إلى أبي.. الذي علمني أن أرى
( أنا الققنسُ، الطائر النادر الجذاب، لي منقارٌ صلبٌ، طويلٌ، عجيبٌ، يشبه الناي، وبه العديد من الثقوب، ففيه ما يقرب من مائة ثقبٍ وفتحة. ولكل ثقب نغمة متباينة، ووراء كل نغمة أسرار مغايرة.
كم ألمَ الاضطراب بي خلال الألف سنة، فكثيراً ما كنت أنوح حزناً على نفسي، وأطلق الآهات. وقد قضيتُ تلك السنوات حبيس الأحزان والغمة، بلا ولد ولا زوجة، حبيس الوحدة والعزلة.
عندما يحين وقت انتزاع قلبي وموتي، أجمعُ حولي من الحطب مائة كومة، وأظل لا أعرف الراحة والاستقرار وسط الحطب، وأواصل النواح بحرقةٍ واضطراب، فيرسل كل ثقبٍ، بفعل روحي الطاهرة، نواحاً متبايناً يحمل الأسى والحرقة. وعندما أنوح بكل الثقوب يكون لكل ثقبٍ لحنٌ مختلف. وفي وسط النواح ترتعد فرائصي خشية الموت وكأني ورق شجر.
وأعجب الأيام يومي، فإني أنزف دماً من آلام قلبي. وعندما يصل عمري إلى آخر زفرة، أرفرف بجناحيّ إلى الأمام والخلف، وتتطاير النار من جناحي، بعد ذلك تصبح النار كل حالي. وسرعان ما تسقط النار في الحطب، فتحرق حطبي وأنا في قمة السرور. وأصبح أنا والحطب كلانا جمرةً من نار، ثم تتحوّل الجمرة بعد ذلك إلى رماد.
وما أن يختفي كل شئ، حتى أخرج، أنا الققنس، من الرماد .)
منطق الطير (بتصرف)لفريد الدين العطار النيسابوري
* * *
الرؤيا الأولى
صباح هذا اليوم رأيتُ منظراً أضحكني كثيراً.. رأيت شخصاً يشبه جدي، الذي كان قد توفى قبل بضعة أيام، يحاول أن يزحزح بيديه العاريتين شجرة صفصاف هرمة من مكانها.
في المساء رويتُ لأبي ما حدث فأرتجف جسمه، وأدمعت عيناه. مسح بيده الغليظة على شعري.. تحدث بأسى عن مهابة جدي ووقاره ومكانته بين الناس.
كنت أضحك في قرارة نفسي من فكرة أن يحاول شخص ما زحزحة شجرة صفصاف هرمة من مكانها .
استلقيت على فراشي متأرجحاً بين الصحو والنوم. كان أبي يحدثني عن جدي، أو انه قام، كعادته كل ليلة، لإطفاء الأنوار في البيت، ورتج الباب بإحكام.
شعرت بما يشبه دبيب النمل على راحة يدي . فتحت عيني. رأيت جدي جالساً عند فراشي متسربلاً بثوب أبيض، وفي يده سعفة نخل.
نهضت وحييته، فوضع سبابته على فمي مشيراً بأن أخفض صوتي، وحرك رأسه حركة سريعة كعادته حين يطلب مني الخروج معه.
قمت على مهل ومشينا على أطراف أصابعنا بخفة. فتح النافذة ورفعني ووضعني على كتفه، وطار بي في الهواء.
" - هل أنت سعيد أيها الققنس ؟ ".
أومأتُ بالإيجاب فضحك بأعلى صوته، واستمر ضحكنا ونحن نصطدم بأعمدة النور وجدران البيوت، أو ننزل إلى مستوى الطريق العام فنرتطم بمقدمة السيارات المسرعة ونعود للارتفاع في الجو من جديد.
وصلنا إلى كهف في مكان ناء. نزلنا. رأيت جيشاً عظيماً من الجراد يغطي مدخل الكهف، يشبه خيولاً مستنفرة للقتال. جراد أرجواني اللون، ينبعث من أجنحته لهب وقاد.
