي وحيدة في البيت.
كيف تجرؤ هذه الملعونة على أن تخدع زوجها ؟. هل يمكن أن تقوم أختي بمثل هذا إذا تزوجت ؟. غير ممكن، فنحن فقراء، والفقراء شرفاء كما يقول أبي.
(3)
في المساء استأذنت أختي من أمي في الذهاب إلى بيت الجيران. فهو البيت الوحيد في الحي ( إضافة إلى بيت جارنا الغني ) الذي يوجد به تليفزيون، ولأن علاقتنا العائلية على ما يرام معهم ( عادة ما تقوم أمي بخياطة ثيابهم ) فإنهم يسمحون لي ولأختي أن نشاركهم في مشاهدة التلفزيون.
منذ فترة اشترى أحد أصحاب المقاهي في الحي تليفزيوناً حتى يجذب نحوه الزبائن، ولكن مشادة عنيفة وقعت بين فريقين من المتفرجين يشاهدون برنامج ( المصارعة الحرة) فحطموا التلفزيون والمقهى واقتيد بعض الرجال إلى مركز الشرطة، وبعدها لم يشتر أحد تلفزيوناً حتى الآن.
هنا يمكن مشاهدة التلفزيون حتى الساعة التاسعة، بعدها يجب أن ننسحب بهدوء حتى لا نثقل عليهم.
في إحدى المرات خرجنا دون أن ينتهي برنامجي المفضل (أزيز الرصاص ) وعدنا إلى البيت، فلم أطق صبراً وعدتُ وتسلقت نافذتهم لأتابع البرنامج، لكنني أطلقت صرخة ألم حين عضني في مؤخرتي رجل ثمل كان يعبر الشارع.
الليلة داخلني شعور بالخوف والقلق، فقد خشيت أن تروي أختي للبنات الثلاث ما حدث لي اليوم. كنت أشاهد التلفزيون وأذني رادار يلتقط أحاديثهن. سرحتُ بعض الشيء وانتبهت إلى ضحكات حادة تنطلق فجأة. أدرت رأسي مأخوذاً، ورأيت الفتيات ومعهن أختي يضحكن وهن ينظرن إليّ.
نهضتُ مغتاظاً وخرجت أعدو إلى البيت، لابد أن أعاقب هذه الملعونة، كل النساء يستحققن الضرب والتأديب.
قال أبي بنزق :
’’ أين أختك ؟ ‘‘.
دون إبطاء قلت :
’’ واقفةٌ تتحدث مع شاب في الخارج ‘‘.
رأيت وجه أبي ينضح غضباً جارفاً، وكان كمن لدغته حية.
هب واقفاً واندفع نحو الباب، فارتطم بجسد أختي التي دخلت لتوها. لم يمهلها ثانية واحدة ولم يسألها، وأخذت يده القوية تنزل على وجهها وعلى جسدها. ارتفع بكاء أختي وهي تقول بتوسل :
’’ كنت أمزح معه ‘‘ .
كان واضحاً ان أبي التبس في الفهم، فقد اعتقد انها تقصد المزاح مع الشاب. لم ينقذ أختي من الضرب المبرح إلا أمي التي قذفت بنفسها عليها وانتشلتها بقوة من يد أبي.
* * *
كانت النجوم تتلألأ في السماء، والقمر يلقي ضياءً جميلاً ينير ليل أغسطس الشديد الحرارة.
وضعتُ رأسي على المخدة، ونظرت ناحية أختي التي تورم وجهها. كانت لا تزال تنتحب وتمسح دموعها، وأمي تواسيها.
سحبتُ الغطاء على جسدي العاري حتى أخفيت وجهي، وأطلقت بداخلي ضحكة شيطانية.
*****
وقفتُ أمام بوابة البناية الضخمة ورفعت رأسي عالياً، فرأيت المبنى الشاهق يناطح السماء. قلت لنفسي : متى وكيف شيدوا هذا المبني ؟. وتذكرت (كينغ كونغ ) وهو يصعد إلى أعلى المبنى حاملاً بيده معشوقته الشقراء.
دخلت المبنى وبحثت في اللافتة الكبيرة الموضوعة في الممر عن اسم الشركة التي استدعتني لطلب المقابلة الشخصية، فقد تقدمت إليهم بطلب لتوظيفي، ساعياً وراء الحصول على مرتبٍ أفضل يكفى لسد العجز الشهري في ميزانية البيت. لقد أوقعت نفسي في مأزق حين قبلت الزواج من امرأة جاهلة لا تعمل.
وقفتُ أمام المصعد، أربعة رجال وسيدة شقراء جميلة ينتظرون أن ينفتح باب المصعد. فتح الباب فأعطى كل واحد الدرب للسيدة، فدخلتْ مزهوة مبتسمة، ثم تدافع الآخرون وراءها، ودخلتُ معهم. التصقت ذراعيَ بذراع السيدة، فازداد خفقان قلبي ونضح وجهي عرقاً.
قلت لنفسي : أي مغفلٍ أنا، كيف لم أتزوج واحدة بمثل هذا الجمال؟.
توقف المصعد عند الطابق الرابع. خرجتُ. وتركت الرجال الأربعة ينعمون برائحة العطر القوية المنبعثة من الجسد البض النظيف.
اتجهت نحو مكتب الشركة، وتحدثت مع موظفة الاستقبال، التي استقبلتني ببشاشة وطلبت مني برقة أن أراجع مكتب التوظيف بالطابق الثاني والعشرين في المبني نفسه. شكرتها وعدت إلى المصعد.
انفتح الباب، ودخلت. هذه المرة لم يكن أحد معي. ضغطت على الرقم الثاني والعشرين، فدهمني شعور خفي بالخوف، فالبقاء وحيداً في مصعدٍ يرتفع يبعث على الفزع، فماذا يحدث لو توقف فجأة، أو انقطع التيار الكهربائي، أو وقع حريق بالمبنى ؟.
أدرت رأسي حتى لا أرى الأرقام المتواثبة، وتنشقت بقوة رائحة العطر التي كانت لا تزال تحتوي المكان، وتذكرت زوجتي بثوبها المبقع بالدهون والوسخ.
الطابق 20، 21، 22، ولم يتوقف المصعد. إنه لا يزال يرتفع. أضغط على الرقم الثاني والعشرين، ولكن المصعد لا يتوقف إلا في الطابق الثالث والعشرين. أشعر بالغيظ والحنق، وأتوقف منتظراً أن ينزل المصعد طابقاً واحداً، ولكنه يأبى أن يتحرك، كأنما يطلب مني أن أخرج.
مضت دقيقة واحدة ولم يتحرك المصعد، فقررت أن أختار السلم طريقاً للنزول. خرجت، فانغلق باب المصعد، ثم سمعت حركته وهو ينزل. هززت رأسي تعجباً ثم التفت باحثاً عن السلم. وقفت مأخوذاً بالدهشة حين رأيت الطابق خالٍ من أية حركة، كأنما لا أحد يقيم هنا. مشيت في الممر فلم أر إلا شققاً خالية لا يقطنها أحد.
عدت باحثاً عن السلم، وشعرت بالطمأنينة حين وجدته. نزلت مسرعاً. بغتة شهقت بفزع حين رأيت جداراً أسمنتياً في منتصف السلم يسد الطريق عن النزول.
عدت من جديد إلى المصعد، وصببت اللعنة على زوجتي التي كانت السبب في مجيئي إلى هنا. ضغطت على الزر منتظراً قدوم المصعد.
وقفت انتظر وشعور بالاضطراب والوحشة يعتمل في صدري. كررت الضغط على الزر ولكن باب المصعد لم ينفتح أبداً.
ضربت بيدٍ قوية على الباب عل أحداً يسمعني.
انقضت نصف ساعة وأنا أنتظر قدوم المصعد دون طائل. كيف أنزل الآن ؟. كيف أبرر لهم هذا التأخير ؟.
بحثت في الطابق بأسره عن مكان آخر للنزول، فما وجدت إلا المصعد الذي لا يجيء، والسلم المسدود.
انقضت ساعة على الانتظار. رفست المصعد بعصبية شديدة، ووضعت فمي على فتحة الباب وصرخت بأعلى صوتي.
انقضت ساعة أخرى.
وساعة أخرى.
شعرت بالإنهاك والتعب. فكرت، هل أحاول تحطيم الجدار الأسمنتي، لكنني استبعدت الفكرة عن ذهني. فتحت نافذة إحدى الشقق ونظرت إلى أسفل ، فهالني منظر العلو الشاهق، فأغلقت النافذة وعدت إلى المصعد.
طمأنت نفسي بأن المصعد لا بد وأن يكون قد تعطل لسببٍ من الأسباب، وأنهم الآن يعيدون تشغيله، أو على أقل تقدير فلا بد أن عمال النظافة سيأتون بعد قليل. لا يمكن أن أبقى هنا إلى الأبد. ولكن حين تلاحقت ساعات الانتظار دون جدوى أصبت بالانهيار وكدت أبكى كطفل صغير.
عدت إلى النافذة. فكرت، قد يراني أحد ويأتي لمساعدتي. تعالوا إلي، لا تتركوني وحيداً.
