الإهداء
إلى طاهر عقيل .. وحيداً هناك
واقفٌ أمام بوابة كبيرة موصدة . أدفع البوابة بيديّ ، فإذا بي في مواجهة مدينة غريبة تسودها أجواء احتفالية : الناس في الشوارع يضحكون ويرقصون مبتهجين .. النساء يزغردن ويوزعن على المارة خبزاً أحمر وحلوى ساخنة .. البيوت مترفة .. الشوارع مزيّنة .. وجوه الناس ملوّنة .. فتياتٌ صغيرات جميلات بشعورٍ طويلة وثيابٍ جديدة ، يحملن سلالاً ملأى بالرياحين والياسمين والفاكهة المتنوعة يوزعنها على الناس .. الرجال يتصافحون ويتعانقون بحرارة .. في السماء طائرات مروحية تقوم بحركات استعراضية وتنثر أوراقاً ملونة ، كما لو أن السماء ترمي مطراً ملوناً .. على البيوت بيارق وسعف نخيل وأثواب زاهية ترفرف .. مكبرات صوت ضخمة تطلق الأهازيج والأناشيد .. وثمة عازفون يحملون آلات موسيقية غريبة الأشكال يعزفون عليها إيقاعات متلاحقة : دوم تك .. دوم تك .. دوم تك .. دوم تك .. وصفارات تتداخل : توووت .. توووت.. توووت .. وأصوات ألواح زجاج تتكسر دون انقطاع .
أمشي في هذه المدينة غريباً ، مستطلعاً ، متعجباً ، بي رغبة أن أعرف ما سبب هذه البهجة ، ولم كل هذا الفرح ؟ .
أخرج من بوابة أخرى نُصبت عليها الأعلام والسيوف ، فأكون وسط كثبان ثلوج لا نهاية لها تغطي الآماد كلها . لا شيء هنا سوى البياض بينما السماء تبدو رمادية ، كئيبة ، وطيئة جداً ، وريحٌ باردة تهزّ جسدي فتعذبه وتنهكه . أبحث عن نارٍ أو ملاذٍ يحميني فلا أرى إلا الثلج من حولي .
على مبعدةٍ مني أرى ثلاث نساء متشحات بعباءاتٍ سوداء ، جالسات ملتصقات ببعضهن البعض .. كن ينتحبن بحرقة ، ويهلن الثلج على رؤوسهن . بالقرب منهن رجلٌ يحفر في الثلج وهو يئن ويتأوه.
أسأل نفسي : ما سبب حزن هؤلاء والناس في فرح وحبور ؟ .
أقتربُ من النساء . نواحهنّ كان مؤثراً . لكنني لا ألمح وجوههن. أقتربُ من الرجل . يشعر بدنوي منه فيلتفت إليّ والعبرات تخنقه . فيكون هذا الرجل أبي ، لكنه كان حزيناً ، مسحوق النفس ، يحمل بيده زجاجة يشعّ منها نورٌ قوي .
يرفع أبي الزجاجة ، فأرى بداخلها جنيناً ميتاً يشبهني .
يقول لي بصوت مخنوق متوجع :
" فقدناك قبل أن تعرف الدنيا " .
وما أن تكلم حتى فاضت الدموع من عينيه .
يتوقف عن البكاء ويأخذني من يدي إلى النساء الثلاث . يقول وهو يشير إليهن :
" هذه جدتك ، وهذه أمك ، وهذه أختك " .
ألتفتُ إليهنّ فأرى جدتي ، وأمي ، ومريم . كنّ يبكين بصوتٍ عال حتى شعرتُ بأن لا صوت في هذا العالم سوى البكاء.
يقول لي أبي وهو يدفن الزجاجة :
" ألستَ طاهراً كالثلج ؟ " .
* * *
يومٌ متعبٌ آخر من أيام حزيران . أجر نفسي جراً كي أقطع الطريق البعيد من المدرسة إلى البيت .
كم أكره المدرسة ، والدراسة ، والاستيقاظ في الصباح الباكر، واحتمال المشي المضني تحت أشعة الشمس الحارقة ، وثرثرات المدرسين التي لا تنتهي .
أدخل البيت منهوك القوى . أمي تتصبب عرقاً وهي خارجة من المطبخ . لا تقول شيئاً . جدتي في حجرتها ، نائمة كعادتها تحت مروحة السقف ، حتى يحين موعد الغداء .
أختي مريم مستلقية بالقرب منها .. حين شعرت بدخولي نهضت وابتسمت . قذفتُ حقيبتي الثقيلة ، وجلستُ في مواجهة جدتي وأختي .
أقول لمريم :
" البارحة حلمتُ نفس الحلم ، انه ما ينفك يطاردني كل ليلة " .
تبتسم مريم بوداعة وتقول :
" هذا لأنك تنام دائماً على جنبك الأيسر " .
قالت جدتي وهي تزيح طرف دراعتها من وجهها :
" اقرأ سورة الفاتحة قبل أن تنام " .
وصل أبي ، منهوكاً كعادته ، عابس الوجه ، لا يطيق أن يكلمه أحد. يدخل حجرته دون أن يقول شيئاً . سينتظر هناك مستمعاً إلى الراديو حتى تدعوه أمي إلى الغداء .
جدتي في الستين من عمرها ، طيبة جداً ، لها وجه طفولي وعينان مرحتان ، وشعر فضي جميل ، إذا ضحكت تغمض عينيها حتى تدمعا . تحب المرح والدعابة، كثيرة السخرية والتقليد، وتهوى مشاهدة الأفلام السينمائية .
كانت قوية ونشطة قبل أن تصدمها سيارة وهي تعبر الطريق مع أمي ، وباتت طريحة الفراش مدة من الزمن ، وبعد أن تعافت سقطت مرة أخرى على ظهرها وهي خارجة من الحمام ، فباتت مقعدة لا تستطيع الحراك من دون مساعدة . ومع ذلك كان حضورها قوياً ، ولم يكن بالإمكان تجاهل دعاباتها ، وطريقتها الخاصة في إعداد الشاي بالليمون الأسود ، والبطاطس المقلية ، وحكاياتها الشيقة . لكنني أجدها أحيانا مغتمة ، مقتصدة الكلام ، فأعرف أنها قلقة على خالي الذي تأخر عن زيارتها .
خالي في الثامنة والعشرين من العمر ، متوسط القامة ، عيناه بنيتان جميلتان ، وشعره ناعم فاحم . كنت أراه مشغولاً دائماً ، ففي النهار يحمل على ظهره لافتة خشبية تعلن عن الفيلم الذي سيعرض ليلاً ، وفي المساء ، يبيع الماء المثلج والمرطبات في صالة السينما . لكنه يعتني بشكله كثيراً حين يزور جدتي من وقت إلى آخر .. فيتعطر بماء الكولونيا ، ويلبس قميصاً ناصع البياض يرفع أكمامه كي يكشف عن وشم الأسد المنقوش على ذراعه ، ويعقد شالاً حريرياً حول رقبته ، ويهندس شعره بطريقة جميلة كأبطال السينما ، ويترك خصلة من شعره تتدلى على جبينه، ويرتدى حذاءً بلونين ، ويضع في جيبه منديلاً عليه حرف أسمه الأول بالانجليزية .