قلت: " ما هذا المكان يا جدي ؟ ".
قال: '' هذا هو بيتي وبيتك ''.
مشيت بحذر في أرجاء الكهف. رأيت ناراً هادئة تحرك أصابعها كالساحرات، تضئ الصمت العميق.
رأيت أدوات حجرية ورمماً حيوانية وسواطير صخرية وفؤوساً بدائية. رأيت على جدران الكهف صوراً فوتوغرافية لأسماك هلامية، ومخلوقات شبيهة بالسراطين، ومجموعة كبيرة من القشريات والبرمائيات والزواحف والثدييات .
جلس جدي أمام النار وجلست وراءه أفلّ شعر رأسه الأبيض بحثاً عن قملة اصطادها وأقذفها في النار.
'' - متى سنبدأ يا جدي ؟ ''.
'' - سأسألك بعض الأسئلة أولاً ''.
وضع أصابع يده في النار طويلاً .
'' - هل أنت الملك والرعية ؟ ''.
'' - نعم ''.
'' - هل أنت السيد والعبد ؟ القوي والضعيف ؟ السيف والرقبة ؟ ''.
'' - نعم ''.
'' - هل أنت الواحد والكل ؟ ''.
'' - نعم ''.
'' - هل تقتدي بنفسك مثلما أقتدي بنفسي؟''
'' - نعم ''.
'' - ألا تتكامل مع أحد ؟ ألا تسير في موكب أحد ؟ ألا تمتثل لفروض أحد ؟ ألا تخضع لمطالب أحد ؟ ألا تنقاد لرأي أحد ؟''.
'' - كلا يا جدي ''.
قال وهو يخرج أصابعه من النار :
'' - إذن لننتظر حتى يحين الوقت ''.
* * *
وقفنا على رمال الشاطئ الصفراء ساعات طويلة لا نتحدث، كنت أراقبه منتظراً أن ينبس بحرف. لكنه لم ينطق. ثم بدأ المشي على ماء البحر بهدوء شديد، والتفت إليّ يخاطبني من بطنه داعياً أن أتبعه.
خطوتُ فوق الماء فهويتُ إلى القاع. في القاع سمعت صوتاً كصوت عزف على القيثارة مصحوباً بترانيم شجية تنبعث من كهف مظلم.
دخلت الكهف فرأيت كائناً عجيباً نصفه امرأة ونصفه طائر، له سبعة رؤوس وعشرة قرون .
قالت الرؤوس في صوت واحد :
'' تعال أيها الققنس، فأنت في حضرة سيدة الملوك ''.
تراجعتْ سيدة الملوك وجلستْ على عرشٍ عظيم مكلل بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، مكسو بالديباج والحرير، وله قوائم من اللؤلؤ والجوهر.
قالت سيدة الملوك :
'' هل تقبل أن تعبدني، وتعيش تحت إمرتي إلى الأبد، فأشدو لك بعذب الألحان ؟ ''.
قلت :
'' كلا، أريد أن أعود إلى جدي ''.
غضبتْ سيدة الملوك وتحوّلت فجأة إلى أفعوانٍ عظيم لا يُعرف رأسه من ذنبه، وقبل أن ينقض عليّ سحبني جدي من يدي وأخرجني، كالبرق، من قاع البحر .
* * *
قال :
'' - إذا أمسكت يدي فلن تسقط ''.
أمسكتُ يده بإحكام ومشيت معه على الماء.
قلت :
'' أين البشارة يا جدي، أين العلامة ؟ ''.
لكنه لم يقل شيئاً .
مشينا على الماء مدة طويلة. وصلنا إلى مضيق ملئ بالصخور والمداخل الملتوية. توقفنا على صخرة سوداء لا ترتفع كثيراً عن سطح البحر.
راقبته وهو يقف منتصب القامة ينظر إلى البعيد كأنما يتوقع قدوم شئ ما. بعد قليل رأينا سفينة شراعية قادمة نحو المضيق .