الشمس كانت كرة صفراء تتدحرج نحو المغيب، وأنا واقف أمام المصعد أنتظر أن يفتح الباب.
جلست على الأرض من شدة التعب ولم أستطع أن أفكر في أي حلٍ لهذه الورطة.
لو كنت ( كينغ كونغ ) لنزلت من هنا بسهولة، ولحطمت هذا المبنى اللعين على من فيه، ولكنني إنسان ضعيف.
بدأ الظلام يبحث له عن مكان في الطابق، فأسرعت لإشعال الضوء، ثم أخذت أذرع المكان جيئة وذهاباً والتفت بين الحين والآخر إلى باب المصعد.
وقفت وأطلقت من داخلي صرخة غاضبة، ورفست الجدران حتى سكنت ثورتي فشعرت بحاجة ملحة للبكاء.
فجأة، فكرت، لم لا أصعد إلى أعلى، فأنا لم أفكر إلا في النزول، لم لا أجرب الصعود، لعل الحظ يسعفني هناك.
صعدت السلم، وسمعت ما يشبه الهمهمات تنبعث من مكان ما. أسرعت في الصعود، بينما الهمهمات تزداد اقتراباً من أذني.
أنا الآن في الطابق الرابع والعشرين. واقف بذهول أمام باحة مفتوحة مغطاة بالسواد. في الجوانب شموع كبيرة تنير المكان، وفي الوسط يجلس ضفدع كبير الحجم على كرسي يكبره حجماً، وحوله تدور مجموعة من النساء العاريات وهن يؤدين رقصات خلاعية، وعلى وجوههن تشنجات وتقلصات قبيحة، ثم يتفرقن ويصبحن مجموعات، كل مجموعة من ثلاث عشرة امرأة، يوسخن أجسادهن بالقذارة المنتشرة في المكان. كل شيء هنا يبعث على الغثيان. يلتفتن نحوي فأجفل وأنكص إلى الوراء.
أرى المرأة الشقراء الجميلة التي شاهدتها صباح اليوم وهي تتقدم إلي. جسدها الملوث ينتفض في رقص عربيدي. فجأة تدفعني يد قوية من ورائي إليهن. فأقع على الأرض. كل النساء يتقدمن ناحيتي، في عيونهن شبق ناري، ويصدرن أصواتاً أشبه بالفحيح، وعلى وجوههن تلك التقلصات القبيحة التي أمقتها. أحاول باندفاعة قوية أن أتخلص منهن فافأجأ بالضفدع الكبير الحجم يقفز من على الكرسي ويحط على صدري، ثم بحركة سريعة يحط على وجهي فيغطيه ويخنق أنفاسي برائحته الكريهة.
أشعر بأيادٍ كثيرة تنزع ثيابي قطعة قطعة. أحاول أن أحرك الضفدع الذي يكتم أنفاسي ولكنني كنت أضعف من ذلك، وبعد لحظات غبت عن الوعي ولم أعرف ماذا جري بعد ذلك في الطابق الرابع والعشرين.
فتحت عيني، رأيت المرأة الشقراء الجميلة ووراءها الرجال الأربعة يحدقون فيّ باستنكار. نظرت إلى ما حولي، رأيت نفسي منبطحاً على أرضية المصعد المفتوح.
قمت مسرعاً ومددت يدي إلى عنق السيدة الشقراء التي تراجعت مذعورة، محاولاً أن أعرف منها ماذا جرى ليلة البارحة، ولكن الرجال الأربعة هجموا علي ودفعوني خارجاً بعد أن أدخلوا السيدة الشقراء معهم إلى المصعد.
خرجت من المبنى بخطواتٍ متثاقلة، وسحبت هواءً كثيراً إلى رئتي، فشعرت بالحياة من جديد. رفعت رأسي إلى المبنى الشاهق، فرأيت نفسي إنساناً ضئيلاً.. ضئيلاً جداً.
*****
هبّ من نومه فزعاً أثر سماعه وقع ضربات قوية تكاد تخلع باب داره. أما زوجته، التي كانت ملتصقة بظهره، فقد وثبت من مضجعها وجلةً، خائفةً، تنقل عينيها الواسعتين المتسائلتين بين زوجها والباب. الطرق يزداد عنفاً على الباب.
’’- ترى من يكون ؟ ‘‘.
هرع نحو الباب، في حين انكمشت زوجته في الفراش ملتجئة إلى صدر طفلها الصغير الذي لا يتجاوز عمره العامين.
عند الباب توقف وبصوتٍ نزق سأل عن هوية الطارق.
’’ - افتح بسرعة، لا تضع الوقت ‘‘.
فتح الباب وأدهشه رؤية الطباخ الذي يعمل في بيت سيده وهو يلهث مضطرباً.
’’ - ماذا حدث ؟! ‘‘.
’’ - أسرع أرجوك، سيدنا في خطر، يجب أن ننقذه‘‘.
’’ - ..................... ‘‘.
’’ - مجموعة من اللصوص اقتحموا البيت وحاولوا قتله، لقد سمعتُ صوته المتحشرج وهو يستغيث بك. أرجوك أسرع، لا تضع الوقت ‘‘.
عاد إلى زوجته على عجلٍٍ وطلب منها أن تغلق الباب جيداً حتى وقت رجوعه. استفسرت عما حدث، ولكن زوجها كان قد اندفع خارجاً حاملاً بندقيته.
أطلت من النافذة فرأته يركض بأقصى سرعته متجهاً نحو بيت السيد القريب من دارهم، بينما الطباخ يعجز عن اللحاق به.
كان الباب موصداً بإحكام من الداخل. التفت ناحية الطباخ ولكنه لم يجد له أثراً. تراجع إلى الوراء واندفع نحو الباب يضربه بكتفه ضرباتٍ قوية حتى انفتح. خطواته السريعة تعثرت أثناء صعوده السلالم متجهاً إلى حجرة سيده. كانت إصبعه ملتصقة بالزناد تنتظر سنوح الفرصة للضغط.
طرق بعنفٍ على باب حجرة سيده، وانتظر بضع ثوان، لكنه لم يحتمل اضطرابه الشديد.
’’ - سيدي سأكسر الباب ‘‘.
واندفع بقوةٍ هائلة فارتطم جسده القوي بالباب فانخلع من شدة الضربة. توقف مذهولاً فاغر الفم مطوّقاً بالخوف أمام سيده الذي كان جاثياً على فراشه غارقاً في دمائه.
ببطءٍ شديد اتجه نحو الجثة وحركها ثم أطلق لدموعه العنان، بعدئذ عصف به غضبٌ مفاجئ فأسرع إلى الهاتف وحاول الاستنجاد بالإسعاف والشرطة ولكن سلك الهاتف كان مقطوعاً.
ومضت في ذهنه فكرة فأسرع بالخروج من البيت. المرأة كانت تتابع ما يحدث من وراء زجاج النافذة وقلبها يخفق خفقاناً سريعاً، تتمنى أن تعرف ماذا يجري في بيت السيد.
أثناء ركضه في الشارع شعر بأنه لا يستطيع أن يتمالك مشاعره، فتوقف لحظاتٍ وبكى بكاءً مراً. انه يحب سيده حباً عظيماً، يطيعه ويحرسه، وهو لا يريد أن يطيع أو يحرس سيداً آخر.
وبغضب جارف قال :
’’ كيف يجرؤ هؤلاء الأوغاد على قتل الأسياد؟‘‘.
لحسن حظه صادف في تلك اللحظة مرور سيارة الشرطة، فاستوقفها، وطلب منهم أن يتبعوه، لكنهم حين رأوا البندقية في يده تراجعوا إلى الوراء وطلبوا منه أن يسلمها لهم. ولما أكثروا في السؤال وأثاروا غضبه، ذكر لهم أنه عبدٌ للسيد فانصاعوا لأمره وأسرعوا إلى موقع الجريمة.
توقفت سيارة الشرطة عند باب البيت، فأسرع راكضاً إلى داخل البيت، ومن ورائه رجال الشرطة الذين يتبعونه إلى الداخل، لكنه توقف متجمداً في مكانه حين رأي سيده مع مجموعة كبيرة من ضيوفه يضجون بالضحك بأعلى أصواتهم، ولما رأوه ازداد ضحكهم ووقع بعضهم على قفاه من شدة الضحك وهم يشيرون بأصابعهم عليه. أما سيده فقد اتجه مبتسماً ابتسامة عريضة نحو رجال الشرطة، وتحدث مع أحدهم ببضع كلمات، فانفجر الشرطي ضاحكاً ورفع يده بالتحية وغادر المكان مع الآخرين.
أما هو فقد صعقته المفاجأة، فلم ينبس بحرف، واكتفى بأن ابتسم ببلاهة وأدار رأسه بين الجموع يسمع قهقهاتهم العالية.
جاء سيده إليه وربت على كتفه وقال موجهاً كلامه للحاضرين :
’’ ألم أقل لكم إنه عبدٌ وفي ‘‘.