كثيراً ما كنت أسمعه يترنم بأغانٍ هندية عذبة اللحن وإن كان صوته جافاً لا عذوبة فيه .
تقول عنه جدتي أن أحواله لن تتغير ، ولن يتزوج ، ولن يترك ذرية خلفه ، لأنه يبذل ماله لكل من يطلبه .
كان خالي كثير الاعتداد بنفسه ، شامخ الأنف ، رغم تواضع عمله، ولكنه حلو المعشر ، وحين يجالس جدتي يروي لها النكات والدعابات .
ذات مرة رأيت في جيب بنطاله مقبضاً حديدياً ذا أطراف مدببة يمكن أن يهشم بها وجه أي شخص . سألته إن استخدم هذا المقبض في ضرب أحد ، لكنني لم أحظ منه بجواب .
جدتي كانت تعاتبه وتوبخه كثيراً حين يتأخر عن زيارتها ، ثم تطلب منه ، بعد أن تعدّ له الشاي ، أن يحكي لها عن آخر فيلم شاهده.
كانت تصغي بشغفٍ شديدٍ لحديثه ، وتحفظ عن ظهر قلب أسماء الممثلين والأفلام ، وكثيراً ما تغرورق عيناها بالدموع للمشاهد الحزينة من الفيلم .
ذات مرة مرضت جدتي مرضاً شديداً حتى اعتقدنا انها ستموت لا محالة . كانت أمي تنقط الماء في فمها وهي تذكر اسم الله اعتقاداً منها ان ذلك سيسهل خروج الروح منها .
قالت مريم بغصةٍ أليمة :
" هل ستموت جدتي ؟ " .
فأجبتها واثقاً :
" لا ، لن تموت ، فنجمتها لم تسقط بعد " .
قالت لي جدتي ذات مرة أن الشخص الذي يموت تسقط نجمته البراقة ساعة المغرب ، وفي ذلك المساء لم تسقط ولا نجمة في المنازل.
بقيتُ مع جدتي طوال الليل . كنت أمسح برفق على شعرها الفضي كي تنام ، لكنها كانت تفتح عينيها وتبتسم قائلة :
" رأيت في الحلم ضوءاً باهراً يغمرني ، ثم رأيت بين الضياء رجلاً طويلاً يمتطي فرساً محناة الذيل والأرجل والجبين . بيده اليمنى سبحة طويلة ، فيروزية اللون . وبيده الأخرى رمحٌ برأسه خمسة أسنة . تقدم نحوي ، وترجل من فرسه ، كان لونه أبيض وملبوسه وردياً مخططاً وسرواله أزرق وله أجنحة ألوانها الأحمر والأصفر والأزرق والأبيض . اقترب مني ووخزني في خاصرتي برمحه ، وقال لي آمراً : انهضي . فقمتُ ووجدتني أمشي كسابق عهدي ، فهللتُ وشكرتُ ربي " .
في اليوم التالي تحسنت صحتها وعادت للضحك والدعابة . قلت لها :
" سأحضر العود وأغني لكِ (بتلوموني ليه ) " .
حاولت يائسةً إثنائي ، لكنني أسرعتُ وأحضرت العود ، الذي كان عبارة عن صفيحة قديمة شددت إليها أوتاراً غليظة .
جلستُ عند رأسها وأخذت أعزف وأغني غير عابيء بصيحات الاحتجاج .
كانت مريم تضحك وهي تسدّ أذنيها قائلة بتوسل :
" أرجوك توقف عن الغناء " .
بينما واصلت جدتي الضحك وهي تمسح دموع عينيها .
قالت متأففة :
" لن يكون صوتك مثل عبدالحليم مهما حاولت " .
قلت محاولاً إسكاتهما :
" إذا كبرتُ فسأترك شاربيّ يصلان إلى حاجبيّ وألصق بعضهما ببعض ".
ضربت جدتي بكفها على جبهتها وضحكت ، في حين سقطت مريم على ظهرها من شدة الضحك .
كنت سعيداً جداً لأنني استطيع أن أمنحهما شيئاً من الجذل والبهجة .
على خلاف جدتي ، فأن أمي ضنينة بالكلام والمرح ، تؤثر الصمت معظم الوقت ، لكنها كانت شعلة من النشاط والحركة ، مولعة بالتنظيف والترتيب ، وفي أوقات فراغها تجلس أمام ماكينة الخياطة، مكسورة الخاطر ، وهي تحملق فيها بصمت وسكون ، ومع ذلك يمكن لأي ملاحظ أن يرى شرودها العميق ، والتماع الدموع في مآقيها ، كأنها حزينة على موت أحد ، أو هي بانتظار موت أحد .
أحياناً أراها مستلقية على جنبها ، رافعة غطاء الرأس الأسود عن شعرها الكثيف ، مغمضة عينيها الصافيتين ، المستديرتين كطبقي فنجان ، لكنني كنت واثقاً أنها غير نائمة .
كم كنت أود لو أسألها عن الحزن الذي يغلف روحها ، لكنها لم تكن تتكلم ولا تفتح عينيها .
أبي في الأربعين من عمره ، يكبر أمي بخمس سنوات تقريباً . ملامح وجهه الصلبة ، وصوته العميق الرنان ، وعيناه الرصينتان ، تعطي للمرء انطباعاً خاطئاً عن صرامته وتكبره . إلا أنه رهيف القلب، وواسع الصدر ، ورقيق الحاشية . أكثر ما يعنيه هو الاستماع إلى الراديو، ومتابعة أخبار العالم . وفي الليل لا يغلبه النعاس قبل أن يستمع إلى نشرة العاشرة من محطة الإذاعة البريطانية .
في صغري كنت أحب أن أراقبه وهو يحلق ذقنه ببطء وهدوء شديدين كما لو كان يخشي أن يجرح وجهه . كان يحتفظ بعدة الحلاقة في حقيبة يدوية صغيرة وأنيقة ، إضافة إلى بعض الأختام والوثائق القديمة ، ومرآة دائرية تصغّر الوجه من جهة ، وتكبّره من جهة أخرى.
في كل مرة كان يغطي أنفي برغوة الحلاقة ويريني وجهي في المرآة فأضحك ملء قلبي .
كنت أرافقه إلى المقهى الذي يرتاده عصر كل يوم ، فنقطع الطريق مشياً على الأقدام بخطوات سريعة جداً ، كأننا هاربان من شيء ما .
في البدء تعبتُ من اللحاق به ، إلا أنني تعودت أن أمشي بمثل سرعته .
في المقهى كان شخصاً مختلفاً تماماً : يدير دفة الحديث مع أصحابه ، ويضحك ، ويناقش في كل التفاصيل . كان موضع احترام وتقدير من الآخرين .
