عبدالقادر عقيل
(البحرين)

عبدالقادر عقيلالشمس انعزلت، والسماء هجدت، والنجوم انتثرت، والكائنات أنست. الليل سجا، والقمر انجلى، وأنا ككل ليلة، أحدق ذاهلاً، مبهوتاً، مبهوراً، في بهاء الفضاء. تدور بي طواحين أسئلة شتى، ماذا هناك؟ من أي نبعٍ ينبجس كل هذا الضياء؟

يحلو لي أن أتمنى، أن أبلل جسدي برغوة الأنوار، أن أنأى، كالقمر، عن الأرض، وعن البشر.

نجمتي أين أنتِ، هل نسيتني؟ لِمَ لا تصطفيني، لِمَ لا تمدينَ يديك وتنتشليني؟
أي نجمةٍ أنتِ ؟
يا نجمتي ؟

* * * *

البحر يجرّ عرباته بتثاقل نحو ساحة الشاطيء، تتأهب عناكب البحر للالتجاء إلى فتحات الصخور لتختبيء فيها. وشوشات الموج أنغام تلوّن صمت الليل المرهق. أضع يدي وراء رأسي وأغمض عيني. ما أغرب الحياة ! ما أعمق أسرارها، وما أكثر أحزانها ، ليتني أعرف متى سأموت؟.

يخفت غناء الموج، يختلط بأصوات مريبة، ألتفت، أرى شيئاً ما يطفو على الماء. أقترب من الشاطيء . أدخل البحر. أرى تابوتاً عتيقاً يتدافع بقلق نحو الشاطيء. أجفل، أسحب التابوت، ثقله يوحي بوجود شيء ما بداخله .

أبدأ في فتق الألواح الخشبية، ورعدة تسري في جسدي. أرى جسداً مسجى في التابوت، هو رجل في الأربعين من عمره، حليق الرأس واللحية والحواجب والشوارب ، عليه دلق رقيق ، بالي الخلق، مرقع من كل الجوانب .

شهقتُ رعباً حين تحركت أطراف الرجل، وتراجعتُ إلى الوراء حين نهض قائماً. وقفت بعيداً أراقبه وهو يخرج من التابوت ويجلس على الرمل .

كدت أهرب لكنه استوقفني قائلاً :
‘‘ أدن ولا تخف مني ‘‘ .

ترددت برهة، ورأيت انه يمدّ لي يده ويشير إليّ بالجلوس. اقتربت. جلستُ في مواجهته خائفاً . لم يقل شيئاً وبقى صامتاً لمدة طويلة .
قلت : ‘‘ من تكون ، ومن أين أتيت؟ ‘‘ .
فقال وهو يسحب الهواء عميقاً إلى رئتيه :
‘‘كنتُ نطفة تائهة عبرت برازخ الأحلام بحثاً عن رحم المعرفة، فتجلت ليّ المعرفة في صورة امرأة تفضح بجمالها الصباح حين ينفجر، وينكس الورد خجلاً حين تبتسم. لا يهولنك ما تسمع ، فقد ولدتُ دون أب، هل للمطر أبٌ؟ وتحوّلت إلى نطفة طاهرة كقطرة طلّ لم تنكسر. كنت أعرف اني سأمكث في رحم المرأة أربعين يوماً ثم أخرج للدنيا. رأيت في الحلم طفولتي وحداثتي وأفعالي وأوصافي، ورأيت ساعة أجلي. انفتح باب الرحم بعد أربعين يوماً، فخرجتُ، ورأيت انني أمام امرأة الحلم، في وجهها نورٌ يعمي الأبصار. كانت جالسة على عرش من نور تحت قبة من كبريت أحمر، ارتفاعها أربعون ذراعاً. قالت لي: اذهب وأنقذ شعبك من الحيرة، اجعلهم ينصتون إليك ، ويتأملونك، علمهم الحكمة والمعرفة. اذهب وخذ بيدهم إلى مدينة غنية بالجواهر والذهب، مدينة لا يدخلها الغرباء، لا جوع فيها ولا خوف ولا قتال ولا موت، لا مرض ولا قهر ولا عرش ولا تجارة ، لا حدود للزمان فيها ولا للمكان، لا يدخلها إلا من بلغ الأربعين . قلت لها: وأين تكون هذه المدينة؟ أجابت: إذا وصلت إلى شجرة الحياة انبئتك بتآويل ما لم تعرفه.