كانت المرأة تنظر من النافذة ناحية بيت السيد متمنية أن يعود زوجها لتعرف ماذا يحدث هناك، وشعرت بطمأنينة حين رأته مطرقاً يمشي بخطواتٍ متثاقلة عائداً إلى الدار.
*****
لا أدري بالتحديد ما حدث، أفقت ووجدت نفسي في قارب مطاطي أصفر اللون، محاطاً ببحر عميق، ساكن، رحيم. القارب لا يقاوم الأمواج. الأمواج تأخذنا، تسلمنا لأمواجٍ أخرى. من فوقي شمس هادئة تكشف عن أعماق البحر. يبدو أنها شمس نيسان.
أرفع رأسي، أتطلع إلى كل الجهات، لا شيء سوى البحر. لا حطام سفينة غارقة. لا جثث. لا أصوات بشرية. لا سفن عابرة. لا طعام. لا أعرف الوقت. لا أجد بطاقة هوية في جيبي. لا أعرف اسمي . لا مرآة لديّ لأرى وجهي. لا أتذكر شيئاً. لا شيء سوى البحر.
أتحسس قدمي، صارت بيضاء ناصعة، والجلد الذي يحميها انتفخ وكاد يتشقق. ليتني أعرف كيف جئتُ إلى هنا، وأين أنا الآن، وإلى أين سأتجه ؟.
لا يمكن أن أكون قد ولدتُ هنا، في هذا القارب المطاطي. لابد من حادثةٍ وقعت أتت بي إلى هنا. أنا الآن جائع، عطش، تعب.
سأحاول أن أنام وأتجاهل عبث الأمواج، فالوقت سلحفاة كسولة، والجوع نمرٌ ينشب مخالبه في أمعائي.
أرفع رأسي مرة أخرى، فقد أرى سفينة عابرة تنقذني، لا شيء سوى البحر، وأنا لا أملك شيئاً سوى النوم.
الاحتمال الأول :
ربما كنتُ في مدينة ما. جالساً في بيتي أنصت بشغفٍ لشدو بلبلٍ عاشق. أحلم بالعشق، بامرأة تسحرني، تملكني، تأتيني بدل الأحلام كل ليلة.
لكنهم يستفزونني، ولا يدعونني أنصت. أسمع في الخارج وقع أقدام راكضة . أسمع ضجيجاً، صراخاً، عويلاً. أسمع طرقاً عنيفاً على الباب، لا أفتح.
لا يهمني ما يحدث في الخارج، فليموتوا إذا شاءوا، وليتركوا لي البلبل العاشق يشدو لي أغنيات الحب. البلبل يفزع وينتفض. أطلب منه البقاء، ولكنه يطير مبتعداً. أكاد أنفجر، أقوم غاضباً، أفتح الباب، أرى دخاناً، ناراً، أقداماً تتعثر في ركضها.
تعلو أصوات الحناجر : ’’ الحرب.. الحرب ‘‘.
أقف عند مجموعة من الناس يصغون بهلعٍ إلى راديو صغير يبعث خطاباً مليئاً بالتهديد والوعيد :
( دمرنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأهلكنا العباد، وأذقناهم العذاب، وجعلنا عظيمهم صغيراً، وأميرهم أسيراً . تحسبون أنكم منا ناجون أو متخلصون، وعن قليلٍ سوف تعلمون علام تقدمون، وقد أعذر من أنذر ).
يتصايح الناس وتعلو أصواتهم المذعورة:
’’ إنهم قادمون إلينا ‘‘.
أرى قائداً قميئاً يتقدم جمعاً من المسلحين، يبحث عن متطوعين للقتال. يقف عندما يراني، يشير بإصبعه إليّ. يأخذونني معهم. يعطونني رقماً. بزة عسكرية. بندقية. يأخذونني إلى الصفوف الأمامية، يطلبون مني الدفاع عن الوطن.
رائحة الجثث المحترقة تبعث في نفسي التقيؤ. والعيون المرتعبة في الخنادق، ووراء المتاريس، تزيدني هلعاً.
اسأل : ’’ سنحارب ضد من ؟ ! ‘‘.
لا أحد يجيب، يبدو أنهم لا يعرفون الجواب مثلي.
يأتي القائد ويقف بعيداً عنا، أراه يقشر برتقالة ويعصرها بين أسنانه. يصرخ وفمه مملوء : ’’ أطلق ‘‘.
نطلق. ترتد الرصاصات. تدخل أجساد الذين يطلقون. يزيدون من عدد القتلى. قذيفة صاروخية تعبر إلينا، تسقط بالقرب منا، فيموت المحاربون.
أبحث عن خوذتي لأحتمي بها. أقوم، أبحث عن وسيلة للنجاة. أهرب. شخص ما يحتضر يقول لي :
’’ الفرار من المعركة خيانة ‘‘.
تأتي قذيفة أخرى. أركض. القذيفة خلف رأسي تماماً. هناك البحر. أسرع. أقذف بنفسي في الماء بينما القذيفة تهوي بعيداً عني.
المدينة تحترق، والقتلى في كل مكان. أحجب عيني من الرؤية وأغطس في الماء.
أرفع رأسي، أنظر من حولي فقد تعبر سفينة من هنا. أشعر بصداع موجع وبجوع شديد. أمد يدي إلى ماء البحر، أشرب القليل من الماء المالح وأعود للنوم.
الاحتمال الثاني :
ربما كنتُ في مدينةٍ ما. واقفاً عند محطة باص في ليلٍ ينفث حرارة ورطوبة. أنتظر مجيء أبي مع العمال بعد يومٍ من الكدح. أحاول عد النجوم. أدقق في البقع السوداء التي تظهر على وجه القمر. أجلس على الأرض. أخاف من صرصور يتجه نحوي.
يجيء الباص فيقفز قلبي من مكانه. أشعر بالغبطة والفرح. أحملق في الوجوه باحثاً عن وجه أبي، لا أحد سوى أبي. أراه يطل برأسه، يندفع نحوي، أندفع نحوه. يرفعني إلى فوق، ثم يجلسني على كتفيه ويأخذني إلى البيت.
أحب رائحة الزيت المنبعثة من ثيابه. أجرى لأعد له النارجيلة بينما هو يعد العشاء. نأكل معاً. نضحك معاً. وعندما تحين ساعة النوم يأخذني إلى سطح البيت. يرش بعض الماء على فراشينا. استلقي على الفراش. لا أهتم بوجه القمر، ولا بحساب النجوم، فأبي سيحكي لي حكاية الهدهد والملك سليمان. وعندما تنتهي الحكاية أتعرى من ثوبي بينما يقوم بوضع الدواء السائل على الدمامل التي تغطي جسدي.
في الفجر نستيقظ. نتوضأ. نسير معاً إلى المسجد. اسأله في الطريق :
’’ أبي، هل ستدخل أمي الجنة ؟ ‘‘.
هناك رجال مسلحون يقفون عند باب المسجد. يحكم أبي قبضته على يدي. يتجهون نحونا. يسألون أبي عن هويته. يتلعثم ولا يجيب. يسألونه مرة أخرى. يجيب بأن لا بطاقة هوية معه. يأخذوننا إلى مركز قريب للجيش، يلقون بأسئلة كثيرة على أبي. أتشبث بثوبه خائفاً. يأخذوننا بعد ذلك إلى المرفأ. نركب سفينة مكتظة بالناس والمواشي والبضائع. يبكي أبي فأبكي معه.
يقول :
’’ زوجتي ماتت هنا، وابني ولد هنا ‘‘.
السفينة تمضي، والشاطئ ينأى .
من المحتمل أن السفينة لم تصل إلى أي مكان. وظلت في البحر سنوات طويلة. ربما بعد ذلك غرقت، ونجوت أنا من الغرق.
ما أقسى البحر. ما أقسى الجوع. وهذا القارب لا يصل إلى أي مكان. يخيل إلىّ أحياناً أنه لا يتحرك من مكانه. من الأجدى أن أجدف بيدي لعلني أصل.
الاحتمال الثالث :
ربما كنتُ في مدينةٍ ما. واقفاً عند البحر ساعة الغروب، أنتظر لقاء حبيبتي. هي ليست بامرأة عادية. إنها تحبني، تقطف لي من حديقة قلبها وردة فأصير طفلاً صغيراً. تحملني بحنو بين ذراعيها، وتطير بي إلى المملكة المسحورة. هناك تتحول حبيبتي إلى طفلة جميلة. ندخل المملكة ولا نرى إلا الأطفال. انهم في غاية السعادة. ينشرون فيما بينهم الحب. الموسيقى. الرقص.
حبيبتي في ذلك اليوم لم تأت. جعلتني أنتظر ساعات من القلق. سمعتُ من ورائي أصواتاً غاضبة. رأيتُ جمعاً من الناس يهرعون نحوي حاملين الفؤوس والهراوات والخناجر. كان والد حبيبتي يتقدمهم، يسبقهم في الركض نحوي.
أتراجع إلى الوراء. البحر أو الموت. أتراجع كثيراً. هم يتقدمون. أغطس في الماء.
أرطب شفتي بالماء المالح. أنظر إلى البعيد، كأنني أرى سفينة تمخر البحر. أقف. ألوّح بيدي، وأصرخ بأعلى صوتي. السفينة تغيب.