أحاديث المقهى كانت تتقافز من موضوع إلى آخر ، فتارة يتحدثون عن عبدالناصر وإسرائيل / حرب اليمن / أحمد بن بله / عبدالله السلال / جميله بوحيرد / عبدالسلام عارف / أو عن فشل الوحدة بين مصر وسوريا .. واحتمال قيام الحرب العالمية الثالثة .. وسر مقتل كيندي .. وحذاء خرتشوف في الأمم المتحدة . أو يحللون أداء لاعبي الترسانة والنسور والتاج والنهضة في كرة القدم ، أو يتكلمون بإعجاب عن الملاكم الأسود الذي أشهر إسلامه وأطلق على نفسه اسم "محمد علي " .
عندما تستمع إليهم يخيل إليك انهم سيمسكون بخناق بعضهم ويتعاركون ، إلا أنهم سرعان ما يهدأون بعد دورة جديدة من أكواب الشاي والنارجيلة ، ثم لا تعرف كيف يعود النقاش بينهم إلى سابق حدته : يبدأ أحدهم في استفزاز البقية قائلاً أن عبقرية ستالين هي التي أجبرت الألمان على الهزيمة ، في حين ينبري آخر للدفاع عن ألمانيا ويجزم بأنه لولا الصقيع لأنتصر هتلر ، ولولا الهدف المشكوك في صحته لما خسر المنتخب القومي الألماني أمام المنتخب البريطاني في نهائيات كأس العالم الأخيرة .
وكان في المقهى أشخاص لا رأي لهم أبداً ، كصاحب المقهى نفسه ، المحدودب الظهر ، والذي يتحرك كزئبق من مكان إلى آخر لتلبية الطلبات . كنت أتجنبه دائماً ، فكثيراً ما كان يطفر البصاق من فمه وهو يتحدث معي ، ودائماً تنبعث منه رائحة بصل قوية . أما الآخرون فانهم يدخنون النارجيلة ويستمعون باهتمام واضح دون أن يكونوا طرفاً في النقاش ، لكنهم يهزون رؤوسهم علامة الموافقة على ما يقوله كل طرف.
مرتادو هذا المقهى عادة من العمال الذين تستخدمهم إحدى شركات الشحن البحري لتفريغ حمولات السفن الكبيرة التي ترسو في الميناء . كانت تمر عليهم أيام طويلة دون عمل ، لكن دون أن يبدوا أي تذمر وتبرم ، إذ كانوا يحصلون على أجور مجزية حين يستدعون للعمل.
أبي كان واحداً منهم .
* * *
مستلقٍ على الأرض فاتحاً ذراعيّ . الجوع ينهكني والنعاس يكاد يغالبني . أفتح عيني على سعتهما وأنظر إلى صورة عبدالناصر المعلقة على الجدار وهو واضعٌ رأسه بين كفيه يتأمل بيادق الشطرنج أمامه ، راسماً على شفتيه ابتسامة ذكية ، توحي بأنه سيكسب اللعبة . تحت صورته توجد صورة دكناء اللون لمدخل كهف غريب الشكل ، لا أدري من علق هذه الصورة ، فقد كانت تخيفني كثيراً وأنا صغير ، إذ كنت أرى إبليس يخرج من الكهف ليلاً ليجثم على صدري ويسحب الهواء من رئتي .
أحدقُ في المر وحة التي تصدر كركرة مزعجة . يخامرني شعور بأن المروحة ستسقط عليّ وعلي جدتي ، فنهرس تحتها .
أتدحرج بسرعة طالباً من جدتي أن تبتعد ، لكنها تمطّ شفتيها وتقول :
" ليتها تسقط عليّ فأستريح من جنونك " .
جدتي بدت متشككة في كلامي ، فأخذت تدفع بنفسها حتى ابتعدت عن مرمى المروحة . نظرت إليّ وهي تقول مازحة :
" من يدري ، قد يتحقق كلامك وتسقط المروحة " .
تطلّ أمي برأسها ، وتطلب منى أخذ الطعام إلى عمي .
أتأفف وأبدي تبرمي من طلبها ، إلا أنها تتجاهلني ولا تردّ عليّ .
بضجر أحمل الطعام إلى عمي الذي يقيم معنا منذ زمن بعيد، في غرفة صغيرة على سطح البيت .
أرى باب غرفته مفتوحاً فأدخل دون أن ألقي عليه بالتحية .
كان مستلقياً على فراشه عاقداً يديه خلف رأسه ينظر إلى السقف . أشياؤه ملقاة في فوضى ، ومنفضة السجائر مليئة تماماً بالأعقاب المحروقة .
ينظر إليّ ويبتسم ابتسامة لا معنى لها . أضع الطعام أمامه وأعود راكضاً .
تقول جدتي عنه أنه كان قوياً جداً في أول شبابه ، فلقد كان باستطاعته حمل خمسة أشخاص جالسين على كرسي ثقيل من كراسي المقهى . لكنه الآن بادي النحافة ، مديد القامة ، تبرز من وجهه عظام فكه ، وساقاه نحيلتان ، وكثيراً ما كان يسعل بشدة وآثار ألم رهيب على وجهه ، ودائم الشكوى من ألم في عظامه ومفاصله .
كان يحتسى الكثير من أكواب الشاي الثقيل ، ويدخن بين خمسين إلى ستين سيجارة في اليوم حتى أصفرت أصابعه ، واسودّت شفتاه . كانت له تصرفات غريبة ، فهو يطلق ضحكات تهكمية دونما سبب ، ويقضي ساعات طويلة يضغط على السيجارة بأسنانه ، وينظر إلى السماء عبر نافذة غرفته المكسورة. كان عاطلاً عن العمل ، ولم أره في حياتي يعمل .
في سورة غضبه يمزق بعض الأوراق الموجودة عنده ، أو يقذف بملابسه خارج غرفته ، أو يسخط على الدنيا ويكيل الشتائم لمالك البيت بصوت عال .
كان يريد أن ينبه الآخرين إلى وجوده : أحياناً يحلق ذقنه ، وأحياناً يتركه دون عناية . أو يجلب معه كيساً من الفلفل الأحمر ويقضمه دونما اهتمام . أحياناً يلبس معطفاً ثقيلاً في الصيف ، أو سروالاً عريضاً مضحكاً . وأحياناً يرفض الطعام اعتقاداً منه أن أمي تناصبه العداء وتحاول تسميمه للتخلص منه ، ويكتفي بأكل الخبز مع البصل والفجل ، فيتعمد أن يتجشأ بصوتٍ عالٍ أشبه بالبوق . وأحياناً يتلمس فكه الأسفل طول اليوم كما لو أنه يريد أن يتأكد من وجوده .
أختي مريم تصغرني بسنتين ، كانت توأم طفل آخر توفي بعد بضعة أيام من ولادته . جدتي كانت تقول بأنها شعرت منذ اليوم الأول بأن الطفل لن يعيش طويلاً ، وهي تؤمن بأنه يمكن معرفة ذلك من رائحة براز الطفل . وصدق حدسها إذ مات أخي بهدوء شديد كأنما لم يأت إلى الدنيا قط .
رابطتي بمريم قوية جداً ، فمحبتي لها تتعمق يوماً بعد يوم ، ربما لأنها ولدت عمياء ، ربما لأنني أريد أن أكون عينها في الدنيا ، ربما لأنها رفيقتي الوحيدة .