ثم نزلتْ من السرير وأخذتْ تلهو معي وتناغيني، تحملني فيتضاءل جسمي، حتى أصير كحبة قمح، وتقذفني في الهواء فلا أهوى، تطلب مني أن أخطو في الهواء دون وجل، وهي تضحك كوردة الصباح، ثم تطلب مني أن أكبر شيئاً فشيئاً حتى أغطى القبة. أخذت تختفي تارة، وتارة تتحوّل إلى أسد ثم إلى نسر هائل ثم إلى كلب سلوقي ثم إلى وردة سوداء . قالت لي: تعال، أدن مني. فدنوتُ حتى صرت في وجهها، فوضعت إصبعها داخل فمي ونزعت لساني، فقال لساني: لِمَ نزعتني؟ . فأجابت : انك لن تكلم الناس أربعين سنة. ثم أخذتني وأدخلتني في هذا التابوت وأحكمت إغلاقه من الخارج، ثم قذفت بي في البحر ‘‘ .

قلتُ مأخوذاً : ‘‘ وهل مكثت في التابوت أربعين سنة ؟ ‘‘ .
قال : ‘‘ هكذا كان الأمر‘‘.
كدت أسأله لكنه بادرني بالسؤال : ‘‘وأنت من تكون ؟ ‘‘ .
قلت: ‘‘ أنا مجهول الأصل، ماتت أمي وهي تلدني في زمن اشتداد غلاء القوت، وعوز الطعام ، وتعذر الكسب وغلبة الفقر، وتهتك صاحب العيال.. في زمن أكلت الناس فيه الميتات من الخيل والحمير والجمال، ونهبت الحوانيت، في حين كانت الحبوب والقمح والتمر تكنز في مخازن أزواج القحاب. قيل ان أبي مات قبل أن أولد بعد أن ضربه العسكر بشمراخ رطب على رأسه لتطاوله عليهم بالسبّ في الأسواق .

لستُ حاكماً مرتشياً، ولا قاضياً آكل أموال اليتامى. أعيش مع العراة والطرارين والمحابيس، نقيم الشرع بأنفسنا، ونسرق كبار الأثرياء والبخلاء ، وغيرهم من ذوي اليسار والنفوذ، لا نسرق الجيران ونتقي الحرم ونرعى الجار ونعين الضعيف وننصر المظلوم‘‘ .
قال : ‘‘ ألا تريد أن تعرف نفسك ؟ ‘‘ .
قلت : ‘‘ بل أريد إشباع معدتي ‘‘ .
قال : ‘‘ وكيف تشبعها وهي جائعة إلى المعرفة ؟ ‘‘ .
قلت : ‘‘ بالسيف وحده حين ينطق ‘‘ .
اختار أن يصمت ملياً ، ثم نهض متجهاً صوب البحر .
سألته : ‘‘ إلى أين أنت قاصد ؟ ‘‘ .
أجاب وهو يمشي على الماء مبتعداً في الظلام :
‘‘ سأعود بعد أربعين يوماً ، أنا ذاهب لأرى شجرة الحياة ؟ ‘‘ .
قلت دون أن يسمعني : ‘‘ سأنتظرك ‘‘ .
سمعت صوته يدندن داخل رأسي قائلاً : ‘‘ سأعود ‘‘ .

* * * *

في الحلم كنت معه في قصر الوالي المركب على سبعين عمود من الرخام. كنا ننتظر قدومه، إلاّ أن حارساً أمرنا بأن نتبعه. دخلنا إلى دار أخرى مفروشة بالآس والعنبر المنثور، فرأينا الوالي جالساً على مرتبة عالية مرصعة بالذهب المشبك بجوهر عقيق، ويعزف على قيثارة مطوّقة بالفضة. هو أدرد، مكحل العينين، مسبل الشعر، عليه لباس رقيق ناعم، ويضع خضاباً في يديه ورجليه كخضاب النساء، وقد جعل في أعلى جبهته حلياً من الماس .

قال بصوت لين : ‘‘ لماذا تكرهاني ؟ ‘‘ .
قلت له محتداً : ‘‘ لقد أتعبت الأمة ، وأتعبت البهائم ‘‘ .
قال وهو يحمرّ خديه بتقريصهما : ‘‘ لا ، بل أنتما تكرهاني ‘‘ .
يقوم محركاً يديه في سيره كالنساء، ويميس كالخيزران ، ثم يصفق بنعومة فيسرع أحد أتباعه بإعطائه تمثال حصان خشبي عليه كسوة موشاة تخفي القدمين. يعلق الحصان الخشبي على كتفيه ويبدأ في الكرّ والفرّ على أصوات المزاهر والدفوف والصنوج .

من حدة الغيظ شهرتُ سيفي واندفعت نحوه فالقاً رأسه بضربة واحدة. لكنه واصل رقصه دون انقطاع، وأخذ دمه يتدفق كشلال منهمر حتى امتلأت الدار بالدم ، وأوشكنا على الغرق، لكن الوالي لم يتوقف عن الكرّ والفرّ، ورأيت أن الحصان الخشبي بدأ يندفع نحوي فاغراً فاه المليء بالمسامير محاولاً عضي.