ربما لم تكن هناك سفينة. أعود وأستلقي على ظهري وأغمض عيني.
الاحتمال الرابع :
ربما كنت في مدينةٍ ما. أهلها نيام. لا يعملون. لا يتكلمون. لا يتحركون. وأنا جالسٌ اقرأ في كتابٍ قديم. تستوقفني عبارة تقول أن مدينتنا سينقض عليها كوكب عظيم فتضيء منه الدنيا حتى تصير كشعاع الشمس، ويسمع بعد انقضاضه صوتٌ كالرعد الشديد، ثم ينقص البحر ثمانين ذراعاً، وتظهر فيه جبال وجزائر وأشياء لم تعهده. وستقذف الأرض عظام الموتى، وتتفجر منها المياه، وتنخرق خروقاً عظيمة، وتخرج منها مياه منتنة ودخان عظيم، ويشتد الغلاء حتى نأكل الجيف والروث والآدميين، ونتعدى إلى حفر القبور وأكل الموتى، وتصير الطرق مزروعة بالموتى، وتصير لحومها للطير والسباع.
أجفل، وأسرع إلى طرقات المدينة. اصرخ في الناس :
’’ أفيقوا.. أفيقوا، سيأتينا البلاء ‘‘.
ولكنهم لا يسمعون ما أقول. كل من في المدينة نائم. أدخل البيوت، أحرك الأجساد النائمة، يستيقظون وسرعان ما يسقطون. اسمع صوتاً مدوياً، لا بد أن الكوكب قد انقضّ على مدينتنا. اصرخ بأعلى صوتي :
’’ أفيقوا ‘‘.
الصداع. الجوع. البحر. القارب المطاطي.
الاحتمال الخامس :
قد لا يكون كل هذا سوى كابوسٍ مفزع يحوم في رأسي، وسينتهي بعد قليل حينما أمتلك القدرة على أن أستفيق من نومي، وأنفض الكابوس من رأسي.
******
أسدل جفنيه تاركاً لزورق أفكاره التهادي على أمواج الخيال. تأتي فاطمة وتكون الخيال. تأخذ الزورق إلى اللجة. تتركه بين عصف الريح وعذاب الوصول. ينهكه العذاب، ولا يصل. بغتة يفتح عينيه. يتذكر شيئاً. يهبّ ويسرع إلى درج المكتب. يبعثر الأوراق. يقلب صفحات الكتب، لا يجد شيئاً. عيناه نمران غاضبان، ويداه المرتعشتان تهزان بعنفٍ كل الأوراق. يتوقف. تقفز البسمة إلى شفتيه، وينفث زفرة مضطربة. بحنوٍ يتلمس الصورة.
( كان واضحاً أنها صورة لعارضة أزياء لها انحناءة في الذقن تشبه انحناءة ذقن فاطمة ).
يرفع الصورة إلى شفتيه، يقبلها برقة، ويقول بأسى :
’’ ليتكِ تحبينني ‘‘.
ينتبه إلى جرس الباب. يضع الصورة في درج المكتب. يسرع لفتح الباب. يصعق حين يراها واقفة أمامه. هي وليس غيرها. يدهمه العرق والارتباك. ترتجف شفتاه. ينتبه إلى طفلٍ صغير أسلم رأسه لكتفها.
تقول له غاضبة :
’’ أريدك أن تفهم شيئاً، أنا امرأة فاضلة، أحب زوجي وأعيش لطفلي الصغير ‘‘.
يجفل، ويكاد يقع مصروعاً من وقع كلماتها القاتلة.
(كثيراً ما كان يترصد خطواتها).
’’ - اني أحذرك، ولكن في المرة القادمة... ‘‘.
بحركة لا إرادية يسد الباب في وجهها. يحكم إغلاقه. يغطي الباب بظهره. ويصيخ لوقع خطواتها المبتعدة، وسيل الشتائم التي خلفتها وراءها.
كطفلٍ خائف يختبئ في ركن، يغطي وجهه بيديه باكياً. آلمه كثيراً أن يهان، أن تكون كرامته عصفوراً ذبيحاً، أن تكون نتيجة أول كلمة يسمعها منها شرخاً بالداخل.
أفرط في البكاء وهو يتساءل :
’’ لِمَ حدث كل هذا ؟ ‘‘.
جاءت الخيبة وصاحبته تلك الليلة. قرر أن لا يخطو خارج البيت إلا بعد أن تأتي وتعتذر له عن الإساءة.
في صباح اليوم التالي استنكف من الذهاب إلى العمل، وجلس على سريره يحدق في الشرخ الذي في الجدار. سمع قطاً يموء وراء النافذة. فتح النافذة. رأي القط الأسود الذي يشاركه البيت ينظر إليه باحتقار. قفز إلى الداخل وأسرع إلى المطبخ، باحثاً عن بقايا الطعام.
شعر بغيظٍ شديد، واشتعلت الدماء في رأسه. قال لنفسه :
’’ حتى هذا القط يهينني، يدخل كيفما شاء ويرمقني باحتقار ‘‘.
أسرع وراء القط. القط كان مشغولاً بالبحث عن لقمة يسدّ بها جوعه. وقف في مواجهته. القط لا يعيره انتباهاً.
’’ - أنت وقح وحقير، ستخرج الآن من بيتي وإلا قتلتك ‘‘.
تجاهل القط الأسود كلماته، فأسرع لإحضار حبل طويل. أقفل باب المطبخ والنافذة. أمسك القط جيداً. وضع قدميه على وجهه، وربطه من يديه ورجليه. شعر القط بأنه وقع في كمينٍ فأخذ يموء بصوتٍ عال، ويحاول جاهداً الخلاص.
ربط طرف الحبل بالمروحة، وترك القط الأسود معلقاً في الهواء. جلس يتأمل وضع القط. ابتسم. أحس بالتعب ولم يقاوم فكرة النوم، وذهب لينام.
عند الظهر قام من نومه مذعوراً، فقد رأي في الحلم ان الشرخ الذي في الجدار كبر وان البيت كله تهاوى عليه.
تحرك نحو المطبخ ليشرب شاياً. رأي القط منهوك القوى. كان صوته متعباً وهو يموء أمامه.
’’ - حان الآن وقت محاكمتك، أنا حاكم هذا البيت آمر بإخصائك حتى تكف عن ملاحقة السيدات الفاضلات ‘‘.
سحب سكينة كبيرة. قربها ببطء من القط. وبحركة سريعة قطع خصيتي القط الذي ارتفع عالياً من شدة الألم. لم يحتمل المنظر فجرى إلى سريره لينام مرة أخرى.
أقفل باب الحجرة. وضع الغطاء على رأسه محاولاً منع أذنيه من سماع أصوات القط الرهيبة. تكوّر في الفراش وبكى.
مرت ساعات وهو في الفراش ( لم يكن نائماً ولم يكن يقظاً ) ، قام ومشى بتثاقل نحو المطبخ. رأي القط الأسود ميتاً، وبقع الدماء قد لطخت المكان كله.
قطع الحبل. سقط القط على الأرض. وضعه في كيس. فتح باب البيت. رأى الليل ينشر الظلام. قذف الكيس في الشارع، وقبل أن يوصد الباب، رأي قطة صغيرة تبعد عنه قليلاً. ابتسم، وتحرك نحوها على مهل. فزعت القطة الصغيرة. توقفت عن الحركة. مدّ لها يده. تأهبت القطة للفرار. قرّب يده. ابتعدت. توقفت. قرّب يده. لم تهرب.
مسح على شعرها برقة فأغمضت عينيها. حملها برفق إلى داخل البيت. أدخلها المطبخ، وأحضر لها حليباً وقطعة جبن صغيرة. بلهفة أخذت القطة الصغيرة تأكل وتشرب. ابتهج، وحين وقعت عيناه على الحبل المتدلي من المروحة خطرت بباله فكرة.
*******
(1)
توقفت سيارة صغيرة بحثاً عن مكانٍ للوقوف، ثم تحركت إلى عدة جهات حتى وجدت منفذاً للدخول بين سيارات عديدة كانت متكوّمة خارج المتنزه .
نزل من السيارة رجلٌ ومعه ابنه الصغير الذي لا يتجاوز الخامسة من عمره. مدّ له يده فالتقطها الصغير ومشيا معاً متجهين إلى داخل المتنزه .
كانت الشمس قد خفّت من حدة توهجها فبدا الجو رائعاً لقضاء عطلة الجمعة في هذا المكان.
فرحة الصغيرة كانت عظيمة حين شاهد الأراجيح والطائرات الهوائية، واغتبط حين سمح له والده باللعب بعد أن حذره من السقوط.
جلس الرجل على كرسي وراحت عيناه تراقبان الصغير الذي سرعان ما تحادث مع الأطفال الآخرين وشاركهم اللعب.
(2)
ركض الصغير متجهاً إلى الرجل وطلب منه نقوداً. أخرج الرجل ورقة نقدية اختطفها الصغير وركض إلى بائع المرطبات. عينا الرجل تتابعان الصغير.