كانت السفينة مكتظة، على نحو غريب، بالركاب. كانوا يرتدون أكفاناً بيضاء، ولهم وجوه واحدة، ويرددون نشيداً واحداً بصوت واحد.
جارت السفينة صخرتنا ولكنهم لم يلتفتوا إلينا، بل واصلوا إنشادهم بصوت قوي، ودكّوا بأقدامهم العنيفة على سطح السفينة بينما كانوا ينزلون الشراع تاركين السفينة تحت رحمة الريح.
قلت :
'' ستغرق بهم السفينة إن هم واصلوا الدك عليها ''.
قال :
'' لن يتوقفوا حتى تخترق ''.
على مسافة ليست ببعيدة عن صخرتنا رأينا السفينة تعلن استسلامها وتعجز عن مقاومة الموج، إنها الآن تتوارى شيئاً فشيئاً وراء الماء.
* * *
جلس جدي قبالة النار المقدسة يراقب أصابعها السحرية. جلست في مواجهة النار وجدي. نظرت في عينيه اللامعتين وقلت :
'' أين البشارة يا جدي ؟ ''.
وضع أصابعه في النار كأنه يلاطفها وقال :
'' كل المدن جاهلة، ضالة، فاسقة.. كلها مدن الخسة والشقوة والنذالة، كلها سائرة نحو الهلاك. من هذه المدن ستخرج البشارة.. من هذه المدن سنرى العلامة. سيخرج الذي لا يرأسه أحد.. سيخرج العقل الفعال، مصدر الحياة، مبعث التناسق والنظام، مشرع الشرائع والسنن، زارع الزرع، باعث النور، ومذكي النار المقدسة''.
ثم صمت مدة طويلة.
تركته يحاور صمته وخرجت. على مبعدة من الكهف رأيت عرشاً مهيباً قدامه بحر زجاج شبه البلّور. اعتليتُ العرش فشعرت برجّةٍ عنيفة ما لبثت أن سكنت.
قلت لنفسي :
'' لم لا أكون أنا البشارة ؟ ''.
* * *
قال جدي :
'' لندخل هذه الشجرة ''.
دخل في الشجرة، فدخلت معه.
رأينا مدينة مسوّرة بالجدران الأسمنتية العالية تمنع كل من يحاول اختراقها .
قال :
'' سندخل هذه المدينة لأريك أغرب الدواب وألعنها ''.
قلت :
'' وما هي هذه الدابة الغريبة اللعينة ؟ ''.
قال :
'' هي دابة ذات قوائم طولها ستون ذراعاً، هي في السحاب وقوائمها في الأرض، رأسها رأس ثور، وعينيها عيني خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعاً ''.
قلت :
'' لكن كيف سندخل هذه المدينة التي لا منفذ لها ''.
مشينا داخل المدينة حتى وصلنا إلى أسواقها المكتظة بالناس. كانوا مجتمعين يتبادلون الكلام فيما بينهم، وترتفع أعناقهم بين الفينة والأخرى إلى السماء. كأنما يتوقعون خبراً، أو ينتظرون أمراً.
صاح صائح من بينهم :
'' ها هي ظهرت ''.
كسيلٍ جارفٍ اندفعوا وتصايحوا وداسوا في بطون بعضهم.
قلت لجدي :
'' إلى أين هم ذاهبون ؟ ''.
قبل أن يجيب، رأيت دابة ترغو وتنفض عن رأسها التراب، وتدور حول نفسها بينما الناس يتسابقون للوصول إليها، رافعين أيديهم إليها، يطرحون أنفسهم ساجدين على تراب قوائمها.
تبدأ الدابة في قذف الذهب والفضة والجواهر مع روثها فيتدافع الناس لجمعها، يكادون من فرط تدافعهم أن يقتل بعضهم بعضاً. وتظل الدابة على هذه الحال حتى تتعب من دورانها وتبتعد تاركة الجموع تنتظر خروجها من جديد.
* * *
عبر صحراء شاسعة الأبعاد، حلقنا على مستوى منخفض من الأرض. كانت الصحراء جرداء لا أثر فيها للحياة .