كانت تقول لي دائماً :
" أنت عيني التي أرى الأشياء بها " .
عندما أراها يراودني سؤال مبهم : كيف تعرف ماهية الأشياء من حولها ؟ . ماذا ترى في أحلامها ؟ . كيف تتآلف مع الظلام الدائم ؟ . كيف تعرف الألوان ؟ . كيف تتحمل أن لا ترى إلا السواد ؟ .
ليتني استطيع أن أهب لعينيها النور . كم توسلتُ ، ورجوت الله أن يعيد لها بصرها ، لكنها الآن في العاشرة ولا أمل في أن ترى .
قبل سنتين ، كادت مريم أن تموت . فقد كانت تلعب معي خارج البيت حينما انزلقت رجلها وهوت في حفرة جافة للمجاري ، فارتطم رأسها بأنبوب سميك وغابت عن الوعي يوماً كاملاً دون أن تنزف قطرة دم واحدة . كنت أبكي وأقسم بالله أمام جدتي وأمي وأبي أنني لم أكن السبب، لكن عيونهم كانت تحمّلني مسئولية ما حدث . أذكر أنني لم أنم ليلتها ، وبكيتُ كثيراً ، وسألت الله أن لا يحملني ذنبها .
كانت مريم في الحجرة الأخرى ساكنة لا تتحرك ، بينما كانت أمي تبكي بحرقة ، وجدتي تشاركها في البكاء ، أما أبي فقد كان ينظر إليها مكسوراً ، حزيناً .
لا أحد سواي يعرف كم تألمتُ ، وانطفأت روحي في تلك الليلة الكئيبة .
في اليوم التالي استيقظت مريم وكأن شيئاً لم يكن . وأكدت للجميع بأنها سقطت بنفسها وأنني لم أكن السبب في سقوطها فشعرتُ براحةٍ عظيمة ، وقررتُ منذئذ أن أكرّس لها كل وقتي .
عدتُ لا ألعب مع أحد ، وتخليتُ عن أصدقائي واحداً تلو الآخر ، حتى لم أجد أحداً يسأل عني أو يزورني ، وتخليت عن تربية الحمام ، بل اني اطلقتُ سراحها في فترة لاحقة بعد أن قالت لي مريم ان الحبس أشدّ ألماً من العمى . أما أوقاتي في المدرسة فكانت تمر ثقيلة ، انتظر لحظة عودتي إلى البيت كي أراها وألعب معها .
كانت تنام فيما مضى مع جدتي ، لكن منذ الحادث طلبتُ منها أن تنام بجواري ، وتلتصق بي حتى أشعر بأني امتلكها .
ذات مرة سألتني :
" هل أنا جميلة ؟ " .
" – أنت أجمل من رأت عيناي " .
فتوردت وجنتاها خجلاً ، وقالت مغتبطة :
" هل تستطيع أن تصفني ؟ " .
فأخذت أصف لها شعرها وعينيها وخدها وأنفها وشفتيها ، ثم استدركتُ بأنني كنت أصف نفسي وأنا أنظر إلى وجهها الأنيس .
* * *
قررتُ بعد ظهر اليوم أن أخرج مريم في جولة على دراجتي الهوائية ، فقد كنت أشفق عليها من وحدتها وجلوسها الدائم في البيت. كانت تحب أن تجلس في مواجهة البحر ، وتترك للهواء حرية العبث بشعرها الناعم الطويل .
أطلب من مريم أن تنتظرني خارجاً ريثما أخرج الدراجة بهدوء كي لا ينتبه أبي ، لكن صوت أمي يصلني وهي تحذرني من السيارات.
أقول لمريم مفتعلاً الغباء :
" إلى أين ؟ " .
فتجيب بجذل :
" البحر " .
الطريق إلى البحر لم يكن بعيداً ، إذ لا يتعدى عشر دقائق بالدراجة ، خاصة إذا سلكت بعض الطرق المختصرة .
كانت مريم تحب أن تسألني عن الشوارع والبيوت والدكاكين وأنواع السيارات العابرة . ليتها كانت تبصر كما أبصر .
نصل إلى شاطيء البحر ، الجو جميل رغم حرارة الشمس . نجلس على صخرة كبيرة ونمد أرجلنا في الماء .
تسألني مريم :
" ماذا ترى " " .
أقول وأنا أتلفت في الأرجاء :
" مكائن الحفر ما زالت موجودة ، وثمة شخص يتغوط في الماء ، وشخص آخر ضخم الكرش نائم على الأرض ، واضعُ حذاءه تحت رأسه" " – جدتي تقول انهم إذا استمروا في دفن البحر فأنه سيفيض يوماً ما وينقلب علينا " .
" – ليتنا نسافر لنرى ماذا وراء هذا البحر ، لنرى كيف تكون المدن الأخرى " .
" – ونرى الحيتان الضخمة " .
" - لو نحضر برميلين كبيرين ونلصق بهما بعض الألواح الخشبية القوية وشراعاً ثابتاً لأمكننا الإبحار ورؤية الدنيا كلها " .
" – لكن كيف يمكن أن نتخلى عن أهلنا ؟" .
الشخص النائم يصحو من نومه ، يتثاءب ويتمطى كقط عجوز متعب ، ثم يخرج من جيبه راديو ترانزيستور ويدير مؤشره حتى يستقر على صوت أم كلثوم وهي تغني (انت عمري ) . يضع الراديو قرب رأسه ويعود للنوم بعد أن عدل وضع حذائه تحت رأسه .
" – إذا كانت هذه الجزيرة الصغيرة بهذا الاتساع فكيف يكون العالم ؟ "
" – تقول أن الأرض كروية ، كيف إذن لا تتساقط منها مياه المحيطات والبحار ؟ " .
" – لكن الأرض كروية ، هذه حقيقة مؤكدة " .
" – ولم لا يتساقط الناس الذين هم في أسفل الكرة " .
" – الشيء الذي أعرفه هو أن الأرض كروية " .
بغتة اجتاحني هلع شديد ورجفة في كتفي وأنا اسمع صوت سيارة إطفاء تعبر الشارع المحاذي ، كانت السيارة تتجه شرقاً ومجموعة من الصبية يلاحقونها على دراجاتهم الهوائية كي يعرفوا مصدر الحريق .
أمسك يدي وأقول لها والخوف يملأ قلبي :
" يبدو أن مكاناً آخر يحترق " .
" – لماذا تخاف من سيارة الإطفاء ؟ " .
" – لنغادر المكان. قد يكون بيتنا الذي يحترق " .
الرجل النائم ينهض مستطلعاً في دهشة . يتابع باهتمام تحرّك سيارة الإطفاء ، ثم يحكّ شعر رأسه بعصبية ويعود للنوم .
ركبنا الدراجة وسلكتُ غرباً ، وقلق شديد يسيطر علي . كنت أخاف من الحرائق التي تحدث من وقت لآخر ، ومن سيارة الإطفاء ، بشكلها الأحمر القبيح ، وصوتها المجلجل الذي ينذر بالخطر والموت ، إلى حد أنني كنت أختبيء في دولاب الملابس ، وأسدّ أذنيّ بقوة كي لا أسمع صوتها .