ينتبه فجأة إلى صغيرين يتعاركان، بينما يقف الآخرون يتفرجون عليهما. يطلب منهما التوقف لكن لا أحد يلقي بالاً إلى كلامه. يقوم ويفصل ما بينهما حتى توقفا عن العراك. عاد إلى كرسيه. عيناه تبحثان عن ابنه، يراه فتستكين هواجسه.
(3)
باص أصفر اللون يقف عند باب المتنزه. ينزل من الباص ثلة من الرجال الملثمين، معظمهم يحمل سيوفاً براقة، أما البقية فتحمل طبولاً ودفوفاً.
دخلوا المتنزه فاسترعى اهتمام الموجودين حضور مثل هؤلاء الرجال دون مناسبة أو احتفال.
توقف الأطفال عن اللعب، وتحركت العيون تجاههم. كانوا يتقدمون نحو منتصف المنتزه. يتوقفون. يأخذ الضاربون على الطبول والدفوف مواقعهم ويبدأون في الضرب عليها، أما بقية الرجال فقد أخذوا يؤدون رقصة الحرب على إيقاع الطبول.
الرجل يتابع حركاتهم بوجلٍ ويخطف بصره بين حينٍ وآخر إلى الصغير الذي كان يدسّ رأسه بين الرؤوس الصغيرة لمشاهدة رقصة الحرب.
قام واتجه نحو الصغير، أخرجه من بين الجموع وحمله إلى أعلى واضعاً إياه خلف رقبته حتى لا يحول شيء دون النظر إلى الراقصين.
(4)
أصوات الطبول تزداد قوة. الراقصون يرفعون سيوفهم البراقة إلى أعلى ويهوشون بها الهواء، وكل الذين كانوا في المتنزه طوّقوهم في دائرة بشرية مذهولين بما يقوم به الرجال الملثمون.
كان الصغير يتابع بشغفٍ منظر الراقصين بينما الرجل ينظر إلى أحد الملثمين وهو يتجه نحو بوابة المتنزه ويوصد بابها من الداخل ثم يعود ويدخل الدائرة البشرية.
(5)
الطبول تكاد تنفجر لشدة الضرب عليها، والسيوف تلتمع في السماء، والرجال الملثمون يدورون حول الدائرة البشرية ينظرون إلى الصغار والكبار المأخوذين بهم. فجأة يطلق أحدهم صيحة قوية، فتشتد أيدي البقية على مقابض السيوف، ويتوقف الضرب على الطبول والدفوف، وفي لحظة سريعة أخذوا يمررون سيوفهم الحادة بكل قوة على رؤوس المتجمعين دون تمييز.
*****
اجتاز البوابة الكبيرة وجلاً، فعيون العساكر ترمقه وتستفسر عن سبب مجيئه. نكس رأسه إلى الأرض وتمنى أن ينتهي من الموضوع بسرعة. كان يعرف ان العيون تتبع خطواته.
وصل إلى بوابةٍ كبيرة أخرى، يحرسها عسكريان يحمل كل منهما رشاشاً صغيراً. تحدث مع أحدهما فأشار إلى بوابة صغيرة في الطرف الآخر. وصل إليها. استوقفه عسكري آخر. سأله. وطّن نفسه على الثبات وأجاب على أسئلته. اتصل العسكري من خلال جهاز اللاسلكي الذي يحمله. انتظر ورأي شخصاً قادماً نحوه. فتح الباب وطلب منه أن يتبعه.
اجتازا فناءً واسعاً حتى وصلا إلى المكتب. طلب منه الانتظار واختفى. بعد قليل جاءه الشخص الأنيق الذي لقيه به أول مرة. مدّ يده له بالتحية.
’’- نحن آسفون جداً لإزعاجك، الإجراءات لم تنته بعد ‘‘.
’’ - أنا في خدمتكم ‘‘.
تحدث معه الرجل طويلاً. رنّ الهاتف. رفع السماعة وبعد ثوان أنزلها. استأذنه في الذهاب طالباً البقاء حتى يعود لاستكمال الإجراءات.
جلس يشاهد عقارب ساعة الحائط الكبيرة وهي تدور ببطءٍ شديد. لعن الساعة التي قَبِل فيها أن يكون شاهد إثبات في جريمة قتل.
مضت ساعة وهو جالس في مكانه. شعر بالملل والضيق. بغتة أمسكت يدٌ قوية بكتفه ورجفته كالريح حين تهز الأشجار. حرك عينيه بسرعة فرأى عسكرياً جهم الوجه ينظر إليه بريبة.
’’ - أنا أنتظر السيد.... ‘‘.
أوقفه عن الكلام وقذف عليه كلاماً سريعاً :
’’ - اخرس، من سمح لك بالجلوس هنا، ألست أحد المشبوهين في جريمة... ؟ ‘‘.
حاول أن ينطق بحرف، ولكن الآخر طلب من العساكر أن يأخذوه.
’’ - سيدي، أسأت الفهم، أنا لستُ مشبوهاً، أنا الشاهد الذي … ‘‘.
’’ - ستقول هذا الكلام للسيد.... فيما بعد، أما الآن فستبقى في مكانك حتى يطلبك ‘‘.
صعقه الكلام فتيبس في مكانه.
’’ - سيدي أنا شاهد، كيف تسجنون شاهداً ؟‘‘.
صوته المرتعش ضاع وسط الضربات العنيفة لأحذية العساكر وهي تجتاز الفناء الواسع. لم يكن يستطيع أن يتخيل أن كل هذا سيحدث له.
فتحوا الباب. أغلقوا الباب.
ابتسم حزيناً وفكر أن ينام حتى لا يموت كمداً. غطى رأسه ونام.
استفاق على جلبةٍ وأصوات عالية وكلمات بذيئة تخرج من الأفواه دون حساب. لأول وهلة ظن نفسه نائماً وتردد في أن يصدق ما يراه أمامه. رأي رجلين يرتديان ثياباً قديمة جداً. استراب في أمرهما وحدس أنهما ممثلان مسرحيان أو مخبولان فتوجس منهما خيفة.
أحدهما كان منفعلاً يجوس الحيطان بعينيه ويضرب بقدمه الأرض، أما الآخر فقد كان هادئاً، ينظر إلى السماء خلف الكوّة الضيقة . ندت عنه آهة جريحة واقعى على الأرض.
كان يتابعهما بنظرات خائفة، ولم يجرؤ على التحدث معهما. التفت نحوه الرجل الهادئ وألقى عليه بالتحية.
’’ السلام عليك أيها الرجل ‘‘.
الرجل المنفعل انتبه له أيضاً فتوقف عن الحركة وألقى عليه بالتحية.
’’ السلام عليك أيها الرجل ‘‘.
أجاب على تحيتهما ببرود.
’’ - من أية فرقة أنت ؟ ‘‘.
قال مبتسماً :
’’ أنا لا أجيد التمثيل ‘‘.
ضحك الرجل الهادئ :
’’ كما لو أنك لم تفهم ما أروم إليه ‘‘.
قال مبتسماً :
’’ هذى هي الحقيقة، أنا لا أجيد التمثيل ‘‘.
واصل الرجل الهادئ ضحكه.
’’ - يحفظك الله يا أخي، تضحكني وسيف المعتضد سيجز رقبتي ‘‘.
ببلاهة قال :
’’ ومن يكون المعتضد هذا ؟ ‘‘.
قال الرجل المنفعل في استغراب:
’’ أنت في سجنه وتجهله ؟ ‘‘.
غبي بالأمر فصمت.
’’ - ألا تعرف الذي سيصلبك، أو يفصل رأسك عن جسدك ؟ ‘‘.
استشاط غيظاً ونهض قائلاً :
’’ يجب أن تفهما أنني جئتُ إلى هنا لأشهد لا لأصلب‘‘.
قال الرجل الهادئ :
’’ على رسلك يا صاحبي، لا تؤاخذنا إن أثرنا غضبك، فقد كشف الأمر وباح السر ولا انتظار إلا للموت ‘‘.
هدأ وعاد للجلوس على الأرض.
’’ - أي أمرٍ هذا ؟ ‘‘.
’’ - ألا تعرفني ؟ ‘‘.
هز رأسه بالنفي فابتسم الرجل الهادئ.
قال الرجل المنفعل :
’’ هذا محمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة الكاتب، ألم تسمع عنه ؟ ‘‘.
قال محمد بن الحسن :
’’ وهذا صاحبي عبيد الله بن المهتدي ‘‘.
لم يقل شيئاً، ابتسم وتكوّر وغطى رأسه ونام.