'' - إلى أين وجهتنا يا جدي ؟ ''.
'' - سنزور قصراً عجيباً ''.
قلت مندهشاً :
'' في هذه الصحراء ؟! ''.
على مبعدة رأيت قصراً كبيراً تحوطه بساتين مبهجة، مليئة بالخضرة والثمار، ونافورات يصلها الماء القراح الصافي من ينابيع تتفجر من الأرض .
قال :
'' لندخل القصر ''.
في داخل القصر رأينا جثثاً مكدسة على مائدة كبيرة عامرة بصنوف الطعام .
قلت :
'' ماذا حلّ بهؤلاء الرجال ؟ ''.
قال :
'' لنسأل سيد القصر ''.
كان سيد القصر في غرفة أخرى يستحم في حوض ملئ بزيوت عطرة ساخنة، وعلى طرف الحوض وضعت أطباق عديدة من مخ الطواويس، وألسنة العصافير، وأكباد الأسماك، وعيون الديوك البرية.
لما رآنا ابتهج وقال :
'' هل رأيت أيها الققنس كيف تخلصتُ من أعدائي، جاءوا ليعلنوا الولاء، وليقدموا فروض الطاعة، فسممتهم جميعاً على مائدة واحدة''.
كانت ضحكاته تحدث صوتاً غريباً فتهتز القاعة هزاً عنيفاً، ثم سكت عن ضحكه وقال وهو يغطس في الحوض:
'' لا تثق بمن ينحني لك ''.
* * *
امتطينا صهوة سحابة ناصعة البياض طافت بنا في الفضاء السحيق. عبرنا مجرات كثيرة حتى وصلنا إلى كوكبٍ يشبه قرصاً من الذهب، تدور حوله مجموعة من اثني عشر قمراً، تحيط به أحزمة مظلمة، وتتوسطه خطوط مضيئة يتدرج لونها من الأصفر الباهت إلى الأحمر القاني .
شقت الغيمة طريقها ببطء وهي تدخل جو الكوكب، فقد صادفنا متاهات من الجزئيات الغازية وكريات الهيدروجين المتجمد .
مشينا على أرض الكوكب. كان البرد قارساً جداً، والشمس باهتة كأن قد حدث لها خسوف. الأشجار تجردت من أوراقها، والأرض كما لو إنها احترقت وانتثر عليها الرماد.
الخراب في كل مكان، كأن زلزالاً دك الجبال والتلال والأبنية والحصون والحوانيت.
قال :
'' أنظر إلى هذا الجسر ''.
رأيت جسراً معلقاً، لا هو في الأرض، ولا هو في السماء، ولا تسنده أعمدة. لا يبدأ بمكان، ولا ينتهي بمكان.
الجسر مكتظ بجثث الرجال والنساء والشيوخ والأطفال والخيول والحمير والبغال والأيائل. الرايات البيضاء مخضبة بالدماء، في حين كانت وحوش البر مجتمعة تحت الجسر تلغ الدم المتكوم في برك كبيرة، وبعضها يحاول الوصول إلى الجسر ليمزق اللحم المتعفن .
قلت :
'' هل هذه هي النهاية ؟ ''.
قال :
'' كلما انتهى شئ ابتدأ شيء جديد ''.
* * *
جلس جدي أمام النار المقدسة التي كانت تحتضر. أحنى رأسه إلى صدره، وصمت طويلاً حتى خلت انه لن يتكلم. وبعد أن انطفأت النار المقدسة قال هامسا ً :
'' أين البشارة، وأين العلامة ؟ ''.
تركته يدمدم وخرجت من الكهف متجهاً إلى العرش. اعتليت العرش فلم يرتج .
قلت :
'' أنا البشارة، وأنا العلامة ''.
الرؤيا الثانية
الليل جناح غراب حالك السواد. كنت في البيت وحيداً، انتظر قدوم أبي من العمل. رتبت وضع فراشه، أنهيت إعداد شايه ونرجيلته، وجلست أنتظر.
تعبت فتمددت على الأرض بجوار موقد الشاي، محدقاً في الجمرات المتوقدة المتناثرة على سطح الموقد.