في الطريق استوقفت أحد الأشخاص وسألته عن موقع الحريق فأخبرني أن مخزناّ للأخشاب قد احترق ، وان علب الأصباغ تتطاير في الهواء وتطلق أصواتاً كالانفجارات .
أشعر بطمأنينة ونحن نبتعد عن مصدر الحريق . أقول لمريم:
" ليتني أموت قبل أن أفقد أحداً منكم " .
تقول مريم :
" وهل ستتركني وحيدة في هذه الدنيا ، ألستَ عيني التي أرى بها؟ "
" – لن أتخلى عنك أبدً ، وسأظل أعتني بك حتى تتزوجي " .
" – أتزوج ؟!" .
" – ونقيم حفلة كبيرة ندعو لها كل الناس " .
" – وستدعو فتاتك البيضاء ذات الرائحة الحلوة " .
يعتريني الخجل فأعضها برفق في كتفها طالباً منها أن تخرس .
أصل إلى مفترق طريقين ، أحدهما طويل ، والآخر مختصر ، لكنه مخيف حتى في أوقات النهار . فلكي تصل نهاية الطريق لا بد أن تعبر أزقة ضيقة أفعوانية لا تسع لمرور أكثر من شخصين ، وحين تعبرها تشعر انك في متاهة لا نهاية لها .
كثيرون يخشون عبور هذه الأزقة ليلاً لشدة ما كان يثار حولها من روايات مرعبة عن كائن غريب يشبه الجاموس الوحشي يسد الطريق وينفخ في وجه من يراه فيصاب بالعمى . أبي يقول أنه شاهد هذا الكائن لكنه هرب قبل أن يؤذيه .
أجازف وأدخل الزقاق متمنياً أن نخرج منه دون أن يحدث لنا مكروه . فجأة يخرج علينا من الطرف الآخر شخصٌ عرف بالجنون ، وله عادة التجول بدراجته الهوائية مؤدياً حركات بهلوانية غريبة . كان المجنون يصدمنا لولا انني تحاشيته واصطدمت بالجدار .
نسقط على الأرض فيما هو يطلق ضحكاته العالية ويختفي بسرعة . أكاد أفقد وعيي لشدة خوفي ، لكنني أتماسك وأرفع مريم عن الأرض .
اسألها :
" – هل أصبتٍٍ بسوء ؟ " .
تنفض ثيابها وتجيب بالنفي .
" – هذا المخبول عاد للظهور ، كاد يقتلنا ".
" – يجب أن نعود للبيت " .
أشعر بدوار شديد ، لكنني لم أخبر مريم بشيء خشية أن تعرف أمي فتأخذني إلى المستشفى مرة أخرى .
أدخل البيت فتواجهني أمي بنظرة مرتابة ، تسألني عما حدث لكنني لا أقول شيئاً ، أذهب واصب ماءً بارداً على رأسي كي لا يغمي عليّ.
* * *
أقف وحيداً ، وسط كثبان ثلوج لا نهاية لها تغطي الآماد كلها. لا شيء هنا سوى البياض وأنفاس الموت . أشعر بالتيه والضياع ، فأخوض في الثلج لا أعرف إلى أين تسوقني قدماي .
أرى زجاجة مغروسة في الثلج . أزيح عنها الثلج فأرى جنيناً يشبهني محشوراً بداخلها . أتأمله ، فيفتح عينيه على سعتهما ، ويرسم ابتسامة باشة على شفتيه الصغيرتين ، ويحرك أطرافه بغية الخروج . حين يتعب ينظر إليّ بعتب ثم يتثاءب ويغمض عينيه .
أنقر على الزجاجة كي يفتح عينيه ، لكنه لا يتحرك .
اسأله : كيف أدخلوك في هذه الزجاجة ؟ .
ألا تشعر بالألم أو البرد أو الجوع ؟
من تكون ؟
لم تركوك وحيداً وغادروا ؟ .
أتمعن في تقاطيع وجهه ، أنه يشبهني في كل شيء ، أنه أنا .
أضم الزجاجة إلى صدري كي يدفأ . أرجوه أن لا يموت حتى أنقذه . أنفخ كل أنفاسي عليه وأمشي وسط البياض مستغيثاً كي يساعدني أحد .
لم تركونا وحيدين وغادروا ؟ .
أصل إلى بوابة المدينة الموصدة . أطرق بكل قوتي ، لكن لا أحد يفتح . أستغيث ، أصرخ فيهم : كيف تفرحون وهذا البريء يموت دون ذنب ؟ .
* * *
في اليوم التالي طلب مني أن أرافقه إلى السوق . حاولت أن أتجنب الذهاب معه لكنه أصرّ على رأيه ، وحجته في ذلك أنه يجب التعرف على الناس ، وكيفية التعامل معهم .
يمشي بخطواتٍ سريعةٍ واضعاً يديه خلف ظهره دون أن يتكلم ، أو يلقي بالاً لتعبي وأنا أحاول اللحاق به .
اسأل أبي :
" هل حقاً ستقوم الحرب ؟ " .
" – نعم " .
" – ونموت ؟ " .
" – لا تقلق ، نحن أقوى من اليهود ، وعبدالناصر سيخلصنا منهم ويطردهم من فلسطين " .
في المنعطف ، واجهنا أحد أبغض الأشخاص إلى قلبي ، ذلك اللوطي الفاسد ، صائد الصبية الحقير .
قبل أن يصل إلينا وزع نظراته بيني وبين أبي . ألقى بالتحية وصافح أبي ، ثم مسح بيده على شعري فأرجعت رأسي إلى الوراء وانتحيت جانباً .
أقول لأبي بعد أن تخطيناه :
" لم تصافح شخصاّ فاسداً مثل هذا ؟ " .
" – لا مصلحة لنا في عداوته " .
" – ولا ينبغي أيضاً أن نصادقه " .
كنت أمقته كثيراً ، ولطالما تمنيت أن أقتله ، فهو شخص بغيض وقبيح الشكل ، يضع على عينيه نظارة طبية سميكة ، ويضع في إصبعه خاتماً كبيراً يقولون انه يحتفظ فيه بترياق يخدر به الصبية ليلوطهم. له أنف ضخم مجدور ، وجسم قصير بدين . إذا أبصر صبياً تنهد بعمق ورطّب شفتيه بلسانه . يسكن في حجرة صغيرة جدرانها مغطاة بصور لنساء في أوضاع مثيرة . كنت أسأل نفسي كيف يعيش في حجرة لا مرحاض فيها . سمعت من أحد الصبية انه اختلس النظر ذات مرة عبر شق صغير بباب حجرته فرأي أن له خصية ضخمة . وسمعت انه يصنع الخمر داخل حجرته ، لذا اقتادوه إلى مركز الشرطة عدة مرات .