لم تمض مدة طويلة حتى استفاق ودون أن يتحرك أصاخ لما يدور بينهما من حديث. سمع محمد بن الحسن يقول لصاحبه :
(... وحينذاك يبدأ بخراب المدن والبلدان، فأما المؤتفكة فيطمى عليها الفرات، وأما الزوراء فتخرب من الوقايع والفتن، وأما واسط فيطمى عليها الماء، وأذربيجان يهلك أهلها بالطاعون، وأما الموصل فتهلك أهلها من الجوع والغلاء، وأما هرات يخربها المصري، وأما القرية فتخرب من الرياح، وأما حلب تخرب من الصواعق، وتخرب انطاكية من الجوع والغلاء والخوف، وتخرب الصقالية من الحوادث، وتخرب الخط من القتل والنهب، وتخرب دمشق من شدة القتل، وتخرب حمص من الجوع والغلاء، وتخرب مدينة رسول الله من كثرة الحروب، وتخرب هجر بالرياح والرمل، وتخرب جزيرة أوال من البحرين، وتخرب قيس بالسيوف، وتخرب الكبش بالجوع، ثم يخرج يأجوج ومأجوج ).
وسمع نشيج عبيد الله بن المهتدي. هز رأسه تعجباً وعاد للنوم.
استيقظ على صوت جلبة وتدافع أجساد آدمية إلى الداخل. آلمته وخزة رمح في جنبه فنهض واقفاً. بدهشة رأي مجموعة من الرجال يرتدون ثياباً قديمة جداً وبيدهم رماح وسيوف. حاول أن ينطق ولكنهم دفعوه مع الرجلين إلى الخارج بعد أن أوثقوهم بالحبال. التفت حواليه ووقف. فجاءته وخزة رمح في ظهره أجبرته على مواصلة السير. سأل نفسه : أين العساكر. البوابة الكبيرة. العمارات الحديثة. الطرق. السيارات ؟.
لاشيء مما اعتادت عيناه على رؤيته طوال حياته.
وصلوا إلى ساحة كبيرة قرب قصر عظيم. رأى حشداً هائلاً من الناس جالسين على الأرض في دائرة واسعة ينتظرون شيئاً ما.
جلس الخليفة المعتضد على كرسي مرصع بالذهب والجواهر، وحواليه اجتمع الوزراء والحراس. أوقفوا الرجال الثلاثة أمامه. نظر نحوه بريبه وقال بصوته الغليظ :
’’ ومن يكون هذا المأفون ؟ ‘‘.
قال وزيره :
’’ مولاي، هذا أحد الدعاة، يدّعي الجنون ويهيم في أرض الله يثير الفتن ويؤلب المسلمين على خليفتهم‘‘.
لم يستطع أن يتحمل أكثر من هذا فهتف بأعلى صوته :
’’ كذب يا سيدي، إنما جئت لأشهد ‘‘.
ضحك الخليفة وقال :
’’ ستشهد على كل شيء ‘‘.
ضحك الوزراء.
التفت الخليفة نحو محمد بن الحسن وقال :
’’ وأنت يا شيلمة، هل تنكر أن الحراس وجدوا في دارك جرائد بها أسماء من بايعوا الرجل الذي سيكون خليفة للمؤمنين ؟ ‘‘.
قال محمد بن الحسن :
’’ لا أنكر هذا ‘‘.
قال المعتضد :
’’ أين الرجل الذي تدعو له بالبيعة ؟ ‘‘.
قال محمد بن الحسن وهو يبصق أمامه :
’’ لو شويتني على النار ما زدتك على ما سمعت مني، ولم اقر على من دعوت الناس إلى طاعته وأقرت بإمامته، فاصنع ما أنت له صانع ‘‘.
تطايرت سهام الغضب من عيني المعتضد وقال :
’’ لسنا نعذبك إلا بما ذكرت، هاتوا أعمدة الخيم الكبار الثقال وأحضروا فحماً عظيماً ‘‘.
لم يصدق شيئاً مما يحدث أمامه. كان يعتقد ان الأمور سرعان ما تستوي ويستفيق من نومه، ولكن نفسه غثيت لما رأي الحراس يشدون محمد بن الحسن إلى أعمدة الخيم ويضعونه فوق النار من غير أن يمسها وهو يدار عليها ويشوى كما تشوى الدجاج.
فتح فاه دهشة فالرجل لا يتألم، ولسانه لا يتوقف عن شتم الخليفة المعتضد حتى تفرقع جسده فكبّر الناس.
لم يتحمل الموقف وسقط بين يدي الحراس مغشياً عليه، وحين أفاق من غشيته لم يعرف ماذا حدث للرجل الثاني، ولكنه رأي نفسه وجهاً لوجه مع الخليفة المعتضد.
’’ - إذن أنت الذي تدّعي الجنون وتثير الفتن‘‘.
ارتجفت شفتاه وقال :
’’ سيدي، لا دخل لي بما يحدث عندكم، أنا من مكانٍ آخر، ومن زمان آخر ‘‘.
ضرب الخليفة بيدٍ قوية على طرف الكرسي فارتعش الوزراء، وأمر الحراس بأن يخرجوا روحه من دبره.
صرخ بأعلى صوته، لكنهم أخذوه بالقوة، ووضعوا في أذنه وفي فتحتي أنفه قطناً وأحكموا الرباط على فمه وأدخلوا رأسه في حفرة حتى أوصلوه إلى منتصف جسده وأهالوا التراب عليه.
كانت ضحكات الخليفة المعتضد تصل إلى سمعه، وهو يحاول أن يفعل شيئاً حتى لا يموت.
******
الليلة أكمل القمر دائرته، وصار جوهرة مضيئة تزيّن ثوب السماء الأسود، والنجوم الخافتة الضوء بدأت تصحو على شعاعه المنتشر.
القمر أمير الليل، فاتنٌ، ساحرٌ، غامض. والذي لا يهبّ القمر روحه لن يعرف سرّ الفتنة والسحر والغموض.
هذه الليلة، على طريقٍ صحراوي بعيد، عند شاطئ البحر، وقفت سيارة بها عاشقان يتناجيان، يحلمان، يتحاوران بلغة العشق، بينما القمر ينفرد برؤيتهما من بعيد.
’’ - لم يبق إلا أسبوع ونعيش معاً تحت سقفٍ واحد‘‘.
’’ - لن نحتاج بعد ذلك إلى قطع مثل هذه المسافة ‘‘.
’’ - جميل القمر هذه الليلة، أليس كذلك ‘‘.
’’ - نعم، وبعد عام سأصبح أباً ‘‘.
’’ - وأنا سأكون أماً ‘‘.
’’ - أريد ولداً ‘‘.
’’ - أريد بنتاً ‘‘.
يضحكان. يصمتان. يسمعان أنين ريح راحلة. تلاطم أمواج متكسرة. يضع رأسه على صدرها ويغمض عينيه، ثم يعتدل في جلسته ويفتح باب السيارة.
’’ - ألي أين ؟ ‘‘.
’’ - ستنفجر مثانتي ‘‘.
تبتسم، فيخطو نحو البحر. يلتفت. يراها تتابع خطواته.
’’ - ألا تخجلين ؟ ‘‘.
تضحك. يبتعد.
’’ - أديري رأسكِ ‘‘.
تضحك. يبتعد أكثر.
وقف وتبوّل بينما أخذ يطالع انكسار ضوء القمر في الماء. يرفع رأسه، يرى القمر. يداخله شعورٌ غريب يستحوذ عليه، كأنما القمر يدعوه ليقترب ويقترب حتى يحتويه ثم يعود إلى مكانه.
يشعر براحة في مثانته فيسرع إليها، ولكن المفاجأة تصعقه، فلا أثر لها ولا للسيارة. يقف مذهولاً، وكالمخبول يبتسم ( ليس هذا وقت المزاح). لكنه يدرك تماماً أنها لا تستطيع قيادة السيارة، وأنها لا تقوم بمثل هذه الأعمال الصبيانية.
’’ هل اختطفها أحد، لكنني لم أسمع استغاثتها ‘‘.
جالت عيناه في كل مكان. اجتاحت جسده رجفة خوف، وقرر الانتظار بعض الوقت لعلها تعود.
يئس فمشى بخطوات مرتبكة في طريقٍ طويل. بعد وقت قصير صادفته شاحنة فأقلته إلى المدينة.
’’ - ماذا جرى ؟ ‘‘.
’’ - سيارتي تعطلت في الطريق ‘‘.
طوال الطريق كان السائق يثرثر عن مخاطر السياقة في الليل، بينما شغل تفكيره بالبحث عن جوابٍ لسؤاله ( ماذا حدث ؟ ).
وصل إلى بيته، وأسرع لفتح الباب. (سأتصل بها هاتفياً ) . وضع أكثر من مفتاح داخل قفل الباب، وفوجئ بأن مفاتيحه لا تفتح الباب. تراجع إلى الوراء ونظر إلى البيت. ( هذا بيتي ). رأى نوراً مضاءً في البيت، تعجب فهو لم يترك الضوء مشتعلاً حين خرج من البيت. رنّ الجرس. انتظر. رجلٌ غريبٌ فتح الباب. حدق في الوجه باستغراب.
’’ - نعم ‘‘.
’’ - ماذا تفعل في بيتي ؟ ‘‘.
قال الرجل الغريب مبتسماً :
’’ حتماً أنت مخطئ، فأنا أسكن في هذا البيت منذ سنوات ‘‘.
توترت أعصابه فقال بغضبٍ ظاهر :
’’ وأنا كنت ساكناً في هذا البيت قبل ساعاتٍ فقط‘‘.