شعرت بيدٍ تهزني بهدوء. التفت ورائي. رأيت شخصاً غير أبي. كان أجمل مخلوق رأيته في حياتي، تنبعث من وجهه هالات من النور. عيناه ترسلان نوراً أحمر يبعث على السحر.
سألته :
'' من تكون ؟ ''.
قال بصوت هادئ :
'' هل تكون من جملة أحباري، أطلعك على بعض أسراري ؟ ''.
قلت :
'' نعم ''.
قال :
'' لا بد أن أشق صدرك، وأستخرج قلبك ''.
نزعت قميصي، فاستل من تحت ردائه الأسود خنجراً ذا نصل حاد. أغرزه في صدري وشق شقاً واسعاً. أخرج قلبي وألقاه على الأرض. أخذه وغسله بالماء، وراح يمضغه بنهمٍ شديد .
لما استراح قال :
'' لقد طهرتُ روحك، وجردتُ نفسك من عواطفك وأحاسيسك وإنسانيتك. إذا اتبعتَ خطاي، وسلكتَ مسالكي، جعلتك مثلي.. أنا الأكثر معرفة، والأحدّ ذكاءً، والأدهى من أي مخلوق ''.
مددت يدي فقبض عليها بقوة وقال :
'' اتبعني أيها الققنس ولا تتعب ''.
عند الباب رأيت نعامتين مسروجتين. امتطينا النعامتين، فانطلقنا بسرعة كبيرة، وعرجنا صوب السماء .
وصلنا إلى نهرٍ تتحوّل ألوانه وتدهش. كل لونٍ تصاحبه موسيقى عذبة، في تناغمٍ وفي تدفق.
ترجلنا. مشينا فوق الماء المتلوّن. وصلنا إلى الضفة الأخرى. توقف وأشار بيده إلى البعيد قائلاً :
'' أمامنا جبلٌ عظيم وغابة مظلمة. أيهما تختار : الوصول إلى قمة الجبل، أم الدخول في الغابة المظلمة ''.
قلت :
'' الدخول في الغابة المظلمة كي نكشف أسرارها ''.
ارتسمت ابتسامة رضى على شفتيه وقال:
'' اتبعني ''.
دخلنا غابة مظلمة تبكي بصوت خفيض. كلما توغلنا في الغابة بدأ الصوت أقرب إلى الوضوح. الغابة تتنفس وتزفر دخاناً أسود، كأنما هي أشخاص يتنهدون من تحت الماء .
من بعيد تقبل امرأة ذات ثديين هائلين، تمتطي ظهر ثور متوحش، ويتبعها قطيع من الخراتيت المشعرة لها أسنان كالخنازير .
تتوقف، تقول له كلاماً لم أفهمه. صوتها كان أقرب إلى اللقالق حين تصلصل بمناقيرها الكبيرة. أشار لها بحركة سريعة من يده فأسرعت بالاختفاء عنا.
وصلنا إلى شجرة بلوط عظيمة، أغصانها من الزبرجد، وأوراقها آذان فيلة. تحت الشجرة رأيت كرسياً كبيراً ينبعث منه ضوء قرمزي .
قال :
'' تعال واجلس على هذا الكرسي ''.
قلت :
'' أين نحن الآن، وما هذا الكرسي ؟ ''.
قال :
''هذا بيتي وبيتك. إذا جلستَ على هذا الكرسي رأيتَ المعرفة تخرج من المفازات والجبال والآكام والأودية والفلوات والآجام وهي تنحني لك''.
أدخلَ يده في باطن الأرض فأطلقت ناراً غاضبة. جلس في النار.
قال :
'' هل تعرف أن النار أكثر شرفاً من الطين؟''.
قلت :
'' كيف ؟ ''.
قال :
'' النار تعلو، وتصعد، النار هي الجوهر المضيء، النار هي الأصل''.