جفلتُ ونهضت فرأيت الوالي جالساً عند رأسي يتمعن فيّ. ارتعبتُ، وكدت أصرخ مفزوعاً .
قال الوالي بصوت لين : ‘‘ لماذا تكرهني ؟ ‘‘ .
ثم بدا شكله في التحوّل تدريجياً حتى أصبح على شكل صاحبي، لكن سحنته كانت متبدلة، إذ بدا في لحية بيضاء مسترسلة كأنه شيخ في التسعين، مؤتزراً بعباءة بيضاء ناصعة اللون .
قلت : ‘‘ لقد أرعبتني ‘‘ .
قال : ‘‘ كما أرعبك صاحب الحصان الخشبي ‘‘ .
قلت : ‘‘ وكيف عرفت بمَ حلمت؟ ‘‘ .
قال : ‘‘ أو لم أكن معك في الحلم؟ ‘‘ .
قلت : ‘‘ ومتى أتيت ؟ ‘‘ .
قال وهو يثقب أنفه بخزامة فضية: ‘‘حين فلقتَ رأس الوالي ‘‘ .
قلت : ‘‘ وهل وصلت إلى مبتغاك؟ ‘‘ .
قال : ‘‘ بل وصلت إلى نفسي ‘‘ .
قلت : ‘‘ ما هذه السعاية التي سعيت ؟ . هل تطلب نفسك وهي أقرب إليك من حبل الوريد ؟ ‘‘ .
قال: ‘‘ بل هي أكثر بعداً من بعد النجوم الزاهرة عن الأرض، لقد تركتك أربعين يوماً بحثاً عن شجرة الحياة. قصدتُ مسجداً سيبني بعد مائة عام ، فوجدتُ رجلاً كبير العمر، مهيب المنظر، يضيء وجهه إشراقاً، وتشع عيناه بريقاً. سألته عن شجرة الحياة فقال انها على بعد ألف ألف فرسخ، وان الطريق إليها وعر وشاق ولا بد من عبور ألف ألف كثيب لاهب، فالشجرة راسخة في الكثيب الألف الألف، لا زرع ولا ماء حولها، وتحرسها حية سامة تقتل من يدنو من الشجرة. ثم قال لي احتمل واصطبر حتى تصل. وقد جاهدتُ في ذلك جهاداً عظيماً حتى وصلت إلى الشجرة. قلت للحية الحارسة: تنحي حتى ألمس الشجرة. فقالت الحية: دع نفسك أولاً وتعال، فسقطتُ مغشياً عليّ من عذوبة صوتها، ولما أفقت رأيت نفسي مكان الشجرة فلم أتمالك نفسي ومتُ دهشاً ، أنا أنا وشجرة الحياة أنا ‘‘ .

كنت أشمُ رائحة المسك الأزفر يصاحب كلامه . سألته :
‘‘وأين المدينة التي لا جوع فيها ولا خوف ولا قتال ولا موت ولا مرض ولا قهر ولا عرش ولا تجارة ؟ ‘‘ .
قال وهو يمدّ يده إليّ : ‘‘تعال معي واتبعني فأريك هذه المدينة ‘‘ .
قلت مغموماً مكروباً: ‘‘ولكن شعبي هنا ، ومدينتي هنا ولن أسيبها، فإلى أين تأخذني؟ هل تدري ان المدينة محاصرة من كل الجهات بالدبابات والمجانيق والمدافع والعرادات وراجمات الصواريخ المنصوبة فوق التلال ؟ . لماذا لا تبقى معي حتى أنقذ شعبي من الوأد الجماعي. لقد ضاق المسلك واستحلسنا الخوف وأشرفنا على العطب فأرني برأيك ، إلى أين أذهب؟ ‘‘

لم يقل شيئاً بل حدّق في عيني وأسمعني دون أن ينطق كلاماً مضحكاً عن الوالي ، فانفجرتُ ضاحكاً حتى دمعت عيناي، وحين ضحك هو بدأ المطر في الهطل .

* * * *

قال : ‘‘ خذني إلى أتباعك ‘‘ .
قلت بكلمات مرتعشة : ‘‘ هل ستبقى معنا ؟ ‘‘ .
لم ينصت إليّ بل تدافعت خطواته إلى الأمام. ركضت وراءه وقلت له متوسلاً :
‘‘ هل ستحارب معنا ؟ ‘‘ .
لم يقل شيئاً، ومدّ يده قابضاً على يدي بقوة. شعرتُ برجفة هائلة ترجّ بدني ، ووجدت اننا قد تحوّلنا إلى طائرين غريبين نحلق في الهواء .
قلت له خائفاً: ‘‘ ها قد وصلنا ‘‘ .
نزلنا على الأرض ، وتحوّلنا إلى أشكالنا الآدمية .
قلت : ‘‘ كيف استطعتَ أن تفعل ما فعلت؟ ‘‘ .
قال : ‘‘ لو سلكتَ مسلكي لعرفت سري ‘‘ .

كانت الناس محتشدة في الساحة تتناقل أنباء حصار المدينة، أو تراقب الطائرات المروحية وهي تهزز الهواء. حين رأوا صاحبي بهتوا، وتقدموا نحوه متحلقين حوله، مأخوذين به، كانوا كمن أصابهم سحر مبين .
قال: ‘‘ تعلمون يا أهل المدينة انه ليس لنا مال ، ولا دور لنا ولا عقار، وما معنا ذهب ولا فضة ولا خز ولا حرير، ولكن لما رأينا ما أصابنا من ضيق الدنيا، وسوء الحال، فاننا شهرنا السيوف ودعونا لنصرة الحق. أيها الناس لا جناح علينا إذا نهبنا دور السلاح وقاتلنا، ولا إذا كسرنا مخازن الحبوب وأكلنا، ولا إذا حفرنا الخنادق واحتمينا، ولا إذا نصبنا المتاريس ودافعنا. إنما جئتُ أدعوكم للذهاب إلى مدينة لا يدخلها الغرباء، لا جوع فيها ولا خوف ولا قتال ولا موت ، لا مرض ولا قهر ولا عرش ولا تجارة ‘‘ .
تعالت الهتافات وصيحات الحماس :
‘‘ الرواح الرواح إلى الموت ‘‘ .

* * * *

تعال معي لأرينكَ ما حدث .
هنا وقعت الواقعة .
بيوت متهدمة. مبانٍ متصدعة. أشجار مجتثة . جياد نافقة. رايات خافقة. جثث منتشرة تحت الخرائب بشكل فوضوي. قنابل يدوية لم تنفجر . رباطات مدماة. ناقلات جنود مصطدمة بجدار . سيوف . جواشن. قرون بقر. خوذ. رماح . حدبات تروس. بطون مبقورة. أكتاف منتزعة. جثث أطفال ملقاة في حوض كبير تتجمع فيه المخلفات .
قال : ‘‘ هل هذا ما أردنا ، أم ان هذا ما فُرض علينا ؟ ‘‘ .

سيارة عسكرية تندفع مسرعة في الطرقات، تطلق النار في الهواء. أركض مبتعداً. اقف. أراه واقفاً لا يتحرك . أناديه، أطلب منه الهرب. أعود إليه، لكنه لا يتحرك.

حراس ينزلون من السيارة ، يوجهون رماحهم الطويلة إلى صدورنا ويأخذوننا إلى ساحة المدينة حيث المئات من الأسرى والجرحى .
قلت له : ‘‘ لماذا لا تهرب ؟ ‘‘ .
قال: ‘‘ غداً سيحين وقت موتي ‘‘ .

أحد الأجناد يطلب منا ومن آخرين أن نقف صفاً واحداً . يُحضرون شخصاً ما ، يضع قناعاً أسود على وجهه ليتعرف على الوجوه . يشير بيده إليّ وإلى صاحبي ويقول بصوت أجش :
‘‘ هذان هما أس البلاء ورأس الفساد ‘‘ .

ثلة من الجنود تندفع نحونا، يأخذوننا في سيارة تسرع بعيداً عن الساحة ثم يضعوننا في زنزانتين متباعدتين، لكنني كنت أسمع صوته بوضوح وهو يحدثني عن جمال المدينة الموعودة .

في صبيحة اليوم التالي أركبونا حمارين بالمقلوب وداروا بنا في الأسواق والطرقات، ثم أخذونا إلى ساحة عامة مكتظة بالناس، وفكوا وثاقنا حين وصلنا إلى الصلابة. لما رأى صاحبي الخشبة والمسامير ضحك حتى دمعت عيناه . بدأوا ببتر يديه ورجليه من خلاف دون أن تصدر عنه آهة واحدة، وقطعوا لسانه واحتزوا عنقه ثم أحرقوه ونثروا رماده .

حين جاء دوري رأيت انني أتحوّل بين يدي السياف إلى طائر أخضر أعلو شيئاً فشيئاً وسط ذهول الحاضرين وصيحاتهم . أخذت أطير عالياً بعيداً عن الأرض وعن البشر .

هتفت بأعلى صوتي وأنا أحلق فوق دخان المدينة المتصاعد :
‘‘أنا الموج الكدر، أنا القفل العسر، أنا النار، أنا العيار، أنا الرحى إذا استدار، أنا فرعون، أنا هامان، أنا النمرود، أنا الشيطان ‘‘ .

سمعتُ صوته يطرب أذني وهو يقول: ‘‘ سأعود ‘‘ .
وصدى ضحكاته كانت تلبد الغيوم وترسل البروق إيذاناً بعاصفة قادمة .

****