كان الرجل الغريب طيباً، دعاه للدخول كي يكتشف بنفسه البيت. دخل. رأى امرأة تطلّ من الطابق العلوي ومعها طفل صغير ينظر إليه بتساؤل. يضحك غير مصدقٍ ما يراه. فالأثاث متغير، وهناك جهاز تبريد مختلف في المطبخ، والأواني، ولون الجدار.
’’ - يبدو أنني أخطأت المكان ‘‘.
قال الرجل الغريب بلطف :
’’ هل تريد أن أساعدك في شيء ؟ ‘‘.
’’ - هل بالإمكان استخدام الهاتف ؟ ‘‘.
يوافقه الآخر فيدير القرص وينتظر. الطفل الصغير ينزل مسرعاً على السلم ويقف عند قدمي أبيه، بينما المرأة لا تزال واقفة تنظر إليه من فوق.
يضع السماعة، يعيد إدارة القرص.
’’ - لن تحصل على ردٍ بهذه الطريقة ‘‘.
’’ - لماذا ؟ ‘‘.
’’ - لأنك تدير خمسة أرقام فقط ‘‘.
يضحك قائلاً :
’’ لا تقل إن الأرقام اختلفت أيضاً ‘‘.
’’ - كل هاتف يحمل ستة أرقام ‘‘.
تخبو ضحكته فيسأل بوجوم :
’’ منذ متى ؟ ‘‘.
يأتيه صوت المرأة :
’’ منذ ثلاث سنوات ‘‘.
ينظر الرجل الغريب إلى الرقم ويقوم بإدارة القرص. الطفل يتثاءب ويسرع إلى فوق. الرجل يعطيه السماعة ويبتعد عنه عدة خطوات.
’’ - هل زينب موجودة بالبيت ؟ ‘‘.
’’ - من المتحدث ؟ ‘‘.
’’ - أنا خطيبها ‘‘.
’’ - غير معقول ! أين كنت طوال هذه المدة؟‘‘.
’’ - عم تتحدث، كانت معي قبل ساعات ! ‘‘.
’’ - يبدو أنك نسيت، هذا حدث منذ زمن بعيد ‘‘.
’’ - أين زينب الآن ؟ ‘‘.
’’ - تزوجت منذ سنتين وسافرت مع زوجها. أين كنت أنت، لماذا هجرتها ؟ ! ‘‘.
يضع السماعة ويشعر بدوار يكاد يسقطه على الأرض. يحاول الخروج فيمنعه الآخر برفق.
’’ - هل يمكنني المساعدة ؟ ‘‘.
يفلت من يديه ويدفع بنفسه إلى الخارج. بغتة يلتفت إلى الرجل، يسأله :
’’ في أي يوم نحن ‘‘.
’’ - السبت 23 أغسطس ‘‘.
’’ - عام 1975 أليس كذلك ؟ ‘‘.
الآخر يهز رأسه ويقول بانكسار :
’’ بل عام 1980 ‘‘.
يضحك ثم يسرع مبتعداً عنه. ( ما الذي يجعلني أصدقهم، انها مؤامرة وحسب، هل من الممكن أن تضيع من حياتي خمس سنوات دون أن أعرف كيف ضاعت، هراء ).
أسرع إلى بيت والديه. ( هنا تنجلي الحقيقة).طرق الباب بقوة. انتظر لحظات حتى انفتح الباب. كاد يتراجع حين رأي أباه وقد تبدلت ملامحه وبدا شيخاً مسناً. تفرّس الأب في وجهه طويلاً. أطلق صيحة فرح (ابني)، وأحاطه بذراعيه يحتضنه ويقبله في كل مكان من وجهه. كالأطفال أخذ يبكي ويتحسس بأصابعه المرتعشة وجهه وجسده.
’’ - أبي، ماذا حدث ؟ ‘‘.
’’ - أين كنت يا بني ؟ ‘‘.
قال غاضباً :
’’ كنت جالساً معك اليوم ‘‘.
ترتجف شفتا الأب بينما بكاؤه مطرٌ غزير ينهمر.
’’ - انتظرتك خمس سنوات لتقول لي إنك كنت معي اليوم ‘‘.
يصرخ بأعلى صوته :
’’ لا، لم أغب خمس سنوات، رأيتك صباح هذا اليوم‘‘.
يسحبه الأب إلى الداخل ويغلق الباب.
’’ - تعال وقل لي عن كل شيء ‘‘.
’’ - أين أمي ؟ ‘‘.
يفغر الأب فاه دهشاً :
’’ ألم تعرف ؟ ‘‘.
يخاف من سؤال أبيه.
’’ - ماتت المسكينة كمداً بعد ذهابك بأشهر ‘‘.
يمسك بكتفي أبيه، يهزهما باكياً.
’’ - كانت كل يوم تنتظر عودتك ‘‘.
يفتح الباب ويندفع إلى الخارج. ينطلق راكضاً بينما صوت أبيه المبحوح يناديه. يركض في الشوارع الخالية لا يعلم إلى أين هو ذاهب. القمر وحده كان يتابع ركضه الجنوني.
******
( إذا جعلتك عينك اليمنى تخطىء، فأقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن تفقد عضواً من أعضائك، ولا يلقى جسدك كله في جهنم )
إنجيل متى
كان الصغير إبراهيم يغط في سبات عميق، بينما كانت أحلامه طائراً طليقاً يجوب الزمان والمكان، لكن الطائر توقف عن التحليق حين تراءى لإبراهيم شكلٌ غريب يقف خلف زجاج النافذة، ويبعث أصواتاً غريبة لا يفهمها. يخفق قلب إبراهيم بشدة فيقترب من النافذة، يرى العديد من هذه الأشكال الغريبة، جميعها تناديه. يقترب أكثر. يفتح النافذة. فجأة تدفع الأشكال بنفسها إلى الداخل، وتتجسد في هيئة نسوة يرتدين ثياباً بيضاء، ويتحلقن حوله، فيقف إبراهيم مذهولاً. تقترب إحداهن فتكون أمه، وتقترب أخرى فتكون أمه، وتقترب ثالثة فتكون أمه. يضيع إبراهيم بين الدهشة والرعشة. يفاجأ بأن الأخريات ارتمين عليه وشددن ذراعيه ورجليه إلى الأرض. يصرخ إبراهيم ولكن أمه تخرج من ثنايا ثوبها أفاعي وترميها على وجهه، فتنحبس صرخته، ثم تخرج أمه من تحت ثوبها خنجراً ذا نصلٍ حاد وتغرزه في قلبه بكل قوة.
’’ - أمي ‘‘.
يهب إبراهيم من نومه مفزوعاً، يستجمع أنفاسه، ينظر فيما حوله فلا يرى شيئاً. يرفع يده المرتعشة ويمسح العرق الطافح على وجهه.
’’ - أمي ‘‘.
لا أحد يجيبه. يقفز من على السرير ويسرع خارجاً من الحجرة. هي ليست في حجرتها، ولا في تلك الحجرة، ولا في المطبخ، والباب مفتوح.
’’ - أمي ‘‘.
هذا الليل البخيل الضوء يبعث في نفس إبراهيم الوجل، والسحب السوداء التي حجبت ضوء القمر تزيد دكنة هذا الليل. اتجه نحو بيت الجيران. ضغط على جرس الباب وانتظر. امرأة عجوز أطلت من النافذة وبنزق قالت :
’’ من أنت ؟ ‘‘ .
’’ - هل أمي موجودة عندكم ؟ ‘‘.
ضحكت المرأة العجوز طويلاً، ثم قالت :
’’ جئت تبحث عن أمك يا صغيري، هي لا تأتي إلى هنا، أبحث عنها في مكان آخر ‘‘.
’’ - أين ؟ ‘‘.
لكنها توارت فجأة.
عاد إبراهيم إلى البيت، وسؤال لا يفارقه ( أين أمي ؟! ). وفي طريقه داس على ذنب كلب كبير الحجم، فغضب الكلب وطارد إبراهيم الذي حاول النجاة فأطلق لرجليه العنان وابتعد عن البيت كثيراً. ولما أحس بالأمان وجد نفسه بالقرب من بيتٍ مهجور. سيطر عليه خوف شديد، وحاول الابتعاد حين رأي امرأة تخرج من البيت، تأخذ شيئاً ما، وتعاود الدخول.
’’ - ربما تكون أمي بالداخل ‘‘.
وخطا متجهاً نحو البيت المهجور بخطواتٍ مرتعشة، حتى وصل عند الباب. كان الباب موصداً بإحكام. سمع جلبة بالداخل. أصوات غريبة ومختلطة. التفت إلى الوراء، فلم ير شيئاً سوى الظلام الكثيف والسكون المطبق. دفعه الفضول للبحث عن منفذ يستطيع من خلاله اختلاس النظر. كانت هناك كوّة في أعلى البيت. صعد إليها ومد بصره إلى الداخل. رأى حجرة صغيرة تنيرها شموع كثيرة، ونسوة عديدات يلبسن ثياباً بيضاء متحلقات حول واحدة تقرأ في كتاب بكلماتٍ غير مفهومة. تنتهي من القراءة. تقوم. تتجرد من ثيابها، وترتمي على الأرض فاردة ساقيها، فيسود الصمت. تطفئ الأخريات الشموع فينتشر في الحجرة ظلام عميق وفحيح عال.