أخرجَ من تحت الأرض قصبة طويلة، وانتصبَ على رأسها قائلاً :
'' حتى تعرف كل ذلك تجرد أولاً من الرابطة التي بينك وبين أبيك. لابد أن تكون أنت أنت، تكون في علوٍ لا يصل إليه أحد. اقطع تلك الرابطة مثلما قطعتها أنا قبلك ''.
قلت:
'' كيف أقطع الرابطة التي بيني وبين أبي؟''.
نزل من على القصبة، وأدخلَ عينه في عيني قائلاً:
'' أقتله ''.
تساءلت بغرابة :
'' أقتل أبي ؟ ''.
قال :
'' تذكّر، إذا قتلتَ الراعي تبددت خراف القطيع، وإذا قتلت الأب فُتحت كل الطرق أبوابها لك ''.
قلت :
'' كيف أقتله وأحبه في نفس الوقت ؟ ''.
مد يده وقال :
'' تعال وأجلس على هذا الكرسي ''.
جلستُ على الكرسي. قرّب رأسه، وقبّل منكبي، فظهر في كل منكب حية سوداء، سرعان ما بدأتا تنوشاني .
قال :
'' حتى يخف أذاهما، ويقل اضطرابهما، لابد من إطعامهما دماغ أبيك''.
* * *
خرجنا من الغابة المظلمة. مشينا. وصلنا إلى جسرٍ يؤدى إلى سماء أخرى.
على حافة الجسر رأيت جوادين فقدا البصر. اعتلينا الجوادين، وعبرنا الجسر متجهين إلى السماء.
وصلنا إلى بحرٍ أسود معلق في السماء. ترجلنا. قال لي وهو ممسك بلجام الجواد :
'' أعبر بنفسك هذا البحر ''.
قلت :
'' ألن تصحبني ؟ ''.
قال :
'' أكمل بنفسك الرحلة ''.
مشيتُ فوق بحرٍ ماؤه له لون الفيروزج. في منتصف المسافة قابلني رجل نصفه من ثلج ونصفه من نار، له سبعون رأساً في كل رأس سبعون لساناً.
قالت الرؤوس كالجوق المتناسق :
'' تعال أيها الققنس معي ''.
عبرنا البحر. دخلنا في دغلٍ مظلم يؤدي إلى دغلٍ أكثر حلكة. في نهاية الطريق رأيت المخلوق الجميل جالساً في إناءٍ حديدي كبير مملوء بالقار المغلي .
ابتسم ابتسامة عذبة لما رآني وقال :
'' ها قد وصلت ''.
خرج من الإناء فبدا عارياً تماماً. رسم دائرة كبيرة. قفز داخل الدائرة، وجلس القرفصاء، وأخذ ينتف رموش عينيه.
قال :
'' تعال وادخل في الدائرة ''.
دخلت في الدائرة، وجلست في مواجهته .
قال :
'' تذكّر، كل شجرةٍ لا تعطي ثمراً جيداً تُقطع وترمى في النار ''.
صمت طويلاً، ثم أدخل عينيه في عيني وقال:
'' هل تقود الذئاب المتوحشة، ذوات القرون، في جنح الليل لتهاجم مدينتك، فتقضي على كل كائن حي فيها ؟ ''.
قلت :
'' أقود ذئاباً لتهلك مدينتي ؟ ''.
قال :
'' نعم ''.
قلت :
'' ولكنها مدينتي التي عشتُ فيها وسأموت فيها ''.
قال وقد هاجت عيناه:
'' إنها أيضاً المدينة التي ستلعنك، وتضع الأغلال في يديك وقدميك. إنها أيضاً المدينة التي لن تسمح لك أن تخطو خطوة واحدة خارج حدودها. إنها أيضاً المدينة التي ستذيقك العذاب ما حييت. ألا تريد أن تهلكها مثلما أهلكتُ أنا مدينتي من قبل ؟ ''.
قال :
'' هذه المدينة لا بد أن تُحرق ''.
قال :
الذئاب ذوات القرون تنتظرك في وسط الضباب. أخرج إليها، وأطلب الصيد معها، وليكن صيدك كل كائن حي في مدينتك ''.