تقول جدتي أن الشيطان يتمثل بأفعى ، أو بكلب أسود ، أو بقط أسود ، لكن يبدو أن الشيطان اختار هذه المرة أن يتمثل بهذا الرجل بدلاً من الحيوانات . ليتهم يعدمونه ، أو يشنقونه عالياً على شجرة النبق الهرمة .
في إحدى المداهمات أخرجوا من حجرته الكثير من زجاجات الخمر ، وسجنوه ستة أشهر ، لكنهم أطلقوا سراحه قبل نهاية المدة .
رأيته ذات مرة في زقاق وهو يستند إلى جدار ويتقياً بصوت عال.. لما رآني صرخ بملء حنجرته : تعال . فما كان مني إلا أن هربت خائفاً.
نصل إلى المقهى . يصافح أبي الجميع ، ومن ورائه أصافحهم أيضاً دون أن أنبس بحرف . يجلس ويطلب لكلينا حليباً بالزنجبيل ويشير أن أجلس قريباً منه .
أشعر بملل وضيق من الوجوه نفسها ، ومن الحديث نفسه . حتى صاحب المقهى ، ألقى عليّ نفس التحية وهو يفرك راحتيه عدة مرات ورذاذ البصاق يطفر من فمه على وجهي .
شيئاً فشيئاً تبدأ أصواتهم في العلو وهم يتناقشون في احتمالات نشوب حرب جديدة مع إسرائيل :
صوت 1 :
" _ إذن الحرب ستقوم لا محالة " .
صوت 2 :
" – قطعاً ، وإلا لما طلب عبدالناصر إزاحة القوات الدولية من خليج العقبة وشرم الشيخ " .
صوت 3 :
" – أين هي شرم الشيخ ؟ " .
صوت 2 :
" – في ....... أمك " .
صوت 3 :
" – أخشى من غدر الإسرائيليين " .
صوت 2 :
" – عبدالناصر الذي بنى أكبر سد في العالم ، وطرد الفرنساويين والبريطانيين لن يقف مكتوف الأيدي " .
صوت 4 :
" – بو خالد عنده صواريخ إذا أطلقها دمر العالم " .
صوت 1 :
" – يجب أن لا يرحمهم ويلقنهم درساً لا ينسونه أبداً " .
صوت 3 :
" – ومع ذلك أخشى من غدر اليهود ، إن جونسون لن يتخلى عنهم " .
صوت 1 :
" – والسوفييت لن يتخلوا عنا " .
صوت 4 :
" – أقسم أمامكم أنني لن أتزوج إلا إذا دخلت الجيوش العربية تل أبيت "
صوت 2 :
" – تقسم أيها المخصي لأنك متأكد من انتصارنا " .
* * *
أقول لمريم:
" لقد أغمى عليّ اليوم أيضاً في المدرسة " .
" – يجب أن تذهب إلى الطبيب " .
" – لكنني أخشى من إجراء العملية الجراحية " .
" – اخبرني ماذا ترى حين يغمى عليك " .
" – قبل أن يغمى عليّ أشعر بقلبي ينبض بشدة عجيبة ، وبفراغ في رأسي كأنني سأختنق ، ثم لا أرى إلا السواد القاتم ، كما لو أنني في فضاء سحيق انطفأت فيه النجوم ، حينها أشعر بأنني ميتٌ حقاً ، فأنا أسمع ما يقال لكنني لا أتكلم ولا أتحرك ، وتعتريني برودة شديدة كما لو كنت عارياً في الثلج ، بعدها يختفي النبض ولا أشعر بشيء " .
" – يجب أن تذهب إلى الطبيب " .
" – أخشى أن يغمي عليّ ذات مرة ويحسبونني ميتاً فأدفن حياً " .
" – لا تخرج من البيت أبداً " .
" – لماذا نحن في هذا العالم ، لماذا نموت ، متى أرى الله ، متى أسمع صوته ، أين هو ، ماذا يفعل هناك ، لماذا لا يساعدني ؟ " .
تمد يدها فأخفي رأسي في صدرها الصغير المتدفق حناناً . أغمض عيني طويلاً .
* * *
صباح الخامس من حزيران ، كنا بداخل الصف يخامرنا شعور قوي بأن شيئاً ما يحدث بالخارج ، فقد رأينا المشرف يركض ومعه راديو صغير ناحية حجرة المدير .. في حين خرج أحد المدرسين إلى الفناء وصاح بصوت صادح : الله أكبر .. الله أكبر .
المدرسون تركوا الصفوف وخرجوا يستعلمون الأمر ، وما هي إلا دقائق حتى فرغت الصفوف من التلاميذ . كنا مرتبكين لا نعلم بحقيقة ما يحدث .
المدرس كان يواصل صياحه بانفعال شديد ناسياً ما حوله : الله أكبر .. الله أكبر .
المدير ومعه المشرف يسرعان إليه ويطلبان منه الهدوء . الراديو يطلق بيانات حربية حماسية ، والخبر انتشر بين الجميع . لقد قامت الحرب ، والجيوش العربية دخلت إسرائيل . الطائرات الإسرائيلية تتساقط كالجراد ، وتل أبيب على مرمى حجر . إسرائيل تطلب مساعدة عسكرية عاجلة من أمريكا .
في غمرة أفراح الجميع بأخبار الحرب لم يحاول أحد منعنا من الخروج من المدرسة ، فتعالت الهتافات في مظاهرة حاشدة .
أبي كان يحذرني دائماً من مغبة الاشتراك في مثل هذه المظاهرة لأنها حسب رأيه مخالفة للقانون . لم أشترك في المظاهرة وفضلت العودة إلى البيت ، ليس تحسباً لتحذيرات أبي ، ولكن شوقاً لرؤية مريم وإخبارها بما حدث .
أرى في الطريق مظاهرة مؤلفة من طالبات الثانوية العامة يهتفن بحماسة مفرطة بحياة عبدالناصر ، ويطالبن بدخول تل أبيب . تسقط إحداهن مغشياً عليها . فيتدافع لإسعافها بعض الشبان المهندمين الذين كانوا واقفين يتفرجون ، وكانت فرصة لهم لتلمس ردفيها وصدرها ، خاصة وإنها كانت ترتدي فستاناً ضيقاً قصيراً .
أواصل سيري وإذا بي أسمع صوتاً يطالبني بالوقوف . التفتُ فأرى ذلك الفتى الشقي اللعين يسألني عن الوقت بينما يمضغ العلكة ببطء . أجبته بأنني لا أحمل ساعة . يحدّق في عيني باستخفاف وأنا بي خوف أن يتحرش بي ، لكنه يتركني ويمشي . أتنفس الصعداء وأواصل سيري .
انه فتي في السادسة عشر من عمره ، سمعته سيئة ، فهو مشاغب، سليط اللسان ، ينضح الشر من عينيه ، ويتعارك مع الجميع ، حتى مع الذين يكبرونه سناً . يسطو على أعشاش الطيور ، يطارد القطط ويقطع أذيالها إذا اصطادها ، يشنق الكلاب بوحشية ، ويكسر زجاج النوافذ دونما سبب .
ذات مرة دس فلفلاً أخضر في أست جحش فاهتاج الجحش وانطلق في الشوارع ينهق من شدة الألم ، بينما كان يجري وراءه محاولاً شد ذنبه .
كان يدخن دائماً ويلبس سترة جلدية وحذاءً مدبب المقدمة عالي الكعب ، ويلبس بنطالاً ضيقاً من الجينز ، وحين يمشي كان يميل بكتفيه يمنة ويسرة .
كنت أتجنبه قدر المستطاع ، وأعرض عنه ، وحين ألتقي به أتمنى في قرارة نفسي أن لا يسيء إلي ، أو يضايقني .
ذات مرة تحرش بفتاة من حي آخر ، فجاءوا إليه بالعشرات وأوسعوه ضرباً وقذفوا به في القمامة رغم أنه أبدى مقاومة عنيفة تفوق سنه .
شعرت وقتها بفرحة عارمة ، وتمنيت لو أنهم يقتلونه ويخلصوننا منه . لكنه مع ذلك لم يكن يتحرش بفتيات الحي ، وهذا ما كان يثير استغرابي ، بل أنه في مواقف كثيرة كان مقاتلاً جريئاً يتحقق من الأشخاص الذين يعبرون ويسألهم عن سبب مرورهم ، وكثيراً ما تعارك مع أشخاص نتيجة اعتقاده انهم جاءوا لمغازلة إحدى الفتيات ، وهذا ما كان يريحني بعض الشيء ، فهو لم يكن يتحرش بفتاتي أبداً .. وهذا أعفاني من فكرة مواجهته ذات يوم ..
من يستطيع أن يتعارك مع بغل مثله ؟ .
أتابع سيري بعد أن أتأكد من ذهابه . بغتة ، أرى أمامي فتاتي البيضاء ، النظيفة كالقطن ، ذات الرائحة الحلوة ، والبشرة الصافية . كانت تسير وحدها دون أن تلتفت إلى أحد .
تجرأت ذات مرة وأخبرت مريم عنها ، فضحكت وقالت :
" هل أساعدك في التعرف عليها ؟ " .
لكنني رفضت الفكرة . فمن أين أحضر ثياباً نظيفة غير الثياب الخاصة بالمدرسة ؟ .
وخطرت ببال مريم فكرة أخرى ، فقالت :
" لماذا لا ترمي قطعة نقود تحت قدمها وتقول لها إنها سقطت من جيبها" .
لكنني رفضت هذه الفكرة أيضاً ، كيف لفتاة غنية مثلها أن تحمل قطعاً نقدية صغيرة ، لا بد أن والدها يعطيها دنانير جديدة كل يوم .
قالت مريم : " إذن أكتب لها رسالة وقل لها انك معجب بها وأنك تتمنى لقاءها " .
قلت :
" ولكنني لا أعرف أسمها " .
قالت مريم وقد اعتراها العجب :
" كيف تلاحق فتاة منذ سنة وأنت لا تعرف حتى اسمها " .
أحياناً أتمنى لو يشب حريق في بيتها ، وتكون هي في غرفتها ، والباب موصد عليها من الخارج . اسمعها تستغيث ، ولا يجرؤ أحد على الاقتراب من النار . أتسلق بخفة سور بيتهم العالي ، واقفز بين النيران وأنقذها .
وأحياناً أتمنى لو أن طفلاً رضيعاً معلقٌ في شرفة بيت ما ، في الوقت الذي تعبر فيه ، وتطلب من الناس إنقاذ الطفل ، فلا يتحرك أحد ، فيما أصل أنا في اللحظة التي يسقط فيها الرضيع فأتلقفه بين يدي وأنقذه من الموت .
لو أستطيع أن اعترض طريقها ، واقول لها إننا سعداء اليوم بانتصارنا على عدونا ، وأن فلسطين تحررت أخيراً ، واسألها كم مرة تستحمين في اليوم ؟ . لا بد أنها تستحم كل يوم بالصابون ، أو ربما تغطس في مسبح من الحليب ، وإلا من أين لها كل هذا البياض ، وهذه الرائحة الحلوة ؟ .
تصل إلى بيتها ، تدخل وهي تلتفت برقة إليّ ، ترمقني بنظرة لم أفهمها . يفتر ثغرها عن ابتسامة خجلة وتختفي .
أتسمرُ في مكاني وأنا في ذروة الارتباك ، أشعر بجفاف في حلقي، والدم يضخ إلى وجهي ، وأذناي تلتهبان .
لم أعرف كيف أمشي ، أو ماذا أفعل . فاندفعتُ راكضاً وأنا أهلل داخل نفسي : كسبنا معركة ، وكسبنا ابتسامة . ماذا ستقول مريم إذا عرفت بماذا جرى .
أسرع في الركض دون أن أعبأ بالدوار الذي بدا يصيبني . فقد كنت قريباً من البيت . لكنني لم أستطع أن أتمالك نفسي فسقطت على الأرض ، ولم أعد أرى إلا السواد من حولي .
* * *
وسط كثبان الثلوج أرى الرجل والنساء الثلاث وهم يبتعدون بعد أن دفن الرجل الزجاجة في الثلج . أسرع الخطى نحو موقع الدفن . أحفر ، فلا أرى شيئاً ، أحفر في مكان آخر ، فلا أرى شيئاً ، وفي مكان آخر ، وآخر ، وآخر حتى تعبت يداي.
أنادي : أين الجنين ؟ .. أين دفنتموني ؟ .
وسط الثلوج أرى ضوءاً باهراً يغمرني ، وبين الضياء أرى رجلاً يمتطى فرساً محناة الذيل والأرجل والجبين . بيده اليمنى سبحة طويلة ، فيروزية اللون . وبيده الأخرى رمح برأسه خمسة أسنة . تقدم إليّ ، وترجل من فرسه ، كان لونه أبيض وملبوسه وردياً مخططاً وسرواله أزرق وله أجنحة ألوانها الأحمر والأصفر والأزرق والأبيض .
يقول لي بصوت كالرعد :
" من أنت ؟ " .
فأحتار وأسأل نفسي : من أنا ؟ .
باغتني بضربة من رمحه في صدري أوقعتني على الأرض . كان دمي يمسح بياض الثلج وأنا أسأل نفسي : من أنا ؟ ..
* * *
أفتح عيني . فإذا بي واقعً على الأرض ، وحولي أشخاص عديدون ينظرون إليّ بوجل . أحدهم يربت على خدي ، وآخر يرش قطرات من ماء الورد على وجهي .
أقوم مرتبكاً . ما زلت أشعر بالدوار . أرى الرجل اللوطي واقفاً ينظر إليّ وابتسامة خبيثة مرسومة على شفتيه فيعتريني خوف شديد.
أنفض بسرعة ملابسي حاملاً حقيبتي ، مواصلاً السير إلى البيت .
أسمع أحدهم يقول بنزق :
" ظنناك ميتاً أيها التيس " .
يعتمل في صدري خوف مما حدث لي . قلبي يخفق بشدة غير مألوفة ، لم أشعر من قبل بمثل هذا الدوار الشديد والإجهاد الغريب .
أدخل البيت وأسرع إلى أمي ، أبكي قائلاً :
" لقد أغمي عليّ في الشارع ، هذه المرة كدت أموت " .
تحوطني بذراعيها الناعمتين ، وتقبلني في كل أجزاء وجهي . جدتي كانت نائمة ، تنهض فجأة سائلة :
" ماذا حدث ؟ " .
تجيبها أمي وعيناها محتقنتان بالدموع :
" لاشيء .. لا شيء " .
تمد جدتي يديها فأنتزع نفسي من أمي وأرتمي في صدرها باكياً.
أخذت جدتي تتلو آيات قرآنية بصوت منخفض وهي تمسح على رأسي.
تحضر أمي كأساً من الماء ، وترمي فيه خاتماً مذهباً وتطلب منى أن أشرب وأنام قليلاً .
أشرب الماء فيذهب عني الروع . اسألها عن مريم ولكنها لا تجيب. أشعر بتعب شديد فأخلد للنوم .
* * *
تنفتح أبواب المدينة الموصدة ، فأرى حشداً من الرجال الغاضبين يتدافعون نحوي ، يحملون بأيديهم سيوفاً وخناجر ومناجل وهراوات وبنادق . أحدهم يشير عليّ ويصرخ بأعلى صوته : ها هو قاتل الجنين .
أحاول أن أتكلم ، لكن صوتي كان مبحوحاً ، لا يصل إليهم . يتسابقون للوصول إلي . أرتعب وأركض بأقصى سرعتي حاملاً الجنين في الزجاجة
فجأة تتباطأ سرعتي إلى الحد الذي لا أتمكن من الحركة خطوة واحدة . بينما هم يقتربون مني أكثر فأكثر ، حتى استطاع أحدهم أن يقبض على شعر رأسي ويجرني نحوه . فسقطت الزجاجة من يدي وانكسرت ، ووقع الجنين على الأرض باكياً .
أحاول الإفلات منه كي أنقذه . ولكن أياد أخرى تقبض عليّ . أخذوا يجرونني على وجهي ، وهم يطالبون بقتلي وحرقي .
يأخذونني إلى نار عظيمة تبعث دخاناً شديد السواد ، يقذفون بي في النار فأحترق . أصرخ مستغيثاً من شدة الألم ، فأرى جلدي وقد تغير مرة أخرى ، فأحترق من جديد ، حتى لم أعد أعرف كم مرة احترقت في تلك النار العظيمة .
* * *
شبه نائم لكنني أسمع ما يدور من حديث بين أمي وأبي .
تقول أمي :
" لا بد أن نأخذه إلى الطبيب .. فلقد تكررت عنده حالات الإغماء .. وأخشى أن يصاب بمكروه " .
" – سأحضر الملا إسماعيل ، فهو صاحب يد مبروكة " .
" – لماذا لا نأخذه إلى المستشفى الأمريكي " .
" – سيتعافى على يد الملا إسماعيل ، سترين " .
أنهض من النوم على صوت مشاجرة بين أبي وعمي ، فلقد تصادف وجود عمي حين أحضر أبي الملا إسماعيل ، فما كان من عمي إلا أن سخر منه ومن قدراته . فلطمه أبي يجمع كفه وأمره بدخول حجرته. يصمت عمي وينسحب بهدوء ، بينما يمتقع لون الملا إسماعيل وهو خائف ومرتبك . يمسح بشكل متكرر على شاربيه الأبيضين الكثيفين اللذين يحجبان المسافة الكبيرة بين أنفه وشفته .
بعد لحظات يستأذن من أبي ويخرج دون أن يعالجني . يصفق أبي الباب ويتوجه بسرعة إلى حجرة عمي ، فيعلو صراخه وشتائمه . وحين عاد بدأ عمي في إطلاق قهقهاته الساخرة . بدا أبي مبتسماً ، ثم ما لبث أن ضحك .
يقول لأمي وهو ينزع ثيابه :
" هذا رجل مجنون " .
فتبتسم أمي بدورها وتقول :
" كلنا مجانين " .
يتوقف أبي عن الضحك ويقول :
" غداً سنأخذه إلى المستشفى الأمريكي ، فالملا لن يعود وهذا المجنون في البيت " .
* * *
أنهض وصداع عنيف يلف رأسي . كان أبي متوتراً جداً وهو يستمع إلى الراديو . المذيع يعلن بصوت مكسور عن هزيمة الجيوش العربية ، واحتلال إسرائيل لأراض عربية جديدة . لم أعرف ماذا يجري، وكيف انقلبت الأمور في يوم واحد . بالأمس كنا منتصرين واليوم نعلن هزيمتنا . كيف يمكن أن أعرف ما حدث ؟ .
أمي تقدم الشاي لجدتي . ألتفتُ فلم أر مريم . أين هي ؟ .
يقول أبي بصوت مرتجف :
" أي وهمٍ كنا نعيشه ؟ " .
اسأله :
" أين مريم يا أبي ؟ " .
فيردّ بعصبية شديدة :
" أمجنون أنت ؟ . أختك ميتة ، وهي غير موجودة في هذه الدنيا ، يجب أن تفهم هذا " .
تندفع أمي إليه محاولةً إسكاته ولكنه يدفعها فتقع على الأرض، وتوقع كوب الشاي من يد جدتي وهي تحاول النهوض .
أقول وأنا غير مصدق ما أسمعه :
" أنت تكذب ، مريم لم تمت ، إنها معي دائماً ".
يقول أبي بصوت عال :
" بل هي ميتة ولا توجد إلا في خيالك ، أنا دفنتها بنفسي قبل سنتين. إنك تؤذي نفسك وتؤذينا معك " .
تحاول جدتي أن تسكته ، لكنه يتابع محتداً:
" كان يجب أن يعرف ذلك منذ البداية " .
أحاول أن أتكلم فلا أستطيع . أشعر باختناق ودوار في رأسي .
أقول وأنا أجاهد في أن يخرج صوتي :
" أنا لم أقتل مريم ، هي سقطت بنفسها في الحفرة ، أنا لم أقتلها " .
يهدأ أبي من ثورته ويقول :
" لا دخل لك بموتها ، كان هذا قضاء الله وقدره ، أفهم هذا " .
أمد يديّ لأخنق أبي لكن لا تسعفني قواي ، فأسقط على رأسي ، ولا أرى أو أسمع شيئاً .
* * *
أنا والبياض الساكن ، والسماء الرمادية ، والصقيع ، والزجاجة ، والجنين ، ووحشة الموت .
أحفرُ عميقاً في الثلج ، حتى تصير الحفرة بحجم جسدي ، أنزلُ في الحفرة ومعي الجنين . هو هاديء لا يتحرك ، يرسم ابتسامته الباشة على شفتيه الصغيرتين .
أستلقي في الحفرة ، وأدفن الزجاجة في صدري ، واسأل نفسي :
هل أنا ميت أم حي ؟ . هل مريم ميتة أم حية ؟ . هل نحن أموات أم أحياء . ما هو الموت ، وما هي الحياة .
الثلج يغطيني شيئاً فشيئاً
الثلج يغطيني
الثلج .
1997
* * *