يزداد هلع إبراهيم ويكاد يفر من مكانه، إلا أن الشموع تضاء من جديد فيمكث ويرى واحدة تقرأ في الكتاب بينما الأخريات متحلقات حولها. بحث إبراهيم عن أمه بينهن. ذهل، هناك أم أحمد، أم عبدالله، زوجة النجار، والمرأة العجوز جارتهم.. وأمه.
أمه كانت بينهن.
حين قامت الأخرى لتقف وتنزع ثيابها صرخ إبراهيم بأعلى صوته :
’’ أمي ‘‘.
وما كدن يسمعن صوت إبراهيم حتى صرخن وأسرعن لإطفاء الشموع.
’’ - أمي ‘‘.
الذين شاهدوا إبراهيم بعد ذلك قالوا ان الصبي أصابته لوثة أو سكنه شيطان، ولكنهم لم يعرفوا أبداً لماذا فقد إبراهيم القدرة على الكلام.
****
اليوم سينتهي فصل الرعب الذي عاش فيه يوسف طوال الفترة الماضية. فاليوم سيدخل المستشفى لإجراء عملية الختان، وينتهي بذلك قلقه الدائم من إجراء نفس العملية في البيت.
اليوم احتشد في البيت كل أفراد العائلة المبثوثين في أحياء صغيرة بالمدينة. كلهم جاءوا للمشاركة في الاحتفال، فيوسف هو أول شخصٍ من هذه العائلة تجرى له عملية الختان في المستشفى.
كانت الأم مبتهجة وتوزع ابتساماتها على الجميع. جدته كانت تعد أكثر من نارجيلة في وقتٍ واحد ثم تطل على إبريق الشاي وهو يغلي.
لبس يوسف الثوب الأبيض الرقيق الذي أعدته له أمه بهذه المناسبة. وقف وجلاً أمام أبيه الذي كان يخرج نقوده من حافظته الجلدية ويعدها ثم يعيدها إلى مكانها.
اضطرب يوسف وأمسك بيد أبيه فأحس بالأمان. عند الباب تعالت زغاريد النسوة المجتمعات في الحجرة. ابتسم يوسف خجلاً وخرج وراء أبيه.
مشيا حتى وصلا بيت عبدالله سائق سيارة الأجرة وصديق العائلة. طرق أبوه الباب فخرج عبدالله. حياه، وابتسم في وجه يوسف، ثم استأذن ليلبس ثيابه.
شعر يوسف بخجلٍ شديد حين رأى بنات عبدالله وهن ينظرن إليه من النافذة ويضحكن، وارتاح حين سمع صراخ أمهن وهي تنهاهن عن الوقوف أمام النافذة.
خرج عبدالله وركبوا السيارة. بسمل وصلى على النبي ثم بدأ مع الأب حديثاً مطولاً حتى وصلوا إلى المستشفى.
داخلت يوسف رعدة خفية وتمنى لو يعودون إلى البيت. ابتسم عبدالله في وجهه وودعهما. أمسك الأب بيد يوسف وأخذه إلى مكتب صغير في أول الممر. تحدث مع الموظفة. أخرج حافظة نقوده. عدّ النقود وأعطاها ثم أرجع محفظته إلى جيبه وربّتها بخفة. طلبت الموظفة منه الانتظار.
جلسا على كرسي طويل في الردهة. مسح الأب بيده على شعر يوسف بحنان.
’’ - كم أنت مدلل، حتى ختانك يجري في المستشفى‘‘.
’’ - هل سيخدرونني أولاً ؟ ‘‘.
’’ - لا تخف، لن أتركك وحيداً ‘‘ .
ضغط يوسف على يد أبيه بينما ارتجفت ساقه اليسرى. جاءت ممرضة وأومأت إليهما بالدخول. تحركا ودخلا حجرة مليئة بالأنوار والمعدات وأشخاصاً بثياب بيضاء منتشرين في أرجائها.
ابتسم الطبيب وطلب من يوسف أن ينزع نعليه ويصعد على السرير.
عينا يوسف تستغيثان بأبيه، والطبيب يطلب منه أن ينتظر خارجاً. اقتربت ممرضة وأحكمت رباط يده اليمنى بحزام جلدي مثبت بالسرير. وممرضة أخرى أحكمت رباط يده اليسرى. يوسف ينظر إلى أبيه الذي يتابع حركاته من خلال زجاج الباب.
قال له الطبيب :
’’ ستعد معي من الواحد إلى العشرة ‘‘.
بدأ يوسف العد. يصل إلى الرقم الرابع فيضع الطبيب بحركة مباغتة كمامة كبيرة على فمه وأنفه ويضغط عليهما. يحاول يوسف أن يستنجد. يحرك يديه، ويستعين برجليه فتقع عليهما أيادٍ كثيرة. رائحة كريهة تنبعث من تلك الكمامة، تخنقه، وتسلبه القدرة على الكلام وعلى الإدراك.
الرقم الرابع يتمطط. الألف والراء يقفزان إلى أعلى وأسفل. أحرف الباء والعين والهاء ترتحل بعيداً، ولا يصل منها إلا الصدى. يتناهى إلى سمعه صوت الطبيب كأسطوانة تدار بسرعة أبطأ من سرعتها. يسمع نبضات قلبه بوضوح شديد. ويرى يدأ تحمل مطرقة ترتفع وتهوي بشدة على القلب. ترتفع وتهوي ، ترتفع و....
فتح عينيه. رأي ظلاماً في الحجرة. ثم رأى وجه أبيه يقترب منه. شهق وأحتضنه بقوة، ثم التفت إلى نصفه الأسفل فرأى ضمادات تستره.
توقف عن البكاء، وقال :
’’ أريد أن أخرج من هنا ‘‘.
قال أبوه :
’’ سنذهب إلى البيت حالاً ‘‘.
حمله من على السرير. مشى معه ببطءٍ فارداً ساقيه، ماسكاً ثوبه الأبيض الرقيق حتى لا يماس ثوبه فيحدث ألماً.
وصلا إلى الموظفة في أول الممر. جلس على الكرسي الطويل وانتظر أباه الذي أخذ يتحدث مع الموظفة. كان تعباً وبحاجة إلى أن يخلد للنوم، فالرائحة الكريهة سببت له صداعاً حاداً.
لمح فتاتين تمشيان في الممر، تنظران إليه وتتهامسان، وما أن وصلتا إلى مكانه حتى ضحكتا بصوتٍ عال ثم ابتعدتا.
قال لنفسه : ’’ اللعنة على النسوان ‘‘.
جاء أبوه وأخرجه من المستشفى. عبدالله كان بانتظارهما. لمحهما وركض صوب يوسف فرحاً. أخذه بحذر ووضعه في السيارة.
لم يكن يوسف يسمع ما يدور بينهما من حديث فهو لا يزال يعاني من تأثير المخدر. توقف السيارة. فتح عينيه فرأى أباه يلتفت نحوه ويطلب منه أن يعتدل في جلسته. ثم انتبه إلى رجلٍ أجنبي، أحمر الوجه، يجلس بالقرب منه. بعد قليل سمع لغواً بين الأجنبي وعبد الله، والسيارة أخذت تشق طريقاً برياً بعيداً. لم يعرف لماذا الرجل الأجنبي غاضبٌ، ويحاول أن يفتح باب السيارة.
تتوقف السيارة. ينزل منها عبدالله غاضباً ويمسك بخناق الرجل ويتعارك معه. ينزل أبوه ويساعد عبدالله في ضرب الرجل الأجنبي. يخرج عبدالله أداة حادة من سيارته ويطعن بها الرجل عدة طعنات. يغرق الرجل في دمائه ويبعث صوتاً كالكبش حين تحز رقبته.
ركبا السيارة وسط ذهول يوسف، وتحركت السيارة بسرعة. تمنى لو يعرف ماذا حصل. لكن الصداع والرائحة الكريهة أدارت رأسه.
سمع عبدالله يقول :
’’ يحتلون بلادنا وينهبون أموالنا ‘‘.
أسقط رأسه إلى الوراء ولم يعد يسمع شيئاً.
وصلوا إلى البيت. حمله أبوه إلى الداخل. فتح عينيه وسمع زغاريد النسوة المجتمعات في الفناء. ورأى أمه تمطره بقطع نقدية صغيرة أعدتها لهذه المناسبة. كان متعباً فأخذه أبوه إلى الفراش.
’’ - لماذا قتلتم الرجل ؟ ‘‘.
رمق الأب يوسف بدهشة وقال :
’’ أي رجل هذا الذي قتلناه ؟ ‘‘.
’’ - الذي كان معنا بالسيارة ! ‘‘.
ضحك أبوه وقال :
’’ هذا من تأثير المخدر، استرح الآن وحين تستيقظ ستنسى كل شيء‘‘.
تركه وحيداً وذهب. وضع يوسف رأسه على المخدة وأغمض عينيه.
************