قمتُ. خرجت من الدائرة، وتركته ينتف رموش عينيه بينما اتجهت نحو الذئاب التي كانت تنتظرني في الضباب.
سمعت طرقاً مألوفاً على الباب. فتحت الباب. كان أبي واقفاً وبيده كيس من الفاكهة. فتح ذراعيه. انتظر، كعادته، أن أرتمي في حضنه، وأعطيه خدي كي يقبلني بشفتيه المتعبتين، لكنني تراجعت خطوات إلى الوراء. تركته، للمرة الأولى، واقفاً مع ذهوله عند الباب
اتجهت نحو فراشي سائلاً نفسي :
'' لِمَ أنا أنا، ولم يكون هذا أبي ؟ ''.
الرؤيا الثالثة
كان يوماً قائظاً إلى حد لا يطاق، كأنما الشمس اختارت أن تجلس في فناء البيت. تعرى أبي من قميصه الذي تفوح منه روائح العرق والزيت. انبطح على بطنه أمام الهواء المنبعث من المروحة المتحركة .
قبل أن ينطق بحرف، أسرعت وارتفعت فوق ظهره، مستنداً بيدي على حافة الجدار المتآكل، فأطلق آهة ارتياح عميقة.
قال وطبقات صوته تتلون من جراء ضغط قدمي على ظهره:
'' سنتعشى الليلة عسلاً ''.
لم أكن أطيق طعم العسل، إلا إنني أبديت فرحاً مصطنعاً.
قال :
'' لولا هذه الحرارة لأخذتك إلى البحر لنتسلى باصطياد السمك ''.
قلت :
'' ليت أمي كانت معنا ''.
سكت. ساد هدوء في الحجرة الضيقة إلا من رجرجة المروحة العتيقة
كنت على وشك التوقف عن المشي فوق ظهر أبي حين شعرت بوجود شخص ما في الحجرة. أدرت رأسي. رأيت شخصاً، يكبرني بعشرين أو ثلاثين عاماً، واقفاً عند باب الحجرة. لم يكن غريباً. شعرت بأنني أعرفه معرفة تامة .
اقترب بهدوء مني وقال :
'' كيف حالك أيها الققنس ؟ ''.
قلت :
'' من أنت ؟ ''.
قال :
'' ألا تعرفني ؟ ''.
قلت :
'' أعرفك ولا أعرفك ''.
قال :
'' أنا أنت، أنت طفولتي، وأنا شبابك، إذا كبرتَ ستكون أنا، وإذا صغرتُ أنا كنتُ أنت''.
تحرك في أرجاء الحجرة. تحسسها. انحنى ونظر إلى أبي النائم. جلس بجواره وقبل رأسه قائلاً :
'' كم اشتقت إليك ''.
قام من مكانه. أمسك بيدي قائلاً :
'' تعال معي ''.
قلت :
'' إلى أين ستأخذني ؟ ''.
قال :
'' سأريك نفسك ''.
خرجنا من البيت فواجهتنا ريح مستديرة قوية، شبيهة بالمنارة، تدور حول نفسها. أمسك بيدي جيداً، وأدخلني معه إلى الدوامة. رفعتنا ودارت بنا بسرعة وعرجت بنا إلى السماء .
توقفنا في صحراء قاحلة لا أثر فيها للحياة. رمالها حمراء كأنما امتزجت بالدم.
جلس على الرمل فجلست معه. أخرج ناياً من تحت ثيابه، وأخذ يعزف عليه لحناً جنائزياً. كانت عيناه مغمضتين يطفر منهما الدمع.
توقف عن العزف. نظر إليّ. أجهش بالبكاء حتى خلت انه لن يتوقف أبداً.
قال :
'' ليتني ما كبرت ''.
قلت :
'' وماذا يحزنك ؟ ''.
قال :
''توجعني جدران قلبي، الذين أعرفهم خذلوني، والذين عرفوني نسوني. عشتُ وسط عزلةٍ مطلقة، لا أهل ولا زوج ولا ولد. عشتُ في مدينة خر
إقرأ أيضاً: