أمين صالح

الإهداء

إليكِ يا مأوى الحب.. يا زينب
إليكَ يا الحضن الأول.. يا عقيل
إليكِ يا عطر الحكاية.. يا مريم

المحتوى

ذاكرة الظهيرة خفافا تمشي وتضيء قنديل العرافات/
في المدى سرير يشتعل وشجرة تنتحل هجرة الينابيع/
إنها الوليمة.. تقول الحدآت.
هناك، هناك اخضرار المذبحة
وهنا إثم، وفزاعات تنتحر.

في البدء

امرأة تتشح بعري مشعّ، بحضور آسر.
لا أحد يعرف من أين جاءت، أو كيف جاءت، أو ما هي نواياها.
هي واقفة، فحسب، في هذا الموقع، مغمضة العينين. ليست نائمة ولا منوّمة. ملامحها هادئة ومحايدة.. كأنها تبتهل في صمت أو كأنها تقرع أجراساً خرساء كامنة في القلب.
هكذا.. فصلا بعد فصل، عاما بعد عام، حتى صارت مثل شجرة ضاربة في تربة الموقع أو مثل بلاد. ومن أطراف جسدها تنبثق – طوعا تارة وعنوة تارة – مخلوقات، عناصر، تودّع الجسد الأليف والعذب لتقطن فضاء آخر، مناخا آخر، طقوسا أخرى.
يقينا، مثل هذا الحضور المفاجئ، وهذا التناسل المعجز، يستفز الكائن خارج الجسد: العناصر الأكثر عدوانية وبطشا. أيضا يحرضها على ارتكاب الفعل المضاد: القتل أو الأسر أو الكبح.
لذا فالمواجهة حتمية: مدية ضد ثدي. قيد ضد فم. سوط ضد حدقة حنونة يسكنها عالم فسيح.
عناصر متباينة، متنافرة، تتلاحم وتتداخل في صرخة بدائية تتردد أصداؤها داخل أزمنة غابرة وأخرى آتية.

ذاكرة الظهيرة

جذع امرأة

من السرّة يندلق بائع البالونات ويهرول على عجل، متشبثاً ببالوناته الملونة، الحبلى بالهواء، نحو الساحة العامة المزدحمة بفصائل البشر والآلات والحجر. إنه يدفع قامته القصيرة، بتهور، بين الأجساد المتلاطمة والمتواثبة، قاصداً جهة معينة اعتاد أن يرتادها في هذه الساعة من النهار: الظهيرة.. وقت خروج التلاميذ من المدرسة.
يتوقف فجأة. من يرى يلمح على تجاعيد وجهه – التي تفشى عمرا تجاوز الخمسين – تعابير خيبة وسخط مكتوم .. ويدرك – حين يلتفت إلى الجهة التي ينظر إليها – أن بائع الحلويات قد احتل موقعه الخاص. يدير رأسه متلفتا في الأرجاء لعله يعثر على رقعة خالية يصونها الظل، لكنه لا يجد، فيتحرك، ووئيداً يمضي صوب "كشك" يبيع الجرائد والسجائر والمرطبات ليستقر في زاويته تحت الشمس اللاهبة المحْدقة به.
تدنو منه سيدة في منتصف العمر، ترتدي نظارة طبية، تتفرس برهة في فروة رأسه العارية من الشعر، المتوهجة بفعل الحرارة. تطلق قهقهة عالية، لها رنين ناقوس، ثم تبتعد عنه. يتطلع نحوها في استغراب ويهز كتفيه بلا مبالاة.

بيني وبينكم هضبة مسكونة بالتعب. تطعنون القلب بنصل الهرج ولا تدرون أنها ترث الماء والعشب. أ يروق لكم الدم المتهاوي قطرة فقطرة على راحاتكم؟ تلك هضبة قوم الأكواخ، القاطنين في مقلة العتمة.. في الغسق ينبجسون من لحاء الصبار، بلا رويّة ودونما كابح، لينداحوا في المساحات.. يرافقهم الليل الحكيم والجوع الساهر.

تحدث جلبة في الناحية الأخرى من الساحة. ثم رجلان يتشاتمان ويناوش أحدهما الآخر (عادة الأسباب تكون تافهة – في مثل هذه الأحوال – أحدهما داس بحذائه على قدم الآخر، أو ربما بصق دون أن يدري في وجهه) والمارة يحيطون بهما مترقبين في لهفة النتيجة الختامية: أن يتنازل أحدهما أو يسقط صريعا. لكن بغتة تنخرس الجلبة ويهيمن السكون مع حضور شرطي مرور يتقدم نحوهم في خطى بطيئة ومهيبة. يلقي نظرة طائشة تحتوي الكثير من الازدراء، ثم يستفسر بصوت يتقمص الحكمة تارة والحماقة تارة أخرى، وهم يجيبون في خشوع. عندئذ يخرج صفارته ويطلق صفيرا خاصا، فيفهم الآخرون المغزى بحكم النواميس الملقنة يوميا حتى صارت من البديهيات. وبلا تردد يهيئون الحلبة في منتصف الساحة حيث الدائرة المسوّرة بالقرميد في ارتفاع منخفض والمليئة بالأحجار، يدخل الرجلان الحلبة ويخرج كل منهما قرنه الطويل الحاد ويغرزه في جبينه. وفي خارج الحلبة ينتشر الضجيج مرة أخرى ويتصاعد الصخب مع بدء المراهنات على الفائز. المتصارعان يتحسسان قرنيهما للتأكد من تماسكهما وصلابتهما ثم يشحذانهما بالحجر المتناثر، وعندما يصفر شرطي المرور تبدأ الجولة لتتضمخ القرون بالدم ..

تمهلوا يا قوم الأكواخ، فالطرقات مرصودة من كل جانب. فخاخ تتظاهر بالغفوة لكنها مبللة باليقظة، محفوفة بالحيل، تجزّ الكعب إن تهوّرت ولم تكترث. رعونتكم ترطب القلب. لكن منذ أن حاصركم جند القبائل – بعد تلك الانتفاضة الساحرة – صار الحذر ضروريا. تعالوا من هنا، عبر أنامل السنابل الموشاة بالندى. حين تمرقون استعيروا إناء المساء، إمعاناً في التنكر، وتسربلوا بجسارة الحدأة. رشّوا ماء الورد على الحقول حتى تصلوا إلى موقع تصهل فيه الشهب بلا انقطاع، عندئذ تتخطون الأسلاك برشاقة السهم لتجدوا أنفسكم عند مخزن سيد المزرعة.. خذوا ما تحتاجون من قمح وثمار. ستحرسكم زواحف الطين.

- لماذا تقف هنا ؟
يلتفت بائع البالونات صوب صاحب "الكشك" الذي يرمقه في غضب. ثم يدير رأسه باحثا عن مكان آخر. يتحرك مطأطئا رأسه، يلمح ظل سراب من الطيور فيرفع رأسه ويتأمل الحمام الذي يلوّح بأجنحته محلقاً ليحط على سطح مبنى يطل على الساحة، غير أن دراجة مسرعة تنتزعه من تأمله لتطوح به بعيدا على الرصيف، فتنفلت البالونات وتتدحرج على الإسفلت، ينهض سريعا دون أن يفحص جسمه للتأكد من عدم حدوث كسر أو جرح بسبب التصادم. يهرع نحو البالونات يلملمها. يستند إلى الجدار لاهثا وآنذاك يشعر بألم في صدره وركبته. يضغط برفق على صدره ثم ينحني ليتحسس ركبته فيفاجأ بشخص يمسكه من ياقته ويرفعه. انه سائق الدراجة، شاب مضرج بالانفعال والشراسة. بعد عناء يتمكن من تخليص نفسه والابتعاد عنه متفاديا سيل الشتائم البذيئة والتهديدات الصاخبة. ينتقل إلى موقع بالقرب من متجر لبيع الأقمشة يظلله ساتر خشبي. يجلس على العتبة ويمسح العرق عن وجهه والغبار عن ثيابه.

الجدّات تفرد حكاياتهن على منافذ الأكواخ فترتعش أثداء الصبايا لذكرى فارس ينسج بحوافر جواده دربا حريريا يفضى إلى سرير العاشقة التي تشرّع عذريتها لبسالة الأنامل والفتيان في أهازيج اللعب يوشمون طرقات المساء بأنفاسهم المرصعة باللهو والأمنيات. وحدهم الآباء والأمهات – قوم الأكواخ - يعرفون مذاق المذلة لأنهم الأسبق في تذوقها، وفي النظرات المتبادلة يوارون الخوف والقلق والرغبة في هتك المجهول. لهفي على الجدات اللواتي تجردن من حكاياتهن وانزوين حاسرات في ركن يغزلن المراثي لسلالة يهيئ لها الأعداء سلالاً بحجم الرأس. في قلب قوم الأكواخ يزدحم البكاء.

ويرنو إلى شرفة بعيدة في الطرف الآخر، غير آهلة، يغمس فيها نظراته التائهة. هل يستنجد بمكان آمن يستريح فيه من تعبه؟ هل يترقب حضور إنسان يشير له بأن يصعد ليحدثه، ويسند رأسه إلى كتفه لينتحب دونما رادع؟
يلتفت وراءه وينظر من خلال زجاج الواجهة إلى داخل المحل. يبصر يد رجل تنسل خلسة تحت تنورة امرأة تجاوره متحسسا فخذها. يدير رأسه ثانية وينتقل بصره بين الجموع المحتشدة، المهرولة، المتلاطمة: جزّار ينحر خروفا ويسلخه ثم يعلّقه في محل "بوتيك"، سيارة "مرسيدس" يجرها جمل ينفخ راكبه في البوق لإفساح الطريق له، قملة تتسلل تحت زي جنرال سمين جدا يحاول عبثا اصطيادها فيخلع ملابسه العسكرية – وسط الشارع – قطعة فقطعة بينما تصدر من محل اسطوانات قريب موسيقى راقصة وأخيرا ينجح في القبض على القملة ويهرسها بأصابعه لكن عندئذ – بعد أن تجرّد من ملابسه تماما – اكتشف المحيطون به أنه نحيف جدا.

بصره يرتفع تلقائيا ليستقر في تلك الشرفة التي لم تعد خالية. حضور معجز؟ إنها امرأة تتطلع إليه. هل تبصره حقا؟ لماذا اختارته وحده من بين الحشد؟
لا يستطيع أن ينتزع عينيه من البؤرة الممغنطة. كأنه ينتظر الدعوة بشغف لامتناه.. مجرد إشارة منها، إيماءة، رفّة هدب.. ستجعله يعدو كالأيل إليها ليسفح في حضنها كل تعبه ومراثيه ومدائحه. ينتظر؟ قد تيأس من غيابه.
طفلة تظهر خلفها، تأخذ يدها، وتتحركان إلى الداخل. إذن هي عمياء، ولم تكن تبصر سوى الفراغ. ضحك سراً من أوهامه وتخيلاته.

حنيني أنثره من الوجع فلا طاقة لي ولا يابسة، لا صرخة لي ولا جهة. في الأصيل، حين تسدل الشمس خمارها الوردي، أرنو إلى الهضبة المكللة بريش النسر الغريب، المتوحّد مع النبوءة، وأهفو إلى من يأخذ بيدي.
سيدي هذا رمل ينزف من يدي، يقول ساكن الكوخ.
أنتسبُ إلى الواحة المحظور التجول فيها، المنحسر عنها بنون وبنات يتوسدون رؤيا الأب والأم والجد والجدة.. فقراء إلا مِن نبوءة يحرسها نسر غريب.
من يتسلل في آخر الليل إلى عرينه، مثل اللبوءة الجريحة، غير قوم الأكواخ؟ مهلا، مهلا.. البنادق الجبانة خلدت للنوم.

أفواجاً يقبل التلاميذ من مؤخرة الطريق الفرعية، يسوقون أمامهم الغبطة والمرح المنعتق من أسوار يوم دراسي، وينتشرون في أرجاء الساحة: بعضهم يتحلّق حول بائع الحلويات، اثنان يقذفان حقيبتيهما عاليا في لهو، أو تحرر، ثم يركلانهما. واحد يبول على شحاذ أعمى دون أن يردعه أحد.
طفل يقترب منه، ينظر إليه للحظةٍ ويرمق البالونة الوحيدة المتبقية، مأخوذا بها. هو يدرك كنه الرغبة المسكونة في عينيه، فيسأله: كم عمرك؟
يجيبه الصغير: ست، سبع سنوات.
- تحب البالونة؟
يهز الصغير رأسه بالإيجاب.
- تريدها؟
يهز الصغير رأسه بالإيجاب.
- معك نقود؟
يهز الصغير رأسه بالنفي.

وكنت استنفر خطاي، من كوخ إلى كوخ، والماء والعشب يهرولان خلفي. أحصي مخابئ الرصاص في أجساد كانت. كيف لا يضلّ الرصاص طريقه حين يكون الهدف جسداً فقيراً إلا من نبوءة تغادره حزينة لتستدعي النسر الغريب كي يحرسها؟
رجموا الأكواخ – بعد الانتفاضة الساحرة – بالجمرات. وآن تبعثرت الأرواح البهية في مقصورات المساء، هبطت النسوة بقناديلهن يجرجرون ظلال الأبواب، وشهقن حين أبصرن الجثث تتلألأ بأنوار ساطعة. اغمد، يا بائع البالونات، تعاستك .. وامض إلى الجدات لتصغي إلى رنين الممالك في أحداقهن.

يمد يده نحوه بالبالونة فيتلقفها الصغير بلهفة وشغف ويركض رافعا البالونة التي تحاول الانفلات لكن يمنعها الخيط المشدود حول أصابع الصغير، بينما الآخر يتابع، في فرح، حركاته وجريانه عبر الساحة "امرح يا جذر الغبطة لتسمع الأعمدة أصداء لهاثك وحفيف وشوشاتك"..
وما إن يوشك أن يستدير، ليعود من حيث أتى، حتى يلمح البالونة وهي تتهادى محلقة، متحررة من القبضة الرخوة، والصغير رافعا رأسه يراقبها ويبكي بحرقة موجعة. يتحرك نحوه ويربت على كتفه مهونا عليه الأمر، لكن الصغير لا يكف عن البكاء وينظر إليه من خلال دموعه الغزيرة مستجديا عونه. خيط البالونة الآن عالق حول نتوء حديدي في واجهة مبنى البلدية الذي يتصدر الساحة، بالقرب من نافذة في الدور الأول، والارتفاع ليس عاليا إلى ذلك الحد، فبإمكان المرء الوصول إلى هناك بتسلق الماسورة الطويلة.. يتردد قليلا، لكن أمام بكاء الصغير المتواصل، يقرر استعادة البالونة، فيتجه إلى الماسورة ويشرع في التسلق.

من بعيد كان حارس البنك المسلح يراقب باستغراب وذهول في البداية لكن تعبيره سرعان ما يتحول إلى غضب يوشك أن ينفجر في أية لحظة مع استمرار الآخر في التسلق "كيف يجسر هذا اللص على السرقة في وضح النهار وأمام ناظري" يخرج مسدسه ويصوبه.
بائع البالونات يتابع تسلقه بمشقة واضحة، إنه مصمم على استعادتها مهما كانت الظروف، ولم تبق سوى مسافة قصيرة لكي يصل إلى البالونة التي تتمايل محاولة الانفلات، وحين تصبح يده قريبة من الخيط يشعر فجأة بوخز حاد في ظهره، كأن نصلا يخترقه، كأن رصاصة تفجر أحشاءه.
عيناه تمتلئان بالغيوم شيئا فشيئا، وقواه تخور، والمرئيات تتشابك..
بياض، بياض غامر يسطع في المقلتين، ثم لا شيء.
وفي لحظة وقوعه على الأرض يفك بإصبعه الخيط فترتفع البالونة عاليا، عاليا.

يا قوم الأكواخ، خبئوني..

يونيو 1983

خفافاً تمشي وتضئ

جذع امرأة

من الخاصرة تنحدر فتاة تتأبط ستة عشرة عاما ودون أن تدري تجد نفسها تسير على عشب طريّ يتموّج كفاكهة سكرانة وينحني خاشعا للقدمين الحافيتين اللتين تدوسان بخفّة كأنهما ريش مستعار من غيمة سخيّة ولا ينسى العشب أن يدغدغ، في شقاوة، باطن القدم لينتشي برنين ضحك هذه الفتاة المتباهية بصداقة الدم الرائق، القاطن في هذا الجسد الجميل، الذي يتحرك الآن مجتازا العشب ليبدأ في خوض الضباب القادم من الجهة المقابلة. سلاما. يمدّ كفّه المختومة بالوسائد المزركشة فتجلس على راحته ويبلل وجهها بعصير عروقه البيضاء. خير دليل هذا الكائن يطفو بها عبر ممرات النهار السرية، وحده يعرف، وحده لا يضل، لكنه لا يصل أبدا، إذ تذوب أطرافه شيئا فشيئا بينما يغرق في الضحك أما الفتاة فتجفل مفزوعة وتضطرب أنفاسها حين تتطلع إلى أسفل.. كم هي بعيدة المسافة، إن وقعت فسوف تتهشم لا محالة.
أخيرا يتلاشى الضباب فتنزلق بطيئا في المسافة المطوقة بنثار أعراس جوالة بين الكواكب، وبسناجب مجنحة، وعناقيد كرز تتمايل خفافا، وهي – في هبوطها – تتمعّن مأخوذةً بلا حذر إلى أن تشعر بسطح أملس، كأنه سهل قطن، يلامس ظهرها فتلتفت لترى نفسها طافية، على ظهرها، فوق مياه بحيرة محفوفة بالصفصاف وعلى بعدٍ ثمة وزّات تقرع الماء، أثناء عدْوها، بأجنحتها.
إذن تستطيع هي أيضا أن تطأ الماء النائم. تنتصب واقفةً وتذرع البحيرة مغتبطة وحين تدسّ يدها في الماء تقطف تفاحة ثم تعبر جذر البحيرة الأخير لتصل إلى زقاق مسوّر بالزعيق والأسمال الرثة وعند المخبز تنتظر دورها لتشتري أرغفة سخونتها تلسع. العاقل لا يقايض رغيفا بتفاحة. يهزأ الخباز. تعود إلى أمها العليلة مخذولة. ستموت أمي إن لم تأكل رغيفا مثلما مات أخي الصغير عندما لم يأكل رغيفا. نامي يا ابنتي. سأنام. نامت. بعد وقت نسيت حجمه، أيقظتها اليقظة ومعاً فتحا الوقت بخيوط الحدقة فكان فجرا، والحدقة اتسعت تدريجيا لضجيج الصباح وصياح الأولاد والباعة وهدير المشاحنات ووقع الآلات وزفير الدواب.
لم تفهم آن طلب منها صاحب المخبز أن تسلّم له جسدها مقابل رغيف.
سألته: ماذا ستفعل بجسدي ؟
أجاب ومن زاوية فمه يسيل اللعاب: سترين..
ورأت النار تحرق حوضها، لهب من معدن ذي شفرات حادّة تمزّق أحشاءها.
واستحضرت الأنين، من كل حدب جاء الأنين والعويل كذلك. واستغاثت بالمرئيات التي تمادت في الغياب. فحولته تردم كيانها عضوا عضوا، تلوّن عنفها باللهاث والشهيق. رأت الدم يضرج جهاتها ولم تفهم. ماذا يفعل هذا المضطجع فوقها؟ ولماذا يسبب لها كل هذا العذاب؟
رأت معاول البنائين تلمع من بعيد، فتسير نحوهم وحين تدنو منهم تجلس على حجر كبير ترقبهم وهم يكسرون الصخور ويحملون على أكتافهم القوية أحجارا هائلة، بينما تزيح خصلات شعرها وتؤرجح ساقيها. عامل يشرب ماءً يلمحها، يمسح القطرات المنفلتة من شفتيه، يخطو نحوها. ماذا تفعلين هنا يا شابة؟
ترفع رأسها نحوه، تهز كتفيها ولا تجيب. اذهبي، ليس مشهدا ساحرا. تبتعد بعد أن التقطت أحجارا صغيرة من الأرض، تقذف بالأحجار في الفضاء. تتأمل واجهة محل: حلوى، ملابس، ألعاب. كيف تحتشد كل هذه الأشياء في مكان واحد؟
تجلس على الرصيف. صبي ينحني أمامها ويلتقط عقب سيجارة، يهم بالذهاب لكنه يغيّر رأيه ويجلس بقربها. مستندان إلى الجدار يرمقان ما يدور أمامها. تلتفت إليه وتسأله: ما اسمك؟ يجيب: حميد. تلاحظ وساخته، طبقة كثيفة من الغبار تغطي وجهه ورقبته، أظافره سوداء وطويلة. وأنتِ؟ تجيب: نعيمة.
يمشيان تتبعهما الطرقات والأعمدة. يتكئان تارة على ظليهما وتارة يسابقان أقدامهما. لا يدّخران أنفاسهما ليوم أخر ربما لن يأتي. هذا يوم شاذين شريدين لا مأوى لهما في القلب.
صاحب المخبز وعدني برغيف حين استلقى عليّ. كذب وماتت أمي. أخي الصغير مات قبلها. أعرف أن أكلّم حفيف الأغصان. لم يصدّق لأنه لم تكن هناك أشجار. تقرّى بأنامله المغبرّة تكوين وجهها. وجه شابة، سلوك طفلة. هو الأصغر منها يبدو أكبر منها. سأحميك.
من شباك مهجورة على الساحل يصنعان قاربا يرسو عند السلّم الحجري الممتد في البحر، بإشارة منهما يعوم القارب مهرقا روحيهما في لجّ لا سيادة له عليهما، لذا يمتطيان صهوة دلافين تغرّد وحينا يسوقان الحلزونات بسوط رفيق من زبَد. يفتتحان مهرجاناً لماسحي الأحذية الذين ينشدون بصوت حلو، صفا صفا، مثل كورس المعاهد وفي ختام المهرجان يلتهمون الموائد الخالية خشبة خشبة.
منهكين من الابتكارات يفترشان بساط الإسفلت ويتمددان تحت سقف الليل. أتوق إلى بستان يسوّره الخوخ أسرح في ينابيعه بلا دليل، تهمس. أتوق إلى أريكة، يهمس. ما اسمك؟ حميد. ما اسمك؟ نعيمة.
وجاءت أمها بيضاء ناصعة، لوقع خطواتها رفيف أجنحة. ابتسمت ومدّت ذراعيها. تعالي. ذهبت إليها وارتمت على صدرها فشمّت رائحة خبز تفوح من جسمها، وشرعت تأكل خبز جسمها ثم جثت ولثمت التراب الذي تقدّس بحضورها وبكت.
حميد يتظاهر بالنوم لئلا يشوّه سريّة اللحظة الخاصة وهو لا يقدر أن ينام لأن نحيبها يؤرّق مساءه.
تستيقظ فلا تجده. تهتدي باشارات المدينة الفسيحة، لا تعرف القراءة، ليس بحثا عنه إنما التماسا لحليب يدفئ صدرها، فتدخل دكانا وتطلب حليبا، ينهرها صبي الدكان عندما يكتشف أنها لا تملك نقودا. تجاور بائعا جوالا يرتّب بضاعته على عربة صغيرة وتبحلق في أشيائه. سأرفو لك قميصك إن أعطيتني حلوى، تقول. لا تسخري مني يا مخبولة، يزعق. ترضخ للشتائم وتتابع طريقها تستجمع ضعفها وتنتعل الرصيفين تسرد لهما حكاية البومة التي حطت على خرطوم فيل لضعف بصرها.
تنحسر عن الطرقات لتنتحي في الخلوة تطوي أيامها الراحلة وتطوي شقيقها وأمها والذين صادفتهم، ولم تعد الذاكرة تسعفها وجسمها الرخو لم يعد يحتمل. أبداً لم تفهم معنى القسوة التي جوبهت بها طوال حياتها.
في الخلوة تقدر أن تخترق بنظراتها أعضاءها الشفافة لتبصر حجرات مزدهرة بين ضلوعها، مزدانة بالأباريق والثريات، فيها تسرح الزرافات وكلاب الزينة وأطفال مكتسين بالبنفسج، وفي الزند نهر أخضر يصبّ أسماكه الملونة في نافورة ينبجس منها الدم المرح، ولكن ما بال هذه الجرثومة تقطن في الركبة وتجهز قافلتها للرحيل صوب الفخذ؟ تؤلمها الركبة التي تتورّم بوصة بوصة.
تعالي. رجال يعتلونها ويطأوون فرجها بنصالهم البربرية وهي تجهل كنْه صليل الشهوة المعربدة في العضد. لماذا يعاملونها هكذا؟ نتف من الخبز تكفيها. حتى الأولاد يشيحون عنها. من في سنك وحجمك يجب أن تخجل من اللعب معنا.
تحمل فانوسا تباغت به ممرات الليل الذي يهذي فتشهق الممرات، بينما تمضي هي ساطعة تنثر أنوارها لعلها تنداح وتفيض. لا سطوة للعتبات عليها ولا الأحجار ولا النمل. تهبّ على العتالين في الميناء كرائحة حساء أثيرة فينفضون عن شعورهم دبيب الرقاد، بين الصناديق، وينجذبون مسحورين إلى الرائحة يتحلقون حولها. من أين جئت؟ لم تعد خائفة. منذ أيام لم أستحم. أمامنا البحر، قالوا. وثبوا في الماء مستحضرين لهواً لا يزال في طفولته. منذ زمن لم يعبثوا. ها هم يتدافعون يسوقون الموج بأعقابهم وحينا يسرجون ذيل البحر بضحكاتهم وهي بينهم مثل سيدة المراعي التي ترتاد مراراً حقل أحلامهم، تحلج لهم ألياف الزبد ليغتسلوا ويتباهوا بنضارة عريهم. يطلعون من إمارة الماء كانبجاس النوارس، بهية قاماتهم، يصعدون السلالم ولا يرتدون ملابسهم، فخورين بنقاوة الجسد وترذرذ عسل البحر حول المصاطب. لو كان معنا نبيذ لاحتفلنا. تحدّق في الركبة فترى سرطاناً مسرفاً في التوحش يزحف ناهشا الرضفة وعظم الفخذ. هل من أحد يكنس هذا السرطان؟ سألتهم، وكأنهم بوغتوا بالسؤال، راحوا يحدّقون الواحد تلو الآخر. لا نرى شيئا أيتها الغريبة.
تنهض وترتدي ثوبها الممزق ثم تأخذ فانوسها وتمضي على مهل. العتالون يشهدون غيابها بأعين دامعة.

يونيو 1983

قنديل العرّافات

جذع امرأة

من حلمة الثدي تنسل يمامة تضلل الرياح بمراوغاتها الرشيقة وتسوّر مقصورات النهار بابتهالات مترعة بأنين خافت لا يسمعه غير الصياد الشره الذي يكمن خلف دغل مرسلا نظراته إلى أعلى، يرصد ظلاً محلقاً (لا يبتغي الظل بل يشتهى البدن) ويصيخ لرفيف يصطخب في الرأس فحسب.

فخاخ تطوّق الضفة، تواري ذؤابتها تحت أجمات، متأهبة للانقضاض وحين تيأس ترحل، زاحفةً، تجاه مكمن آخر في الحقل أو قرب مخزن للقش. واليمامة تحتمي بدهاليز السماء وتركض من درب إلى درب، وآن تحدّق إلى أسفل ترى مجزرةً، فتستل من جناحها أقحوانة وترميها.
إنها الأرض تذرف مجزرةً لأنفاسها رائحة طين مطعون بالدم. لماذا ساحات الفقراء لا تتزين سوى بجثث أبنائها؟ وحدها يغتالها النصل بغتة. عند العتبة نوتيّ مشروخ الرأس بمجداف. بخار يتصاعد مثخناً بالعويل ويوشك أن يعتصم بغيمة لكنها تفرّ مذعورة إذ للبخار هيئة عنكبوت هائل أو هو تابوت ورثته الخرائب من الخرائب، وتتعرّف اليمامة على ذلك السائس الهزيل الذي كانت تلتقط من راحته القش، انه الآن مشنوق بسلك.. ياللبائس! كان رحيماً كالرغيف، وها هو يتدلى مهجورا حتى من رفيق يرشق موته بالصلوات والهذيان.
بعيداً يتناثر الأطفال أكواما ً فرائس الطعنات الأولى في الاقتحام الأول، والاقحوانة سترت عري المرأة المسنّة بعد انحسار الثوب عن الركبة.
اليمامة تفرط في الأسى وتجدل جذور الغيمة جذراً جذراً لتحتشد في ردهاتها فلول المطر. آن للمطر أن يحتل مواقع المجزرة ويطهرها من الدم والجثث. تربط الأفق بالأفق حتى لا يكون هناك إلا فضاء لا يُحد، فيه تتعرى المكائد.

ذلك الصياد الصبور ما يزال يتربص بين الشجيرات، يقنص الفضاء بأحداقه ويدغدغ ماسورة البندقية لئلا تغفو، ويتواثب من ضفة إلى ضفة ومن بيت إلى بيت ملتمساً حضور اليمامة الشهية، وعندما يستند إلى حائطٍ رطبٍ يرفع قربته ويشرب، ثم يتفحص المكان بنظراته المليئة بالقنص.

اليمامة تهبط لتستقر على سقف قرميدي، وترنو إلى زوجة فلاح تحمل بيدها دلواً فارغاً وفوق رأسها سلة مكتظة بالبيض، خارجةً من الحظيرة ومتجهة صوب الدار. في الجانب الآخر يجلس الفلاح فوق مصطبة متكئاً على فأسه ويحدّق في التربة مهموماً. يدنو منه شاب بخطى متثاقلة واضعاً يديه في جيبيه وحين يجاوره يرفع رأسه نحوه ويحدّثه. الفلاح لا ينتزع بصره عن التربة كأنه لا يسمع. بعد وقت ينهض منتفضاً ويمضي على عجل مؤرجحاً الفأس بيده القوية بينما الشاب يرمقه في إشفاق ثم ينكس رأسه ويثقب الأرض بحذائه. يعود الفلاح ممتطيا بغله ويتوقف بالقرب منه ويخاطبه بحنق للحظة ثم يلكز البغل ليواصل سيره، الشاب يتبعه مهرولاً ويخاطبه محاولاً أن يثنيه عن عزمه ولأن البغل تزداد سرعته فإنه يضطر إلى الجري وراءهما. تحلّق اليمامة لتعرف أي جهة يقصدان. في الحقل جرارة تشوّه التربة وتجرف المحاصيل. يترجل الفلاح ويهرع نحو الجرارة ملوحا بفأسه. السائق يوقف المحرك لكنه لا ينزل بل يمكث محتمياً بالآلة. يحتدم الجدل بينهما، وشيئاً فشيئاً يخبو الصراخ مع ابتعاد اليمامة التي تمض إلى جهة أخرى.

الصياد يتثاءب ويتحسس خديه. يعجب لأن الشعيرات صارت تنمو بسرعة في الأيام الأخيرة، وبالتحديد منذ أن شرع بالمطاردة. يفتح حقيبته الجلدية ويخرج المعجون والفرشاة والمرآة وآلة الحلاقة. البندقية المتكئة على الحائط تخلد للراحة، لو تسنى لها أن تتسلل هاربة لفعلت، فجميع رصاصاتها التي أطلقت طاشت بلا رويّة، وهذا السيد الأرعن لا يتقن غير انتقاء المخابئ والتواري خلفها. لكن، في ساعات الغسق، حين يزيح الجسد رداءه الشفيف عن الروح، يتناهى نشيج موجع وتعرف كم هو تعيس هذا الرجل، والى أي مدى مشروخة روحه. أما الآن فيصفر مغتبطاً بينما يلملم حوائجه وينتصب متطلعاً إلى الجهات المتقاطعة أمامه ثم يتناول بندقيته ويبدأ في التواثب من جديد.

اليمامة تسرح في المدى، ترافق قطيعاً من الجواميس المدجّجة بالأجراس وهي تجرّ الآبار إلى وادٍ غير ذي زرع، وحيناً تهدي ورْواراً تائهاً إلى عشه. وتنزل في جرن توقظ صبياً وصبيّةً يختطفان حقائبهما ويجريان صوب المدرسة المجاورة.
تتبعهما اليمامة وعلى عتبة النافذة تقف وتراقب المدرّس الذي يتباهى بسوط ذي شفرات ابتكره البارحة، يستدعي تلميذاً ويعرّي مؤخرته ثم يجلده بشراسة. يشدّ أخر من شعره، يلكمه على صدغه وفمه. يوثق بحبل قدميّ ويديّ تلميذ آخر خلف ظهره ويعلّقه في المروحة، بعد ذلك يؤرجحه ويجلده. يولج بعنف مقبض السوط في است تلميذ.. وعندما ينهكه التأديب، يفتح الكتاب ويرجو منهم الهدوء ليبدأ في الشرح.
تغادر اليمامة مبتعدة.

الصياد يدلف غابة مترفة بالأشجار والينابيع، ويجرح غوطتها بالفخاخ فتعدو الظباء متشحة بالفزع تحيك بأظلافها مركبات تطفو بعيداً عن الدسائس، والصياد يظل ينصب فخاً هنا وفخاً هناك، تتبعه السحالي التي تخرب بابتهاج ما يفعله. بعدئذٍ ينتحي جانباً ويحصي ما ادخره من رصاص.
لكي يراقب بشكل أفضل فانه يتسلق شجرة دردار ويمكث بين الأغصان مختبئاً، آنذاك يخطر له أن يفاجئ اليمامة في دارها فيجمع شراكه ويصعد درجات الهواء ناثراً كمائنه في الفضاء هنا وهناك وعندما يسمع عواءً خافتاً ينزل بهمّة ويقفز على الأعشاب ثم يركض نحو مصدر الصوت ليرى ثعلباً يرتجف في احتضاره بينما الفخ يهرس رقبته ويخنق عواءه حتى يخمد. ينحني الصياد ويخلصه ثم يرفعه من ذيله ويطوّحه بعيداً.

يمامة تمرّغ منقارها في أمواج الهواء وتهب زغبها لأرجوحة في منتزه. يد شاب تحتضن يد شابة، يفرك جبينه في كفها كأنه يوسم جسده بجسدها. يسيران محتويين الأعمدة والأرائك في مقلتيهما، يهمس في أذنها: أحبك. فتغض بصرها في خفَر. يبتعدان قليلاً لكنهما يتوقفان فجأة هلعين من موكب محتقن يتقدم نحوهما. يتقهقران متلفتين حواليهما بحثاً عن طوق نجاة. غير أن الجمع يطوقهما في دائرة تضيق وتضيق ولا تسمح سوى باستغاثة ضعيفة يحاصرها هتاف هادر.
تجثم اليمامة عند مقعد حجري يجلس فوقه كهل ينثر فتات الخبز أمامه ليغوي البلابل كي تجيء وتتخاطب معه. عبثاً أيها الكهل، لقد نزحت البلابل مع لغات العشاق منذ أن طوت الحدائق جداولها وذهبت من غير رجعة. تمعّن في مرآة ذاكرتك لتبصر صور أحبائك الذين غادروك دون أن يتركوا عنواناً.

المطاردة تنهك الخصميْن. يعرفان أنهما لابد أن يلتقيا كي يحسما الأمر. هكذا قرّرت اليمامة أن تواجه عدوها، هكذا قرر الصياد أن يضع حداً للاستنزاف.. والتقيا دونما مباغتة أو مكر.
اليمامة تنقر الماء، ربما هي القطرات الأخيرة، ثم تستدير لتتفرس في الصياد مترقبة في هدوء.
الصياد يحشو بندقيته برصاصة لن تطيش هذه المرّة. ينظر برهة قبل أن يصوب البندقية. الفوهة مسددة نحو القلب مباشرة ويكفي أن يضغط على الزناد لينتهي كل شيء. المسألة سهلة جداً وقد فعلها أكثر من مرة.
لكن ما باله في هذه المرة يتردد وأصابعه ترتعش؟ لو إنها تغمض عينيها، لو إنها تستدير! واليمامة لا ترضخ لتوسلاته بل تمعن في إرباكه بنظراتها الحادة الجسورة.
أخيرا يخفض بندقيته ويستدير ببطء عائداً إلى المدينة.. لقد لمحت اليمامة في عينيه حزناً طاغياً.

يوليو 1983

في المدى سرير يشتعل

وجه امرأة

من الجبين يتدحرج الحاوي سبع مرات قبل أن يستقر على الأرض برشاقته المرصّعة بالألفة. يختبر الجهات ويخلط الجهات ثم يمضي، غير مكترث بهرج البوصلات، مصطحباً كراته الصغيرة وشرائطه الملونة وتلك العصا الأبنوسية المصقولة التي يلوّح بها متباهياً بفرادته.

***

في الساحة، يرتقي منصة، اتخذها منذ أيام مسرحاً يقدّم فيها عروضه السحرية، ويبدأ في تجنيد حيله وفكاهاته لينثرها أمام جمهور مجبول بالفضول. غير أن أحداً لا يقترب من موضعه، كأنهم لا يرونه، كأنهم يتجاهلونه. آنئذ ارتاب في موهبته، وأيقن أن خفته فد فقدت جاذبيتها، وأن ألاعيبه لم تعد تثير الإعجاب. فيحزم حيله وفكاهاته، ويحمل أشياءه ثم ينزل مخذولا، تاركاً المنصة وحيدة تستحضر صخب الأمس المتجمهر الذي أضحى الآن محض ذكرى.

***

أمور غريبة حدثت منذ أن جاء هذا الحاوي إلى بلدتنا:
الأشجار بدأت تخاطب البشر.
العصافير فتحت أقفاصها وطارت.
الأقفال تتفتت عندما تلامسها الأيدي كأنها مصنوعة من طين.
الفوانيس تتنقل من مكان إلى آخر.
قاسم الضرير أقسم – وهو الذي لا يكذب أبدا – بأنه شاهد بقرة في غرفته، وعندما دنا منها، ضحكت واختبأت في الجدار.
أم هشام الممسوسة التي كانت تعوي كل ليلة، هدأت فجأة وصارت وديعة بعد أن أخبرها الحاوي بأنه رأى ابنها الوحيد في البلدة المجاورة.. وكلنا نعلم أنه مات قبل سنتين.
وخلف، بائع الحلويات، لا يقدر أن يرفع رأسه. إنه يسير مطأطئ الرأس حياء، فقد صفعه ابنه غسان أمام الناس لمجرد أنه حذّره من رؤية الحاوي.
من كان يصدق أن بلدتنا الآمنة من الشرور والفتن يمكن أن تتزلزل هكذا. دخل الساحر وفتح صندوقه، فخرجت منه الشرور والفتن. ينبغي علينا، نحن سادة البلدة، أن نمنع الكارثة قبل فوات الأوان.

***

بيت يحترق. لهب يخوض في أشياء كانت تنتسب إلى حاو فقير، طيب القلب، ورث الفطنة والمهارة من أسلاف اغتسلوا بالهجرة تلو الهجرة، ومنهم تعلّم أبجدية الحركة، وأتقن قراءة النبوءات المربوطة في الآفاق. وكان له في المدى جذر ينسج به وطناً يسكنه ليبكي فيه وحيدا.
بأنامله يبتكر حركة خفية، مراوغة، مرنة تبهر أنفاس جمهوره. وبأدواته البسيطة يعلّمهم أن كل شيء ممكن لو نفضوا الغبار عن الأعين.
بيت يحترق، وما من دلو يتدلى أو يدنو. جمع يحتشد ويراقب. الأغلبية تشمت. القلة تأسف. لم يؤذ كائنا، لكن البراءة تقتل.
- مساء الخير، أيها الحاوي.
يحيّيه النجار المرح، الذي يكسو أطراف بابه بالمسامير.
- إلهب صدغيّ بخمرك، أيها النجار. أريد أن أسكر.
- ومعا سنرجم الضجر.. بأحاديث لبقة.
معاً يصمتان. يصيخان لرنين العواصم التي تذرع الخرائط بينما يحتسيان بين الحين والحين جرعة.
أنظر، لكل فرد عاصمة يسوّر رسغها بالأجراس أو الخلاخيل، يصقلها بالقار والياسمين، يتفيأ تحتها ويتدفأ بها. أما أنت، أيها الصديق، فملعون بالرحيل من واد إلى واد، أعزل إلا من خيمة تطويها تحت ابطك لتنصبها في ضاحية منبوذة. دليلك حمحمة نهار محايد لا يقدر أن يصون خطاك، وكل أرض تجسّ أنفاسك تشتعل. اصغ إليّ، لا تصافح إلا اليد المضرّجة بالهجرة.
معا يصمتان. إذا تكلما، فكل منهما يرى في فم الآخر مدينة تضج بالأرياف والنبيذ والنساء اللواتي يسرحن شعورهن عند النبع ويهزجن، والموائد العامرة والأكباش والأرصفة المغسولة بماء الورد.
لذا، يحتسيان الخمر دون أن ينبسا.

***

على الشاطئ يسير وئيدا، مستنشقا النسمات الندية، ويقيس ببصره الامتداد الفسيح. ضوء القمر المنتشر يهب المكان بهاء نادرا، غير أنه في تلك البقعة البعيدة – حيث الضوء أكثر سطوعا، وكأنها البؤرة التي تحتشد بداخلها مسارات الضوء وانعكاساته – يلمح عالما مستقلا يشعّ ببريق أخاذ يجذبه، يدعوه أن يتقدم دون تردد.
على الشاطئ، بالقرب من الأمواج المتسللة برعونة خارج حدودها، يرى امرأة عارية متمددة على سرير مكلل بالأصداف. هي نائمة، والضوء يحرسها.

نوفمبر 1983

وشجرة تنتحل هجرة الينابيع

وجه امرأة

من المقلة تطفر شجرة هائلة وتغمد جذورها الصلبة في تربة رهيفة لا تتوجع بل تبسط أطرافها مستقبلةً بحنان هذا الاختراق العذب بينما يعلو لغط الحشائش بين المسارب محتفلة بالمجئ المترع بالبهجة، وكائنات التربة تحتشد لتشهد بانبهار وفضول هذا الحضور المعجز.
البقاع ملغومة بالجفاف، مسيّجة بالعقم، فكيف تجهر فجأة بخصوبتها دونما إشعار؟ قريبا ستأتي البلابل لترى فتلتهب مناقيرها من فرط الحيرة.. والماعز كذلك.
دقائق ويهدأ المكان. تخلد الأشياء في مكامنها تجتر الواقعة وتنسج التأويلات، وتظل الشجرة واقفة تدغدغ بأغصانها فرو الليل وترتشف الندى.
سكون لا يخدشه غير صرير الجداجد التي ترتق قفازات النهار كل مساء أما السكان، في البيوت القريبة، فقد احتلوا الغرف جماعات وراحوا يتبادلون القهوة والتبغ وأحاديث متبعة عن يوم مضى. بعضهم تمدد على الأسرّة واخذوا يتراشقون بأحلام غامضة.

من هنا تستطيع الشجرة أن ترى ما يحدث في الغرفة العلوية، الكائنة في الطابق الثاني من بيت كبير مسرف في الفخامة إلى حد التكلّف، يوحى بثراء ساكنيه وتعاليهم. في تلك الغرفة، ومن خلال الستائر المنفرجة، المشبوكة بخيط في طرفي النافذة، تلمح رجلا يخاطب فتاة في مقتبل العمر. إشاراته وحركاته تؤكد طابع العنف والقسوة في حديثه.. أو بالأحرى، نصائحه. إنه يريد أن يحسم أمرا، ومن المتوقع أن يعلن عن هيمنته وجبروته بصفعة تطعن الخد الناعم دونما ندم.
المصباح المعلّق ينثر ضوءه على وجه الفتاة الذي يشعّ جمالا وبراءة. إنها تحاول أن تشرح أو تبرّر لكنه لا يمنحها الفرصة. ثمة يأس شرس يحرث روحها ويشوّه تقاطيعها الحلوة. ثمة رغبة في البكاء تستعر في داخلها وتجعلها ترتعد. (يا لها من مخلوقة هشة، ويا خوفي من أن تُقتلع من مكانها. استقري يا حلوتي واضربي بجذورك حيث أنت.. إن كان لك جذر في ذلك البيت).
ها هما يتحركان الآن. الفتاة تستدير أولاً وتبتعد خطوات، يتبعها الرجل ويمسكها من كتفها بحدّة ويجعلها تستدير ثانيةً لتواجهه. إنه لا يكفّ عن الحديث، عن الصراخ، عن الغضب. ملامح الفتاة ليست واضحة الآن، فالظلال قد بدأت ترسم خطوطها السوداء على الوجه حتى أوشكت أن تمحوها كلية. من الطرف الآخر تظهر امرأة. يبدو أنها كانت جالسة على طرف السرير الذي يحجبه الجدار، أو ربما دخلت لتوها الغرفة. إنها تخطو بهدوء وثقة نحوهما. تقول شيئاً. إشاراتها رزينة ووقورة.. ومقنعة أيضاً. لهذا يهدأ الرجل ويبتعد عنهما قليلاً. الفتاة تندفع نحو المرأة وتدفن رأسها في صدرها. المرأة تمسح على شعرها وتربت على كتفها بحنان. بعد قليل، تتحرك الفتاة وتغادر المكان. الرجل يقترب من المرأة، يتحدثان في هدوء ثم يتحركان جانبا.
النافذة الآن وحيدة، مهجورة، ومكشوفة.. كأنها عين تطل على العالم بلا مبالاة، أو في حياد تام على الأقل. حين ينطفئ المصباح، يغمر الظلام كل شيء.. وتموت النافذة.

مع هبوب الشعاعات الأولى لفجر مأخوذ ببهائه، تستيقظ الشجرة وتصغي إلى صدى نداءات النهار الذي يقتفي، بأجراس من ضوء، فلول الليل، وتلك البلابل التي التهبت مناقيرها تنتفض لتزيح الحيرة عن ريشها وتأخذ في الصياح مغتبطة، إذ لا شيء يضاهي حضور المعجزة.
من فوق الربوة، يسطع فلاح مهموم، يحمل منجلا ويمتطي حمارا يدحرج الحصى دون اكتراث. إنهما يقتربان على مهل في طريق تآلفت مع إيقاعهما البطيء. حتى الزواحف كانت تفسح مكانا لوقع الحوافر من غير أن تلتفت إلى المصدر. حين يدنو الفلاح من الشجرة يصدر صوتا خاصا ومميزا طالباً من الحمار أن يتريث، ثم يرفع بصره نحو الشجرة وينظر في ذهول، فاغرا فمه. (ماذا ترى أيها الفلاح الهرم؟). بعد ثوان، يترجّل ويخفض منجله ويحدّق ثانية في الشجرة. يهز رأسه كمن يطرد أفكاراً مجنونة تناوشه، ويمضي مسرعاً إلى جهة ما. المفاجأة تصعق الحمار أيضا، فيأخذ في ركل الحصى مهتاجاً ويطلق أصواتا مبهمة، لكنه لا يمضي خلف سيده.

البيت الكبير هادئ الآن. لا أحد يظهر من خلال النوافذ المشرّعة. في الجوار بيت آخر.. صغير ومتواضع، مظهره يدل على أن ساكنيه لا يهتمون بترميمه أو تزيينه بقدر ما يحاولون الاستمرار في البقاء بداخله.
عبر النافذة تبصر شخصين جالسين حول طاولة مستديرة. رجل متقدّم في السن وشاب. يطوقهما الصمت للحظات. الرجل يقدّم إلى الآخر كأسا معدنياً. شاي أو ربما نبيذ. الآخر يرفض محركا يده بطريقة مهذبة. بعد قليل، يبدأ الرجل في الكلام والشاب يصغي باهتمام. وحين يتوقف، يهز الشاب رأسه كأنه ينكر شيئاً ما. الرجل يمد يده إلى جيبه ويخرج ورقة يفرشها على الطاولة.. إنها أشبه برسالة. ينظر إلى الشاب ملياً بينما الآخر يحدّق في الرسالة باستسلام ثم يمسح وجهه براحتيه ويشرع في الكلام. إنه يشرح كمن يحاول أن يقنعه بأمر. الرجل يشرب من الكأس. بعدئذ، يطوّقهما الصمت مرة أخرى. بغتة يتطلعان إلى الخارج عبر النافذة وينهضان معاً ثم يدنوان من النافذة ويطلان.

يعود الفلاح الهرم ساحبا خلفه جمعا من الناس الذين يتواثبون من موطئ إلى آخر وهم يسوقون لهاثاً وأنفاساً مثقلة بالأسئلة. عند الشجرة يتوقفون جميعا رافعين رؤوسهم، شاخصين بأبصارهم نحو الحضور المعجز، في رهبة وارتباك. الفلاح يتجه صوب حماره الذي لا يزال يركل الحصى، ويحاول تهدئته. ما إن يهدأ حتى ينزوي جانبا ويجهش.
يلتفت أحدهم نحو الفلاح ويسأله: ماذا تعتقد أيها الفلاح ؟
بعد تفكير عميق يرد: لا أعرف.. لم أر شيئا كهذا في حياتي.
تصرخ امرأة تحمل على كتفها طفلا عاريا: أخبرونا، هل نتيمّن أم نستعيذ؟
يجيبها أحدهم بحدّة: يا امرأة، ادّخري صلواتك أو لعناتك حتى يتضح لنا الأمر.
تعلو الهمهمات والتساؤلات شيئا فشيئا، ومن كل حدب، كأنها تريد اختراق المجهول لتكشف السر.
- أُيُعقل هذا، حتى الأمس لم يوجد في هذا المكان غير الأعشاب البريّة والسحالي، واليوم نرى شجرة شاهقة كالجبل!
- بدأت أرتاب في كل شيء.
- شجرة تثمر أصنافا متعددة من الفواكه؟!
- يا إلهي، إنها تتلألأ!
- ماذا؟
- وجوه.. وجوه أعرفها، إنها تتلألأ!
- أين؟
- هناك بين الأغصان، صارت الأوراق مرايا. صرت أرى بوضوح وجهك القاطن في الثمرة.
- لا حول ولا قوة.. لقد جنّ الرجل وأخذ يهذي.
حينذاك يرتفع صوت ذو سطوة: سكوتا أيها الناس.. نريد أن نعرف.. ماذا تقول أيها الفلاح؟
يجيب الفلاح دون تردد: علينا أن نتعظ. الحيّة أخرجت سيدنا آدم من الجنة بتفاحة، أما نحن فأمامنا شجرة بأكملها تريد أن تغوينا.
تعلّق امرأة تمضغ علكا: الحيّة تسكن في عقلك أيها المخرّف، أين الجنة التي تخشى الخروج منها؟
يغمغم الفلاح في غيظ ويشيح بوجهه: افعلوا ما شئتم، أما أنا فسوف أبتعد مع حماري ولن أعبر هذه الطريق ما دامت هذه، نسل الشيطان، موجودة هنا.
يتّجه الفلاح نحو حماره ويربت على عنقه ثم يمتطيه حاملاً منجله، ويبتعد رويداً رويداً عن الجمهور المضطرب.
يرفع رجل يديه ويقول بصوت جهوري: تريدون رأيي.. لا أحد يمسّ هذه الشجرة حتى نتأكد من سرّ وجودها.
يضيف آخر: وأنا أنصحكم بأن تنسوا أمرها، تظاهروا بأنكم لم تروا شيئاً.. وسنراقب من بعيد ما يحدث.
اتفقوا جميعاً على أن يغسلوا ذاكرة اليوم، ويعودوا إلى بيوتهم ودكاكينهم.
هكذا انفضّ الجمع وخلا المكان إلا من حرابي تنهب ألوان الطيف وتلبسها متباهية بها أمام فراشات تزيّن أجنحتها بالغردينيا وتتغطرس. أرانب صغيرة تطارد ظلالها. خُطّاف ينسج عربة من الريش هديةً لنبع صديق. طفل، كان متواريا خلف تلّة، يحاول أن يتسلق الشجرة لكنه يعجز فيمدّ يده نحو أجاصة بعيدة سرعان ما تستقرّ في راحته كما في السحر.
وتأتي فصائل عديدة: مجنّحة وزاحفة وماشية.. تطّوق الشجرة وتحتفل.

مساء متّشح ببرودة خفيفة ينثرها هنا وهناك فتسري في العراء وبين الجدران. القمر يؤرجح فوانيسه الزرقاء لتتبعثر مراياه وفخاخه في الأرجاء. والهدوء الاباحي يجتاح العتبات والدرجات. إنها اللحظة التي يخضع فيها العاشق للإغواء ويستدرجه الشوق للقاءٍ محفوف بالشراك، مختوم بالخمر.
مجازفاً يخرج العاشق من داره.
مجازفةً تخرج العاشقة من دارها.
وخلف الشجرة يتواريان، يسكبان الهمسات والوشوشات ويسرجان أحلاماً مرحة.
إنهما في الأسفل: هي التي كانت في الغرفة العلوية، ذات الوجه الذي يشعّ جمالا وبراءة. هو الذي كان في الغرفة يحادث الرجل بشأن الرسالة. (حبيبان أسفح ظلالي عليكما لئلا يقنصكما راصد).
شفاه تتلاصق، أنامل تتشابك في رغبة كاسحة، وهمسات تختزل الكون في شكل حمامة تتجانس فيها الأضداد.
تقول بنبرة عذبة: أخشى أن يرانا أحد.
يتحسس خدها براحته ويقول: غدا سيعلم الجميع بأمرنا، حين نعلن عن زواجنا.
عيناها مغرورقتان: كيف، ومحظور علينا اللقاء؟
يقبّل جبينها ويبتسم: سترين.
تغمض عينيها وتتمتم: إني خائفة.

مساء آخر. عبر نافذة في الطابق الأرضي بالبيت الكبير يمكن رؤية الفتاة، ذات الوجه الذي يشعّ جمالا وبراءة، وهي تعدو صارخة، خلفها يعدو الرجل – ذاته – ويمسكها من شعرها بعنف ويدير رأسها ناحيته ويصفعها بقوة فترتمي على الأرض. يرفعها ثانية ويكيل لها الصفعات. عندئذ تتدخل المرأة – ذاتها – مندفعة بينهما وتخلصها منه. الرجل يهدّد بقبضة يده وهو يزعق. المرأة تحتضن الفتاة وتأخذها بعيدا. الرجل يذرع الغرفة في حنق وسخط، ثم يختفي.
بعد لحظات، ينفتح باب البيت بعنف ويظهر الرجل شاهراً فأساً وينظر أمامه (آه، إنه يحدّق فيّ. أرى في عينيه لهبا، كأنه يريد أن يمزقني) ويهمّ بالتقدم. إلا أن المرأة تجري خلفه وتمسكه من ذراعه لتمنعه من التقدم. يواجهها وهو يتوعّد مشيراً نحوي. المرأة تحاول أن تثنيه عن عزمه وترجوه أن يدخل. الرجل يرفع الفأس ويقذفه بعيدا في حقد، ثم يدخل بخطى سريعة. المرأة تمضي خلفه وتغلق الباب.
مساء آخر. عبر نافذة البيت الصغير يمكن رؤية رجل متقدم في السن واقفا بجوار الطاولة المستديرة. يقترب من النافذة، يتطلع خارجاً كأنه ينتظر أحدا. يخرج ساعة من جيبه ويتأملها، ثم يعيدها ويهز رأسه. يختفي. يعود بعد برهة حاملاً زجاجة نبيذ. يجلس ويصب لنفسه كأسا. يشرب. يرحل في الغيبوبة. بعد ثلاث ساعات، ينهض، يتقدم، من النافذة ويجيل بصره. لا أحد.

في الصباح الباكر، في أعلى الربوة يبزغ رجل، إنه ساكن البيت الصغير، بين ذراعيه يتمدّد شاب.. إنه العاشق. مريض أم ميت؟ يقترب بخطى ثقيلة، مضرجا بالحزن، مسكونا بالفجيعة. يسكب دمعة على شرخ في جبين الشاب لعلها تمحوه. ضربة فأس لا ريب. يدنو ببطء، كأنه يخوض في دم مسفوك يزداد كثافة، كابحاً صرخة رهيبة ذات شفرات حادّة تمزق شرايينه.
إنه يتجه إلى بيته الصغير مذهولاً كالجنازة، وحيداً كالفريسة.. والذي بين ذراعيه صار نزفا وصدى.

آنذاك أطلقت الشجرة صيحة عنيفة زلزلت الموقع، ثم استلت جذورها بقسوة من بين تصدّعات التربة، واهتزت بطريقة أرعبت من كان في الأرجاء في تلك اللحظة.

ابريل 1984

إنها الوليمة.. تقول الحدآت

وجه امرأة

تتشبث هيفاء بمأواها وتتوسل للصدغ أن يرأف بها، غير أن الصدغ يذرفها بحنان، فقد آن لها أن تجد موطئا غير هذا الموطئ، وعشباً غير هذا العشب.

هكذا تنسكب هيفاء.. وهيفاء صبيّة، من سلالة النحل انحدرت لتزركش أجنحة الديوك بالزعانف وتحاور الهواء. كانت تتجول بين حظائرها الضوئية حين باغتها ذلك السائر الملتصق بالزوايا كاللص. عندئذ حزمت فصولها وأحرقتها بأنامل من فسفور.. وأضحت امرأة.

تجد نفسها الآن في عراء مضرّج بالوحشة. لا ماء يرافقها ولا ظل. مفازة عليها أن تحرثها بأنفاسها وتهرق فيها ارتجافاتها. تحنّ إلى المأوى الذي كان موطن دفء وحماية. تحنّ إلى الغفوة الآمنة وإلى ريش ناعم تغمس فيه شعرها. لكن الجمرات تجلد أعضاءها وتكسر الحنين.
بلا سعفة تمشي هيفاء، تخوض في النصال وتستقرئ التخوم، تبتعد عن المكان، تقترب من اللامكان، ترفو الهذيان بالهذيان.. حتى تصل أخيرا إلى موقع شرّد آباره منذ زمن ولم يعد يقطن فيه غير الصبّار والقنافذ وكائن بشري يجلس على صخرة صغيرة، محنيّ الظهر، منكس الرأس، بيده عصا طويلة يحفر بها الأرض المعدنية على مهل وبضربات ذات إيقاع خافت ومنتظم.
بعد حين يرفع رأسه ويدير بصره نحو هيفاء، محدّقاً فيها بتمعن. الكائن ليس سوى امرأة عجوز نقشت على جبينها وشماً أخضر، وتدثرت بقماش صوفي مزركش يستر هيكلها. ملامحها لا تفشي سرّاً، ونظرتها لا تفصح أمرا. حياد مسكون بالغموض. مع ذلك، تشعر هيفاء بشيء من الطمأنينة بينما تزداد اقتراباً منها.
العجوز لا تنبس، بل تمعن في التحديق كما لو تريد سبر روح هذه الزائرة. لكن السكون يوتر خلايا هيفاء فتزفر في همس:
- من أنتِ؟
سؤالها لم يمح التعبير المحايد. العجوز تجيب بصوت واضح ونقي:
- يقولون إني عرّافة، لكني ليست كذلك.
- من تكونين إذن؟
- لا أعرف.
ثم تبتسم بغموض وتضيف:
- ربما أنا حلم.
- وماذا تفعلين هنا؟
- مثلما تفعلين.
- أنا تائهة.
- أواثقة أنتِ؟
- نعم.
- أنا أيضا.
- ماذا تعنين؟
- أشياء كثيرة، وأحيانا لا أعني شيئا.
- لا أفهم.
- ومن يفهم الحلم؟
- أنتِ تعبثين بي.
- لا يا صغيرتي، لست قاسية إلى هذا الحد.
- هل تساعدينني؟
- ماذا تقدر عجوز مثلي أن تفعل؟
- تدليني على الطريق.
- أي طريق؟
تتلفت هيفاء حائرة، وقبل أن تغيب في الحيرة، تبادرها العجوز قائلة:
- أقدر أن أكون مرآة.
بخفّة تنهض العجوز وتدنو منها إلى حد أن أنفاسهما تتّحد في رئة واحدة، في مسار واحد. وتأمرها:
- أنظري في عينيّ.
تنظر هيفاء.
- ماذا ترين؟
- سوراً عظيماً تتوسطه بوابة موصودة.
- احذري من تلك البوابة.
- لماذا؟
تضحك العجوز فجأة مثل مراهقة طائشة وتعلن:
- لا أدري.. هذا ما يقلنه العرافات دائما، وأنا مجرد حلم أو مرآة.. لا تنسي ذلك.
تعود العجوز إلى مكانها، تحني ظهرها وتنكس رأسها بينما تحفر بالعصا الأرض المعدنية. ترمقها هيفاء فترة ثم تمضي مبتعدة عنها.

بوجل تخطو نحو البوابة، يخالجها خوف مبهم لا تعرف له تأويلا. كأن البوابة تستدرجها إلى كمين، أو كأنها محض سراب.
سطوع يثير الريبة، لكن هيفاء تدنو شيئاً فشيئاً إلى أن تصبح قريبة جداً منها، وآنذاك تشعر كم هي ضئيلة أمام هذا الكيان الشاهق.
تمد يدها، وما إن تلامس أصابعها السطح الخشبي الداكن حتى تنفتح البوابة ببطء شديد مصدرة أصوتا غريبة، تثير الرعشة والرهبة، هي مزيج من العواء والأنين. ترتدّ هيفاء خائفة، شاخصة ببصرها نحو البوابة التي تعرّي نفسها. عندما يتلاشى الصوت ويهيمن الصمت، تقترب ثانية بحذر، فتبصر قطيعاً هائجاً، قادماً نحوها من الداخل، يطعن التراب ويسوق الغبار في اضطراب.
على عجل تتوارى هيفاء خلف السور لتفسح الطريق لهذا الاجتياح الكاسح: إنها أيائل مسفوحة تفاجئ البقاع بنفير قرونها العاصف وبصليل سلاسلها المربوطة في الأظلاف، وتعدو – مثخنة بالهلع، مدججة بالانعتاق – في جهة مسالمة.
مذهولةً تراقب هيفاء القطيع الذي يهتك الأحجار في طريقه ويخترق الضوء الساطع إلى أن يغيب وراء الأفق.
في الداخل تمتحن الخطوة بعينين مختومتين بالخوف، وبقلب يرتجف. إنها تهبط في الهاوية، دون أن تدري، وتسرج عنقها للانشوطة الرابضة في وكر ما، وليس من منقذ ينتشلها. وحدها تمضي بلا دليل، وحين ترفع رأسها إلى السماء تلتقي بحدآت تحوم بينما تطلي ريشها بالكبريت أو تستر مناقيرها بخوذ غيمة هاربة.

حين تنظر أمامها ترى: منازل متكوّمة، طرقات مهجورة، حربة تسحل آدمياً، حصاناً يحتضر، بنادق مصوّبة في الأركان، خنادق ومتاريس تحتلها الجثث، شرفات منهارة، جدران تنزف دماءً غزيرة.
وترى هيفاء المذبحة تسوّر تخومها بأطراف الضحايا، فيكتسحها الرعب، تصير توأم الضحية، وتلتمس الإغماءة، إلا أن البدن قد تقوّست أجزاؤه فلم تقدر أن تغيب أو تتحرك. تبقى جامدة، تسفح النظرة وتنحر الشهقة. بغتة ينفجر صوت، يمزق حجاب السكون، وتمرق رصاصة حادة، مفتونة بالبطش، لتفضّ صدر هيفاء.
ترتد هيفاء إلى الوراء لكنها تتماسك، حابسة صرخة رهيبة تنتفض بعنف في رئتها. وإذ تشعر بحضور كائن خلفها، تستدير ببطء وترى العجوز واقفة تنظر إليها في حزن.
تظلان هكذا، كل منهما تنظر إلى الأخرى، فترة طويلة.
تستدير العجوز دون أن تنبس وتمضي، في حين تمكث هيفاء في مكانها تراقب غيابها، ثم تميل بجسدها إلى الأرض وتتمدد على ظهرها برفق وهدوء، وترنو، مأخوذةً، إلى حدآت تسرح في غبطة بين سنابل غيمة نائمة.

مايو 1984

هناك، هناك اخضرار المذبحة

ذراع امرأة

من العضد ينزلق قزم مطلقا صرخة ذاهلة ذات أصداء مشروخة تتشظى كلما أمعن في الانحدار، وينأى المأوى البهي ذائباً في السديم تاركاً قاطنه الأثير يهوي، وبينما يهوي يحرث غلاف الهواء والضوء بأظافر رخوة ضارعاً للمأوى أن يأتي ويأويه، لكن ما من مدى يستضيف هذه الشهقة المضرمة.

على الإسفلت يستقر القزم بلا رضوض، لكن أيضا بلا مأوى. وحيدٌ هنا يتقرّى ببصره طريقا طويلا يمتد أمامه أشبه بلسان حيوان خرافي ينوي إغواءه، وفي نهايته يجثم ضباب كثيف يحتل ذلك الجزء النائي. ماذا يوجد وراءه.. رئة وحش أم قلب مدينة؟
على حافتي الطريق تستريح حوانيت وبيوت واطئة مأهولة بقومٍ أغلقوا أجفانهم باحتشام ومضوا يستدرجون بالأثمار حلما شاردا. من يفتح، في هذه الساعة، بابه لغريب مذعور لا يعرف الكلام؟ يظل القوم واقفاً مكانه، لا يتحرك، كأنه يخشى أن يوبخه أحد إن تحرك. لكن لا أحد هنا في هذه الساعة حيث موت الأسرار وولادة الأحلام، آخر الليل وآخر النهار، يقظة الأشباح وانكسار الظلال. لا أحد غير أوراق شجر وقصاصات تدحرجها رياح لا تفصح كلية عن عنفها بل تراوغ هذا المعترض طريقها مرتجفاً في عزلته.
من هناك؟
كاد أن يشهق القزم حين التفت ورأى خلف نافذة بيتٍ معتمٍ امرأةً واقفةً ترنو إليه دون انفعال، كما لو تتفرج على منظر مألوف، كما لو أنها لا ترى. انه يمعن النظر إلى الطيف، إلى الظل، إلى الهيكل المنتصب في شموخ، ويرجو أن يسمع صوتها أو يلمح حركة إصبعها مشيرة إليه أن يتقدم، غير أنها تظل جامدة: مدهونة بالغموض، مبللة بالحياد.
مراراً يرى القزم نساءً راسيات خلف النوافذ، متشحات بالألغاز، يفضضن غشاءه بالنظر دونما اقتراب من تخومه، ودونما اختراق لمجال البصر باللمس، كأنهن ظلال منارات انحسرت عن مواقعها وانبجست في مواقع أخرى محصّنة. نساء شغوفات بالمجهول لكن مكللات بالارتياب. يمتدحن الجسارة ويمجدن بسالة الفاتح وعندما يطلع النهار يلذن بالغياب ليحترقن على مهل. لن يأسر هذه الأرواح الرهيفة سوى ذلك الذي يتقن شعائر التناسخ.

لك ما أملك يا ضوء إن سطعت.. يرشو القزمُ الضوءَ كي يشق ستائر العتمة ويشعل النافذة ليرى بجلاء رنين الأنوثة. إيماءة أو إشارة، ذلك كل ما يأمل. هل يتقدم؟ ماذا سيخسر إن فعل؟
لا أريد سوى أن أتحدث معك، أن أنام معك، أن أدخل ذلك الجسد المنمنم وأضيع في أبعاده لعلي أصل إلى الحضن الأول. يا توأم الليل لفيني في قماط وهدهديني، أو سيّجي أعضائي بأناملك.

في الحضن الأول، يتذكر، صاهر جذر الضوء واستنطق ذاكرة حاسرة تشفّ عن أزمان غابرة وبقايا لعب وضحك أليف ونزهات جوالة. أقرانه شعب مأخوذ بالبراءة، والماء مخدعه. كان يلبس حراشف حوريات مسحورات ولا يكترث إن تعثر بسرج حصان أعمى فالفرو الرفيق الذي يرمّم الأرض كان رفيقاً, ويوماً سمع هديراً في الخارج.. كان ذلك إعلانا عن ميلاد زمن آخر.

وقبل أن يهمّ القزم بالاقتراب من المرأة، يباغته صوت كابح مزلزل:
- قف.
يستدير القزم منتفضاً، ويجفل حين يرى رجلاً مسلحاً قادماً نحوه. إنه العنف النافر المتغطرس يتقمص هيكل رجل في الأربعين، حاد البصر وحديدي القسمات.
يدنو منه المسلّح، يدنو النعش، يدنو الموت الموت..
- من أنت؟
- لا أعرف.
يتفرّس فيه المسلح شاهراً غضبه، كأنه يأمر الجسد الصغير أن يكفّ عن الارتجاف كي يخترق مجال وعيه. ثم يدور حوله، حول الجذع الرملي الذي يرشح خوفاً وماءً.
- ماذا تفعل هنا؟
- لا أعرف.
- من أين جئت ؟
- لا أعرف.
فجأة وبسرعة فائقة يسدّد المسلح كعب بندقيته نحو القزم ويوجّه له ضربة قوية توشك أن تنتزعه من موقعه. ينحني القزم من شدة الألم، لكن الآخر لا يشفق عليه بل يعاجله بضربة أخرى على ظهره تطرحه أرضا.
يتلوى القزم متألما والدموع تطفر من عينيه ثم يتدحرج قليلا. آه يا الحضن الأول أغثني، سوف يدركني السفك. ويقوّس هيكله على الإسفلت خاشعا للسفك. يهجس أن الآخر سوف يجهز عليه في لحظة، يحدس أن النعش يرسو قريبا منه يدعوه أن يدخل فلا صائن ولا مخبأ وتدرّعه بالضعف وهشاشة الروح لم يعد يجدي. لابد أن المسلّح يتفحصه الآن أو ربما يتقصى هدفاً مغوياً يصوّب نحوه بندقيته، لكن اللحظات الرصاصية تمر ثقيلة، كأنها زمن آخر، طقس طافح بالدم والخوذ، ويا نبض النهار ارأف بي، ما أنا إلا حمحمة ظل.
أخيرا يتكلم المسلّح. صوت موبوء بالحراب. مخيف وباطش:
- منظرك لا يوحي بأنك عدو. مخبول ربما. وحتى لو كنت عدواً متنكرا فسوف نعرف أين نجدك، عندئذ ستندم لأنك التقيت بي.
بطيئا يرفع القزم رأسه. لقد نجا من مصير سيء. وطفق يرنو إلى المسلّح الذي أدار له ظهره ومضى بخطوات ثابتة نحو الضباب الذي بدأ يغمره تدريجيا حتى ابتلعه تماما.
يدير القزم رأسه، تحثه الغريزة المستهترة، صوب النافذة لينظر إلى توأم الليل لعلها ترشقه بالحنان أو تبسط بإسراف راحتها لكي يعتليها ويغتسل بشيء من عسل روحها، لكنه لا يراها. نافذة مسكونة بالأحابيل وأسرار الشرفات. وحدها تحرس أقفال المراثي وممالك الرعب، وحدها تشهق. ربما في الغياب احترقت على مهل.

في الحضن الأول كان حضور الكائنات وتنوعها، مدّ من السلالات تتوافد من كل حدب وتحتشد في دم عذب لتنتخب مدائنها. احتفال بهيج.
آنذاك أطل على البحر الطاعن في النوم. أفقْ، قال، أفقْ لتأخذني إلى هناك.
ويأخذه البحر إلى الساحل ويدعه رهينة لدى بوصلة تشير له بأن يمضي ليرى صبْية جذلين وصبايا جذلات يتحلقون حول نبع مهرّج يسرد حكايات أخّاذة عن نبع صديق. تجيء الأرامل وهن ينشدن أناشيد مرحة رافلات بالريش والنيلوفر ويسألن عن البنائين الذين وعدوا ببناء مدينة بلا بوابات، يقول لهن: لأكن دليلكن، فأنا أعرف الجهات التي تعرفني..
ثم يأخذهن إلى تلك المدينة الملأى بالدهاليز والأعمدة وناس حلو المعشر لا يهابون الغزوات، وفي المنتزهات يمشي الأحياء مع أمواتهم في وداعة وألفة مثل أصدقاء حميمين يتبادلون الأحاديث والذكريات حتى يصلوا إلى موقع تكثر فيه خنادق من زجاج ومن حرير منمقة بفراء الماء ومن خلالها تجري جداول النبيذ، ويغمس الحي إصبعه في الجدول، يبلّل فم الميت الذي اكتنز بالحياة، يقبّل وجنتيه ويُلبسه قميصاً من ورق الزيتون ثم يتركه بهدوء لفصائل الغابة تحرسه في حين يتمدد الميت على مصطبة بلورية ويحصي مبتسماً أنفاسه الأخيرة التي تحلّق كسرب من الطيور الجميلة.
يعود القزم مع صبيّة نسيت عند النبع وشاحها وكان يسير بغبطة فلم يدرك إلا بعد وقت أنه قد أسرع الخطو كثيراً وعندما التفت لم يجدها خلفه لذلك شعر بالوحشة وبدأ الخوف يغزو قلبه.
ها هو يواجه الضباب خائفاً، مثقلاً بالعزلة، الآن الآن سوف يفترسني، كل أنفاسي صارت فرائس مسربلة بالطعنات تجفل، يجفل لهاثي، مائي، وجهي، خيوطي الرقيقة، أيامي المحمومة، تلك الأيام التي امتحنت مساربي وشُعَبي ونسيت أن أحفظها في صندوقي. ضعتِ يا أيامي ضعتِ وما منْ دليل.
ماحياً كل شيء ينسل في نسغ الضباب، يخترق عتباته اللولبية ويطأ ساحته اللدنة. هناك يشاهد حيوانات خشبية تنظر إليه وتحرّك أذيالها مرحبة، يشاهد آدميين من عاج وشمع يتبادلون السلع، يشاهد أبراجا شاهقة تجسّ بويضاتها التي تفقس ويخرج منها جند مهابون يلوحون بحرابهم في طيش، يشاهد إمبراطورا يتسلق مئذنة وحينا يلهو بطاحونة هوائية مرصّعة بمناقير وقرون، سفراء حول مائدة خالية ينقرونها بالأظلاف والملاعق، وصيفات يغسلن بلاط الملكة الصلعاء بحليب أثدائهن. رأيتُ وما رأيتُ ناديتُ. لم يكن صوتي، كان ثغاءً، كان نشار خشب. كنتُ الذي كان والذي اجتاحته الطعنات، كنت الفريسة التي. عدوتُ عدوتُ وما ابتعدت، وهاذياً ارتميت أمام مبنى.
عند المبنى يقف القزم حائراً متردداً. إدخلْ. دخلتُ. يعبر دهليزاً طويلاً يفضي إلى دهليز آخر ثم آخر حتى يصل إلى بهو فسيح بالغ الترف يلمع رخامه كما البرق وفي جوانبه تجثم نافورات صغيرة ينبثق منها عصير عنب وبرتقال، ومن السقف تتدلى ثريات متوجة بالزبرجد، وعلى الجدران تنتأ أجنحة صقور جميلة ترفرف، لكن أمامه يرى أبوابا خزفية شتى، متجاورة في تناسق بديع. إقتربْ. اقتربتُ. إفتْح. ليس بيني وبين الباب سوى مسافة ذراع. أدخلْ، فأنت أنت الذي سيرى، الذي سيسمع سرّ الليل. قريباً ستحرثك معاول القمر وتنثر في أجزائك تويجات الإثم. قد تبصر عينك مفقوءة أو رئتك مشطورة لكن أدخل لتتأكسد. فتحتُ.

في الغرفة الأولى نساء مشعثات الشعر يحملن سلالاً، ملآى بأثداء فتيات صغيرات، ويقايضن المارة. تتقدم منه إحداهن مادة نحوه ثدياً نابضاً. "خذ. إغسل به فحولتك". يزداد هلعاً، تدنو أكثر، "إعصره إن شئت. كانت تتضوّع بالنرجس ابنتي الأخيرة. شهية مثل تفاحة، رقيقة مثل نحر غزالة. خذه. جسّ هذا التكوّر وتيقن بنفسك من عذوبته". يهز رأسه هزات عنيفة "لا أريد". تدنو أكثر، والثدي يدنو من فمه، يشم رائحته الزكية ويغمض عينيه لكي لا يبصر التكوّر الراعش، غير أن حلمة الثدي صارت تلامس شفتيه، تغوي النهش أن يتفصد، ترشوه بالنداوة والغضاضة. وتنفرج الشفتان رويداً كاشفتين عن أسنان مأخوذة بالنهش، وتنسل الحلمة بين الأسنان التي ترتفع لتنقض بغتة على اللحم النابض وتبتر الحلمة فينبجس دم غزير يضمخ الفم ويفيض وتفيض صرخة مجنونة والأسنان الضارية تمزق بنهم ومجون أجزاء الثدي وتمضغ، تمضغ كل المرارات والخيبات، كل الحياة والموت، كل العوالم التي تنداح خالعة أصدافها الحجرية ملوحة ببيارق الهذيان، ويصرخ في يأس: لا أريد.

أدار القزم رأسه إليّ – أنا كاتب الحكاية - وكان مثخنا باليأس. عيناه مغمورتان بدموع تترجرج، وفمه طافح بدم صاعق. توسل إليّ: أوقف هذا الذي يحدث.
قلتُ: لا أستطيع
قال: بل تستطيع
قلت: ليس الآن
قال: متى؟
قلت: استمر
قال: لا أريد
قلت: لا تيأس
قال: ماذا سيحدث لي؟
قلت: لا اعرف
قال: تكذب. هذه قصتك وأنت تعرف النهاية جيدا. كل شيء
مخطط له في ذهنك.
قلت: صدقني لا أعرف
قال: لا أصدقك
قلت: لا يهمني
قال: لستُ بطلاً، لستُ جذاباً. اختر غيري.
قلت: فات الأوان
قال: إذن اجعلني بطلا
قلت: لا
قال: لماذا؟
قلت: استمر
قال: أنت مجنون. كذاب. محتال
قلت: انظر خلفك.

وعندما نظر القزم خلفه رأي فتاة باهرة الحسن تفرد أهدابها في ولهٍ كأنها تسرّح ذكرى أثيرة في سفح البؤبؤ، وبين شفتيها المغسولتين بزبد المساء تذرع ابتسامة حلوة.
تمتمتْ: هل تذكرني ؟
هززتُ راسي وأنا مشدوه: لا.
بهدوءٍ فكت أزرار قميصها وكشفت عن صدرها وقالت: أنظر.
نظرتُ إلى صدرها ولم أر ثديها، كان الدم المتخثر يفصح عن وقت انحدرت القسوة من مقصورتها وعاثت في الصدر ببطش هادر.
هدلتْ: هل تذكرني الآن؟ أنا من أكلتَ لحمها ساخناً وغادرتها عند الجسر دون كلمة. أنا من حلمتَ بها وحين صحوتُ لم اعد عذراء. أنا من تنفستَ في لهاثها عويل المراعي.
قال لها: نعم نعم. كنتُ آنذاك بذرة سديمية.
همستْ: كنتَ الأوسم والأنبل
همس: كنتِ الأجمل والأبهى.
همستْ: وكان حفيف الأدراج يظللنا بينما جسدك الإباحي يكبّل فضائي بعرقك الأخرس.
همس: كنا جسدين طفلين يزركشان عنان الشفق بأجراس جسورة.
همستْ: هيا خذني قبل أن أموت.
همس: لا تقتربي. صرتُ الآن كائنا مخيفاً.
لكنها اقتربت وأمسكت يده ثم دفعت نفسها نحوه فغاصت يده في صدرها الرخو، وغارتْ، عندئذ أطلق صرخة رهيبة. صرختُ من اليأس، من الخوف، من القهر .. وهربتُ. خرجتُ، يسبقني لهاثي، يتبعني رعبي، ودلفتُ الغرفة الثانية.

هناك يرى القزم شعباً من الأشجار تعوي وحولها أفراد من البشر يتحركون كما لو كانوا نياماً. موز ينهمر من أعلى، تفاحات تهرول مذعورة ورجل يجثو في خشوع أمام امرأة تجلده بسوط لاهب وتعوي. عويل يأتي من ناحية: أرامل ينشرن مراثيهن على صنوبرات كفيفة ويومئن له أن يتقدم ليغرزن في ذراعه مرثية مهيبة، لكنه لا يتقدم بل يتقهقر راجفاً.
يتعثرن بالكلام:
"إنها القنابل تسحل المدائح وتحزم البيوت سبائك من قش ومن حجر. ابتعد أو اقترب لنسفح في ذراعك ما ورثناه من صهيل الفاقة والتشرد. نحن أمهات القتلى اللواتي يشيعن الفوانيس في فجر مدهون بالعقاب. أمض أو تعال فلا أنت حيّ ولا أنت ميت. نعرفك يا ابن الحضن الأول لكننا نجهل حاضرك وغدك. تعال لندقّ في خاصرتك مساميرنا الزاهية ونعلقك على خشبة الملجأ الذي صنعناه من طين الحروب والمجازر اليومية. تعال".

يرتعد القزم هلعا ويفر خارجاً من الغرفة ليدلف أخرى جرداء تماما، بلا سرير ولا صديق ولا عشيقة. ساعات حائط عديدة بلا عقارب معلقة في فوضى. يخطو القزم بتثاقل، يتوقف، يدور حول نفسه، ثم ينزوي في ركن ويجلس شابكاً ذراعيه حول ركبتيه المضمومتين ويحني رأسه. من أصابعه تسيل مياه سرعان ما تذوب في أرضية الغرفة كما لو إنها اسفنجة تمتص كل التعب وكل الأنين. مياه لا تكتسح بل ترفو ماضياً ممزقاً تناثرت جهاته خرقةً خرقة. يا الحضن الأول تعال واستطلع جهاتي التي ضللتها، خذني لأخوض في حكمتك، دونك أنا خائف وتائه، أنا كائنك النازف موتاً، ظمآن ومسكون بالفجيعة.

يرفع القزم رأسه، يحدّق في الجدار الذي أمامه، وبعد دقائق يتحرك كالمأخوذ ويحبو متجهاً ناحية الجدار حاملاً انكساراته وشظايا أيامه الفائتة، يحبو إلى أن يصل إليه، يتحسس سطحه الصلب، يا الحضن الأول، ينبش أظافره في لهفة غامرة، تعال، يكشط الدهان ينكسر ظفر ثم آخر، تعال، يكوّر قبضتيه ويضرب بهما الجدار في عنف، تعال، ثم يهوي برأسه على الجدار بحدّة وهستيرية، خذني، الدم يتدفق من الجرح لكنه لا يتوقف، خذني، ارتطام آخر، خذني، يتفتق الجدار مثل جلد، مثل غشاء، مثل رحم. يولج الرأس في الشق الذي يزداد تمدداً واتساعاً. يختفي الرأس، العنق، الظهر، الفخذان، الساقان، القدمان. وحين يتوارى تماما يلتئم الشق ويعود الجدار كما كان.. صلباً ومحايداً.

الساعات تقرع أجراسها. رنين يعلو شيئاً فشيئاً حتى تكتظ الأمكنة بشعائر نهار مأساوي.

ابريل 1985

وهنا إثم، وفزاعات تنتحر

ذراع امرأة

من الكفّ يهبط فتى نقي الروح، مترع بالجذل، يهبط خفيفا مع الندى المترذرذ كأن الهواء جناح والفضاء وسادة.
يرسو على أرض لا تحرسها أقدام أو أظلاف، أو ربما تقوّست تحت مواطئ محتها للتو مياه وزبَد، فعادت الأرض – المرشوشة بالقواقع وحليّ البحر – لينةً ناعمةً كما كانت.
لا خوف يضرّج هذا الزائر الغريب ولا رجفة، بل غبطة لا حدّ لها. يقف على الشاطئ الفسيح المهجور، مباح الحواس، يصغي – أو هكذا يظن – إلى أصداء عرس مرّ من هنا: طبول وزغاريد وأصوات وليل يزفّ الهوادج في موكب رافقته الثدييات والبرمائيات.
يرنو إلى البحر الذي يغفو مسدلاً أهدابه على كائنات مكتنزة بالطيش والجلبة. بعد هنيهة، يتجرّد الفتى من ملابسه ويسطع عاريا خارق البهاء، يتوحّد مع أبجدية الطبيعة في تجانس فريد كأنه ثمرة الرمل المتواطئة مع نبالة الفجر. يخوض زغب الماء كما لو ينوي منازلة المجهول أو قطف فاكهة الدلافين. من يعرف ما يختلج في ذهن طريّ لم يناوشه بعد صليل الوقائع والمصادفات؟

خطَر لي، أنا راوي الحكاية، أن أجعله ينسلخ تحت الماء من جلده ويتقمّص شكل فارس نبيل، غير إني جعلت البحر يشعر باختراق الفتى لسياجه وانتهاكه شريعة الإمارة، فيستنفر بطشه متحفزاً لردع هذا الاجتياح، لكن ما إن يلمح شعاع البراءة القاطنة في الجسد الوسيم، ويعرف أنه جاء زائرا وليس غازيا، حتى يأمر بواباته أن تفتح أقفالها.
إفتحني. يقول البحر. ذرّ بذورك في جهاتي.
تتواثب المياه من حوله، تحيط به، تطوّقه. ومن كل حدب تتوافد فصائل الأسماك لتشم رائحة هذا الذي اصطفى إمارتها ليحزم حضوره في رئتها فاردا ذراعيه كباز باسل يرقب حشود الكائنات التي جاءت محتفية. رويدا يشعر بتهيّج أعصابه وانتصاب أعضائه. عضو نافر يشعل الماء بعروق إباحية، ويسيّج الرعشة تلو الرعشة بهزات مرصعة باللذّة. يلج بكورة الماء ويسرّح رحيق الجسد اللاهب أمام حشود مأسورة بالمشهد.
من كهوف الحلزون تُقْبل حوريات مبللات بالسحاق تدحرج أثداءها وما إن تحاذي الجمع وتشرئب أعناقها مستطلعات حتى تشهق في خفر لكنها لا تغضّ البصر بل تتمعن مأخوذة. زبَد، نافورة من الزبَد، وسرب من الخطّاف المهرج يطفو بابتهاج.

يمشي بكامل ثيابه صوب المدينة، ليس متعبا ولا ظمآن، أعزل إلا من ابتسامة مضاءة تحاور ساكني الطريق من سحالي وأرانب وأعشاب بريّة، وتجادل أكواخ الرعاة المتكومة في سفح التل والتي تتسرب منها رائحة أطفال وحساء.
يرى سفينة راسية على الرمال يعتلي صاريتها رجل ينادي الريح مثل مخبول مؤجج بالسفر.
يرى عربات نقل مهجورة يتصاعد الدخان من محركاتها وبجوارها كلاب سلوقية نائمة.
يرى كوكبة من الجيولوجيين يحفرون الأرض بحثا عن عظام.
يرى – أخيرا – المدينة الملتفعة بالإسمنت والغبار، أسوارها العالية التي تتحدى الاكتساح، مآذنها وقبابها المزروعة بين بيوت محدودبة خشوعا.
والى المدينة يمشي حثيثاً.
من البوابة الحديدية يدلف، فيستوقفه حارسان بإشارة ويرشقانه برهة بنظرات عدائية ثم يسمحان له بالمرور دون سؤال.
بيوت واطئة، أولاد يمرحون في الوحل، قطط تتعارك في صناديق القمامة، كهل جالس على عتبة يتجرع الخمر ويكلم نفسه، مشترون وباعة وحوانيت.
ينعطف يميناً، يبصر ساحة فسيحة في وسطها انتصبت مشنقة، فيتوقف مبهوتا. يتوقف الزمان، الأعضاء، حركة الهواء، وتنحسر الأنفاس. لم يشهد موتا، أو قتلا، من قبل. يعرف الآن، بالفطرة، أن في هذه الساحة التي ترضع الرعب استوطن الإثم.
المارة كانوا - أثناء سيرهم – يختلسون النظر إلى الرجل المعلّق ثم يغادرون على عجل بمحاذاة الجدار. أما حول المشنقة فقد تلكأ عدد قليل من الرجال والنساء.. إما بدافع الفضول أو التعاطف أو الشفقة.
يقترب الفتى بطيئاً، واهناً، يذرف خوفا وأسئلة لا تحصى. لكن الأنشوطة تدنو، والعينين الجاحظتين تدنوان، والجسد المعلّق يدنو.. يسحل الأشكال ويمحو المسافة. هكذا، ممغنطا، يجد نفسه بين أولئك الذين مكثوا على مقربة، شاخصا ببصره إلى أعلى.

يحلّ المساء. الساحة خاوية إلا من مشنقة مدهونة بالعنف، ورجل متدثر بالموت، وفتى جالس على الأرض يرمق نشيج الخشب ويقول لنفسه "ليس عدلاً أن ينفي هذا الجسد من روحه اليائسة في موقع موحش كهذا. واجبي أن أبحث معه عن مثوى حنون يحميه ويسامره".
جسوراً ينهض ليرتكب المعصية التي لم يجرؤ أحد على ارتكابها. إليه يمشي، إلى حشرجة تسحلها الحبال يمشي، إلى سلالم مأهولة بأشباح الليل يمشي، إليك أيتها الجثة الملعونة أمشي وان أرمّم أوصال المدينة بعويل فاحش. أحمل بين ذراعيّ الباكيتين جسدا ضل مثواه، أبتعد به عن قطيع من الذئاب تناوش انعكاساتها في الآبار لأصل إلى نافذة ترشدني إلى أخرى فثالثة فرابعة دون أن تدلني إلى المثوى، كأني في متاهة مرصوفة بشظايا ومُدى، وتهالكتُ.
مرهقا ينظر إلى الجثة التي تدحرجت على الرمل ثم استقرت مرهقة. يدير رأسه لعل أحدا يمر ويساعده، لكنه لا يصادف غير صرير الجداجد وخشخشة ظلال منسية كانت تنتسب لبشر مروا من هنا. في الموقع ذاته حفر قبرا.

يحلّ المساء. الساحة خاوية إلا من مشنقة مدهونة بالعنف، ورجل متدثر بالموت، وفتى جالس على الأرض يرمق نشيج الخشب، وامرأة في زاوية تتأمل المشهد. بعد حين تخطو نحو الفتى، تقف بقربه، فيدير بصره إليها: "أهلا بك سيدة الليل والساحات. أسألك عن عقاب الجريمة وجريمة العقاب. ساعات طويلة لم تزدني إلا حيرة وبلبلة. كيف للذبيحة أن تكون عبرة بينما المذبحة تهيم طليقة في الأختام؟ أسعفيني".
تنظر المرأة إليه مشفقة وتهمس "اتبعني".
ينهض طائعا ويتبعها. يعبران دروبا وأزقة ودهاليز حتى يصلا أخيرا إلى مكان ناء يعبق بالبخور والرياحين. ليست غرفة، ليست حديقة، مكان لا يشبه مكانا. مرشوش بماء الورد، مفروش بالسندس، يظلله الرمان والزيزفون والكاميليا. عندئذ توثق عينيه بعينيها، بينما تفك أزرار ثوبها الأرجواني، وتتمتم: "افتحني".
يعرف أنه لا يقدر أن يجفل، أو يُطرق أو يتوارى. يقدر أن يتكلم: "جئت أنشد جوابا".
تخرج من الصدَفة عارية، مجبولة بجمال آسر مثل وردة في مرآة، وتتمتم: "أدخل في لتترصّع بالسديم. لا لغة تهديك ولا طوقا ينجيك، بل أحاصرك بدم أكثر عصفاً. آنذاك تحتدم فيّ واحتدم فيك".

يحلّ المساء. الساحة خاوية إلا من مشنقة، ورجل متدثر بالموت، وفتى جالس على الأرض، وامرأة في زاوية، ومسلحين يقبلون من جهة ما بخطوات تلجم المدى. وعندما يشاهدون الفتى يتجهون نحوه مستنفرين غضبا ضاريا. انهض يا كلب. يرفع الفتى رأسه، لا يخشى ولا يكترث. لكنه ينهض بتثاقل كأنه هرم فجأة، كأنه يحمل أنقاضا. ماذا تفعل هنا؟ لا يرد. انتظر طويلا كي يجيب أحد على أسئلته، ولما لم يجد، اكتسحه اليأس والخذلان.
هل أنت أصم؟ أبكم؟ أعمى؟
يهمّ أحدهم بضربه لكن زميله يمنعه من ذلك.
دعوه يمضي ويغادر الساحة، ربما لا يعلم أن التجول ممنوع ليلا. يتحرك الفتى مبتعدا بخطى مثخنة، بينما يخرج المسلحون من الجهة الأخرى حاملين توابيت غير مرئية.

يحلّ المساء. الساحة خاوية إلا من مشنقة، ورجل، وفتى جالس، وامرأة في زاوية، ومسلحين يلجمون المدى، وفزاعات تنتحر.

فبراير 1986

***

ندماء المرفأ، ندماء الريح

إهداء

جاء إليّ،
كان يمشي على شفرة السفر مبلّلا بصبار الأشرعة،
ترافقه المرايا ودخان المجازفات.
كان يحلم في الصحو بقنديل يضئ درب الانهيارات
يمحو الفروقات بين بلاد وصنوبرة.
حين واجهني، بسط سجادة قلبه وأدخلني حلمه بلا رأفة.
إليه...

من ذا الذي يهزّ قاربنا؟

كلما دخل، بجياده النارية، بيتا
اشتعلت أركانه وتهاوت كنثار خشب
كلما اصطفى حانة وجلس ليحتسي النبيذ
انهمر المطر من معطفه واكتسح النوافذ

يوماً، عاد الحوذي إلى غرفته متعبا، مطأطئ الرأس، تاركا جياده في الخارج تقضم الشارع حجرا حجرا، وقال: لعل النوم يواري جموحي.

لم ينم. كاد أن. حين تذكر لحظة ولادته وكيف أن الفراشات انبجست بأجنحة رصاصية من سرّة أنثى لا يعرفها ولا تعرفه لكنها كانت تناديه بألف اسم ليطل برأسه ويستطلع. كانت تناغيه وتدغدغ كاحله وتقول: لا أب لك سواي، لا بوصلة لك سواي.
أنثى مزركشة الجسد منمنمة الأنامل. من كل إصبع يرشح ماء له رائحة أخيليا تخدّر الحواس، والماء الراشح يحزم أوتاره في هيئة صنوج وقلادات لغجريات يطفن ليلا بخيام أمراء مخلوعين يقرأن لشحوب أهدابهم الطالع. وكيف أن الفراشات كانت ترفرف تحت تنانير عوانس قرمزيات ينشجن تارة ويزغردن تارة مأسورات بالحمّى يرقبن أنثى في حالة طلق يقال إنها من نسل قرصان عاشر حورية النار زمنا ولما حنّ إلى موطنه ضربت عنقه بذيل قرش ومذ ذاك أدمنت ملاحقة البحارة التائهين تخلب لبهم بغنائها الآسر.

آخر سلالة الماء والنار. كان يعوي تحت ضوء القمر مع ذئبة كستنائية، وفي وضح النهار يتنزّه مع سمندره على حواف نهر مسرّج بالقوارب يمتطيه فتية فخورون بانتصاب الفحولة تحت أرديتهم الأرجوانية الفضفاضة. يحيط به أقرانه المبهورون: أرنا شيئا من مهاراتك.
يريهم قواقع حبلى بشعوب مفتونة بالحروب وسلاحف تجرّ خياما من عاصمة إلى عاصمة. قادر أن يثقب مهبل النهر بإبرة فتسيل الأسماك جمعا جمعا في سلال فلكيين لا يتقنون الصيد. وحين يبلغه الضجر يلملم طلاسمه وينادي السمندر كي يتابعا نزهتهما في ملاجئ الصخور.

طفلاً خارقاً كان، لم يعرف أباً ولا أماً، والأنثى التي ولدته – يقال – خرجت لتبحث عن رجل زارها في الحلم، وفي الحلم اضطجعا على سرير العشب تطعنه بأنين إباحي يطعنها بأنين إباحي ولما فاجأتهما الرعشة أطلقا معاً تنهيدة لافحة وتدثرا بالعري. آنذاك بكت وبكى معها لأن الحلم سيغادر.

كم كان مديداً بلا احتشام، شفيفا كالندفة، باسلاً في افتضاضه مخابئ الروح. ذاك من أحببت، وذاك من اصطفاه قلبي. أي ثناء لن يكون كافياً لأصف لكم مدى فرحي ومدى تعاستي. إن كنتم في شكٍ فاتبعوني لتروا أني أسيرة أنفاسه.

مثل عاشقة عذراء خرجتْ (أم لا يعرف اسمها) تتقرّى منارات العشب تسأل عن عاشق ينثر الملح على مواطئه كي يطمس آثاره وفي الليل يدثّر نساء الحلم بعريه.

اختار أن يكون حوذيا. رفض كل المهن واعتكف في البرية يصقل حيله وألاعيبه، يتغذّى من الصبار وفطريات الجبل، وحيناً يقنص السمان بخيوطه الرهيفة. هكذا، يوما بعد يوم، حتى صار منسيا.
كان حديث الناس عند استراحات الأصيل وفي الأمسيات المقمرة. حوله حاك الرواة، حاكت الجدات، حاكت اللقالق حكايات لا تحصى:

قالوا: فتى ساحر. حوّل الدجاجة إلى تنين وامرأة الفرّان إلى بقرة. يرتقي سلالم لا نراها، يقطف نجمة ويملأ جيوبه بشهب وديعة يوزعها في مسكنه لتضيء خطواته. وعند الغسق كنا نجمع في سلالنا ما ينسكب من لهاثه بينما يعدو، ونعدو وراءه، في أروقة النباتات باحثاً عن بذرة عنب يسحر بها ملكة النحل. هوس شيطاني. مراراً أبصرناه يحوم حول مستعمرة اليعسوب يناجيها بأعذب كلام وأشهى كلام، وعندما تتدلل ينتزع من إبط النهر قرنفلة ويقدمها هدية أو قربانا. إن جاءكم يطلب رغيفا، احذروا من بطش عينيه.

قالوا: فحل لا يضاهى، بسببه لم تعد في البلدة عذارى. أي عار! أي ذل! كيف نصاهر بعضنا بعضا، كيف نصاهر القرى المجاورة والبعيدة. ما من أحد لم يرفع شراشف فضيحتنا. كان يأتيهن خلال غزواته الليلية مدهوناً بنسوغ الفحولة، عابقاً بسيرة عشاق باسلين يجوبون قباب الغابات سعياً وراء أميرات نهمات يلقحن أثداءهن بزبد نقي بحليب أنقى، وبناتنا الممتقعات حياءً المرتجفات حبوراً يسفحن فضاء الجسد لتسرح على روابيها غزالات ترفّ وجْداً.

هيا يا النبيل، تقوّس واهرق لبنك في ممراتنا. لك الثمر لك مرفأ الأفخاذ. دشّن فوق جباهنا بحيرةً من قش نستحم فيها وتستحم فينا، نكن لك محظيات وتكن لنا القبر البهي.

قالوا: هراء ما نسمع. الحقيقة مطمورة تحت قوس البئر. بيدنا نفضّ بشرة الغامض ونفشي السر. ليس بساحر ولا عاشق. يضلل أبصارنا بألاعيب رثّة يموّجها ويدوّمها لتبهر أعيننا المتأرجحة. خيّل إلينا أنه حاو، لكنا كشفناه يوم طلبنا أن تحلب أبقارنا عسلا، فكدّس في راحته جيشاً من النمل وسرباً من النحل وادعى: بعد سبع سنوات عجاف تذرف بهائمكم عسلا.
لم يقرب النساء، فقد كان يرتعش خجلا ويغض عندما ترتطم نظراته بنظرات عذراء تسأله أو تغازله. مراراً شعرنا بالحرمان الطافح على ضفاف شفتيه كلما حرك صارية لياليه المؤرقة وغذّى خياله بطيف امرأة تتجرد من أثقالها وتهمس له: تعال. حتى في تلك اللحظة لا يجرؤ أن يلمس.

ليكن – قال السمندر الصديق – لا يعرف أحد ما أعرف.
في صباحات الموج السعيد بمدخراته، بانحناءات الطل الوارف على لآليء تسرف في التغنج والبذخ، كان يقودني – خفيفا كالريح – إلى منجم النحاس المطل على البحر حيث تسكن وطاويط زرقاء لا تخرج إلا لكي تطمئن على وحيد قرن جاثم فوق جسر لولبي يرقب البحر في حسرة منتظرا ساعة انقراضه.
هناك ينصب المشاعل، يمتحن صلابة الأبنوس، ويشرع في دق المسامير. أتضرع إليه أن يخبرني عما ينوي. حازماً يهمس أن أجمع أصدافا وبقايا عجول بحر ميتة. وقبل مغيب الشمس ينتصب على شفرة الماء فاتحا يديه، مانحا مداراته لهبوب الموج يعصف بذاكرة غابرة تنتسب إلى قرصان أضاع رأسه في خلايا البحر وصار ينوس عبر أرخبيلات الزمن غريبا في دهاليز غريبة يتأبط خوذة يملؤها سراطين ومدخرات نهبٍ فما تمتلئ، والدم الوفي يجرجره سالكا مسار حلزون عبر قنوات متعرجة إلى ما لا نهاية.
هكذا خمنتُ: مثل وثني مرصع بالهرطقة سيبحر، لحظة انقلاب الموج، للقاء جده الأكبر. وما الأصداف وبقايا العجول إلا تمائم لدرء آثام حورية النار. في ساعات أخرى كان يقترض حمماً بها يشيّد اصطبلا.
أعلم أن لا حصان لديه، لكن حسبه أن يبني، ويهدهد أحيانا نومي، كي أحبه كل هذا الحب.

يوما عاد وفي جبينه الغض ينتفض البيلسان وعلى كتفيه تتدلى مصابيح تؤرجح مدائح الطريق.
بهياً عاد، وضاءً، تتبعه في وقار أربعة جياد مرقطة، مديدة الأعناق، نافرة العروق، حبلى بحمحمات مهيبة تجنح إلى القنص وغزو أحجار الجزر، ومع كل حمحمة تفيض حزمة هائلة من اللهب يحرق الهواء على مهل.
حسبوا: وهْماً نرى، حلماً نرى، لكن لا تجعلونا نصدق أن فرداً قادر أن يروّض كائنات مخلوقة من نار، مجبولة بالجنوح، ويحضرها بلا لجام ولا سروج.

لم يحك لأحد مغامرته.. حتى السمندر الصديق لم يعرف لغزه.
تركهم يتخبطون في أحابيل السر الغامض ويخوضون فوضى التأويل مثل أكباش تتناطح فوق نتوء يفضي إلى هاوية تعجّ بالجمرات. ومضى في أنفة وأبهة يواكب جياده النارية إلى الاصطبل عارفاً أنه من جديد صار محور الكون.

اختار أن يكون حوذياً يدل الأسفار إلى خرائطها، المراكب إلى مرافئها. بلمحة يصل الخليج بالخليج، بحمحمة يدرّج المصاطب العاجية ليعتليها أطفال بلون النبيذ وأطفال بلون الندى. ليس هذا فحسب! ليس هذا فحسب! بدهاء يرصد تحولات بروج السماء ويحذر المسافرين من المواقع المخنوقة بهزات أرضية.
يا لشفافية الفتى! يا للأحصنة! أي متعة تبللنا في صحبة ندماء الريح! هنا وليس في مكان آخر، يغسل الله بنباله أجفاننا.
لكنه، برغم كل شيء، لم يتدفأ بعد بالفرح. قلبه الرهيف يحتدم بحلمتيّ امرأة لا يعرفها تسفح تويجاتها في شفتيه الظامئتين وتهدل بعذوبة: أحبك. ويهدل بعذوبة: أحبك.
هكذا يعتزل في المساء، المساء الرفيق، ويحدث نفسه همساً. كان يهفو إلى زوجة، تشبه الطفولة، ترشّ حدائق عينيه بالقُبل وتغزل بيادره بخيوط المرح. يسمع، آناء الليل، رفيف أهدابها بينما تمشي في الممر، وهو متكئ على النافذة المائلة متظاهراً بالغفلة، ولا يطلق الابتسامة الخبيثة إلا حينما تميل بجذعها وترطب أذنه بحفيفها الحلو. غير أن..
رفيقان وحيدان، هو والمساء، يرميان النرد في حلبة السهر وينحدران وئيداً في صمت ثقيل.
في الهزيع الأخير، نام كما ينام الغريب مانحاً راحتيه
لدغدغات امرأة مجنحة هبطت من السقف مرشوشة بالكافور تغلف روحه بأساور من ريش،
لحجلان انبجست من المرآة وأحاطت به تغمس مناقيرها واحدة فواحدة في آبار عينيه لتروى مدائحها،
لأسماك عبرت كمائن الإسمنت وأتت تمجّد الغفوة،
لفلاحين من أصقاع بعيدة جاءوا ليحرثوا ساقه ويحصدوا البشاشة،
لأفيال بلا عاج تدفع خراطيمها عميقاً في صدره بحثاً عن نواة جنونه،
لجرار كبيرة تجرجر مؤخراتها مقتفية نهر منفاه،
لثكالى يجرّحن نومه برنين المراثي..

تاركاً جياده في الخارج
تشعل المدينة
بيتاً
بيتا

الخسوف

هي هناك .. في الشرفة جالسة
المرأة العجوز التي ستموت في يوم غائم بين مزامير أحفاد غائبين، تجلس الآن في الشرفة تلاطف زرافتها التي تمد عنقها المبقع بالحناء تأكل قبعات المارة.
ألفنا منظرهما البهيج بينما تلعبان الشطرنج وتتحدثان حديث النبات للنبات وحيناً تركعان مثل راهبتين وقورتين ترتقّان بالصلاة حشرجات قوم شاردين في الزنازن يحفرون أنفاقاً لا نهائية، قوم ممسوسين بالهدم يقتفون مجرى دم ذبيح وبمعاولهم الصقيلة يكسرون الفصول إرباً إربا.
بطيئاً تنهض العجوز تمسح الكلس عن إرث موتى وسيمين كانوا يزينون إمارتها بالضحكات. في حوض الأسماك فتيات صغيرات يرقصن.

يا لنضارتها! نعني العجوز الجميلة.
لها حظوة بيننا. نتبارى لإرضاء نزواتها، وأية نزوة حلوة في أن نقوّس ظهورنا ـ الواحد بعد الآخر ـ لتعتليها كالعتبات حتى تصل إلى عش سنونوة وتلقم أفراخها المشمش البارد. مدينون لها بما نملك. أرضعت كل أطفال الساحة، وارت أنفاسها في كل دهليز. ما من خصومة إلا وجاءت لتغسلها بالحكمة، ما من سهرة إلا وكانت تاجها ونبض مراياها.
كانت الأكثر جمالاً بين الفتيات. كل الفتيان جاءوا يطلبون ودّها ويتنافسون لكسب رضاها، لكنها اختارت الأنبل والأقوى. منحته رضاب قلبها وآوته بين ذراعيها الشهيتين.
جاء شهماً: أريد أن أكون زوجاً لك.
جاءت ندية: أريد أن أكون زوجة لك.
كان أحلى عرس وأحلى ليلة. والعريشة تشهد أنها ذاقت عسل الجنة وقتذاك.
موهوبة بالخارق منذ الصغر: تعرف أن تكلم الأشياء، تعرف أن تروّض العقارب، حتى أنها تقدر أن تخاطب الجداول بلغتها. وحبيبها لم يبد انزعاجاً بل كان ينتفض غبطة. معاً يستضيفان زنابير لاهية ويرميان فتات الجوز لسناجب تسرح عند المدفأة. علمته الكثير وأنجبت له الكثير. ملائكة توائم ترفرف في الأنحاء المكعبة طافحة بالصخب، تزقزق مختزلة المسافات واللغات.
ذات مساء تأخر الحبيب عن المجئ، كلما أرسلت عذقاً ليستعلم، أمعن في الغياب. حتى رُسُلها الجنادب عادت خائبة. رويداً بدأ القلق يشوّه قسماتها ولم تنم. مرّ يومان والحزن يكتنفها. صامَتْ عن البشاشة عن الخياطة. هامتْ شاحبة تسأل عنه الجيران تسأل الدالية: بالله يا بئر دلني إليه، يا رمل إن رأيت حبيبي خضّب معصمك بإشاراتي ليهتدي إليّ، إني مريضة ولن يشفيني غير لقائه.
عندما أحضروا جثمانه وكشفوا الغطاء عن وجهه، راعها أن يبلغ السفك هذا الحد: وجه ممزق والدم المتخثر بين أخاديده يشهد على همجية قاتليه.
صاحت: من قتله؟
أومأوا إلى الدرك الواقفين عند الباب يتهامسون ويتمازحون.
بعد أن خلت الدار، جثت قرب الحبيب واستسلمت إلى البكاء.
تمعّن أيها الغر، تمعّن في الوهج الأزرق النابع من جبينها وقل بعد ذلك إن كنا نبالغ.. ماذا ترى؟

عدتُ طفلاً أرمّم أبراج الزاجل، وفي صحن الدار تهرس أمي الحنطة. طيور ملونة تتوافد من كل حدب لتلتقط ما يتناثر من الحنطة. على الأسطح ألمح أفراساً بنفسجية تعدو خبباً مسرجة بهوادج ملآى بالأمشاط والحلي والأقمشة والدفوف، تفض منحدرات الفضاء وتصعد إلى المآذن، ترشق الطرقات بصهيل لافح أشد وقعاً من دويّ شجرة تُغتصب. لكن الذي أحزنني أنها مرّت بقربي ولم تعرفني.

أكمل، أكمل..
جاءت العجوز واستعارت قنديلاً ثم خرجت، ليس من الباب بل من كوّة في السقف. مضيت خلفها عائماً في الهواء حتى توقفت عند ساحة معتمة. أضاءت القنديل فرأيت نبعاً تسوّره أعواد قصب. اقتربتْ من النبع بخطى حثيثة وهبطتْ..

أكمل، أكمل..

دنوت وهالني ما رأيت: كانت جالسة تهدهد صدغ رجل نائم في حضنها الفسيح.. والماء يغمرهما.

عرفناه، عرفناه أباك المطارد، البالغ الجسارة، المغسول بالكبرياء. قال كلاماً اغضب الدرك القساة، هجموا عليه فصرع واحداً. تكالبوا عليه وطاردوه من وحل إلى وحل يبغون قطع لسانه.
دعنا نكمل الحكاية..
أخذناك – كما أخذتنا العجوز من قبل – إلى البحر الحافل باللآلئ. وهبناك شراعاً وصارية وقلنا – كما قالت لنا من قبل - جسّ بأصابعك شفرة الماء ترَ الأسماك من حولك تفتح لك درب البرازخ حيث اللآليء المحروسة بسيافين ترفع محاراتها مثلما ترفع الوصيفات المحتشمات براقعها وتستطلع. تحييك أيها الغريب إن نجوت من حرّاسها وأشعلت مهب آبارها الارتوازية بلدغاتك الحنونة. آنذاك تعلم أنك الجدير وأنك الباسل.

هل لنا أن نحكي عنكِ قليلا يا جدتنا، يا ربيبة السرو؟

تزهر وجنتاها شموساً أرجوانية نبعثرها في الأرجاء وقت الكسوف. نلحّ أن تحرك الماء بالنواعير المجدولة وتجلب لنا من البئر أسلافاً بلون الطحين ينفضون الغبار عن عباءاتهم المهيبة وكتبهم المهيبة. لا لم يمتشقوا سيوفهم الشوكية كما كنا نتخيل وإنما لحى حادة كالموسى ونظرات أكثر حدة وجلالة. هكذا يحتشدون على الأرصفة يقرأون الأمجاد وفوق جباههم المكشوفة نسمع رنين نواقيس تحثهم على العودة سريعا، غير إنهم يوغلون في السرد والتباهي.. قلنا كفى. وقرأنا كتاب الاحتلال وأيام المجاعة والجواسيس. قالوا كفى وبكوا. ساروا جماعات في رواق الغبار حتى طمرتهم المياه.

يا جدتنا، يا ربيبة السرو، تعالي لنبحر معاً.
هش.. لا توقظوني، إني أحلم.

أحفادي يمضون صاغرين إلى المنفى، يرافقهم جنود مرتشون. أسمع خطواتهم البليلة في صباح الصعتر والنرجس يمشون خفافاً على شفا العشب يرْشون الجنود بابتسامات شائخة. يا للبراءة!
يحاذون الأمكنة الأليفة فتغشاهم الذكرى. هنا لعب وضحك وبلاد بسعة حلم. لماذا تركتم لي مزاميركم يا أحبائي؟ لكم أجنحة يا طيور الله، إن فتحت أحداقي ساوركم الطيش وانطلقتم في فضاء الأشراك، حينذاك لن يدلكم التيه إلا إلى التيه. ها أنتم تمشون خفافاً على شفا قلبي وتجرّحون أيامي بأغلال كواحكم. استديروا لأرى جباهكم الشامخة.
قبلة لك،
دمعة لك،
حلمي كله لكم مأوى.

يا جدتنا، ياربيبة السرو، إنا نبتهل..
هش.. دعوني أحلم قليلاً.

حنوناً يحيط بي الجراد المرشوش حدساً، نقتفي مسارب حروب تركض منتضية حراباً لدنة. الجراد الأحمر، الجراد الناسك الذي يموّه سراديبه ويتعارك مع الخشخاش.
ماذا بعد؟
نعد الحساء والفاصوليا – نحن الطاهيات الساهرات – لربابنة شجعان يجرّون كلاب البحر من خياشيمها ويثيرون الفتن في المستعمرات. يأتون إلينا متعبين، ناثرين على رؤوسنا الرطبة – نحن الطاهيات المبللات بالخرز والبراعم – إشارات المضايق التي عبروها.
ماذا بعد؟
ألقي بدلوي الذاهل في نهر مندلع لعلي أستل من تجاويفه أجناساً مدججين بالعصيان لا تنقصهم الجسارة كي يضللوا الممالك بنثار حديد. ثمة صيارفة يبسطون المعسكرات كالسجاد فوق جماجم من الصفيح، ثمة سماسرة يقامرون بالدول في حلبة المراهنات، ثمة أنا أتيمن بناقة تضرّج سنامها بلحاء دُلْبٍ وتسير ماضغة بلاطاً إثر بلاط. آنذاك، آنذاك فحسب، يخرج الولاة العراة من الحمّامات مرتجفين، ولفرط ذعرهم ينسون أن يستروا عورة الولاية.
ماذا بعد؟

يا جدتنا، يا ربيبة السرو، انتظرناك طويلا.. دونك تضيع أشرعتنا. معنا نهيئ لك موتا جميلا، موتاً يليق. ألا يكفي هذا؟
دونك لن نبحر، لن يكون لإبحارنا معنى.

وأنت يا مليكنا المعطر.. يا من تمهل المسلات ثوان كي تثمر لك الزيزفون وللمملكة أبراجاً بحجم بابل، يا من تجلس في الشرفة المقابلة ككاهن يائس تغزوه الخطايا أفواجاً ويعجز أن يصدها.
يحتشد حولك اللبلاب وطاووس المهرج وأعيان الصمت ممتثلين لشرودك البائس وأنت تتعلق بذيل ذاكرة مخبولة تنحّتْ عن العرش تتوسل لها أن تغدق عليك مشهداً أخاذاً لشعب يهتف لك في ذكرى الهزائم. قلنا لك هذا مائة مرة: إنحر جدْيَك عند مصاطب رعاياك الذابلين لتنعم بالهتاف، لكنك كابرت واستشرت الجدْي في شؤون الكواكب وأملاح الشلالات. وها أنت مع الجدْي – في الشرفة – مأسورين بالخادمات اللواتي ينشرن الثياب على تخوم العالم ويثرثرن في شؤون الاقتصاد والإنجاب.

وأنت يا مليكنا الذابل، الموعود بتمرة وديك رومي، ألم يباغتك السأم بعد. لا الطاهي سيعدّ لك اللحم الساخن ولا المستشار الماجن سيهمس في أذنك عن مؤامرة دبرت لك علناً في إيوان الملكة. كلهم هاجوا في الممرات الخزفية يبغون النجاة، حتى الملكة الباكية دوماً، المغرمة بإهاناتك الملكية في الأعياد، المغرمة بحياكة المؤامرات ضدك، قد تركتك وحيداً مع أحجارك ودهائك بعد أن غطت دموعها بوشاحها المخملي. ماذا تبقى لك غير عقاقير الوحشة واشتهاء مأدبة عامرة بالتمر والديك الرومي؟

يا ملك المسلات، يا تاج بؤسنا.. هلا تنزل لتبحر معنا، دونك ترتبك جهاتنا..

هش .. دعوني احلم قليلا.

أنا الملك الخبازي أرتقي عرشي المزدحم بالعقيق وأمدّ سبابتي فتنهال من الأعمدة الرخامية سبايا بلون الفستق، مضمخات بالمجون، يشرعن في مضغ سبابتي بنهم. من يقدر أن يأكل الفلز مثلي؟ غير إني مهموم لا أهنأ بالمسرات. أنظروا إلى الأحابيل في مخدعي، انظروا إلى السفراء المرائين الناهبين أختامي. ليت رعاياي يستضيفونني ذات ليلة في أكواخهم الصفيحية لأذهلهم بلباقتي وأسليهم بحكايات كليلة ودمنة. ليتني ألتقي ذات صباح بثائر يكرهني ومعاً نخطط لقصف قصري بالمنجنيق. أعطي دروساً عظيمة في الإرهاب. أعرف أن أقود الثورة ضدي.. لكني وحيد.

يا ملك المسلات، يا تاج بؤسنا..
آمركم أن تصمتوا، إني أحلم..

أنا الملك الذي لا يفنى. طويت الإقليم كطفل وجلست على حافر الأرض انتخب بعذوبة: لماذا تصدني ملكة سبأ؟ أجد منفذا لكل كربة. غداً سأصدر مرسوماً يحرّم التناسل. لا، كثير على شعبي كل هذا الضيم. لو أجز تعاستي وابتكر مرحي لعاش شعبي في رغد.
حلمت إني ملك وما صحوت بعد. اجترحت الأعاجيب: كأن أنصف المظلوم، واسمح بخلوة لخلية سرية تعارض شريعتي.
كنت ولياً حاذقاً، ولياً ماهرا في قيادة الظلال السلوقية التي ما أن تسمع فرقعة سوطي حتى تمخر الشطآن في لمحة. إبان انشقاقات الممالك كنت استثمر الجزية – المدفوعة من قبل أميرات الطوائف – في بناء مملكة سياحية. حتى جاء ذلك النهار، نهار التقيت بقروية تحلب النهر وتملأ جرتها بفيروز الضفة: ذلك العشب الذي يسعّر النهود. اختلجتُ لحظة لمحت بياض ساقيها، قلت – وأنا أطبق أجفاني بقوة – أعطيكِ نصف مملكتي إن افترشت معي السنابل وحدقنا سوياً في لهو النيازك. لكنها حملت جرّتها واستدارت دون كلمة، إذّاك سقطت على ركبتيّ أتضور حزنا: إن مملكتي لا تساوي شيئا في نظر امرأة معدمة.
يا إلهي، لا حاجة بي إلى كل هذه الفتن كي أكون قاسيا.
إكراماً لي، أين أجد حلما عذبا يشبه روحي العذبة؟
ها وحيداً أملأ جيوبي بحبات هال وأهيم في مداخل العالم أقرع بصولجاني الذائب درجات الهياكل سابراً المعادن والزيوت، ورويداً أتشتت عضوا عضوا.

وأنت تطل من الشرفة، يا مليكنا الفاخر، تنتظر ربما حدوث معجزة ما، نخبرك نحن رعاياك الفقهاء، نحن البحارة الذين اضطهدتَ بحارهم زمناً، كيف انحرفتْ مصائرنا في عهدك:
أكلنا الحشرات المجففة، قد لا تعرف أنواعها: الرتيلاء، الجداجد، الحباحب، الخنافس. ذلك انك كنت تلتهم وقتذاك الفطائر المحلاة بالزبيب والأناناس. مشينا أرتالاً نضمد موتانا.. أولئك الذين أرسلتهم إلى الحروب وإلى المجازر وإلى الانتفاضات، أولئك الذين غاصوا برصانة في اللجّ بحثاً عن كلأ. سمعنا أنك كنت تشك سيفك في جراحنا بينما نهذي رافعين مفاتيح الأرض البور. والعواقر رفعن حجابهن وتمددن في المغاور ناشدات شفاعة من الشفيع. جندك، يا مليكنا الفاخر، لم يدعوا داراً إلا وعاثوا فيها اغتصابا ووأداً، وما سمعتَ أنّة، أو قد سمعتَ لكنك أصلحت هندامك وتنحنحتَ قائلا: ها امرأة تئن لذة.
سمّمتَ بحارنا بخميرة طغيانك. نذكر: جئتنا في بهاء الريح وأعلنت نفسك سيد المحاريث. لم نكن نملك ما نساوم عليه، لكنك ساومتنا كتاجر خبير وشكمت حججنا بذرائع عصية. أدركنا في ما بعد، بعد أن هادنت رعبنا، أن لا أمان بيننا. كلما أطلقنا نوارسنا أرديتها بحرابك. وفي المفاوز، الأكثر اتساعا الأكثر احتداماً، أحببناك يا قاتلنا الحنون، كرهناك يا حارسنا الطيب.
الملك والرعية هكذا أبدا: مشاعر مستترة، نزال أزلي، تاريخ مزور.
لا تؤاخذنا إن قسونا، قد قلنا القليل وبقي الكثير.
إن لك بيننا حظوة.

حضورك حضور قاتل، غيابك غياب قاتل، إذن عجّل بالقدوم يا ملك المسلات يا تاج بؤسنا. معنا نهيء لك ذبحاً جميلا، ذبحاً يليق.. ألا يكفي هذا؟
دونك لن نبحر، لن يكون لإبحارنا معنى.

أيتها المدينة المباركة إلى هذا الحد، الملعونة إلى هذا الحد، من أين لكِ كل هذه الأوبئة؟ وأنت تراقبين – في احتضار الظهيرة – يقظة الرماد في خواصرنا وفلول أجرام مذنّبة تتراكض هنا وهناك تهب الأمارة وتفصح عن المكنون. أي برهان أبلغ من هذا تريدين! أي علامة أكثر فصاحة وأكثر بلاغة من هذا لترفعي سراويلك وتنحدري شلواً صوب البحر المنقذ. أ محرقة؟ زلزال؟ آنذاك يفوت الأوان ولن تجدي فسحة للندب والعويل.
إلى البحر يا مدينة الأرامل والثكالى حيث المرجان المجنون يحصي على الأرصفة المائية أعداد اللاجئين إلى السفن الراسية، المثقلة حيازيمها بالبشارة. سوف تهبطين سريعا في الشيخوخة إن تماديت في العجرفة وعدم الاكتراث. ليكن هذا تحذيراً عاشرا بعدها سنبكي لأجلك.

يا مدينة الأسلاب، يا مدينتنا، هلمي إلينا نعصمك بحبالنا..
هش.. دعوني أحلم قليلا.

نبشتُ محاجر الترع كي يحظى البدو الرحّل بخيمة وزاد، أغويتهم بالبهارات وعصي الاستنباء فاستقروا في ربوعي سافحين نوقهم الصفراء بين مضارب مترعة بالجنس والتآمر. في الليل يتسللون، منتضين بين أسنانهم سكاكين لامعة، يقنصون شعبا متحجرا يكاد أن ينقرض، ويغيرون على القوافل العابرة في تشنجات التخوم. عندما ارتووا أسّست لهم البيوت ومرابط الخيل، وصاروا يتاجرون بالمصاحف والتبغ ويستوردون من الأقاليم المجاورة أراغن متباينة الأحجام. لم أكن أعلم أن نساءهم، ذوات النهود الكبيرة، بهذا القدر من الخصوبة. لكنني فرحت بالتناسل الغزير. أجيالا بعد أجيال تتوافد لتعمّر ضفافي بل وتجتاح القرى الآيلة، القرى الموغلة في الإلحاد، المتخمة بالاضطرابات، وتضمها إلى أطرافي. بهم تكاثرت، معهم صار لاسمي رنيناً مغويا: ياقوتة العالم.

لدي طوائف جميلة تتناحر كل مساء. لدي أجناس متعصبون، بارعون في الكر والفر. لدي حاكم ظالم وشعب ظالم. لدي طغاة وفلاسفة. لدي قديسون وداعرات، داعرون وقديسات. لدي تقاوم متناقضة. لدي خضار وحمضيات، طقس مخبول، مدافن أثرية، نحويون وفلكيون وجزارون ورواد فضاء. لدي خادمات زاهيات ومعاهد لغات. لدي عواصم للاحتلال وعواصم لشهوة الاغتيال. لدي مغامرون ومعتقلات، شهريار وشهرزاد، مراسيم وضرائب، مهرجون ومفكرون، قادة وحدود. لدي كل ما تشتهيه أساطيل النهب.. وأكثر.

يا مدينة الأسلاب، يا مدينتنا، نحكي عنك قليلا..

لذّ لنا أن نقارعها بالصفير والاحتجاج، مدينتنا الخلابة. كنا نفتش عن ملاذ ليّن لا يطعن ظهورنا المنهكة بالسلاسل، فماذا وجدنا؟ مراقد شبقية تلهب أكمامنا بالضرائب والملاريا. ما حسبناه فيئاً كان محض أنقاض. نقولها بعلو صوتنا: مدينتنا متخمة بالانهيارات. هكذا نفتح أذرعنا لنستقبل هبوب الانهيار الشامل.
ذلك أن العقبان الأبابيل كانت تحوم في الأعالي ترمينا بقوافل غزو تأتينا من رأس الرجاء الصالح حتى مضيق هرمز تسلب بهاراتنا وزيتنا الأسود، بينما في الداخل تفك دودة القزّ أزرار ضواحينا وتخيط أصابعنا شرنقة شرنقة. والولاة الزرائب يكشفون مؤخراتهم الملتهبة محتجين لدى الأمم: مالنا مراحيض.

هش .. إني أحلم.

أبيح فخاخي العذبة لبلشون بلوري يلطم أسماكي بساقيه الطويلتين ويفرّ، بعد أن اختلس إنقليساً، ماداً عنقه الطويل نحو سحب تهدل. ألوذ بمخازن القش وأدعو الريفيات الصافنات، ذوات الجدائل الليفية، أن يرقصن بحماسة في ترف البخور إكراماً لراياتي المرفرفة على مباني الدول المتحضرة. من يحق له أن يتباهى مثلي في معاقل الملوك؟ الصَدَفة البرية؟ قادرة أن أهاجمها بجيش من البعوض السام.
ألمح ذات الرداء الأزرق، الغريبة التي هبطت ليلا من كوكب غريب، تسوق قطيعاً من الدلافين الصغيرة. تتريث برهة وتحملق في مرآة المزين الذي اضرب عن الكلام فلا تبصر وجهها بل تلالا ذائبة تقذف حممها عند مشارف الضواحي والصبايا المعطرات في عسل الجمرات يغتسلن. آنذاك تطلق ذات الأزرق ضحكة غامضة وتمضي تسوق قطيعاً من الدلافين الصغيرة تهذي بعد كل خطوة.
ألمح جرساً هائلا يذرع الشارع مختالا برنينه وحوله يتراكض أطفال حفاة يرشقونه بحبات رمان فيضج مستاءً حتى تهدئ من روعه الكاتدرائيات المائلة كقامات مثقلة بالخطايا، لحظة تهوي الحضارات على أرفف مكتبة مغبرة، وحيناً في حوض حظيرة.

كفى يا مدينة الأسلاب، يا مدينتنا، كان ينبغي لشفرة الرؤيا أن تدمي عينيك، لكنكِ آثرت تجاهل نداءاتنا.. نحن البحارة الأوفياء. زحزحي يا قرّة العين أضلاعك قليلا وانحني علينا. ننتظرك منذ الصباح، فهلا تأتين. معنا نهيئ لك انهياراً جميلا، انهيارا يليق.. إلا يكفي هذا؟
دونك لن نبحر، لن يكون لإبحارنا معنى.

يا رباننا العظيم، هات صاريتك في جباهنا وأمهلنا بعض الوقت،
لنا خارج المرفأ عجوز مبجلة، وملك ظالم، ومدينة ترثي نفسها.
يا رباننا العظيم،
الكارثة وشيكة
الخسوف وشيك
والعالم، هذا المساء، سيخلع تضاريسه
ويتشظى دونما جلبة

ندماء المرفأ

(1)

لم نشأ، في مسيرتنا الدائخة، أن نهدهد حمّى السفر فينا. أسرفنا في التيه وما من نداوة تلقح أنسامنا. كثبان تحصى أرقنا، مسبار يراوغ أصابعنا. لكن في عين تائهة، غارقة في اليأس، يلحظ الهدهد الراصد إشراقة وألقا.
ها هنا – قلنا نحن النازحون – في قلب المفازة نعلق الحكمة على أوتادنا إمارة لوطن يتبعنا متعثراً ولا يلحق بنا. رأيناه من بُعد مثقلا بالنحيب ملطخا بالإثم، يدحرج مدنه الليفية على منحدرات الحلبات اللاهبة، فصحنا به ولم نقصد اهانته: عد من حيث أتيت يا وطن القيد والتعب، يا وطناً أحببناه كثيرا ومتنا من أجله كثيرا. أترك لنا جنازة الأشلاء، نحن البارعون في النسيان، العامرون بموهبة الاختزال.

للبحر النشيد الألف، احتداماتنا ورنين الغبار. كل مسالكنا المدهونة بزيت حوت رحيم. هو جسر الخليقة ومبدع الينابيع، إليه نهدي صدى الضحايا هاذياً بكوابيس النهار، إليه تمشي زرقة الذهب وبلورات الحديد. كل حليّنا وأبجدياتنا نسوقها قرابين لمجده. به نحتمي ومنه نحتسي رؤانا.

للبحر اللهاث الألف، وساوسنا والأنين. قسماً أن نرصّع مناراته بسبائب أفراس مجنحة، حولها ترقص فتياتنا العذبات المزخرفات بالعسل. تحت أشرعة اللؤلؤ نشعل عرسا اباحيا لا يُدعى إليه إلا الموبوء بالحنين وأوتار الغربة. نسمح لربابنة الموج، آنذاك، غزو طقسنا وسلب شيء من صخبنا.

للبحر النخب الألف، نذورنا والصليل. حباحب الليل نبعثها لتقايض مرايا الجهات: أي الدروب إليه الأكثر ألفة؟ نعرف أنها ستغرق في المرايا ولن تعود. هكذا نرسل قططا مقنّعة تضيع في نسرين الأفق، وتأتينا الأقنعة وحدها زائرات غريبات لا تقرأ وجوهنا. هكذا كل ليلة.. بلا يأس، بلا ضجر.

للبحر البعيد البعيد نشيج أحلامنا، أغلالنا والهدير.

هل حقا لمحنا وطنا يخوض دم الطريق، يحمل دلواً وباليد الأخرى يلتقط بصنارته القرى المبعثرة، أم لم يكن ذلك إلا سراباً؟
المدن – على خارطة العالم – أشبه بحيوانات جبلية تتناطح وتوقظ الأساطير من سباتها. لكن يخيّل إلينا إنا سمعنا نداءه الفاجع الذي يسيّج خطواتنا. إن جاء فسوف نفرش له سجادة ونرشّ جروحه بجروحنا، نحصي بيوته رتاجا رتاجا، نخيط شوارعه نصبا نصبا، ونصيح في هذا الهباء:
يا رب ماذا نفعل بكل هذا الإرث من المظالم؟
يا رب كيف نمنا في حضن بيت يشرشر دمه في الميزاب؟
يا رب كان لنا وطن عاث فيه السائحون والبغايا ورموز البغي.
ثم نضحك في مرح شيطاني. محض دعابة.

ها هنا: بين ثعابين تدوزن أجراسها فوق كثيب، ساحرات تلهو بأشباحها الضاجة في حقول قطن لامرئية، حلزونات سماوية تزين أجنحتها بشهب ملونة، ملوك يراقبون المشهد بريبة، مئذنة مهجورة تختلس صلاة من خيمة بدوي، أحجار لا مبالية تغفو تارة وتصحو حين يداهمها هدير خفي، ضباع جائعة تبطش بالفراغ، قمر هائج يدنّس عذرية فتاة نائمة حبلى بمروج وألعاب نارية، وطن يجرجر عواصمه الذاهلة ويلطم بها تيوس التخوم، بحر بعيد بعيد يحشد أتباعه في بهو القصر ويتمرأى في شاشة الماء مأخوذا بجمع بشرى متطفل.

بين كل هذا نجلس لنؤجج في أحداقنا فوانيس السهر. نؤرجح الأطياف، نضلل أسلاف الصحراء، ونرجو المصادفات أن تتجلى في ريف أرواحنا. ها هنا نصنع من عجين اللغة لغة أخرى. لن يفهم العبارة غير الذي يمتزج دمه بدم البحر: حارس الأشلاء، أقحوان التعب.
نسمي النار ثلجا، وتحت عريشة الرماد ننزلق في البهاء حيث مأوى الجذر الأول والفرح الطفل يمحو بمنجله عصف التشرد.
حين انتفض ضوء الزبد في صدورنا وارتعش الماء بين أهداب الليل، حلمنا الحلم المشترك، الحلم الفاخر الذي لم نحلم به بعد، ذاك الذي رشّ أنداء اللذة في أحشائنا ومضى قبل أن نراه، قبل أن نمجد حضوره، تاركاً لنا رائحته الإلهية.

(2)

بيننا امرأة تمطر شهبا وأحزانا لا تحصى, المرأة التي قابلناها صدفةً تهرول وكأنها على موعد مع حلم فريد. أردنا أن نعرف إن كان هو الحلم ذاته الذي لم نحلم به بعد. إذا أومأت بالإيجاب فسوف نجثو على سهل يدها النبيلة ونرجوها أن تحكي لنا عن كنوزه وإشاراته الغامضة، أو تأخذنا إلى رخام قلبه الطريّ لنسفح في المداخل وجوهنا المضرجة بعويل الظباء.
لكنها نظرت إلينا ولم ترنا، فغسلناها بزبرجد المساء ورصّعنا ثدييها العذبين بحليب الغيوم ثم قلنا لا يؤكل الرغيف ما لم يغمس في ملح جسدها.

مرارا شاهدناها تدخل أحلامها الصغيرة تطارد بنزق سناجب الروح، والأشجار الأليفة ذات الأذرع الحجرية الممتشقة عصافير ثرثارة، أو تستحم بغبطة في عاصفة كوكب مأهول بغيلان وديعة تكوّر النبوءات وترميها في الفضاء الأسود.
مرارا شاهدناها تخرج من أحلامها الصغيرة حاملة سلالاً عديدة ملآى بأثمار الجنة وألعاب الكواكب.
غير أننا نكتئب حين نلمح حزنا شاحباً يرسو في حوض جبينها.

كفكفي الدمع يا سيدة الصدفة، يا عاشقة الذاكرة، هذي أصابعنا نبيحها وسادة لنومك، فلربما تمسح أحجار النوم قباب الذاكرة فتنبجس البراءة الأكثر نقاء أو الإثم الأعظم، ذاك الذي يصبّ في نبع الخليقة، البداية التي ما قبلها نهاية وما بعدها نهاية، الحبل السرّي الأشد رقة وشفافية من قشرة الماء.

بوح خفيّ، بخيل، يطفر مع وميض أنوثتها. وسر العشق لم نعرفه بعد.
مرّت سحابة خضراء، كانت تنقل المدن التي خرّبتها الدسائس والحروب الأهلية، ورشقتنا بأعشاب نديّة ثم مضت على عجل. عندئد، عندئذ فقط، رفعت عاشقة الذاكرة مرساة قلبها وتعرّت في وهج أحداقنا فشهق البحر البعيد وانبثقت حولنا آبار ورد تهطل منها أكثر الروائح بذخاً.

(تعال يا قارئ أبراجنا الكسول لنرميك بلا هوادة في لغز المشهد)

- حلمتُ، ذات صباح، إني زوجة مغامر يعشق السفر. لم التق به ولم أر وجهه أبدا، لكنه كان زوجي الذي أحببته كما لو إني خلقت لكي أحبه فقط من أجل أن أظل عذراء.
أوصت الباب وأسدلت الستائر ما عدا نافذة واحدة زرعتها في حقل الليل لتكون لي قنديلا يستدرج خطواته إلى قلبي. آه لو تخترقني الأجنحة لأشبك المسافة بالمسافة وأصل إلى فردوسه أو جحيمه، أهبه القبلة تلو القبلة واستطلع وجهه للمرة الأولى والأخيرة.
قرب النافذة، بزجاجها الذي يبقعه المطر السكران بالنمش، ويكشف عن حضور كائنات ليلية تنبش الحدائق المهجورة، وأقزام يتسللون تحت موائد المقاهي ليرقبوا عن كثب نهاية العالم، أجلس وأخيط قميصاً لكائن لا أعرف إن كان رجلا أو طفلا، قديسا أو شيطانا، ساحرا أو قرصانا.. بينما تنوس سوسنة الوقت بين أهدابي.
كم هو قاس وشحيح، ذلك الحلم الذي تركني وحيدة مع خمر الانتظار!

- نحن الذين تضيئنا حمّى السفر ونبجّل المصادفات، نجزم أننا لم نره في طريقنا.
- لا. لم يره أحد قط. لكني انتظرته عاماً بعد عام مثل هاوية تنتظر حجرا ماكرا. شاخ القميص بين يديّ، ذبلت الغرفة، نضب زيت المساء، وأنا جالسة على مقعد يهزّ أشياء الكون أمامي.. سجينة حلم. وكان الغائب يغور أعمق فأعمق داخل رحم الغياب الأبكم. وحده القادر أن يحرّر روحي من الأسر.
- صفيه، على الأقل، لتدلنا القبّرة إليه.
- كيف أصف قناعاً، ضوءا يطوّق مسراه نثار عواصم رصاصية ترشقه بالخيانة. حين ارتقيت درج الدردار، حيث يلمع الفطر تحت حمحمة نجمة منبوذة، لمحت ضحكته المنمنة فارتعش ظلي. يالضحكة الغياب الفارهة! تختزن حصاد العمر تختزل هذيان الأيام، وتمدّ لي شراكها الشهية فأعبر شركا شركا وأمدّ لها مجازري فتعبر مجزرة مجزرة، ونلتقي في لهيب الحصار لقاء وهْم بوهْم.
يا ويلي، أحببت الكائن الذي ورث المدى ووهبني – ذات أصيل – سديمه ثم مضى رافعاً معوله دون أن ينظر إلىّ.
وراء ستارة السديم أهرقت عريي لعابر يطعن الطرقات بعصاه. إكراماً لي أيها الضرير النوراني، إن وجدت حبيبي عند مذبح المدى قل له أن يدخل حلمه ليراني جميلة كما يشتهي.. خفيفة كالندى.
جالسة قرب النافذة أكحل الأفق بخنشار الضحى وأزين كواحل الميادين بخلاخيل الغسق. أرهف السمع لخطى لبوءات تهبط خفافا سلالم الغابة وتحتشد أمام نافذتي. أهيب بها أن تقترب لكنها تتدرع بالريبة والحذر فأخرج إليها وأسفح جسدي كي تفترسني في انتشاء، وتشفع لي.

(3)

بيننا الرجل الذي يقطف العنب المعدني ويحلم بمأدبة وصديق ثرثار.
نعرف حلمه لكننا نجهل قدره. كان واقفا على رابية، حين رأيناه لأول مرة، حاسر الرأس وسيم المحيا يرنو إلى خيوط الشفق القرمزية فيما تلامس جبينه المكلل بالأسئلة غيمة وحيدة في هذا الفضاء الشاسع ترصع تجاعيده بلآليء الطل قبل أن تهوى كالريشة على الرمل بلا وقْع. عندما تحط الطيور على مقربة، لا تبدر منه إيماءة تنمّ عن ضيقه أو ضجره. شعوره بالفرادة والتوحد يكبح أي انفلات لطيش كامن.
صار توأم الحجارة، نقشا على كتف الطبيعة. إن مجرد حضوره في هذا المكان الأعزل، وسط روابي مصطفة كبيادق شطرنج، كان حدثا اعجازيا. وقد أذهلتنا جسارته حين رمى – بحركة مفاجئة – حصاة أصابت الشمس ففرّت في الحال. ها هو يضيف إلى معرفتنا حكمة جديدة، فالعالم ليس نتاج الضرورة والصدفة فحسب، وإنما الحلم كذلك. آنذاك صحنا به: انحدر لنجلس معاً ونتحدث.
مثل مخلوق رجيم، سُلبت منه جذوره وساحات طفولته، رفع يده ملطخا الفراغ بتلويحة متعبة، ثم شَخَصَ نحو الجبل القريب كأنما يستأذنه.. وانحدر.

المرضعات الجبليات في أكواخهن الصخرية يحلبن مأساة شعب نأى عن ميادينه الطحلبية. كم مرة اجتزنا السور الشائك، ونمنا بين سواعدهن الرؤوفة.
ابعثن لنا، أيتها المرضعات الصبورات، أخفاف أحفادنا كي ندغدغ بها الأرض فتعرف في المستقبل، حين تشم الخطى، أي فصيلة تنتمي إلينا.
لأجلكن شيدنا السرير العادل ولبسنا الأدوار: هزيمة تنكح هزيمة، حصار يتقرّى حصارا، التيجان المتواطئة تتباهى بالخيانات.
لأجلكن نسرح في المضائق نضمّد الوقيعة بلبن شهيد. ليكن الهتاف في علوّ أحداقكن لتر البيادر أي نساء أنجبننا ولنفخر في دم التضاريس وأكثرها وعورة أن موتنا هو الأرفع مجدا.
كلمنا يا رضيع الجبل، يا رفيق العقارب.
نعرف أن لك حظوة لكن نجهل سرّ هذا الشرود الذي يظلل أجفانك ويدهن المرئيات بطلاء الفحم. نصارحك بخوفنا رغم خشيتنا أن تغضب: "الخبل يترصدك بسهمه في حومة التأمل". ألا تنطلي عليك هذه الحيلة؟ إذن نكلمك بلغة الرموز: ذات مرة هبط طائر بشري عند المنارة الزرقاء التي تجاور منجم القصدير، تتبعه غرانق تمحو آثاره كلما سار خطوة. وصل إلى مدخل المنجم وذرف دمعتين ثم دخل وحده آمراً الغرانق أن تحرس ممرات الحجر. بعد ساعة خرج من جوف المنجم فوجد الطيور في مواقعها وقد تحولت إلى تماثيل. لم يلحظ تحوّل ذاته إلا حين تمرآى في وجه القمر، عندئذ أطلق صرخة رهيبة، فقد رأى نفسه في صورة كركدن.
لم يفهم احد مغزى الحكاية. ربما لأنها بلا مغزى. ألا تخبرنا إذن عن حكايتك التي لا معنى لها؟
أخيرا، كشف نقاب روحه ونثر الكلام في بئر ذاكرته.

(تعال يا قاريء أبراجنا الكسول لنرميك بلا هوادة في لغز المشهد)

كان ذلك في صيف النوارس التي تحتشد فوق الأفاريز حاملة بين مناقيرها رائحة الموج، حيث المدينة الهرمة تعتكز الأعمدة الرخامية وتجرجر خطاها مقوسة الظهر، والناس يهاجمون أنفسهم بالإسفلت في مرايا الحوانيت.
كان ذلك لحظة شهر السيّاف بطشه.. عندما اخترقت جمهور الحلبة اليائسين امرأة ذات جمال آسر، رطّبت الحلبة بنفحة آسرة. وقفتْ أمامي رابطة الجأش. قالت: هنيهة وأشعل قلبي بالعشق.
لم يكن بيننا غير دم الحجر ورماد الورد. عبرتُ وعانقتْ يداي يديها. أخذتني إلى منتزه العصافير حيث جرحى الحروب يتسكعون مع عكازاتهم وضماداتهم، حيث الأرائك الحجرية تنحر كآبتها تحت اعجاز ملوك اغتصبت عروشهم وصاروا يتملقون الوقت في نثر الفتات لرعايا لامبالين، حيث التجار العاطلين عند النافورات يؤرجحون مظلاتهم الشمسية ويأكلونها.
هناك وشوشتْ في أذني: أسكب بلا خجل حليب بأسك في حوضي وكن لي الغزو الأشرس.

إذّاك غطيت زغبها بزغبي وصرنا وحيدين في جسد الفضاء، غريبين في مائدة المرجان الملكي، يطرّز عرينا اللهاث.
سميتها جوهرة الحصاد وكانت لي الفتح الأعظم حتى إنني أجهشت غبطة. آن انداح حرير شعرها ملتفا حول سنابل الجزر امتقعنا معا وفتحت الشهقة فم الولادات كلها. تنزهتُ في نهد المحرّم غير آبه. ارتوتْ نبع الفتنة غير آبهة.. هكذا أطلقنا سراح الغواية وكنا النفحة الإباحية.

كان ذلك في حقل الفزّاعات، في صباح الحنطة والهواء البارد، عندما صحوتُ ولم تكن معي.. كأنها ضاعت في غلالة المساء.
هبطتُ عتبات الحقل ملتاعا ترافقني النبوءة المأساوية، أبحث بين وجوه النساء، اللواتي ينشرن ملابس الجنود المهزومين على أسيجة النهر، عن وجه اختلطت عليّ ملامحه. سألتهن إذا كن قد شممن فيّ عذوبة كعذوبة جسد أنثوي عابق بالنرجس. أوَ لمْ تقنص أحداقكن الذكية ظل امرأة بلا اسم تفتح أقفال الرمل بأظافر عاصفة مجنونة، حينا تكلم الاصطبلات وحينا تروض الأشجار؟ أوَ لمْ تسمعن، فيما تفركن عذق النهر بصابون أنوثتكن، حفيفا باسلا يفشي سرائر الخليقة؟

جوابهن كان صاخبا، موّحدا كجوقة مهملة:
"بلى، بلى، أفزعتنا الغريبة حين أخرجت من رحمها جنيناً ألقته في النهر ثم مرّت أمامنا كأنها لا ترانا، وعندما خضنا في الماء التهبت أفخاذنا. كان الماء يحترق".
كان ذلك في زوبعة الفصول، في عراك الطرق، حيث البهائم تحرس غافيةً أسطح المباني، والقتلى يجرون جثثهم على قصب الشوارع. العربات التي تسحبها خيول شاحبة كانت – بعد إعلان الهدنة – حبلى بالمزامير والكتب المقدسة. عند النصب الشمعية يحفر الحكماء هاوية اثر هاوية.
كان ذلك في قارعة الأسلحة. في انقلاب الحجر، عندما طاردني السيّاف وكنت في سرداب معطفه أصيخ إلى المحنة وأصنع من الفخار أطفالا يبحرون في زوارق ورقية. لما اهتدى إليّ اختبأت في الغمد.

امتدحتُ المرضعات الجبليات. تلك كانت خطيئتي. أذكر إني جلبت من الأنفاق بعض الحطب وجلسنا حول النار نتدفأ وفي الحضن الكبريتي حلمت إني أمير الجواميس البرية.
كان ينبغي أن أسبغ مديحا أبهى وأرقى شأنا، هذا ما قلته للسياف الذي زجرني، بعدها نفث في عيني كراهيته المدّخرة.
قلت: إن أجبت على أسئلتي ستندم وتلثم عنقي المجتز..
لماذا يرسل الرمل الرحيم سرطاناً ليلدغ عيني؟
لماذا تهيئ لي العذراء الشبقة سرير العفّة؟
لماذا يرصد ثوار الكلام أخطائي ؟

عندما فتحتُ نافذة قلبي، بكى السياف.. فقد رأى نفسه طفلا يلهو مع أقرانه في ساحة المدينة. آنذاك، كانت العربة – التي يجرها جواد شاحب – تتحرك مبتعدة، بداخلها رأسي المفصول، فيما يطلق سائق العربة من مزماره لحنا شجيا.

 

(4)

مرضعات المأساة

لأجلكن ندحرج قِرَبنا الثكلى. لا ماء في راحاتنا، وأصداغنا الملتهبة تقتفي آثاركن. إن كنا نمعن في التيه فلأننا خسرنا الدالية والحضن الوارف. هكذا نَحُوك الأقاصي بالأقاصي، نجيء في يقظة شرودكن أشباحا مائية لا تتقن الابتسام. لم يعد ما نفرح لأجله في هذي العفونة المدججة بالخيانات، حيث تحيط بنا الأحابيل كالأساور.
كل عاصمة توسم جباهنا بإبر الوحشة.
عرفنا، حين أطبقت الأمم أجفانها، أن الدم يغري والرائحة الساخنة تغري وأن البراءة مصيدة للبريء.
من هنا، أيتها المعصومات، بين خلجان حديدية تلوّث هواء رئاتنا، من هنا نبصر المطر الخاشع مطأطئا بين أذرعكن.
اقتربن قليلا، اغمرن أناملكن الشفيفة في ماء عيوننا لتمتحن عمق آبارها. في زرقة الأحراش رأينا المواعيد تركض عارية.

من لنا في هذا العراء الأبكم غير طعم بكائكم، يارُضّع المنافي، بين أسناننا الشائخة، نحن اللائي نطلق النشيد بعد النشيد، نحترف الانتظار والغياب.
من حافة الكهف، الكهف الأبعد غورا والأكثر ظلمة، رمينا باقات المأساة.
من أرخبيل الأفواه، أفواهنا الملآى غبارا، سكبنا حكايات الأنين:
عن النزوح المقدّس لحشود يضئ دربها الليل
عن المد البازغ من حلمة صبيّة تسوق الحجارة جنوبا
عن المعارك النبيلة ودناءة الولاة
عن مقبض اللهب، فحولة اللغة، صولجان التعب

من لنا في هذي الرؤيا المعتمة غير نجمة أنقاضكم العاجية، غير دهشة أعراس مجنّحة تسقط مغدورة على عتبات حليبنا السماوي.
وقتذاك، نستل العويل المستعار وندبّج المرثية الصقيلة..
ثم ننكسر دما دما.

 

(5)

طعنة الحلم

الحلم الذي يهزّ نفير الغزو العظيم. يباغت تنّوب النوم الحارس ويتسلل خفية مع الأسلاب: رائحة فرج، أملاح ذاكرة، نيران أدوار.

المرأة في يقظة الجذور، من تلك الشرفة العالية، شرفة الظهيرة، توبّخ زنابير اللجّ وتعود لابسةً خفّ الإباحة: قميص الهتك، حيرة العذارى إذ يلامس زبَد الذكورة حلمة اللهب.

أي انتهاك مذهل ذلك الذي حدث فجأة، وكنا نهبط آنذاك هيكل الزنجيات النهمات اللائي يرقصن عاريات بين أمشاط الرغبة ومآدب أمراء يجسّون نبض الأوثان. بعد كل هذا يسألوننا عن دروب المجد فيما يسطع زاهياً على وجنة امرأة يرشّها الأزرق بندائفه الذهبية. امرأة عادية، فقيرة المواهب، لكن انظروا إلى ممالكها، تلك الممالك الزاخرة بالسهر.

نؤجل قليلا حلمنا الفاخر، الحلم المشترك الذي لم نحلم به بعد، لنعسكر في الموقد الحامض للحلم الغازي ذاته، الصغير كزيتونة.

لا توقظوا العاشقة التي سوف تموت في نومها أميرةً. طعنة الحلم أجمل. ها هي تفتح نهديها لتستقبل طعنة الذهب. افسحوا الطريق لمداهمات الضوء واشرئبوا لتروا ما نعنيه بالخلوة الحقة حيث العاشقة تحبل وتموت في آن واحد. وإذ نهيل أنداء القرنفل على فراشة الشهوة، تطلق شفاهنا آهة الوجد، فما رأينا نضارةً كهذه، وما اختبرنا هدايةً كهذه.
أخيرا نصاهر الطقس الجذل: حضور أرامل الضوء.

(6)

رفيق المحنة

حين أسرفتَ، وكانت خطوتك تأخذك بعيدا في خضاب الأنفاق لتستخرج نثار الكبريت، دخلتَ المحنة وجئت العالم مقتحماً وحوشه.
لم تكن باسلا لنهلل لك. لم تكن رعديداً لنخبئك في راحتنا. كنتَ الجاهل البريء تخلّص الطرائد من فخاخ القنص، ترابط عند شاطيء المقهى منتظرا شبح العدل، فأشفقنا أن يأسر كاحلك قناص ماهر.
ترصدناك طويلا، وعندما حانت لحظة موتك جئنا لنقول لك الكلمة المؤجلة: أي ثناء لن يكون كافيا. أحببناك. أطعمناك، في سباتك، الأرز والزيتون. كنت لنا الصديق الغائب، الصديق الذي لم نختلط به، لكنّا شممنا لون عذابك في أسمال الهجر. نذكر خلوتنا، نحن وأنت، في ورقة القمر وكان مذاق النبيذ يرطب أجفاننا. في تلك الخلوة لم يكن أحد حاضرا، لا أنت لا نحن لا القمر، لكننا تبادلنا الأنخاب وضحكنا.
كنت تطوي الحقول بيدك الذاهلة مخلفاً وراءك عويل الطواحين. في حومة الجرح قابلت التي لا اسم لها.

قليل الكلام، كثير الصمت.. هذا أنت
تزين قبح المساء بجمال المساء.. هذا أنت
وأي ثناء لن يكون كافيا لموتك.
رضيع من سلالة الظمأ أنت
سوف تبلعك ممحاة الذاكرة دونما احتفال.

(7)

دم الطريق

ثمة عزف، جوقة، جنازة: لأشلاء المحاربين، لقباب الرخام، لثرثرة المنابر، لعصف الحلبات، لخصومة الطرق، لحديد المظالم، لسلال المرابين، لثوار الفنادق، للحصون الكلسية، للشرفات غير النزيهة، لقراء الموازين، للمخادع والأميرات والرتاجات، للجلود والأدوار، للقادة والدعاة، للمدينة التي لا تحلم.

لم يكن ذلك إلا انقلابا للجُزر. إذ تحْدق الكارثة بغرف المهرجان، نلمح وطنا يعدو خائضا دم الطريق. من ملجأنا نشايع الفوضى، نسعّر الغامض، ولا نمدّ يد النجدة لإجفاله القرى.
في مجرى الأوبئة نغسل ضحكتنا الشيطانية.

ثم كهولة تمرّغ خراطيمها في فرقعات الموت، الموت الذي يقذف جراره الكبيرة لتمتليء بلدانا وأقدام آدمية.
من كان بلا بحر تقتلعه قبضة الخراب. نعرف الآن ماذا يعني وعْد الخراب، رؤيا الوردة.
كم اغتصاباً ينبغي أن تمتحنه الأرض حتى تتدافع هكذا مذعورةً كالطريدة في جؤجؤ الفتك.. حتى تحتشد الأعمدة هكذا في نصل الحربة؟
نعرف الآن حرية الزلزلة الكاملة.
فاتحة الانهيار: عتّال يأكل لحما بشريا.
خاتمة الانهيار: نزوح جماعي نحو البحر.

(8)

الأشرعة التي تمضي مع المرافئ

البحر بتناسخاته المبهرة. هو الذات والآخر معاً: هرّة تستحيل طفلة ملائكية. إنسان يستحيل صقرا. فوق هذا كله ينحني القمر الأخضر، المسرّج بعيون الأطفال، وينتحر كل صباح.
البحر بأذرعه الحرشفية ذات البراثن الداجنة تمتد مثل جيش من اللقالق، بين أبراج المدينة، لتلتقط ثريّات منهوبة من المخازن المائية.
البحر بغضبه وتشنجاته يوجّه مجانقه لتدكّ أسطح البلديات حيث يجتمع الوجهاء بعد منتصف الليل للتآمر ضد الشعب.
البحر الوارف دعة وحنانا، الطافح سخاء، يقدر أيضا أن يحب كل هذا الحب:
آن يلاطف أشرعة حلمنا الأكبر، يغسل صوارينا بالملح، يهدي لصفرة جباهنا سواحله المتلألئة.
آن يخضّب مراسينا بصعتر الفصول، يوشّح أعيادنا بملاءة المدّ، يدهن نساءنا بحناء المرجان، ويطري خصوبة أصابعنا متمتما: لكم غبطة الماء يا أبناء السفر.

لكن لن يمنحنا كل هذا الشرف، كل هذا الزهو، إلا في قلب الحلم الأكبر، الحلم المشترك الذي سنحلم به معاً..
عندما نولد في فم الموجة.

الدليل

غيمة تطرق باباً.. لا أحد يفتح.

لا شيء سوى أصوات مبهمة تجلجل في سكون القرميد وبين شقوق الجدران التي تسند أعمدة الغرف، جاهدة أن تخرج لملاقاة أفواه لفظتها بلا مبالاة في فجر نديّ مدلل كان يلهو عابثاً بأطراف ليل يهرول ليلحق، قبل فوات الأوان، بقافلة الفصول.
همهمات تتضاءل بينما تحرث فضاء الحجر. تحن إلى الانتساب من جديد، غير أن الأفواه قد نبذتها منذ أعوام، ولم تعد تعرف أين تنتسب، لذلك تطفو في فراغ الحجر إلى أن تخرّ ميتة.

غيمة تنتظر ريثما تخفق الأبواب أجنحتها وتغادر. ريثما تفتح الشرفات أرائك الهدنة وتطرد العويل من مخدعها كي تحتفي بالغزو، كي تمجد الاجتياح العظيم. تهيب بالأشياء أن تتجانس وتهتف في صوت واحد، إيقاع واحد:
حنانيكَ أيها الغازي المهيب .. قتلا عذبا، قتلا جميلا،
قتلا لا يضاهى نرجو، لئلا يقال أنا متنا كالأفاعي،
بعد أن وارينا خجلنا في وحل الأسر.

لكن .. لا شيء، لا أحد.

في تلك الساعة من نهار مترع بالبَرد ودخان الجواميس الواقفة ترنو إلى فجر يصعد حثيثا على درجات أفق فضي يمازح أقواس قزح مسافرة،
آن تستيقظ الحظائر معاً داعية قاطنيها إلى الهرج وسحل السماد الثلجي بالأظلاف والمناقير، وفوق العتبات المرمرية تغفو ما تزال الينابيع وحقول القطن.
آن يتدافع الأهالي مشمرين عن سواعد النهب صوب التلال المحيطة تسلب الخشب المتساقط من غابة تثب في طيش هدهد من تل إلى تل بينما نفير الصيادين يطارد الفرائس من دغل إلى دغل ومن كمين إلى كمين.
آن ينثر الثلج فتات خبزه الأبيض، الأكثر نصوعاً الأكثر شفافية، على رؤوس حاسرة إلا من عزيمة أشد وبأس أشد يسكنها حلم رأوا فيه أنفسهم ملوكاً يخيطون الجسر بالجسر والمدى بالمدى ويعلنون: نحن ورثة الأشجار.
بلا هوادة يشطرون الطريق بالخطى السريعة، بالخطى المبقعة بأقراص الحلم، شاخصين نحو الأخشاب المتدحرجة – مثقوبة برصاص صيادين مهرة ودماء حارة لفرائس تخبيء رعبها ولهاثها بعيدا عن زفير الطلقات – تدوّي كدويّ ظل في ضوء رخو، في مساء بلا رائحة. ويتمتمون: سيكون ليلنا دافئا.

من شق الباب تنسل الغيمة خلسة.
ها هي الغرفة، ها هي الغرفة ذاتها بأشيائها الميتة مسدلة الغبار على عارها، بالأرفف التي استوطنتها العناكب، بالصور المعلقة الذائبة في ألوانها المغمورة بآجر يفترس أطرافها.
والنوافذ لم تعد نوافذ: محض فجوات تطل على فضاء أسود آهل بزواحف سوداء. والشرفات طارت مع سرائرها ورغباتها المزدوجة.
هي الغرفة: بكاء حلم، صراخ حيوان ليلي، بقايا ماض يلتهم ذاكرته في صخب أخرس.
في هاوية المرآة تذرف النعامة مأساتها، وبعد هنيهة تضرم في ريشها حمّى الغابات وتنتحر عارية، باردة، مهجورة.

تهمس الغيمة في انكسار: هنا فقدتُ نصف شعبي. لن أكون دليل أحد بعد الآن.

***

غبار المدائح

1- لظل المحارب

فتاة الشاطيء اللازوردي، المعطر بأنفاس عاصفة مرّت من هنا قبل ليلتين، ترشّ السمسم والعسل على كائنات البحر الأكثر وداعة ولسانها الطاهر يختلج بملح الغياب تحت مطر نيسان.

لمحناك مراراً ساهرة عند مداخن الشتاء تطلين في زجاج العتبات عسى أن تسمعي وهج دخل متواطيء مع الخطوة الضالة، عسى أن تقرأي هسيس شهقاتٍ حبيبةٍ تؤانس الهواء الرفيق. نعرف حدود حزنك المقفرة يا فتاتنا الوحيدة، الغارقة في مياه الفجيعة، يا ضمير الأمس.

ها أنتِ على الشاطيء المزخرف بالنعناع تمتزجين بفقاعات الريح الذهبية وتراقبين من هودجك الأثيري جمعاً من الأدلاء المثخنين بالجوع واليأس، من أرديتهم تتساقط أشواك الصبار وغبار المتاهة. يمحون بالهياكل العظمية آثار أسلاف توغلوا في الماضي، ويقتفون مواطيء أعراق أسرفوا في الاختفاء. ينادون حبيبك الغائب فيما يمشون في إعياء بلا إسطرلاب ولا جمهور، لا يبغون منك غير كلمة شكر أو تشجيع.

ها أنتِ وسط محارات عمياء تفتح أشداقها مغنية، وحفيف نجمة تهوي على مهل لترتطم بمعصمك، وسلاحف ثرثارة تتنزّه بين قدميك الحافيتين، وزوجات صيادي السمك اللواتي ينسجن الشباك ويلوحن لك، والحلزون المجنّح الذي يرنو إليك مفتوناً بجمالك الآسر.. وأنتِ، وسط كل هذا، وحيدة وحزينة مثل سفينة مهجورة.

نذكر لحظة وداعكِ له: ذلك الفارس الشجاع، العنيف في الحب وفي القتال، المدهون بالمجازفات. عصرت البنفسج على خصلاته وطوّقت وجهه بكفيك المخضّبتين بندى الأنوثة ثم غسلت شفتيه برضاب شفتيك. قلتِ "هذا ميثاق العشق أحفظه جيداً. فريضتك أن تطفئ مصابيحك كل غسق وتتذكرني".
وكأن ذلك لم يكن كافياً ليجعل عينيه تغرورقان بالحب، فانحنيتِ تنزعين الأشواك المزروعة في طريقه وتبسطين له الأعشاب الطريّة كي تميل بخفّة عندما يطفو فوقها.
لكنه غاب طويلا. حتى شجرة الزيتون التي كنت تسندين ظهرك إليها، أثناء ساعات انتظارك، يأست ونكست أصابعها جزعاً.

عودي إلى مخدعك يا فتاة حقلنا وأريحي قلبك من وجع العبء، فوالله إنا حزانى من أجلك ونعرف أن سنابلنا قد ذبلت من فرط الوجْد.

أخيراً،
بعد أن عبرَت الفصول الأربعة بيادرنا، جاءنا نبأ مفرح.
أسفري عن وجهك الشاحب وارفعي ذقنك العامر بالصلوات صوب تلك القمم الشاهقة، هناك حيث الجبال المتوجة بهالات ثلجية تسرح أكباشها وظباءها عند السفوح الخضراء. سوف ترين فارسك الذي تاه عنه حصانه الأصهب يمتشق قلادة – أهديتيه ذات يوم تحت شجرة الزيتون – يشق بها الغيوم الرعدية التي تهاجمه وتموّه مسالكه.

لكن ما خطب هذا الفارس الشجاع، العاشق الطاهر، يتخبط في أروقة الجبل ويترنح متحسساً طريقه كأنه ثمل، أو أعمى، أو ينوء بجراح لا تحصى. كأن الجهات تاهت عنه.
ها هو يتعثر محاذياً ظله، تارة يرافقه الحجر الودود، وتارة يطارده ذئب متخم بالفرسان التائهين.
إنه يعلم مدى خوفه وعزلته لكنه لا يعلم أن ظله وقع فريسة ذئب يحدّق في بحيرة القمر ولا يرى سوى فارس تائه ومنهك

اهدلي عالياً، يا فتاة رعبنا، كي يسمعك.

2- لنزهة الطوائف

القاتل والضحية
حول المائدة
يتبادلان الأدوار.

القاتل:
نخاطبكِ يا سيدة الصْور يا الحاملة أثقال الخطيئة.
انتخبناك مدينة لنا ووهبناك الأناشيد والمخطوطات، صرتِ بنا الأشهى والأفخم، وما طلبنا غير الأمان. لكنك نسيت. قد نقول خنت. نعلم – من السفك الذي انقض علينا بغتة – أنكِ مررت هنا وأن من مهودك المخرومة سقطت بويضات الحرب وفرّخت مسوخا تجنح إلى الاغتصاب.
تبتعدين مع بغالك الدامية متحالفة مع صمت التلال وخشونة الطقس المتقلب عبر سراديب الصحراء كأن مساً من الشرود أصابك.
أرسلنا خلفك المراثي والتراتيل لكن دون جدوى. أين تذهبين؟ أينما تذهبين يحدْق بك صغار الثعالب وبين أسنانها الشرهة يترذرذ لعاب الفتك.
من أجل بربري متجهم الوجه، شرس الطباع، أهملت واجبك وضحيت بنا. اقتفيت آثاره. علامتك: ندوب في وجه الأرض حفرتها نباله الرهيفة. عجبنا أن تذوبي شغفا بمحارب يهوي النزال وسلخ شفاه العذراوات. أي نجاة لك وأعاصير الإبادة تداهم خصلاتك بعد كل خطوة؟
عندما يموت المطر بين ذراعيك تصيرين أرملة، لكن عندما تموت البيوت سوف تترنحين هائمة بين الأضرحة.. مفقوءة العينين، ولك رائحة الخجل.
أتباعك البرمائيون – النسل الذي انتحل في ما بعد أشكال المسوخ – ناوشتهم الأشباح (موتى الحروب السحيقة) عند مفترق الطرق. كانوا ينظرون في ذهول إلى الطرقات وقد تكورت مثل القنافذ. حينذاك رفعوا أخفافهم متضرعين أن تنفخي كي تدلي الأمطار سلالمها. بعد قليل من اليأس، انشطر الأتباع إلى أحزاب وطوائف، كل طائفة مضت في طريق حبلى بالمتاريس والأسلحة. عندئذ اجتاح الرجس الأدراج وذرفت الأفاريز دماء طرية لأطفال لهم طعم الفاكهة.

الضحية:
أتكلم – أنا الطائفي الجميل – عن أعياد آكلي لحوم البشر. أراك أيها الكولونيل تخرج من ثكنة وتدلف مستعمرة دون أن تكترث بي أو حتى تلتفت نحوي مومئاً. انتظرك هنا منذ ساعات كي تدخل بيتي المتواضع لتحدثني – بالفرنسية إن شئت – عن تاريخ بلادي، وأحدثك عن الطوائف التي تتنزه مع كلابها في حلبة المدينة ليلا وتتراشق بالرصاص كل صباح.
هنا، عند المدفأة، أريك أي فاشي جميل خلقت مني.

القاتل:
يا سيدة الصوْر يا الغائبة في مدى الأرض بعيدا عن أنظارنا نحن الشعوب المنذورين للكوارث، بودّنا أن نطمس بقايا خطيبك البربري كي ترجعي إلينا وتحرسي عن كثب ضماداتنا. نفتح أنقاضنا كالجراح لتشهدي مسرى الآفات.
آن لك، آن لك أيتها القابلة أن تلملمي الضغينة بيديك الرؤوفتين. لا مجد لنا. أن تلملمي فيالق أتباعك البرمائيين وترشديهم إلى أنفاق تهدئ من سعارهم. خذيهم بعيداً حتى يتسنى لنا أن ندفن موتانا. ويل لنا إن تأخرتِ عاما آخر.

الضحية:
والنساء الصبورات – حاملات الدلاء الصبورة – كن ينتظرن عند مساقط الشلالات القاحلة هبوب الماء.
أيتها المعمّرات، قلتُ، انتخبن واحدة تمشط شعري قبل هطول الشتاء وأخرى تبيح لي وركيها.
بدلا من ذلك، لذْن بالفرار.
على الجسر وقفتُ أحرس حاجز العبور. أشعل لفافة وأرمي الأعنّة إلى غزالات هائجة ترفس أطراف النهر. كنت الطلقة الملتهبة، المليئة بالحقد دونما سبب. وجاءت صديقتي، التي التهمتُ ذات عشاء جانبا من ذراعها، وسألتها إذا كانت لا تزال تطلي جسمها بالصمغ كي تحمي نفسها من هجمات المسلحين. قالت: رافقني إلى البستان. مضينا رافعين مظلة تقينا وابل الرصاص وانزوينا في ناحيةٍ شحيحة العشب. تناجينا ثم قبلتها. وجاء ملاكان أخذاني إلى باحة مهجورة كانت في الماضي روضة أطفال، ورويدا بدأت تزدحم بمسلحين من مختلف الطوائف وصرنا نتقاتل، وعندما تعبتُ خرجتُ – يضيئني الدويّ – أفتش عن مظلة أنام تحتها. وإذ كنت ألتمس الراحة، اندفعت نحوي الأشباح الكامنة وراء النصب التذكارية وأحاطت بي، فعلمتُ إني المؤهل للامارة وإني الأمير المختار وما همني أن أكون بلا جمهور ولا معاهدات.
أقول لك هذا لتعلم أي سفاح جميل خلقت مني. وأذكر إني اغتصبت فتاة كسيحة وأحرقت جثة. أذكر إني أكلت ذراع أسير. وعندما اكتظ جسدي بالخطايا، أويت إلى كثيب وبكيت.

هكذا ..
حول المائدة يتنزهان، يطويان الحاضر ويتقاذفان بالذكريات. وحين يباغتهما الضجر يتبادلان الأدوار.

3- للماء الناسك

صاح الشهيد بأعلى صوته: قطرة ماء لأجل هذا الرضيع.

يجيئك السهم الحيّ يا الرضيع المخلوق بلا ذاكرة. بدقة وإحكام: في النحر الأخضر المتغرغر بحليب كلسي. وسوف تعود موحلا مثلما أحفادك، عبر أجيال من العطش، في هذه المفاوز التي تسمى أوطانا. وسوف تكون المبكى والمأتم و – في هذا النص – الرمز الذي لا يرمز لشيء.
وكنتَ. أنظرْ أحفادك البشريين يعبرون الشارع مكسوري الأعناق ليلتحقوا بأحيائهم الآفلة. يخرج من بين صمتهم قتيل، قتيلان، أو أكثر. كيف لا ومداهمات الخيّالة تزداد عنفا وغطرسة. وأنت. يجملونك بالدم غداة مولدك المرصوف بالنحيب حتى قبل أن تمتحن طراوة مهدك، حتى قبل أن تخترع لغتك وضحكتك المميزة. أتجمّل بالكتابة كي أكتب عن أيامك التي لم تختبرها. أنا الذي خذلته عيناه أناشدك أن تكون البؤبؤ المغامر، الذاكرة المعبدة بالمراصد كي أرى.

قدني أيها الرضيع عبر الميادين المتشيّعة حيث تتجمهر المظلات السوداء، الأغنام الحكيمة، الفتيات اللائي يزيّن أهدابهن بزمرد المنافي. حيث أقنعة المخبرين تسرف في التدفق بين رخام الأعمدة الأكثر علواً من آهات أمهات ضاعت فلذاتهن في أقبية التقويم. حيث البراءة البغي تعتقل سيدها وتمعن في إذلاله. حيث الأفيون الفقيه يسرّج الأرياف بفروض الرثاء. لهؤلاء جميعا أقول إني حامل النشيد الممجد لسفر الأحجار.

ثقتي بكم لا حد لها
لكنكم خذلتم دمي.
هكذا قال الرضيع.

وأنتَ، يا من لا وصف له، نزحتَ مقتفياً موكب الماء الراهب تتبعك عشائر النجوم بحقائبها الملآى بالساعات الرملية وبأحجار العصور. تلك آبارنا المالحة، يا الرضيع الملكي، وتلك ضرائبنا وقبّراتنا على شواهد المدافن تغتسل بدهن الانقراض. لا تقل بعد هذا أنك الشهيد الأنقى ابن الشهيد الأنقى. أستحضرك زائغاً ونحرك البهيّ يتقطّر حمائم وجوقة ملائكية تلاحق أجراسا ملائكية لتحل ضيفاً في سريري. معاً نستطلع كيف صار حال المؤسسات المتعفنة، شاشات العهر، ثوار الكلام يسار المقاهي، الجرائد الملقحة بالرشاوي، الحشد المصاب برهاب الاحتجاز. وكيف صرنا لا نبالي بالجريمة.
أقبل بلا شائبة لأجعلك الرمز الذي لا يرمز لشيء،
ولأعلن للجميع إني محبرة اليأس
وأن حديثي حديث حالم.

* * *

الطرائـد

إهداء

يهدهد هو الأسماك. يذرع الغرفة مصحوباً بإيقاعات خطواته المرهفة. يعبر المرآة ليغتسل بالدم الثاني ثم يعود ويرتمي منهوكاً، مبعثر الأنفاس. فجأة، ينهض ويصيخ لصهيل الضوء الذي يأتي من بعيد ويطعن جسد الليل بجسارة نادرة.
في النهار يخرج مدججاً بالانتماءات، أعزل من كل حماية، ويجهر بقصائد جديدة لا تدوزَن.

تسير هي بخفةٍ لفرط اكتنازها بالبهجة، والأعشاب تدغدغ باطن قدميها. من ينظر إليها يلمح بين الأهداب أوجاع الولادات كلها.. لكنها لا تكترث. حبلى بالفصل الخامس. تدير رأسها وتضحك. ثمة ريح تؤرجح أثداء الشجرة. تمدّ يدها وتقطف ثلاث تفاحات، ثم تتجه صوب البحيرات ترشها بأطفال مشبوهين يتدفقون من أناملها برشاقة.. موسومين بعلامات الخروج المحظورة.
. . . .
إليهما.. إلى قاسم وموزة.. أهدي هذه المجموعة.

موعد للقاء، موعد للفراق

كانا جالسين في الكازينو، تفصلهما طاولة عليها كأسا عصير برتقال لم يُمسّا. لم يكونا وحدهما، رغم هذا ظلا في منأى عن الضجيج والهمس والحركة التي تنتشر عادة في مثل هذه الأماكن. انتقيا الوقت والمكان ولم يقتنيا الكلام الجاهز.
انحسرت الأصوات، ترذرذت الكائنات المحيطة بهما. وحدهما يسكنهما الصمت والانفعالات المطمورة في العمق. لاذا بالذاكرة، التي تنتعش عادة في مثل هذه المواقف، يتنفسان بها ومن خلالها، فما عادت اللغة بقادرة على فتح باب المواجهة الشجاعة. ثمة أعمدة تأسست وجسور شُيّدت، ونسفها الآن يتطلب جسارة لا تراوغ. من منهما يقدر أن يصهر ألفة الأيام الماضية ويمحو فصول المواعيد ولهفة اللقاء وأمسيات الانتشاء وبهجة السير في ردهات الحلم؟
حدّقتْ في عينيه، غارَتْ، أسْرَتْ عبر ينابيع عالم علّمها كيف يتأله الكون بكائناته ومنحوتاته، كيف يتألّه الحب في مرآة العاشق. تنزّهتْ في حقول وغابات مملكة بايعتها ملكة وأورثتها كل كنوزها وعروشها. عينان كانتا أفقاً لا يُحد تشتعل فيهما أطراف السواحل المزدحمة بمراكب العرس، الضاجّة بالموائد والكرنفالات. مسافات عبرتها ولملمتها بين راحتيها ثم تأبطتها.. ككتاب، كذكرى، كجسد صغير جميل يغطيه زغب ناعم. زرافات كانت شعل السماء تهطل برفق وتوءدة فتتوهج أعواد القصب وفوهات الكهوف لتضيء محيط المحيط وأصقاعه.
منذ وقت قريب فقط اكتشفتْ مدى هشاشة الحلم وعرفتْ أن اللحظات التي اندلعت مثل الشهب قد أسدل الليل عليها معطفه، وانطفأت.
حدّقَ في عينيها وأبصر ماضياً يمضي مترجلاً، واضعاً يديه في جيبيه، ووئيداً يمشي نحو أطلال تطل على سنواته في حياد دون انفعال، عائداً إلى طريق أليف تآلف من قبل مع إشاراته ورموزه وذكرياته. هنا ابتسمت له لأول مرة / هناك عانق كفها / في سفح النهر همست: أحبك / على السرير بكيا معاً.
والآن، جالس هنا، لا يسمع غير صدى جرس ذاكرة يرنّ يطنّ يئنّ، ولا يسمع غير حفيف غيمة اكتنزت بالشفافية التي كانت تحرس مواطئهما وتظلل جسديهما. حتى الغيمة سلبت منهما تلك الشفافية وغادرت.

ماذا ينتظر هذان المخلوقان الجميلان كي يعلنا انتهاء مواسم ثمار الحب؟ كلمةً تفضّ جذر العلاقة؟ هدهداً يقطع الحبل ويقرأ خاتمة الطواف؟
إلى متى يتواريان تحت منحنيات الهدنة يهادنان انعكاسات ظلال الصور القديمة ولا يكسرهما الانحناء؟
أخيراً قامت، وبوقوفها شطرت كل الأشكال التي رسماها سوياً. عندئذ تعرّى الجسد من الوشم، تعرّت الأماكن، طمست الطرقات رفيف رجل وامرأة اعتادا السير معاً، كل منهما يحتوي خصر الآخر بذراعه ويلهجان بألق الآتي. رذاذاً سقطت المرآة فتناثرت الانعكاسات وذابت الصور.
راقبها وهي تغيب، تغيب، تغيب.. ثم نهض بدوره وغاب.

في هذا المكان، جاء الرجل، بعده جاءت المرأة. مكثا جالسين دقائق ثم مضيا كلٌ في طريقه دون أن ينطقا بكلمة.

المطهر

قبل أربعة أيام، استيقظ من نومه في الصباح الباكر، اغتسل، ارتدى ثيابه، وخرج. في المساء عاد يحمل لفافة بداخلها طعام، أكل، استلقى على فراشه، دخّن عدة سجائر أثناء تأمله السقف، ثم نام. قبل ثلاثة أيام، استيقظ من نومه في الصباح الباكر، اغتسل، ارتدى ثيابه، وخرج. في المساء عاد يحمل لفافة بداخلها طعام، أكل، استلقى على فراشه، دخّن عدة سجائر أثناء تأمله السقف، ثم نام. قبل يومين، استيقظ من نومه في الصباح الباكر، اغتسل، ارتدى ثيابه، وخرج. في المساء عاد يحمل لفافة بداخلها طعام، أكل، استلقى على فراشه، دخّن عدة سجائر أثناء تأمله السقف، ثم نام.

بالأمس تأخر في النوم ولم ينهض إلا في الساعة الحادية عشرة، لم يبد عليه الاستعجال. حينما ارتدى ثيابه اكتشف أنه لم يحلق. دخل الحمّام وبدأ يحلق بالموسى. لم يكن ينزع الشعيرات بالطريقة المعتادة بل كان يجتثها بلا اكتراث بضربات عنيفة شقّت الجلد في أكثر من موضع، وراح الدم ينزف بغزارة ويتدفق على ثيابه. عندما انتهى، خرج من البيت دون أن يمسح الدم ودون أن يغيّر ملابسه.
في الطريق كان المارة يتطلعون إليه باستغراب وفضول، غير أنه لم يأبه لهم ولم يعرهم التفاتاً. كان يسير مرفوع الرأس، مشحوناً بالكبرياء والتحدي، مثل قائد مزهو يعود إلى موطنه، بلا جند ولا رايات، شاهراً انتصاره، مكللاً نفسه بالمجد. إنه يعبّر عن ازدرائه لكل من يصادفه، من بشر وحيوانات وأشياء، بنظراته الباردة والتواء شفتيه. بوسعه أن يركل قطة بلا خوف من راصد يذكّره بالأعراف والقوانين. بوسعه أن يهجم على شرطي المرور. بوسعه أن يلجم الإسفلت ويحيله معجوناً يكوره ويقذف به على سطح عمارة يفجرها. لكنه لم يفعل شيئاً من هذا القبيل، إنما ظلّ سائراً.
شعر بسخونة الطقس وأيقن أن الشمس ترشقه ـ وحده ـ بحممها. هذا ضاعف من اشمئزازه وازدرائه بكل ما يحيط به: باطل كل شيء، أعمى من يبصر، أخرس من يتكلم. وهذه الهيولية تجرف البلهاء في دوامة لا مستقر لها. ها هي قطعان الخراتيت تتساقط من السماء بلا توقف، والبحر يرسل حيتانه إلى البر جيوشاً غازية، وأسراب النحل تنهش الجلود بشراسة. إذا كنتُ أطبق شفتيّ فلأن فمي مملوء بالطين، وإذا كنت أسير هكذا فلأنني اتخذت قراراً حاسماً تجهلونه.
عندما رأى الباص قادماً، قذف بنفسه فجأة في الشارع وارتمى على الإسفلت مانحاً جسده الهزيل للعجلات الثقيلة التي شطرته إلى نصفين.
الذين شاهدوا الحادث أقسموا أنهم سمعوا الرجل ينشج، قبل أن يرمي بنفسه، وأن دموعه فضحت المظهر الذي كان يتقنّع به، فبدا كطفل ضائع فقد أمه في محطة ما.
هؤلاء المارة لم ينتبهوا لوجود كهل أعمى يحاول، دون جدوى، عبور الشارع في الجانب الآخر من الطريق، فالسيارات المسرعة كانت تباغته بعوائها وتجفله، وحين ييأس من العبور يجلس على الرصيف ويغني أغنية حزينة.

امرأة خلف النافذة

الوقت فجر، والندى ينحدر ويتدحرج جذلاً على زجاج النوافذ، والطرقات تستحم بالضوء الذي بدأ يبث فلوله في الأرجاء بينما العتمة تلملم بقاياها تأهباً للنزوح، والحارس يغفو واقفاً في زاوية متكئاً على بندقيته التي تحرس نومه من عبث الأشقياء واللصوص، والحدائق تنضو عن أشجارها ونباتاتها هذيانات الليل فهذا النهار الطالع يجس الأغصان ويمس الأوراق المرتعشة بعذوبة مباركاً تزاوجها بالتربة الحبلى، والطقس المعبأ بالنسمات الباردة يتسرب من خلال الممرات مخفوراً بصفير شجي كأنه صادر من مزمار جبلي متوحّد بالمرتفعات والمراعي، والكلب النازح يغير سكناه مراراً ولا يستقر، والعتبات محفوفات بأوراق جرائد لها خشخشة مميزة، أما السكّان فقد باتوا في غرفهم نائمين إذ لم يحن بعد أوان خروجهم.
في هذا الوقت، حيث يرضع السكون ويختلي الهدوء بنفسه وتخلد الأحياء للراحة، في مكان أعزل إلا من حركة الأشياء المبهمة اللامرئية.. يزحف على الأرض شاب ملتح ينصهر في داخله ألم رهيب ينبجس من الفم أنيناً زفيراً بفعل المقاومة التي يبديها منعاً للضعف أن يتجسد.
إنه يدرك جيداً استحالة وصول الاستغاثة، فلا أحد يصغي، والنزف أرهق جسده وعطّل عضلاته. لقد أطلق الصرخات فور تلقيه الطعنات لكن لا أحد استجاب. تركوه أمام نصل رهيف بالغ القسوة والضراوة يغوص في اللحم بمرونة، ولم يخفّوا لنجدته. تظاهروا بالسذاجة أو بالجهل.
مضت ساعات على محاولة الاعتداء، خلالها رسم الدم أشكالاً غامضة على الأرض والجدران، أشكالاً مبثوثة هنا وهناك. وصل إلى جدار آخر، بمشقة تمكن من إسناد ظهره، تنفّس ببطء ثم أزاح كفه التي تستر جرحاً غائراً في بطنه.
لا جدوى من الزحف بلا هدف. سينتظر مرور عابر سبيل ينقله إلـى المسـتشفى. هكذا مكث في مكانه، مثقل الجفنين، هش البدن، خائر الأنفاس. لم يعرف كم من الوقت ظل هنا، لقد فقد القدرة على تحديد الفترة الزمنية التي تفصل بين ارتخاء الجفن وإيماءة الإصبع.
أدار بصره يستكشف المكان. طريق عام، من المؤكد أنه سيستقبل بعد قليل أفواجاً من الناس، وفي مواجهته مبنى سكني. رفع رأسه بحركة متمهلة يستطلع طوابقه، الأول.. الثاني.. الثالث. توقفت نظراته فجأة عند الطابق الثالث.
هناك، خلف نافذة مفتوحة تقف امرأة. إنها تنظر إليه. هل ما يراه حقيقي أم محض وهم؟.. ارتاب ببصره في بادئ الأمر، لكنه عندما ركّز بصره رآها تبتسم وتؤشر له طالبة منه أن يصعد. مدّ ذراعه بصعوبة محاولاً أن يترجم لها ضعفه وإعياءه وعدم استطاعته الصعود. رغم ذلك لم تتزحزح. ربما لم تبتسم، ربما لم تؤشر، ربما لم توجد على الإطلاق. نفث زفرة موجعة وألقى برأسه على صدره.
مديدة هذه اللحظات تضجّ بالهواجس والأوهام. ها هي الدروب تنسل من الجرح: بيوتاً، شوارع، ميادين مصبوغة بالأحمر. تلتئم الثغرات، لا جرح لا نزف، أنامل من ثلج ترسم سريراً وفضاء. امرأة في هيئة غزالة تنسج له قميصاً من الحرير. تهوي النافذة إزاء قوة البصيرة أو رهافة الرؤيا فتسطع المرأة، في هذه المرة تلبس تضاريس بحر لا يُحد. والريح أيضاً تقاسم البالونات أعيادها. لكن بغتة يجيء.. موت، موت، موت.
رفع رأسه مرة أخرى، فرأى المرأة لا تزال واقفة خلف النافذة، تنظر إليه. حينئذ انفرجت شفتاه عن ابتسامة متعبة.. لقد أيقن أن ما يراه ليس وهماً.

العرض الأخير

دبّابة تجوب المدينة.
ازدحمت الشرفات بالأفراد، تدفق الناس من المقاهي والمحلات التجارية وصالونات الحلاقة، توقف الحرفيون والبناؤون وعمال المجاري والصيادلة عن العمل، هدأ صخب الصبيان.. جميعهم اجتاحتهم المفاجأة ومدّوا أبصارهم وأعناقهم يستطلعون الحدث الغريب.. حتى الحمام أدرك بالفطرة غرابة المشهد.
للدبّابة هدير مرعب. تفسح السيارات الطريق فتحتل الأرصفة. وعلى الأرصفة يُصرع المشاة دهساً أو رعباً.
احتشدوا جماعات جماعات، رغم قانون منع التجمع. فاضوا في المناطق. لم يبق موضع لم تغزوه قدم. التساؤلات تسرح بحرية بين الشفاه و تجتر نفسها بدون ملل. نسوا كل ما يتعلق بهم و لبسوا روح الفضول. نادرة هي اللحظات التي تنكسر فيها الرتابة وتتجلّى فيها الظواهر الخارقة. اليوم ضاقت بحق المساحات المخصصة للفرجة واتسعت أقواس التكهنات والاحتمالات، انتعشت أيضاً المراهنات. راهنوا على هوية الكامن في آلة الحرب.
الدبّابة تقترب من الساحة العامة، تدلف، تدور دورة ثم تتخذ موقعاً لها في منتصف الساحة.
اكتساح لا مثيل له. جاءوا، مسكونين بالغامض. تجمهروا، مأخوذين بالمشــهد. تكاثروا، مدججين بالرغبة في هتك السر. يتفيأون تحت أقاويل تبلبل وتضاعف حيرتهم. توقعاتهم لا تخدم بل تشوش. مشرئبة هي الأعناق تتلفت تلتف تلتحف الحدس والهجس وتلامس مثيلاتها هامسة: ماذا بعد؟
الأيدي في الجيوب. أسنان تقرض أظافر. جسد مذكر يستغل التجمهر ويلتصق بجسد أنثى. دخان سيجارة يتلوى حتى يتلاشى. أفواه تنفرج تتكلم كلاماً لا يُسمع. احتكاك المؤخرة بالحوض يبعث في العصب النافر نشوة غامرة. أصابع رشيقة تنسل خلسة لتلتقط محفظة من جيب مجاور. جسم طفل يمتطي كتفين قويتين. مشط يمشط شَعراً.
قالوا:
ــ هذا عسكري ممسوس، فَقَدَ طريقه إلى الميدان.
ــ مجنون يعلن جنونه بطريقة مبتكرة.
ــ ثائر مأخوذ بالعنف.
ــ رب عائلة يحتج لأن الأسعار مرتفعة ووسائل النقل نادرة.
ــ عاشق مخبول لا يملك ثمن حصان.
ــ إنسان آلي.
ــ مواطن صالح يتباهى بوطنيته.
شامخة تقف الدبّابة، لا نظير لهيبتها. ثابتة، مسلّحة بالحديد، يضطرم في جوفها لهب، كتنّين بعث نفسه من الرماد المنقرض واستحضر كل جبروته ومكره، كبركان.
شيئاً فشيئاً استوطن الجمهور المحتشد في أرجاء الساحة خوف مبهم، رهبة لم يختبروها من قبل، رعشة بدأت تسري في الأعصاب. لقد داهمتهم هذه الأحاسيس منذ أن راودتهم الشكوك حول الهدف الذي من أجله جاءت هذه الآلة الرهيبة. لماذا لا يُظهر نفسه هذا المجهول المحصّن بالحديد؟
مرّت دقائق بطيئة، ثقيلة، ساد فيها الصمت وتجمّد خلالها الحضور. كبتوا أنفاسهم وتوسّلوا سراً أن يطل المجهول من كوّة مقصورته ليوضح المسألة.
بدون إشعار، بدأت الدبّابة تقذف من جوفها سيولاً من النيران، مصدرة صوتاً مدوياً هائلاً بين الحين والحين، فتعالت الصيحات ودبّ الذعر بين الجموع وانهارت الأبنية وتمزّقت الأوصال وتكدست حشرجات الاحتضار.
كان قصفاً مريعاً شمل كل الجهات دونما تمييز أو استثناء.

البـاب

عندما تدخل ذلك الزقاق وتعبر الممر الطويل الذي يعجّ بالمساكن الفقيرة، حتى نهايته المتفرعة إلى طريقين جانبيين، ثم تنعطف يميناً، سيلوح لك مخلوقان قابعان على عتبة دار متهدمة، معتمة، آيلة للسقوط. وكلما تقترب أكثر تتوضح وتتحدد الملامح بشكل جلي، وستشعر بالخوف. مهما بلغت درجة جسارتك فأنت لا تستطيع أن تواري الرعشات النابضة في شرايينك، ومصدر الخوف ينبع من تلك السحنات التي يلبسها هذان الآدميّان. لكن حينما تخترق هذه المظاهر وتتمعّن في الكامن وراءها فإن الخوف سيتلاشى ويحل محله شعور بالإشفاق أو الرثاء.. هذا إذا افترضنا أنك حساس للغاية.
تمعّنْ جيداً،
رجل جاوز الأربعين، عيناه زائغتان ينسكب منهما ماء وفير. دموع ممزوجة بالماء. الفم معوج يسيل من زاويته لعاب يسري متخللاً شعيرات اللحية التي أضحت رمادية نتيجة التعرّض للغبار وعدم الاغتسال. يهمهم. همهماته غامضة. يده اليمنى مشلولة أما اليسرى فترتجف بشكل سريع لا يمكن السيطرة عليه أو ضبطه. ساقاه ضعيفتان تبرز العظام فيهما كنتوءات.
تمعَنْ جيداً،
امرأة في الثلاثين ربما، شعرها أشعث خشن. عظام وجنتيها ناتئة وجلد خديها غائر معطياً الوجه شكل مثلث. السن الأمامية بارزة كالناب. هيكلها هش هزيل معرّض للانكسار بمجرد ملامسته، هكذا يوحي لك منظرها وتستغرب كيف يمكن لها أن تحرك هذا الجسد دون أن تخشى الوقوع. إنها تدير بصرها في كل ناحية من غير تركيز على هدف معين، ولا تنطق أبداً.
قد تتجه عيونهما نحوك لكنهما لا ينظران إليك، لا يبصرانك، لأنك لا تعني شيئاً بالنسبة لهما. أنت، في أحداقهما الآن، تتساوى مع الحجارة والورق المقوى والمسامير. لا أنت ولا أنا ولا الآخرون نملك تلك الكينونة التي نعتز بها ونفاخر بها. صرنا في هذه اللحظة بلا معنى، مجرد أشكال غير مؤطرة، خميرة هلامية يمكن العبث بها وإذابتها . حتى وجودهما لا يعني شيئاً.
ها أنت ترى الفجيعة أو الندم أو القهر أو الشكوى. كل تعبير وكل صورة تبدو مجسمة.
أنت، باختصار، ترى المأساة.
هل سيظلان هنا طويلاً؟
حتى تغيب الشمس. عندئذ سيدخلان دارهما المغلفة بالعتمة والوحشة، ويعودان إلى الرحم الذي يقذفهما ثانية في الصباح التالي. والباب يظل مشرعاً دائماً.
ما الذي أوصلهما إلى هذه الحال؟
تلك حكاية طويلة.

طفلة

لم يكن عادياً ذلك الضباب الذي احتل المدى، في تلك الليلة، وانتشر في أرجاء المدينة. كثافته عطّلت حركة المرور وأغلقت الحوانيت وأرغمت الناس على اللجوء إلى منازلهم. خلف النوافذ تحصّنوا يرصدون هذا النسيج المتشـــابك الهائل، هذا الزحف الفريد الذي نثر فلوله أفواجاً لترابط في الممرات والأزقة والساحات والميادين.
لم يصادفوا ضباباً كهذا منذ زمن. غداً عندما ينقشع سيتذكرون الليلة ككابوس أو كغزو فضائي أو كبطاقة دعوة للتوحّد بعثتها الطبيعة. الآن، يراقبونه من خلال الزجاج، وحيناً يتبادلون الحديث عن الطقس والعشاء والسهرة المؤجلة.
آثروا البقاء والتمترس خلف قلاعهم الآمنة. لم يجرؤ أحد على الخروج سوى الشحاذة الصغيرة.. لأنها لم تكن بالداخل، لأنها اعتادت النوم على الأرصفة وعتبات البيوت، إذ لا أهل لها ولا مأوى.
عندما رأت الصغيرة الضباب قادماً نحوها اغتبطت وانتصبت في وسط الطريق مرسلة ذراعيها تستقبل زبَد الهواء وروح الثلج. لم تجبن أمام الزحف الوديع، الاجتياح العذب، بل أباحت نفسها ـ بطواعية ولهفة ـ للأسر.
سيحتويها المدّ الساحر، وستصبح إحدى ذرّاته. حينئذ ستتجول بحرية في كل الأقاليم، تسمو تحلّق تنحدر، لن يزجرها أحد. تقدر أن تصير فراشة إن شاءت.
هكذا وقفت بثبات، وما إن لامست الطراوة وجهها وباقي أجزاء جسمها حتى اكتست بجلد جديد أبيض، كأنه من ضوء. كانت الأنفاس النديّة قريبة منها، قريبة إلى حد أنها تستطيع أن تشمها، أن تتّحد بأنفاسها. شعرت بالجزئيات اللامرئية تتغلغل في خلاياها. كان احتواءً اندماجاً اتحاداً حميمياً. بالتدريج خفّ وزنها، تقلّصت أطرافها، تضاءلت. صارت بحجم جنين، فقطرة، فذرّة.. ثم تلاشت.
سكان البيوت المحيطة اضطربوا حينما شاهدوا الضباب يغمر الطفلة. كأنه يمتزج بها، كأنه يبتلعها. ولما تبدّد الضباب خفقت قلوبهم وارتجفوا لأن الصغيرة لم تكن في موضعها. اختفت في ثوان. اختُطفت. هي الآن في جوف الوحش.
في اليوم التالي عاد طقس المدينة إلى صفائه وهدوئه، وخرج الأهالي يبحثون عن الصغيرة لكنهم لم يعثروا عليها. ظلّت حديث الناس لعدة أيام ثم نسوها.
بعد ثمانية أيام، توقّع مركز الأرصاد الجوية حدوث ضباب خفيف، لا يُقارَن بذلك الذي اكتسح المدينة، و أكّد على عدم خطورته.
في المساء، بينما كانت عائلة ما تتناول عشاءها، سمعت طرقاً على الباب. نهض أحدهم ليرى من الطارق. عندما فتح الباب لم يجد أحداً، غير أنه لمح ضباباً يبتعد مسرعاً.. متقمصاً شكل طفلة يتطاير شعرها في الهواء.
الكثيرون سمعوا الطرقات في تلك الليلة، وأبصروا ضباباً على هيئة طفلة.. بل أن بعضهم جزم أنها الشحاذة ذاتها.

في محطة قطار.. ليلاً

ــ عم تبحث يا جندي؟
ــ خندق أو ثكنة.. ما شأنكِ أنتِ؟
ــ أراك مثقلاً بالتعب. لم لا تذهب إلى البيت و تنام؟
ــ لا بيت للجندي يا صغيرة.. يجب أن تفهمي هذا. قلب الجندي مأوى للعصافير، ومأوى للرصاص أيضاً. أنظري إلى خوذتي المتوّجة بالأغصان، هنا تبني العصافير أعشاشها. لهذا ينبغي أن أكون حذراً، حتى في حديثي مع الصغار أمثالك.
ــ ماذا تعني؟
ــ لن تستدرجيني للإفشاء بالسر. مع ذلك سأقول لك، البراءة شرَك يكمن وراءه صياد ماهر.. ببندقية صيد قديمة، لكنها فعّالة. هكذا قال العريف. هل أنت مسلحة؟
ــ لدي سلة بقيت فيها تفاحة واحدة. أكلت جميع التفاحات بينما أنتظر هنا.. سأعطيك نصفها.
ــ لا بأس. حتى الجنود يجوعون أحياناً. سأجلس معك قليلاً ثم أتابع سـيري.
ــ منظرك يثير في النفس الأسى.
ــ حقاً؟! أخبريني، ماذا تفعلين هنا ليلاً.. في محطة قطار هجرتهـا حتى النواقيس؟
ــ جميع الأهالي ذهبوا إلى الميدان يتفرجون على الحرب، حتى أبي وأمي وأخوتي. قالوا: اليوم عطلة والجو لطيف، لم لا تأتين معنا يا هدى. لم أذهب. مكثت في البيت وحيدة ثم قررت أن أسافر، هكذا جئت إلى هنا ولم أر أحداً. يبدو أن السائق في إجازة.
ــ إذا ذهب إلى الميدان هو الآخر فسيعود بعين واحدة. أعرف هذا. الحرب لعبة عنيفة، لا يشترك فيها إلا ذوي العاهات. ذات مرة اخترقت بطني رصاصة وخرجت من ظهري.. لهذا أضل طريقي دائماً.
ــ منذ العصر وأنا هنا. ربما سيطول انتظاري.
ــ هدى!
ــ نعم.
ــ اسم جميل.
ــ وأنت، ما اسمك؟
ــ 69600، هذا رقمي. لا اسم لي.
ــ غريب! كيف تجوب الحقول والأرياف بلا اسم؟.. وعندما تهبط العصافير لتخاطبك فلا تقدر لأنها تجهل اسمك. والجداول أيضاً. وعندما تناديك أمك لتفرك أذنيك بسبب الشقاوة؟
ــ لا أهل لي ولا أصدقاء. المدافع وحدها تخاطبني، وأعرف أن أكلّم الأعداء.. ببندقيتي هذه.
ــ عندي فكرة، لم لا نمضي الوقت في اللعب.. حتى يأتي السائق على الأقل؟
ــ نلعب؟ والحرب؟ لا يا صغيرة، لدي ما هو أهم من هذا.. الواجب.
ــ الحرب هناك وليست هنا. و هي تستطيع أن تنتظر قليلاً ريثما تصل إليها.
ــ أخشى أن يخدعني كلامك، رغم أنك طيبة وعطوفة.
ــ إذن، انزع خوذتك وأرديتك الثقيلة.. هكذا.. بعد قليل ستبدو كالريشة.
ــ كالندفة. أشعر بأني سأحلّق إذا لم أنتبه. خذي بيدي يا صغيرة. جيد.. اتركيني الآن.
ــ لا تركض.. اختبئ في المقصورة.. هنا.. لقد وجدتك.
ــ تضحكين من القلب. علّميني.
ــ لا، ليس هكذا.. أحسنت. هل نستمر؟
ــ تعبت. تعالي نجلس على المقعد. أشعر بالنعاس يدب في رأسي ويثقل جفني.. لكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير بالحرب التي تنتظرني. لا بد أنها غاضبة مني الآن. لن أحصل على الحلوى إن لم أذهب.
ــ لا تقلق. ضع رأسك في حضني ولا تفكر بشيء. أغمض عينيك وعد صغيراً.. صغيراً كما كنت قبل سنوات وأنت تخرج من البيت وتذهب إلى المدرسة وتتنزه مع أبناء الجيران عابرين الجسر القديم. ابتكر لنفسك اسماً تناديك به أمك والعصافير وأزهار الحقول. أغمض عينيك ونم.

جسدان

نداء أنثوي ونداء ذكوري التحما في عناق حسّي تجرّد من كل الأثقال والمحرّمات، فسطع العري كأبهى ما يكون، رائقاً نقياً، حينذاك لم يهتز السرير والسقف والمرآة، ذلك الاهتزاز الصاخب الأليف، بل اهتز الكون نفسه. فأمام جسـدين عاريين تستعرّ فيهما الرغبة وتتألق فيهما الشهوة العذبة، تنتفض المرئيات وما لا يُرى بالعين المجردة.
يرتجف الثدي عند ملامسته إصبع ذكر يجوس الصدر الناهض وينحدر على مهل جاسّاً نعومة اللحم حتى يركن إلى السرّة يستنطقها فتطلق الشهقة تلو الشهقة، وتتهجى الشفاه أبجديات الالتحام بينما ترتشف عصير الجسد قطرة فقطرة وتشمّ عطر الإبط والساعد والشَعر. والشعر الطويل يتماوج على الكتف، على الملاءة، ينداح مع حركة الرأس اللامستقرة ومع طيش القُبَل.
معصوبة الأعين بألوان قزحية يبزغ من خلالها الحبيب/ الحبيبة كشكل ضوئي يحرّض المحيط على التناغم مع إيقاع الحركة اللاهبة المجنونة، العظيمة بجنونها، الفريدة بتشكيلاتها.
التقاء عضو بعضو، ثم النأي، ثم العودة إلى النبع، إلى الجذر، إلى المطهر.. حركة تبدع فوضى جميلة وتولّد حركة أخرى أكثر تنوعاً في تغلغلها في العمق وانسحابها إلى مشارف الفوهة المبللة بماء الخلايا.
والأيدي تتشابك بقوة حفاظاً على هذا الاتحاد المذهل فتندحر أغلال الجسم المحنط، الآمر الناهي، تتفجر المكبوتات، وليس ثمة جسر فاصل.
أنوثة مغمّسة بماء الورد، بالشهوة، بالكبرياء، باللغز الغامض.. بوصلتها نهدان نافران يحتكان في ألفة بصدر نبت فيه شعر ناعم كالزغب. و آن تنزلق الأنامل فوق الردفين المتكورين، يعربد الخصر وتتلاثم الشفاه دونما لجم. تلفح الأنفاس بعضها بعضاً ويصير الفراش مسكناً للشهوة التي تتفتق وتنفلق براعم براعم، وموطناً لوجود جديد أو حالة جديدة تتخلق بذاتها ولا تنتسب للحالات المبتذلة.
رجولة لا تفرض هيبتها المضللة في حضرة الأنثى المنتشية. معها تتولّد الحياة الحقة أو تعود إلى أصولها. تعْلم ذلك جيداً. تعْلم أنه بدونها يتشوه الخلق وتنمسخ العلاقة.
يحوط بدنها الغضّ بذراعيه. يدخل في الاستدارات والانحناءات والتعرجات، في الممرات الضيقة، في الثغور التي تفرز رحيقاً عسلاً. ويلاطف الحلمة بطرف اللسان فتنتصب نشوة. رعونة لا مثيل لها تلفّ الأعضاء المتمازجة مثل خيوط من حرير غير منظورة. أفخاذ تتداخل بلا رادع: صلبة، ملساء، ناعمة، مكسوّة بشعر خفيف.. تؤركس إيقاعات العضلات والأعصاب.
جسدان، ما أحلاهما، ينسابان بخفة. يغوران تارة، يطفوان تارة. يضيئان السكون، يشعلان الجمود، يضفيان على المكان بُعداً لم يختبره من قبل. وبدورها تحتفي الغرفة مع أشيائها بالوهج والسحر.

جسدان، ما أحلاهما، انعتقا عن اليومي.. العادي.. المألوف. وصارا يرجّان نفسيهما لينفضا الغبار والتعاليم والوصايا. عادا من البئر موشومين بالبراءة والطهارة، واحتفلا بأعراس الشموس الجماعية.

جسدان، ما أتعسهما، كانا غافلين عما يدور حولهما. ففي غمرة اتصالهما المبهر وانهماكهما في استدعاء طقوس الحب، لم ينتبها إلى الجدران التي انزاحت ـ بغتة ـ من جميع الجهات، وكشفت عن أعين عديدة ترمقهما في فضول ممزوج بالشبق. جَمْعٌ من الأفراد كانوا يجلسون على الكراسي، وبعضهم كان واقفاً، يتفرجون كما لو كانوا في صالة مسرح. نظرات دخيلة، متلصصة، تحوم فوقهما، تنتهك أجمل لحظاتهما. ولم ينتبها إلا بعد فترة حين بوغتا بالتصفيق والصفير والضحك الصاخب، فهبّا مذعورين وأسرعا بستر عريهما بالملاءة وتلفّتا حولهما في فزع.
لما اكتشفا أنهما مكشوفين أمام هذا الحضور المفاجئ، وأنهما بلا حماية أو دفاع، انخرطا في البكاء.

في الحديقة الحجرية

شجرة. شجرتان تثمران أحجاراً.
أشجار. تحت الأشجار اجتمع المتنزهون، سلالهم ـ بداخلها مؤن تكفي لإشباعهم يوماً كاملاً ـ موزعة هنا وهناك. تمددوا على الأرض في استرخاء، وأسدلوا أجفانهم. لم يغفوا.
سادة البلدة هنا يستجمون..
إذن، من البداهة أن يُمنع أبناء الفقراء من الدخول.
ثمة طائر منهك يندلق من غصن جاف ويقع على منقاره. لأن منقاره متخشب يكون وقع انكساره صاخباً يزعج أذن الثري البدين فيسحق الكتلة الصغيرة بقبضتــه. (الكتلة كانت تنتسب في الماضي إلى فصيلة الطيور، هي الآن تنتمي إلى الطين والسماد).
سادة البلدة هنا. يتحدثون عن الأسهم حتى في عطلتهم الأسبوعية، حتى في نومهم. سيدات البلدة كذلك يتقن الثرثرة عن صالونات التجميل. الأبناء المدللون يلهون في الجداول التي تسقي الأحجار، وأحياناً يتراشقون بالطوب. أما خارج سور الحديقة فحيّز يمكن أن يسع أبناء الفقراء. وهم بالتحديد أفراد أو، بتعبير أدق، طبقة تعجز عن دفع رسوم الدخول.
هذا لا ينفي وجود استثناءات:
عائلة تقايض ماسح أحذية صغير لاستئجاره مدة ساعتين كي يضفي على الجو طابع المرح والفكاهة، وليبرهنوا ـ و هذا هو الأهم ـ أن الفوارق الطبقية مجرد وهْم أو أكذوبة يروّج لها الإرهابيون. هو يَقبل، إذ أن وجوده داخل الحديقة يُعد امتيازاً يفاخر به أمام رفاقه، فضلاً عن افتتانه بالسحر الذي يفوح من أركان الحديقة، كما أنه سيخالط الأكابر ويأكل اللحم المشوي. غير أنه يفاجأ بالأشجار التي لا تثمر فاكهة بل حجارة، وبالطيور التي تحنطت قرب الجذوع، وبالأعشاب الهرمة، وبالأحاديث التي لا يفهمها.. فيغتمّ ويتمنى لو يغادر سريعاً.
شجرة. شجرتان مكسوتان بالحجر.
نافورة ترش اليود.
لا تحجم العناكب عن التجول بحرية، ومجاناً أيضاُ، بين هذا الحشد الأنيق المستمتع بيومه. في عطلة الأسبوع الفائتة نسج عنكبوت خيوطه حول صاحب مصنع نسيج كان مستغرقاً في نوم عميق، ولم يصحو أبداً.. وجدوه مختنقاً.
عند الغروب، شرع المتنزهون في الانسحاب تدريجياً. عادوا إلى قصورهم. وأمست الحديقة خاوية.
سادة البلدة ليسوا هنا.
ابتدأ المهرجان.
شجرة نفضت قامتها فتساقطت الأحجار. أزاحت عن نفسها كل ما التصق بها من تراب، واكتست بالأوراق الخضراء، وبدأت الأغصان تتمايل برشاقة وحبور. آنئذ اكتظت بالأثمار الوفيرة، بجميع أصناف الفواكه. حبلى كانت، جاءها الطلــق الآن. ومع الطلق تدفقت المياه العذبة من النافورات، وتراقصت الأعشاب، وارتدت الطيور أجنحتها الزاهية. لقد استعادت الحديقة رونقها وبهجتها.
شجرتان. أشجار. كان مهرجاناً عظيماً.

الحضـور

يا رفاقي، شيء من الأمل إزاء هذا الألم الناهش.. لأجلنا جميعاً.
أتدفأ بحضوركم، بأحاديثكم، بهداياكم البسيطة.
إذ تقضون الوقت معي الليلة، أشعر ـ رغماً عني ـ بحزن مفرط لأنها ستكون الليلة الأخيرة.
زهرة لي؟ من هذه الصغيرة الجميلة التي جلبتموها معكم؟ شكراً عزيزتي.
دعوا الفجر يؤجل قدومه قليلاً، كلام كثير لم نقله بعد.. والسهرة لم تكتمل.
بإصبعه خطّ على جدار الزنزانة رسالة إلى زوجته ـ لم يسمحوا له بقلم ـ أخبرها "لا زلتِ معي. معكِ أكون قوياً، بدونك، لا أقدر أن أرفع قبضتي". طبع قبلة على صورتها "حكموا علينا بالفراق، لكنهم لا يستطيعون تنفيذ الحكم. حاولوا أن ينتزعوك من ذاكرتي، وعندما ظنوا أنهم نجحوا في ذلك، ضحكتُ وقلتُ: كانت تسرح للتو في أحداقي.
تفحص ابنه في الصورة "عنيف ووديع في آن.. كالبحر".
أتركي وشاحك عند العتبة
ليعرفوا أنك دخلت فيّ
كالنبوءة
كالمعجزة
إذ ذاك سيطفو قلبانا معاً،
ــ بينما القوافل ترنو إلينا وتلوّح ـ
وبلا عناء نسافر في الفصول.

حين جاءوا ليأخذوه، قال وداعاً. خطا نحو حبل المشنقة بثبات. كل خطوة ترجُم ظل العدالة المنحرف. لفقوا له تهمة بارعة: ماذا كنت تفعل عند بوابة المصنع وقت الشغب؟ (..) إذن أنت الذي قتلت الحارس وشرعت الأبواب للرعاع كي ينشروا الفوضى والتخريب (..) وبناء عليه حكمت المحكمة بإعدامك شنقاً.
في غرفة الإعدام، تأرجح الجسد.. مسلطاً على الجدران انعكاسات عديدة ومتنوعة. "منذورة أشلائي للقوافل: رغيف لمن تحترق أحشاؤه، حذاء لباحث عن عمل. لكن احذروا النواة ما لم تُعمّد بالدم".
كانت الزوجة جالسة على السرير مسندة رأسها على ركبتيها المضمومتين، ولما رفعت رأسها ببطء، أجفلت قليلاً كما لو بوغتت برؤية شخص أو شيء غير متوقع.
لقد أبصرته واقفاً يرنو إليها بهدوء ووداعة، وبصوت هامس، كأنه يأتي من مسافات بعيدة، قال: "أريد أن أرى ابني".
لم ترد ولم تتحرك، بل ظلت تحدّق فيه طويلاً.

كم هو بعيد ذلك المرفأ

ثلاثة شبان يذرعون الجسر. يتوقف أحدهم وينحني على سور الجسر، كأن شيئاً في البحر لفت انتباهه، أو لعله يتقيأ، أو ربما يفكر في أمر. الآخران يرقبانه. لا يغيّر من وضعه حتى عندما يقتربان منه ويسندان ذراعيهما على كتفيه، تشجيعاً أو تطميناً أو تعبيراً عن مودة صادقة. بعد دقائق يستأنفون السير حتى نهاية الجسر، حيث المرفأ.
في المرفأ كهل يطارد مظلته التي سرقتها الريح. تنأى عنه كلما أسرع في اندفاعه نحوها. وبحركة طائشة ترتمي في البحر فيلقي الكهل بنفسه خلفها، إلا أنه يعجز عن اللحاق بها رغم مهارته في السباحة، مع ذلك يواصل مطاردته لها بلا يأس إلى أن تبلعهما المياه ويغيبان عن البصر.
يتوجه الثلاثة إلى رئيس العمال الذي يشرف على إصلاح مقدمة سفينة راسية بانكسار بين السفن الأخرى. يتبادلون معه الحديث فترة، وفي النهاية يهز رأسه ويبتعد عنهم. أحدهم يجلس على الرمل ويحفر بقضيب صدئ. الثاني يراقبه. الثالث يتطلع إلى السفن شابكاً يديه خلف ظهره.
قارب صغير يدنو بتثاقل، يرسو، يهبط منه بحّار متجهم الوجه، حاملاً شبكة خاوية من الأسماك. ينصب شبكته كالخيمة على الحصى ويتربع تحتها مواجهاً البحر، متأملاً ألوانه المتغيرة حسب تحولاته، مصغياً إلى هبوب الأمواج ثم انحسارها. يمكث هكذا طويلاً، ورويداً تبدأ الأسماك في التوافد ماثلة أمامه كحاشية مجبولة بالامتثال.
يقصد الثلاثة مقهى شعبياً وينتحون جانباً. يدور بينهم حديث طويل لا يبتره الصبي الذي يجلب لهم الشاي. أحدهم يدير بصره بين الرواد ثم يحدّق في الشاي. الثاني يستمر في الكلام محركاً يده بشكل مفرط، يده تصطدم بفنجان الشاي ـ دون قصد ـ وتوقعه على الطاولة فينسكب السائل متقطراً من بين فجوات الخشب. الثالث يبتسم ويقدم له فنجانه. في الخارج حمالون ينقلون الأمتعة.
يغادر الشبان المرفأ عائدين من طريق الجسر.. بتمهل. يلتقط أحدهم حجراً ويقذفه عالياً بكل قوته.

الملهاة السوداء

تمكن أسير الحرب ـ بطريقة ما ـ أن يختبئ في الدولاب لينجو بنفسه من الإعدامات الجماعية التي كانت تُجرى في المعسكر صباح كل يوم، لإرضاء الجنرال الهـرم الأبكم، بينما جنود المظلات يؤدون الألعاب السويدية في الحمّامات.. لازدحام المعسكر بالكتائب من جهة، ولعدم تلوث المكان بالإشعاعات.
نقلوا الدولاب ـ مع الأمتعة القديمة والآلات المعطوبة والنفايات والجنود المصابين بالغرغرينا ـ في شاحنة متهورة تحركت بطيش فوق طرق وعرة بمحاذاة النهر. لما وصلت الشاحنة قرب شلال، أفرغت حمولتها بفظاظة فاندلقت الحمولة كلها فـــي النهر، وغاص الدولاب في الأعماق.
توافدت الأسماك فرحة بالوجبة الدسمة وتنازعت بعضها على الدولاب الذي استقر أخيراً في أحشاء سمكة ماكرة استطاعت بدهاء أن تخدع الأخريات إذ أوهمتهن أن بالدولاب إشعاعات نووية. برشاقة انسابت هذه السمكة في المياه متباهية باكتنازها فخورة بدهائها، غير أن ذكاءها لم يصمد أمام جشعها وشهوتها للطعام.
هكذا وقعت في شرك صياد كان ينصب الفخاخ في أطراف النهر، ويدخن غليوناً بينما يحلم بجوهرة كبيرة تبدل حاله وتنقله من الكوخ إلى القصر حيث الجواري والخدم وما لذّ وطاب من ثمر وخمر. وعندما يكتشف أنه قد أسرف في التمني ، يعتذر ويكتفي بقارب وزوجة وأسماك كثيرة. هاله انتفاخ بطن السمكة العالقة في صنارته. سحبها بحذر نحو الســاحل وراح يدور حولها متفحصاً. كأنها حبلى بقارّة من ذهب، بكنز قرصان، بياقوت وزمرد وماس. وإذا خذلته توقعاته، فعلى الأقل سيجد طعاماً يكفيه أسبوعاً. شقّ البطن فوجد دولاباً. ابتأس. وقال لنفسه: ما دام دولاباً عسكرياً فسآخذه إلى المعسكر.
في المعسكر فتحوا الدولاب ورأوا أسير الحرب ينتفض هلعاً. هنأوه بالعودة إلى قاعدته سالماً، واحتفوا به، وكافأوه على شجاعته بأن منحوه وساماً ووضعوه في الخطوط الأمامية.
مرة أخرى وقع أسيراً في أيدي جنود المعسكر الآخر. وبطريقة ما تمكن من التسلل إلى خيمة الجنرال الأبكم والاختباء في درج مكتبه.

الحانـة

غاصّة بالرواد. قدموا من جميع النواحي مصحوبين بعلامات الأمكنة التي ارتادوها أو قطنوا فيها.. ثلج، غبار، عرق، حبات رمل، ذرّات ريح، أوراق شجر. حاملين ذكريات في التحاور أو العراك. توزعوا حول الموائد يحتسون البيرة والكونياك. ترتجّ الحانة من جراء صخبهم، والنادل الدءوب يشعل ثرثراتهم بمزيد من الكحول يملأ بها الكؤوس حالما تُفرغ.
ــ أود أن أقدم نفسي.. صياد.
ــ ماذا تصيد.. حدّد من فضلك؟
ــ كل الفصائل الحية. كل ما يمرق أمام عيني، وإذا رغبتَ أن أضيف، سأقول: كل الطرائد تتشابه عند الهرب.
ــ يسرنا أن نتعرف عليك. اجلس.
جاءوا ليقضوا أمسية أخّاذة بعيداً عن البيت، عن الوطن، عن العمل المرهق. يختزنون همومهم في قاع الذاكرة. بعد أن تدور الكؤوس عدة دورات سيطفو الهمّ الثقيل وتحل المآسي محل الفكاهات. ليست رهيبة بالضرورة، فهي تتباين حسب الحالة والمزاج.. مع بعض الاستثناءات. لدى كل منهم حل مجاني للمشكلات الصعبة، بسهولة يطرح ويناقش ويعالج. لو تُجمع الحلول أو الاقتراحات في دلو لتصاعدت فقاعات. وهُم يضحكون لأن المسألة هكذا. والحانة لا تكفّ عن استقبال زائرين جدد مهووسين بالخمر أو الثرثرة أو النسيان.
ــ لا ينبغي أن نفسد صداقتنا بسبب.. مومس.
ــ لا تقل هذا حتى لو كان صحيحاً.. احتراماً لشعوري.
ــ آسف. أردتُ فقط أن تصحو وتدرك الأشياء على حقيقتها، لا كما تريدها أنت.
ــ اتفقنا على الزواج. أعطتني منديلها المعطر بدموع الوفاء. لا يزال في جيبي، أنظر. بعد كل هذا.. كيف تجرؤان على خيانتي.. كيف؟
ــ كثيرون ناموا في فراشها أثناء غيابك.. هذه مهنتها. وإذا أنت فتشت كل واحد منهم فستعثر على خرقة مطرّزة بماء الملح. أعني دموعها. أنظر، عندي ما تسميه منديل الوفاء.
ــ رديء هذا الويسكي.. مع ذلك سأشربه.
أصلع يشرب نخب الحانة للمرة الخامسة. آخر يدفع الحساب ويشق طريقه إلى الخارج وهو يترنح ويتعثر بالموائد. اثنان يتعاركان ولا أحد يتدخل ليفضّ النزاع، يسقطان أخيراً فاقدي الوعي. مجموعة تلعب الورق بصمت. شخص يجرع الخمر ويتأمل بوَلهٍ عدة صور لممثلات سينمائيات. وحده النادل محتفظ بحيويته ووعيه، يهرع بين الحشد ويلبي الطلبات دونما ضجر.
ــ عندما أراك أشتهي السفر.
ــ أنا بحار مليء بالتناقضات، أوحي بأشياء كثيرة.. غير السفر.
ــ ماذا عني أنا.. ما رأيك فيّ؟
ــ تذكّرني بطفولتي، عندما كنت ألاحق الباعة المتجولين وأسرق ـ على غفلة منهم ـ شيئاً من الحلوى.
ــ إذن، هناك ما يجمع بيننا.. الإيحاء والذكرى.
ــ والصدفة.
ــ نعم، الصدفة.. هبة الرب الخالدة.
بهم شغف للوصول إلى أقصى درجة من الغيبوبة، عندها لن يحاسبهم رقيب ولن تجدي الموعظة. في آخر الليل ستلفظهم الحانة، كلٌ يمضي في سبيله.. مجزئين، مندحرين، مسلوبي الروح، ينتابهم حنين لا يُقاوَم إلى أصابع تمسح جباههم، وشفاه تغسل وجوههم بالقبل.

استحواذ

اندفع داخلاً وهو يلهث ويتفصد عرقاً، ارتجّ الباب وأسند ظهره إليه خشية الوقوع، فما عادت ساقاه قادرتين على حمل ثقله.. لقد أرهقهما بالهرولة حيناً وبالعدْو حيناً آخر حتى وصلتا إلى هنا. جسمه كان يرتجف، رابط فيه الذعر حتى كاد يتقمصه، ولا يزال مسكوناً بالرعب.
لمح الشبّاك مفتوحاً فهرع إليه وأغلقه بإحكام. خفق قلبه بشدة "ماذا لو تسللوا من الشباك؟" تلفتّ حواليه، فحص الحجرة بنظراته، واطمأن إلى أنهم لم ينتهكوا الحجرة بعد. ظن أنه سيهدأ وستسكن روحه المضطربة إذا تدثّر، لذا توارى تحت الغطاء لكنه لم يجسر على إطباق جفنيه أو إيهام الذات بزوال الخطر.
ــ تعال معنا.
ــ أين؟
ــ ستعرف في ما بعد.
ــ ماذا تريدون مني؟
ــ لدينا أسئلة تجيب عليها دون مواربة.
هبّ مفزوعاً وتحسس رقبته "لم أكن أحلم. كانوا هناك، قرب المنضدة، اختفوا الآن". قام وطاف في أرجاء الحجرة. ضيق المساحة أوحى له بأنه يقيم في زنزانة، ولم يتخلص من هذا الإحساس حتى عندما أيقن أن لا قيد ولا سجان يتناوبان على حراسته. مع ذلك ظل متوجساً، محاصراً بالهواجس التي تحصي أنفاسه وتمتص إرادته وعزيمته.
أثناء مروره بالمرآة لحظ شبح رجل، قاسي الملامح، يحدجه بنظرة سامّة، فاستدار سريعاً ليرى الشبح بوضوح، غير أنه لم يجد أحداً.. سريعاً اختفى. عندئذ ازداد فزعه وتقهقر مستنجداً بجدار يقيه ويحفظ توازنه. شعر باختناق، بدوار، بالأشياء تدور والسقف ينقلب رأساً على عقب والجدران تتلوى، تتمدد ثم تنكمش، وساعة الحائط ترتج بعنف والبندول يرن كجرس هائل والعقارب تدور بسرعة رهيبة والمرآة تتهشم إلى شظايا، وهو في اللجّ مجمّد، مذهول، فاغر الحواس.. وبمشقة استطاع أن يستجمع قواه ويندفع نحو الشبّاك يفتحه على مصراعيه.
آنذاك عادت الحجرة إلى طبيعتها الأولى، هادئةً، ساكنةً، أشياءها كما هي وكأنها لم تُمَس أو تتزلزل. استنشق الهواء النقي ورطب وجهه الساخن بالنسمات الندية، لكن ما إن التفت إلى تلك الشجرة المغروسة في الأرض المقابلة حتى ارتدّ مصعوقاً وصفق الضلفتين في ذعر. لقد أبصر أشخاصاً تحت الشجرة يصوبون نحوه غداراتهم.
"أعرفهم، ظلوا يتعقبونني طوال اليوم ويرصدون كل تحركاتي. راقبوني بالمنظار ومن خلف الجريدة. أعرفهم. أحدهم صدمني بمنكبه في السوق.. ماذا جنيت لكي يفعلوا هذا بي، أي ذنب ارتكبت".. صرخ بصوت متهدج: ماذا تريدون مني؟
ــ كل الدلائل تشير إلى أن لك علاقة بما حدث.
ــ عم تتحدثون؟.. لا علاقة لي بشيء.
ــ إذن تعال معنا بهدوء.. لنشرب القهوة كأصدقاء.
ــ أين؟
ــ ستعرف في ما بعد.
شحب وجهه وارتعشت أطرافه. لا يفهم كيف تصله الأصوات واضحة النبرات، كأنها قريبة جداً، و لا يقدر أن يحدد مصدرها؟ بات فريسة هاجس أنهم سيقتحمون عليه الحجرة في أية لحظة، وسيقتادونه إلى مكان مقفر مجهول حيث يلقى فيه حتفه، ومن المحتمل أن يتعرض لتعذيب بشع لا يطاق. والذي يدمر كيانه أكثر أنه يجهل هويّتهم ولا يعلم سبب ملاحقتهم له.
أمسى طريدة محاصرة بالمشاعل والسكاكين يشهرها أشخاص عدوانيون لم يلتق بهم من قبل. أدرك أنهم يعبثون به ويتلذذون بمطاردته حتى يحين الوقت المناسب للقضاء عليه.
انجرف مع وساوس تشلّ، تهرس، تبيد، شعر بحاجة إلى البكاء لكنه لم يستطع. تجسد الرعب فيه، صار مسوّراً بظلال وأطياف تباغته بطعنات خفية غادرة، وراح يهذي. تأرجح بين الصحو والغيبوبة، وفي لحظة صحو أصاخ السمع فتناهت إليه همسات تبدو كما لو أنها تتآمر. سمع وقع خطوات تذرع الممر. تراجع رويداً مع دنو الخطوات، احتمى بركن انزوى فيه بينما صوت الخطوات يعلو ويعلو. انكمش خائفاً حينما توقفت الخطوات عند باب حجرته، حدّق في الباب ولم يحرّك عضواً في جسمه. بردت أطرافه شيئاً فشيئاً، جحظت عيناه، انفغر فمه.. وكانت عيناه موسومتين برعب لا يوصف حينما فُتح الباب ودخلت صاحبة النزل تحمل رسالة إليه.

مساحات بيضاء للذاكرة

كادت العزلة والوحشة أن تتلفا عقله، فخرج يسأل عن ولده.

* * *

أما رآه أحد منكم يا جيران يا طيبين؟ ودّعته قبل سنة وثلاثة شهور ووعدني بأن يأتي لزيارتي لكنه لم يأت. رحل إلى بلاد بعيدة.. بعيدة جداً، لن تتمكنوا من النظر إليها من هنا. عليكم أن تعبروا البحار الواسعة والبرازخ والخلجان لكي تشموا رائحتها ورائحة ولدي. قال لي مرة: يا أبي، هل تصدق أن البَرَد يتساقط هنا كل صباح، وأن الفصول لها ملامح بشرية؟.. أجبته: الشيخوخة علمتني أن للأشياء حواساً عديدة، لذا أصدقك. لأني فلاح، أعرف تقمصات الفصـول وطقوس الجذور.
أصابه مكروه؟ لا توجعوا قلبي هكذا. بالتأكيد هو بخير. انقطعت أخباره عني منذ شهور، لم يكتب لي رسالة واحدة. لا، لا تلوموه. ليس ناكراً للجميل ولا عاقاً، ضميره يقظ، ليس من طبعه أن يمحو اسمي الموشوم في جلده. لا تقولوا إنه نسي، قولوا: تأخر قليلاً وسيأتي. إذا طال غيابه أبلغوه سلامي وحبي، أعلنوا له: لا زال سريرك يتأرجح في عينين ساهرتين تترقبان قدومك لتسدلا جفنيهما. أوصافه؟ أضيّقة هي الذاكرة إلى هذا الحد؟ حَبَا في أحداقكم، تعلّم المشي على راحاتكم، أصغيتم إليه فوق السطوح وهو ينطق الأحرف الأولى، لعب في الساحات مع أبنائكم. إذا لم تتذكروا بعد، تعالوا أريكم صوره المصفوفة على الرف. تحت السرير كان يختبئ حين ألعب معه، وعلى المنضدة يذاكر دروسه، ويسبح أحياناً في نوم عميق ويحلم. في الحلم يستعير وجوهاً ملائكية عديدة، عندئذ أدرك أنه غادرني ـ مؤقتاً ـ وسافر إلى قارات السماء النائية الملأى بالنجوم والكواكب، يغمس أنامله في آبارها الارتوازية ويعتلي، مع حصانه المجنّح، برج الشمس المطل على جزر ساحرة مزدحمة بالقناطر والمنارات والبحيرات والغابات. كان يحلو لي أن أصغي إلى أحلامه بغبطة ثم أندم لأنني تطفلت على مخلوقاته. تعالوا معي، إذا سمح وقتكم، فقد أرهقني المشي وليس بمقدوري وحدي أن أبحث عن ولدي.

* * *

عد إلى بيتك أيها الطاعن في الحزن، فلا جدوى من استنطاق ظل مختوم بالهجرات. تربكنا يا صديق الوحدة والذكريات، يا شيخنا الجليل. من منا يجرؤ على إخبارك بالحقيقة ويكسر بكلمة هيكلاً ينوء بسنوات ثقيلة، مرهقة، مستبدة؟ يقتضي أن يكون شجاعاً ولبقاً، في آن، ذلك الذي سيقف في حضرتك ويهمس بصوت مشحون بالأسى: ابنك مات، وكلنا نتألم لموته.

* * *

انفضّوا من حوله، انسحبوا من غير أن يبدّدوا قلقه. توسلوا للريح أن تتكفّل بالمهمة الشاقة نيابة عنهم، فهي أكثر فصاحة ولا تراوغ. اعتذرت الريح لأنها لا تستطيع أن تمسح أحزان البشر، فهي كثيرة. إذن ـ فكروا ـ لن يحل المشكلة غير ساعي البريد: مخلوق أثيري، يقرّب المسافات ويباعدها كيفما يشاء، قادر أن يشكّل التضاريس، بفضله تتداخل التخوم وتتشابك العواطف، وهو أخيراً ابن الريح بالتبني.
كانت فرحة الأب عظيمة لما جاءه ساعي البريد يبشّره بوصول الرسالة. صار خفيفاً، خفيف الروح والجسد، وصار العالم صغيراً بحجم طفل. أراد أن يحتوي الكون بذراعيه. ها هو العزيز الغالي يستجيب لصلواته ويبعث أنفاسه للمشتاق. ضحك كثيراً، وعاد شاباً يفيض حيوية ومرحاً. أما الجيران فقد كانوا يشاركونه فرحته في الظاهر ويسألونه عن ابنه، أين هو وماذا يفعل، متى سيفكر بزيارتنا؟.. وفي العمق كان الرثاء والشفقة والجزع.
ظل ساعي البريد يزوره بين الحين والآخر جالباً معه الرسالة تلو الرسالة، خارجاً بردود ـ أملاها عليه الأب ـ يحتار أين يضعها. مع مرور الوقت بدأ الساعي يشعر بعذاب رهيب، لقد ابتكر لعبة لا نهاية لها، والمضي فيها يُعد جريمة. يجب أن يعرف الشيخ الحقيقة. حرام أن يخدعه ويضلله لفترة أخرى لا يعلم كم ستطول.
حضر إلى الأب يوماً، وتردد قبل أن يفتح الرسالة. قرّر أن يحسم المسألة، وقرأ. هذا خطاب من صديق يقدم تعازيه. مات الابن.
هنا ساد صمت صاعق، خلاله كان الأب يحدّق في الساعي بذهول، ثم قال بنبرة أراد أن تكون متماسكة، لا رعشة فيها:
لا، أنت تمزح. أعطني الرسالة. سأقرأ، أنا الأمّي، ما كتبه لي وحيدي.. اسمع ما يقول: في هذه المدينة الفضية، الأخاذة بحشائشها وغيومها وبراءتها، يتساقط البرَد كل صباح، ويتسلق الثلج تلك التلال البعيدة التي ألمحها من هنا، والناس يطلون من الشرفات، تغمرهم السعادة، و أرى أباً يحتضن أطفاله. هل تصدق أن للفصول ملامح بشرية؟.. أبي، بإمكانك أن تفخر بي، لقد تفوقت في دراستي، وسأعود في العطلة.. ربما بعد أسبوعين. إنني أتسلّح بكلماتك الحنونة وبنصائحك الحكيمة. لا تنس أن تعدّ لي سمكاً مقلياً مع الرز، إنها وجبتي المفضلة.. أريد، عندما أعود، أن نرتاد معاً كل الأماكن التي زرناها في بلدتنا وكأننا نشاهدها للمرة الأولى. وأود كذلك أن. . . . . .
استمر الأب في القراءة و كأنه ينشج. صوت متهدّج مشحون بالألم واللوعة، والدمع ينسلّ مبللاً تجاعيد حافلة بالوحشة والعزلة.
لم يحتمل الساعي، لذا نهض في صمت وهدوء وخرج، بينما الأب يواصل القراءة دون توقف.

مخلوقات الريح

بلا حقيبة دلف الفندق، سأل عن غرفة شاغرة يقيم فيها ليلة أو ليلتين، أرشدوه إليها.
ارتمى على السرير بكامل ثيابه وطفق يتأمل الغبار الذي احتل أطراف المروحة، قام بعد ذلك وغسل وجهه. اتجه نحو الشرفة، طارت قبّرة. ثمة جلبة: طقس الشارع اليومي. مشادة حادة بين بائع وزوجين ينويان شراء ببغاء ناطقة، سرب من الشحارير يحلّق فوق المداخن، مشردون يتنافسون للحصول على أعقاب سجائر، بقّال ينادي بصوت مبحوح.
إنها الفوضى المروّضة، المدرّبة، المنظّمة.. مطلقة السراح.

". . . . كنتِ دائماً تقولين أن كل شيء منظم ومقنن حتى الفوضى، وأن ممارسة الحب هي الفعل الفوضوي الوحيد الذي ظل نقياً وصادقاً، لم تدجّنه القوانين والنظم. في ما بعد صرّحتِ بقسوة أن الممارسة معي أضحت مضجرة وفقدت بريقها الصاخب الهائج.. أو بالأحرى طبيعتها الأصلية. وكنتِ محقة، لم أعد ذلك الذي تشتهين، صرتُ مليئاً بالأخطاء. وها أنا أنشد لقاءك فلا تخذليني. لا أطلب صفْحاً أو تجديداً لعلاقة انشطرت، أريد فقط أن أراك وأتحدث معك. ليس من موضوع محدد، وربما سأصمت طويلاً قبل أن أفتح فمي لأقول كلاماً مبهماً، متعثر الأحرف، لا معنى لألفاظه، إلا أن وجودك معي في هذه اللحظات بالذات يعني الكثير بالنسبة لي، قد يجدّد وجودي أو ينفيه. حاجة أحسها تشتد كلما مرّ الوقت.
نحن كائنات الصدفة: نلتقي، نعشق، نفترق.. بلا مبرر في أغلب الأحيان. إذن أفيضي عليّ دونما إنذار كي أمجّد الصدفة. عجيبة تحولات المشاعر. ظننتُ أن النفس ستهدأ وتركن للمراجعة وأن النأي سيكون في صالحي، وها تجرجرني الأفكار مستسلماً صوب عتباتك، وقلبي يهفو إلى حضورك المطهر.. أرجوك أهلّي..."

تصفّح مجلة قديمة خربش أوراقها نزيل سابق، رماها بعيداً، اتجه صوب الحنفية وشرب الماء. رفع رأسه وحدّق في المرآة طويلاً، رأى دمعة تتهيأ للانحدار فأسرع باستئصالها قبل أن تفسح السبيل للأخريات كي تتدفق. زفر ثم راح يتجول بين الجدران يشاكس جدْجداً، يكشط الدهان، يعبث بالخزانة المتربة، يصيخ لنداءات تصدر من باعة متجولين وصبْيان يتراكضون.

". . . . . ليس من يفهم تحولاتي سواك يا صديقي. كيف ســـتواجه كلماتي؟ تستنفر الماضي؟ لقد رحل مصطحباً صداقة باركتها المواطئ وصانها الهواء زمناً حتى صدأت. لن تقدر أن تصدّني بعد أن تواطأت مع رهافة روحك. أتوقع أن تصغي.. فلك في القلب حظوة رغم القطيعة، بيننا خطوة تستدرج قدم واحد منا لتنتعلها. أتقدّمُ وليس من يستضيف همومي سواك. أحرس نفسي. محتجزٌ هنا رهين ما يسمونه جنون الروح، مبلبل حتى أخمص القدمين، أتشوّق مجيئك المبهج لتشدّ على ساعدي من أجل أن أرافقك إلى حيث تمضي، من أجل أن نسهر عند البحيرة، هناك حيث نتذكر وننسى ونشتت الوقت.
أخشى أن تساورني الريبة. كنتُ فظاً. كنتُ أكتم ما أعرف وأبوح بما لا أعرف. تضايقتَ ثانية. في المرة الأخيرة طلبتَ إنهاء العلاقة، وبرعونة وافقتُ. أحببتك وليس من حب أزهو به سواك. أَسْرع سالكاً أقصر الطرق، الوعرة منها والأشد خطورة.. تعال إليّ.. أنا مكتنف بالتداعيات ومترع بالتناقضات. . ."

موغل في الانسلاب، يرشح كآبة. كان مضطرباً، أسير انفعالات تلدغ. يومٌ وَغْدٌ ينسى فيه حتى نسج الأشرعة في الخيال. طالما فعل ذلك آناء صفاء الذهن. جاثم في فسحة لا يمتلكها، إنما يذعن لاستبدادها، تطوّقه تعجنه تفعل به ما تشاء. انسلخ من الجلد الأخير ودار حول مرئياته أجرد من كل شيء: الصور، الأصوات، المشاعر، قشرة الماضي وبشرة الحاضر.. ما عدا منفذ واحد قادر على انتشاله وغسله بضوء الانتماء: أن يطل وجهٌ حبيبٌ ويهمس، أهلاً.

". . . . رأيكِ فيّ أني شخص لا يمكن الاعتماد عليه. ذاتي جداً. يرد على الأسئلة حين يرغب. ولم يكن لديّ دفاع أتدرّع به. ولما انفصلتِ عني كنتُ أيضاً بلا رداء يسترني. كنتِ تمقتين أجمل لحظاتي، حين أجلس إلـى الطاولة وأبدأ فــي الكتابة.. تلك كانت أتعس لحظاتك. وَجَبَ على أحدنا أن يتخذ قراراً حاسماً: أن أتوقف عن الكتابة أو تكفّي عن حبي. لم تكن الكتابة سبباً في الانفصال، كلانا يعرف أن العيش معاً لم يعد ممكناً لأن نبض الحب كان قد توقف قبل بروز الخلاقات الزوجية.
ها أنت ترين أنني لم أتوقف عن الكتابة، في هذه المرة تخاطبك أنت. عندما تصلك الحروف سأكون في غرفة ضيقة بفندق بسيط، العنوان في الأسفل، وسأفرح كثيراً إذا وافقت على الحضور. هل فاجأك طلبي؟ أنا لا أفكر في الارتباط بك من جديد، لأنني أعلم أنك تحبين زوجك، إنما أطلب شيئاً بسيطاً وصعباً في الوقت نفسه.. أن أسند رأسي إلى كتفك الزاخر بالحنان وأغفو. هل تأتين؟.."

لم تحضر الحبيبة،
لم تحضر الزوجة،
لم يحضر الصديق.

انتظر ساعات، ولما يأس من مجيئهم مدّ يده في جيب معطفه وأخرج زجاجة مليئة بالأقراص تناول منها كمية كبيرة ثم استلقى على السرير وراح يصغي بصفاء إلى رذاذ المطر الذي شرع ينقر النافذة بضربات خافتة جداً.

الحركة الأخيرة

يحرك رأسه، يديره قليلاً.
يضرب بقدميه. بصعوبة يثني أصابع قدميه ويضمّ أصابع يديه.
يغمض عينيه نصف إغماضه. يعبس ويفتح فمه.. لا يصدر صوتاً.
تنسدل الأجفان لتختم العينين فترة طويلة. لم يعد ير شيئاً.
يتململ ويتحرك. الحركة خفيفة وفي مجال ضيق جداً
يبدأ في التقلب بين فترات نوم ويقظة. عندما يصحو يتمطى ويتلوى، لكنه لا يبصر.
تنفتح العينان بعد اغماضتهما الطويلة، لا يجدي الانفتاح، فالرؤية معدومة.
تقلّ حركته لكنه يستطيع أن يثني قدميه.
يتحرك، يبحث عن منفذ، ينقلب. يصادف ثغرة يولج رأسه من خلالها، يجد نفسه في نفق طويل معتم. يزحف بإصرار حتى يصل إلى نهاية النفق حيث يلمح ضوءاً خافتاً يزداد بريقه وانتشاره كلما اقترب من الفوهة. عندما يطل من الفوهة يسطع في وجهه ـ فجأة ـ ضوء قوي يغمره، فينفجر في البكاء من شدّة الخوف.. وينحدر.

عاجلاً ينتهي كل شيء

اجتمعت الحيوانات وكانت جائعة.

في القرية عرس. يحتفلون بزفاف ابن المختار ببذخ لم تعهده القرية من مئات الأعراس التي شهدتها. كل شيء كان متاحاً: وزعوا اللحوم بكميات هائلة، قدور ضخمة تجثم قرب مخازن القش، عجول تُذبح وتُسلخ وفق مراسيم مهيبة، محاصيل القمح والشعير في متناول اليد مجاناً، حلوى للأطفال، أثمار ومكسرات.
تضاء الساحة بالألعاب النارية وبصياح أولاد ينفّسون عن الرتابة اليومية بالانطلاق هنا وهناك كخلية. ليلة مشهودة لا تُعوّض. من داخل الدار تنطلق زغاريد لها وقع حاد يصمّ آذان الدواجن ويُفرح المحتفلين. ثلة من النساء المعمّرات يترقبن حصصهن من العطايا. طبول ورقص وزينات وليل مرصّع بالمصابيح والجمرات. يختال المختار بين الجموع يصافح ويتلقى التهاني.

حيوانات ضارية نزحت من الغابات والبراري واجتمعت هنا. من كل حدب وفدت القطعان وتكاثرت: ضباع وفهود وأفاع وخراتيت ودببة.. جذبتها الروائح ودماء الذبائح، وأغرتها نكهة الشواء. يعوي ذئب ويتقدم خطوات، يحك وحيد القرن فخذه. تحت غلاف الليل تبرق عيون وأنياب موبوءة بالافتراس، تمزق الستائر السوداء لتصل إلى مداخل القرية المسدودة بمباهج العرس. سيرتعد السعف إذا أُطفئت الشُعل ونامت الطبول، ولن يسعف الضحايا صراخ أو استغاثة.

هذا الليل مزدوج الضمير، يحرس براحتيه احتفالاً ويهادن بالوجه الآخر حيوانات تتضوّر.

أم القرى يسمونها. تجزّأت يوم تناثرت السحب مثل ريش حدأة مصابة. وجفّت التربة. آنذاك بعثرت أجزاءها في الأصقاع لتقتفي آثار مياه شحيحة. استقرت هذه القرى الصغيرة في أماكن مختلفة ودشّنت نفسها بنبع ومسجد ونخيل، صار لها مختار وقوم. قوّسوا النهر ليستسقي منه كل الحلفاء، وتعاهدوا على المشاركة في السراء والضراء. وحدث أن صار لكل قرية منبوذ سمّوه صعلوكاً، خارجا، قاطع طريق.
عرس نهم استنفد حماس الحناجر وتوقفوا فترة ريثما يستعيدون توازنهم. ما دام القمر يرفرف ففي الوقت متسع لإشباع السهرة. ما ألذّ عصير العنب! نبيذ الشجرة الشائخة ذات الضفائر. الروابي تنتفخ تحت إيقاعات الأقدام الحافية، المخضبة بالحناء النابضة بالحياء. الشبان، لجرأتهم، يصعدون قمم البيوت ويتباهون بعضل الفتوة. غزل مكشوف لا يؤذي. ولا يضير إن احتذوا بالنموذج الذي يحتفلون لأجله هذه الليلة. عيد للتزاوج: عرق وياسمين، خبز ساخن وأسنان مغرمة بالليونة. ستؤرخ الساحة هذه الذكرى في سراديبها اللولبية. مشهد حافل يرويه ضيف ضال.
عاجلاً سينتهي كل شيء.. لقد تثاءب القمر.

حيوانات هائلة العدد تحتل الحدود.. تحاصر القرية الغافلة من جميع الجهات.
سيبدأ زحفها حالما تخبو المشاعل.

الهديـة

تفحّص بنظره الألعاب المتكدسة على رفوف المتجر، احتار في الاختيار، جميعها كانت مبهجة ومسلية: الطائرة، الحلبة الموسيقية، القطع الخشبية لاختبار الذكاء، الكلب النابح، الملاكمة، الدمى.
تردده ناجم من عدم تأكده بأن اللعبة التي سينتقيها ستكون مرضية بالنسبة لولده، لذا كان عليه أن يخلع وقاره ويتقمص روح طفل في الخامسة من عمره، حينذاك يقدر بسهولة ودون تردد أن يشير إلى لعبة معينة ويتأبطها فرحاً مزهواً.
أعجبته الفكرة، وفي لحظة عاد طفلاً شقياً يتقافز في الممرات ويصيح بصوت طفولي مغتبطاً بالألعاب الكثيرة‘ مبهوراً بالعالم السحري المشع الذي يتحرك فيه المطاط والخشب، ويقرع القرد طبلاً. كان البائع يختلس النظر إليه وحيناً يحدجه بقسوة، ويود لو يقذفه خارجاً لولا سياسة المتجر القائمة على إرضاء الزبون إلى أقصى حد. شقاوته وعبثه وصخبه يضايق البائع ويثير حنقه، مع ذلك أرغم نفسه على التماسك والتحلي بالصبر والحلم.
خطر للرجل ـ الطفل أن يتسلق رفاً مزدحماً بالدمى، هَمّ بذلك، غير أن البائع، الذي كان يراقبه، أسرع نحوه ومنعه من التسلق بأن أمسكه من أذنه وفركها بشدّة، قائلاً بعصبية: "إذا أردت شيئاً لا تطاله يدك، أخبرني وسأحضره لك. هذا واجبي هنا. فهمت؟"
تراجع خائفاً وأوشك أن يبكي. شعر بأذنه تلتهب. تمنى أن يحضر والده ليؤدب هذا الجلف الفظ، الذي يعامله بقسوة، لكنه انتبه إلى أنه قد أتى إلى هنا دون علم أحد، كما أن إصراره على شراء لعبة جعله يبتعد عن البائـع ويتظاهر بأن شيئاً لم يحدث.. وأخذ يتطلع من جديد إلى المعروضات.
أخيراً لفت نظره مسدس أزرق من البلاستيك، متوسط الحجم، بديع الشكل، مزخرف بنقوش ذهبية.. عند الضغط على الزناد يتدفق الماء من الفوهة. فكّر، بهذا سيدبر المقالب لأقرانه وأقاربه وسيبلل ملابس الضيوف.
تناول المسدس وطفق يفحصه ويدقّق في تكوينه وانسياب مقبضه. عندئذ بدأت طفولته تغادره، وعاد إلى رجولته تدريجياً. لبس وقاره ورزانته، حمل المسدس إلى البائع الذي استقبله بابتسامة بشوشة وباحترام مفرط، وسـأله أثناء تغليفه للمسدس: "هدية لابنك يا سيدي؟". أومأ الرجل بالإيجاب، ثم دفع السعر وخرج.
عندما دخل البيت ملوّحاً بالهدية، ركض نحوه ابنه فارداً ذراعيه، فاحتواه في حضنه وقبّل وجنتيه: "عيد ميلاد سعيد، يا فراس".
تلقّف الصغير الهدية وانفلت صوب أمه التي كانت تهيئ المائدة وترتب وضع الأطباق والملاعق قبالة الكراسي العديدة التي تحيط بالمائدة، أراها الهدية دون أن يفتحها وهو في أوج سعادته ثم هرع إلى غرفته. اقترب الرجل من زوجته وأحاطها بذراعه مبتسماً: "تتألقين جمالاً كل يوم".
بعد ساعة اكتظ البيت بالمدعوّين من الأقارب والأصدقاء، جالبين معهم أولادهم وهداياهم، وانخرط الجميع في المرح والغناء.
أحضرت الأم كعكة شهية، ذات طبقات رائعة التكوين، تتوّجها ست شموع صغيرة. أطفأوا الشموع وعلا التصفيق والصياح. وبدأوا في تقطيع الكعكة وتوزيع أجزائها في أطباق من ورق.
بهجة لا تضاهي: بالونات ملونة تحلّق ثم تهبط على مهل لتستقر بين المقاعد، رؤوس صغيرة تعتمر قبعات ورقية، أسطوانة تدور وتصدح بأغنية خاصة للأطفال، سيقان نحيفة وثخينة تتسابق حول المائدة وفي البهو، جلبة حلوة تحتفي بانعتاقها. إنه يومهم الخاص يشكلونه كما يحلو لهم دون تدخل ولي أمر.. يمكن أن يصير سمكة برمائية تنطق من خياشيمها إذا شاءوا، أو يصير سيركاً.
انسحب فراس خلسة إلى حيث الهدايا المتراكمة، نبش فيها حتى عثر على هدية أبيه. مزّق اللفافة برعونة ولهفة، وعندما رأى المسدس اغتبط وضحك في سرّه "سأخيفهم قليلاً ثم أرشّهم بالماء. كم هو مضحك منظر الكبار بثيابهم المبللة".
تسلل على أطراف أصابعه إلى حيث اختلى الأب بعدد من أصدقائه في حجرة الجلوس، ولما وصل إلى الباب المفتوح على مصراعيه، قفز بخفة صائحاً:
"ارفعوا أيديكم". التفتوا نحوه وضحكوا، بعضهم ابتسم مجاملة لأن دخوله المفاجئ قطع عليهم حديثاً طويلاً وهاماً يتعلق بالعمل. كانوا خمسة بدون الأب، تتفاوت أعمارهم بين الثلاثين والأربعين، هندامهم يدل على وجاهتهم ومراكزهم الاجتماعية الرفيعة. قال الأب بلهجة محذرة، لكن بدون حدّة: "لا تفعل يا فراس.. إذا كان محشواً بالماء".
لكن فراساً لم يهتم. رغبته في المزاح كانت شديدة لا تقاوَم. مكث في مكانه، مصوباً المسدس إلى صدورهم واحداً بعد الآخر.. بعد ثوان ضغط على الزناد.
الذين كانوا في القاعة، وفي الفناء، وفي الشرفة.. سمعوا ست طلقات عنيفة، رجّت الأعمدة والغرف، أعقبتها صرخات مدوّية.
ساد الصمت دقيقة، توقفوا عن المضغ واللعب والحديث، تطلعوا إلى بعضهم في استغراب، على شفاههم الذاهلة طيف سؤال مروع.. بدوا كتماثيل من لحم. فجأة، اندفعوا جميعاً تجاه حجرة الجلوس، مصدر الطلقات والصرخات، غير أنهم تجمّدوا في مواضعهم مصعوقين، عند المدخل، شاحبي الوجوه، مرتجفي الأطراف.. لقد رأوا فراساً واقفاً، مفتوح العينين والفم من الرعب، والمسدس يهتز في قبضته المرتعشة، وأمامه ـ فوق الأريكة وعلى البساط ـ تساقطت ست جثث مضرجة بدماء تتدفق بغزارة من ثقوب غائرة في الصدر والرأس.

السـندباد

تشتعل السفينة. لم يعد بوسع الصواري أن تصمد شامخة كما كانت أمام الريح والموج، فاللهب الهائج قد تابع زحفه وبدأ يفترس الخشب والشراع. لا شيء سيبقى غير المرساة، أما الطيور فقد نأت بزغبها وحلّقت بعيداً عن اللهب.
لفحت السخونة وجه الساحل فأشاح: هذا الطقس يهادن النار بلا ريب. لا غيمة ولا ندى. هكذا تتجزأ النار، تحت مظلة الهدنة، وتلتهم المائدة.. هكذا لا تتجزأ. المرساة وحدها لاذت بالرمل.
تشتعل السفينة، يشتعل الماء، ويظل هو على الساحل يرنو إلى المشهد دون انفعال.
عاشر النجوم أعواماً وأتقن لغة البوصلات وأيقن أن الأمواج حاشيته يسوقها حسب مشيئته. نازل الأرخبيل ووطأ البحيرات غير آبه لشهقات الجزر التي كان ينتهك عذريتها بأنامله، ولا لحشرجات أسماك القرش. كان يجزم أن الأصداف ورمال الجزر معاً ستشم رائحته وتعرفه مغامراً وليس غازياً. فعل ما يفعله الربان ـ صديق الحلزونات، الموشى بالأملاح ـ وقت يجوب المحيطات، غير أنه امتلأ وحشة وحنيناً فأدار دفته عائداً.
يتصاعد الدخان وتتوهج السارية، يهوي الخشب ويطفو، ومن بعيد تمر القوارب المروضة تختلس نظرة سريعة ثم تدير أشرعتها وتمضي. يوشك الماء أن يغمر مقدمة السفينة، والنار تزداد ضراوة وعنفاً. ثمة برميل يتدحرج. بعد قليل سيتفتت كل شيء ويفنى.. حتى النار ستأكل نفسها. آنذاك تأتي الريح لتكنس ذلك المشهد، لتمحو تلك الرائحة.
تشتعل السفينة، يشتعل الماء، ويظل هو على الساحل يرنو.

صبيّة

صبيّة لم يكتنز صدرها بعد بذلك الامتلاء المثير، بنضوج الثمرتين المرشوشتين بندى الفجر الوردي. في مقلتيها يقرأ المرء تسعة أو عشرة أعوام من الطفولة الطرية. عمر قصير وقامة كالغصن الهش المنحني على جدول يراقب ظله الذي ينداح في الماء مهدهداً الدوائر المنفلتة.
ينادونها: هيفاء. و تضحك من الاسم. أحياناً لا ترد، فكل يوم تختار لنفسها اسماً، وتضحك لتورطهم وحيرتهم إزاء غرابة ابتكاراتها.
شعرها محلول كأهداب مساء. يحلو لها أن تنثر شرانقها من الشرفة صباحاً، فكل يوم تختار لنفسها بشرة. عندما تفتح راحتها للأقارب يلمحون ريش طاووس أو قرن أيّل. يسألونها: من أين تجلبين هذه الأشياء؟ تجيب بحبور: هذا سرْ.
سرّها مخبوء في جدار ينشق وقتما تشتهي ومنه تدخل الكائنات المسالمة تعيرها ما تشاء. بشاشتها تفتن من يماثلها في السن والجذل من أبناء وبنات الجيران، تخرج معهم إلى الفرن، هناك يتقاسمون الخبز والجبن، وعلى المرتفع المطل على الشاطئ تجالسهم وتروي أعاجيب أيامها. لقاؤها بالحوت على سريرها يخلب لبّهم. عثورها على السلحفاة في حذائها حكاية مسلية.
عند أوبتها تزيح خصلة من شعرها بطرف إصبعها، يضاء الدرج بنفحاتها.. خُيّل إليها. من سلالة النحل انحدرت، تأنسنت، ولا يزال في نَفَسها طعم عسـل ممزوج. يا لخيالاتها الموغلة في الجموح. تغامر بابتكار مواقف تؤطرها مناخات مدهشة، تغذّيها بأساطير سمعتها من الجدّة.
يروق لها أن تتجول نهاراً بين حظائرها اللامنظورة، تزركش أجنحة الديوك بالزعانف لعلها تتعلم العوم ما دامت لا تقدر على الطيران، وتحمل دلاء مليئة بحليب البقر إلى المشردين، قوم الرصيف، الذين يسألونها عن الواحات ويجادلونها عن سفر النجوم، أين تمضي كل مساء؟
صبيّة لم تختبر نوايا ذلك السائر على مهل محاذياً الحائط كاللص. مرات لمحته ينظر إليها متمعناً، يقيس حجمها، يتفرس في جسمها. لم يكن يخيفها شكله، مع ذلك اجتنبت الالتقاء به، خصوصاً عندما تكون وحدها.
تأنس للمخبول ـ القاطن عند المنعطف ـ الذي يفتش عن أصداء صوته، ويعبس لأنه لا يستطيع أن يقبض عليها. تسرد له النوادر لكنه يطبق فمه خشية أن يضيـع صوته. تضحك من سذاجته وتمنحه رغيفاً ليغذّي نفسه.
يطربها صفير الهواء، تأخذ في تقليده مراراً حتى يصمت. من يسمعهما يظن أنهما يحاكيان بعضهما، في الحقيقة هما يتحاوران بلغة لا يفهمها غير السنونو.
خرجت يوم الجمعة. جمعة كئيبة، مخلوعة الأجنحة، دروبها بلون محلول المستنقعات، ملغومة بقناص موحل يقنص بعينيه.. إنه ذلك السائر ملتصقاً بالزوايا كاللص.
كيف يتسنى لهذه المرصّعة بالبراءة، المغسولة بالصداقة، أن تعرف؟ فات الأوان.
لما سمعت في غيبوبتها نداءً يتكرّر بإلحاح: هيفاء.. هيفاء"، أفاقت ملوثة بالدم. ولما استفسروا: "هيفاء.. من فعل بك هذا؟"، لم تتذكر شيئاً.

أيها المسخ الجميل.. طاب مساؤك

ــ ]سيدي.. كانت ملقاة في الوحل حين دنوت منها، ولم أعرف..[
مطر يهطل بغزارة على الكتلة المتكومة فوق الرصيف. جسد تجرد من الحواس وأمسى فريسة رعد يغتصب الأعضاء بحوافره المائية. وما من سائر يسلك هذا الطريق الموحش غير بائع السجائر الكسيح الذي يجرجر ساقه اليمنى بمشقة متقلداً صندوقاً مستطيلاً ذا غطاء زجاجي بداخله علب سجائر وأعواد ثقاب. إنه يرتعش من البرد، ويحاول ستر جسمه بمعطفه الطويل الخالي من الأزرار.
يلمح من بعيد تلك الكتلة المكشوفة، المكتنفة بالعتمة، المعرّضة للبرد والمطر والليل دونما حماية، فيسرع الخطو ويكاد أن يتعثر لفرط ارتباكه وهشاشة ساقه. عندما يقترب، ينزع الحبل من حول عنقه ويضع الصندوق على الرصيف ثم يجثو قرب الجسد ويدير الرأس ناحيته.
ــ ]ما أدراني أنها ميتة يا سيدي.. كثيرون يتعرضون للسرقة في هذه الأنحاء، ربما قاومت فاعتدوا عليها بالضرب. ظننتها فاقدة الوعي....[
ينير مصباح العمود وجه المرأة.. في العشرين من عمرها. يمسح الماء عن وجهها براحته. يا إلهي، كم هي حزينة قسماتها. شعرها منثور، تتدلى الخصلات على الأرض وحول رقبتها، الثوب ممزق عند الكتف، يبرز اللحم المتسخ وجزءاً من صدرها، ذراعاها ملطختان بالوحل. يغطي فخذيها المكشوفين، ويتلفت لعله يبصر من يغيثهما معاً في هذا الوقت المتأخر. قفر. لقد اعتصموا بالأسرّة والأرائك منذ احتدام شرار السحب.
مريضة؟ هاربة من بيت أهلها؟ مقتولة؟.. لا أثر لطعنة أو كدمة، وليس بإمكانه أن يفحصها ملياً تحت السيل المنهمر فوقهما، يتعين عليه أن ينقلها إلى مكان دافئ، آمن.
ـ ]سحبتها لأنني لم أستطع حملها، فأنا كسيح يا سيدي، وبيتي كان قريباً. أردت أن أسعفها....]
بيت من الصفيح. لا أثاث ولا شبابيك. حصيرة ولحاف وموقد وأوان معدنية. هنا ستكون بمأمن من أمراض البرد، وسيتسنى له أن يفكر برويّة بما يمكن أن يفعله من أجلها. إذا اقتضى الأمر استدعاء الطبيب فلن يتباطأ في إحضاره. يشعل القنديل. من تكون هذه المرأة التي اختارت ـ في غيبوبتها ـ أن تعترض طريقه؟
يتنصت لعله يسمع حفيف أنفاسها، لا يسمع. يلصق أذنه بصدرها كما لو يريد أن يخترقه ليصل إلى لبّ القلب، لا خفق ولا نبض. ويهلع إذ يكتشف أنها ميتة.
ـ ]سمعتكم تقولون إنها ماتت مخنوقة.. لا تحدّق في وجهي، يا سيدي، لئلا تضلّلك تشوهاته....]
لم يحدث قط أن نظرت إليه امرأة دون أن تشيح تقززاً وامتعاضاً من ســحنته المشوّهة. بشاعته نفرت النساء. وها هي الوحيدة التي أباحت له ذاتها ودخلت داره.. دخلت ميتة.
يجلس تحت ظلال آلامه التي لا تحصى، فاسحاً مسافة قصيرة بينه وبينها، يجتازها بومض البؤبؤ، المرتعش بفعل الغشاوة. ساكنة لا تنتمي للموجودات الماثلة التي تحفّ بها، كأنها منذورة للغياب.
ماذا لو صَحَت من رقادها، أتجفل أم تحتوي وجهه المحروث بين كفيهـا وتغدقه بالقبل؟.. إنه يمتحن رؤاه في وقت عصيب، لذا تتفتت نثاراً، لذا يرتدّ منكمشاً في وَجل.. فهذه المسيّجة برهبة الموت تفجّر فيه وجع السنين المطمورة وتستقرئ الحرمان الكامن.
يرجو أن تستيقظ لتوقظ فيه طاقاته العامرة بالحب، لكنها تلبث في مكانها، ويبدأ القنديل في الانطفاء رويداً..
[لا تمنعني، يا سيدي القاضي، من الكلام. رجالك أخطأوا لما ألقـوا القبض علي. أصغ إلي، أنا بائع سجائر مسكين. اسأل الذين يعرفونني سيخبرونك.. لم أنم منذ أربع ليال ولم أشرب.. سيخبرونك أني رجل طيب لا يتدخل في شئون غيره.. انتظر يا سيدي، لا تذهب. حتى الماء.. قالوا لن تشرب حتى تعترف. سيدي، هذا ظلم. أترضى بذلك؟.. إنك تبتعد عني وأنا لا أستطيع أن أرفع صوتي أكثر.. سيدي، عذبوني بأدواتهم الرهيبة حتى صرت لا أميّز بين نثار لحمي والديدان. حرام أن تقتلني، يا سيدي القاضي، لجريمة لم أرتكبها.. يا مالكي عد.. يا مالكي تعال.. أنا.. خائف [

***

الصيد الملكي

مواكب لساكنات التلال

في تلك الساعة من الليل، حين تهدأ الدواجن وتكف النواعير عن نسج حشرجاتها وتخلو الطرقات من أبناء السبيل والكلاب الضالة، يخرج الرجال فرداً فرداً تاركين أمهاتهم وزوجاتهم وأخواتهم وأبناءهم في الأكواخ والبيوت الواطئة والعلب الصفيحية، حاملين مصابيح يتموج لهبها ولا يستقر، تحملهم خطوات مزدحمة بالتعب والهمّ. وفوق سرة التربة يلتقون، جماعات جماعات يتقدمون.
المصابيح تؤرجح ظلالهم وهم يشحذون بؤرة الحدقة لتبصر بصفاء أكثر كائنات هذا الليل التي يعجّ بها الرمل الشاسع الممتد بلا أفق أو تخوم.
ها هي التربة تتناسل: غزلان، زرافات، سناجب، بنات آوى، أشجار صبار، سحالي، عرّافات، نمل، هسهسات.
وتكاد اللهفة لمرأى ساكنات التلال البعيدة تشقّق الأفئدة القاطنة في صدور رجال يحق لهم أن يشتاقوا ويرتاحوا ويحلموا بعد أن أفرزت أجسادهم ـ في أيامهم الشاقة ـ سيلاً من العرق والقلق والمذلّة.
شائك هذا الطريق، وعورته تدمي الأصابع وتحفر باطن القدم، أما من ينتعل خُفّاً فهو مثقل بالهجس والتوجس، غير أنهم لا يكترثون إلى حد التراجع.
أخيراً يبصرون من بعيد تلك التلال الفضيّة، مثل أميرات مكسوات بالثلج، مغروسات حتى الخاصرة، جذورهن في باطن الأرض، أذرعهن غيوم لا يقدر هودج الريح الفاخر المطهّم بالنرجس والياسمين وعطور حدائق السماء أن يغريها بالامتطاء والسفر. وعلى قمم التلال لمحوا أشكالاً سوداء صغيرة، متكوّمة، تبدو كالوشم أو مثل أفواه فاغرة شاخصة نحو الأعلى.
تعوم نظراتهم ـ للحظات ـ في عمق هذا المشهد الآسر. انبهارهم لا يوصف، وحبورهم يوشك أن يتقمص جسد فتاة تجيد الرقص، لكن لا رغبة لديهم في انتهاك قدسيّة المشهد، لذا يواصلون المسير، تقودهم مصابيحهم بمحاذاة رؤى معبأة بالغرابة والسحر.
قافلة من البجع تنبثق من جوف التربة وتهيئ كرنفالاً مكتظاً بالألعاب النارية والفكاهة والحلوى. زوجان عاريان يستحمان في ضوء جسديهما المبهر، منتشيين باتحادهما الأبدي، يلجان الثغور المتفتحة شهوة دون خجل أو وجل، فليس ثمة قانون أو رقيب غير صحراء ضريرة ونجمتين شقيّتين تهتفان للجنس المكتنز وهجاً وطراوة. رجل ملثم واقف، مبتور الساق، يحمل رشاشاً ويلوّح به محيّيا.ً على مقربة منه قهوة ساخنة وخرائط وذخيرة.
دجاجة هائلة الحجم، تسير بتوءدة ، وفي كل موقع تقف فيه تضع بيضة. يفقس البيض فتخرج قبائل من البدو، ينصبون الخيام ويشعلون النار ويتسامرون في ابتهاج.
قوارب عديدة تغزو رقعة صغيرة من الصحراء وتعسكر، أو بالأحرى تخلد للنوم. هي سيدة نفسها.
لا رُبّان ولا أمواج.
أخيراً وصلوا.
بهيّة هذه التلال بهياكلها الشامخة وأرديتها المشعّة.
رفعوا أنظارهم. هناك.. هناك الأرامل المجللات بالسواد. رؤوفات، حنونات، غادرهن الحزن منذ زمن بعيد، وما ملابس الحداد إلا جذوة تهدي التائه والمنبوذ والمنفي. أناملهن كالحرير تهيّج الأهداب المثقلة بالغبار أثناء التلامس. عذب هديلها. يعرف هذا من تنفس معهن الهواء ذاته. أليفات، جميلات، يتضوعن حباً.
هناك.. هناك الأرامل. على قمة كل تلة تجلس أرملة. ساكنة، صامتة، كأنها تصلي. كأنها تعشق.
يتوزعون، كل فرد يتسلق تلة بإصرار. كيان ملفوح بلهب، مغمور بوجع، لذا يلجأ إلى فيء وبإصرار. وفي اللحظة التي يصل فيها، تلتفت الأرملة نحوه وتمنحه ابتسامة التجدد والخصوبة. هنا يندفع الرجل تجاهها ويدفن رأسه في حجرها، كالرضيع الجائع للحليب والدفء والنوم يتكوّر في حضنها.
وتبدأ الأرامل ـ معاً ـ في غزل الترانيم. عندئذ تخرس الكائنات وتستكين الأشياء مصغية إلى الأصوات النافرة عصيراً، رحيقاً، دماً.
إلى هؤلاء الأرامل اللواتي اغتصبنني ـ تلك الليلة ـ واغتصبتهن، أهدي هذه الحكايات.

1 ـ في مكان ما، بيت مهجور ومسيّج

ثمة حارس ليلي يختلس النظر من فجوة في جدار. ضمن إطار البصر لحم فخذ مكشوف مكتنز بالنضارة والأنوثة، انحسر عنه ثوب قديم يوشك أن يهترئ من كثرة الاستعمال، رغم هذا فهو يستر الأجزاء الأخرى من جسم المرأة النائمة على الحصير.
النظرات ملغومة بالشبق، تطأ ـ بابتذال ودون احتشام ـ الجسد الغافل الشارد وراء حلم ما. لا يكترث الحارس باللعاب المتقطر من زاويتي فمه، ولا بأظافره الناشبة في الجدار مسبّبة تشنج الأصابع وتخثر الدم تحت الأظافر، فقد أضحى عبداً لفحولة بدائية انفلتت من الأسر وهيمنت.
وحده سيد المنطقة وصديق الليل، لا يجرؤ فرد ـ في حضوره ـ على التسكع في هذه الساعات المتأخرة. يصدر قرار منع التجول متى يشاء وإذا صادف شخصاً فإنه ينهره بحزم ويأمره بأن يهرول إلى بيته فوراً دون إبطاء، حتى البراغيث كان يسحقها بعقب حذائه عندما يسير بفخر. أما الكلاب فقد هجرت المنطقة نهائياً، إذ قبل شهر كان ينصب الفخاخ للكلاب التي تغيّرت أشكالها وصارت طينية من فرط احتكاكها بالطمي، والتي كانت تنبح كلما سمعت وقع حذائه، والكلب الذي يقع أسيراً في يده كان ينال ركلات عنيفة على مؤخرته حتى ينفث عواء حاداً صاخباً. بهذه الطريقة انفرد بالسيطرة وأمسى السيد بلا منازع. ومنذ ذلك الوقت أدمن الوقوف عند هذا البيت واستراق النظر من خلال الفتحة الصغيرة.
سَيُجّن إن لم يمتلكها هذه الليلة. مرات عديدة جامع طيفها في أحلام اليقظة حتى تصدّعت أنسجته وكادت أن تتلف، فلجأ إلى بائعة حلويات عانس يغمس فيها رغباته المحظورة بسادية رهيبة جعلتها تتهرب منه وتتحاشى الالتقاء به، إلى أن أصابه الضجر وكفّ عن محاولة الاتصال بها.
كيف يمكن أن يستدرجها إلى معطفه دون إكراه؟ يلبس بشرة طفل؟ يتأبط صولجاناً؟ يرشّها بعصير الأناناس؟ عجز عن ابتكار وسيلةٍ مجدية، وأسف لأنه لم يتعلم من الدببة حيلها في مثل هذه الأحوال.
الشهوة تدمدم في رأسه، تضجّ، تقرع طبلة الأذن. لا كابح يمنعها، تغترف سوائله، تشطره وتفتّت خلاياه. سوف يجنح إلى العنف لا محالة ما لم تُقَدّم إليه مثل سبيّة مشاعة تسبحّ بالشكر. حقده على زوجها يفوق التصور. لو كان الأمر بيده لنصب له فخاً لن يخلصه منه سوى خالقه.
في النهار كان يراقبها، يتبعها ظلاً آخر أينما ذهبت، في السوق في الطريق في انتقالاتها بين بيوت الجيران. كان يرصد تحركاتها ويرصد أكثر ارتجاجات جسدها المثير. حتى العباءة كانت عاجزة عن صد غارات عينيه المتقدتين. وفي الليل، بعد أن يخرج زوجها إلى العمل، يهرول إلى هذه الفجوة ويتوجع شهوة.
أديري وجهك ناحيتي، ذلك الأنف المتنفس نكهة الذكر، والشفتين اللاهثتين وراء عصارة المروّض الأبدي، والذقن المْرتعش تحت ملامسات لسان مدموغ بالجرأة. افتحي عينيك وانظري إليّ، مدي ذراعيك وامنحيني تلك اللحظة المسعورة يا عاهرتي.
تحلم؟ بماذا تحلم امرأة فقيرة ووحيدة في فراشها؟
سادرة في نومها لا تدري أنها مكشوفة ومنتَهَكة. تغور مع مخلوقاتها المجنّحة في ماء السماء وتطفو بين الأجمة، سعيدة، ولا ترغب في مغادرة مملكتها هذه.
يتجانس الكون في رئة النائم، يتآلف الذهب والرغيف، وكل شيء يصير معجوناً طيّعاً قابلاً للتشكل والسفر. غير أن الملكة لا تعرف أنّ حصنها هش وبابها لا يؤتَمَن.
تتدثر بالبنفسج وترسو على حقل يصاهر الشمس مستعيراً منها إشعاعاتها. ترتجل لغة تخاطب بها النباتات وتدخل بها شقوق الكون من الجهات الثمان. تأخذ بيدها الكواكب وتنزّهها عبر المحيطات، وتطلب منها أن تطالع نفسها في سطح الماء، فتغضّ الطرف وتعضّ شفتها السفلى خجلاً، لأنها رأت نفسها عروساً حقيقية بفستانها الأبيض الموشى بالزبرجد والعقيق واللازورد، ولأنها كانت أجمل من الأقحوان.
ترافقها الكواكب بين طوابير عظيمة من الأسماك التي خرجت تتقافز وتنثر كنوز البحر تحت قدميها. تتجه إلى مدائن تحكمها شعوب تحارب الحرب ولا تستغل بعضها بعضاً. تستقبلها الرايات وسعف النخيل، تصافحها الأيدي، يباركون زفافها، يبلّطون مسيرتها بالأكاليل. تشكرهم وتودعهم. تجتاز جزيرة معزولة، موحشة، تحرسها خفافيش عمياء، نزلاؤها كهّان حفاة يطاردون صلواتهم فوق الصخور الوعرة أناء الليل والنهار، لكن عبثاً فالصلوات فقاعات تتلاشى بمجرّد تحليقها. أثرياء يتقاتلون ويلتهمون جثث موتاهم. آلات تعذيب تفرّخ جلادين عاطلين عن العمل يتفسخون تدريجياً. تصل القطب الشرقي فتفرح الحيوانات لأنها لم تتأخر، وتتسابق فيما بينها بمرح من أجل أن تحظى بملاطفة أو إطراء. ترضي الجميع حين تمتطي صهوات كل فصائلها. تستعجلها الكواكب وتُذكّرها بممالك الطيور. جذلى... .. ...
أفيقي أيتها النائمة، كلما تحرك زندك استيقظت شياطين ذلك الغازي. ومن يقدر أن يحميها ليس هنا، إنه هناك.
هناك ـ في المصنع ـ كان الزوج. بعد يومين سيلتحق بعمل آخر، لا يختلف عن عمله الحالي. نفس الآلات والزيت والراتب الضئيل والإصابات الجسيمة والطفيفة، مع فارق أنه لن يضطر إلى المناوبة ليلاً.
لأجلها ـ تلك الحبيبة ـ يفعل هذا. لأجلها يود أن ينسج عروقه أسرّة وبيتاً وحديقة، لو يستطيع.. "لماذا أنت حزينة؟" ســـــــألها مــــرة ولم ترد. أدرك سخافة السؤال فاعتذر بالصمت وارتشاف الشاي. نسي أنه لا يليق أن تُسْأل امرأة فقيرة ووحيدة ـ في الليل ـ لماذا هي حزينة؟ بعد يومين سيتوسد صـــدرها ـ في الليل ـ ويبتكر معها مركبة تعرف درب الغبطة وإقليم الفصول.. ولن تكون وحيدة.
زملاؤه العمال أحبوه لطيبته ووفائه، وحزنوا عندما أنبأهم بقراره. "سنظل أصدقاء، لن أنساكم"، قال لهم. فهموا وضعه وتمنوا له التوفيق. كان كثير المزاح، مخلصاً، وشهماً. إعجابهم به ازداد بعد أن علموا بما فعله من أجل زميلهم "سعيد". حدث هذا قبل خمسة شهور، حين اعتقلوا "سعيداً" إثر اعتصام قام به العمال مطالبين بزيادة الأجور. كان يتبّرع لأهلـــه ـ سراً ـ مبلغاً من المال طوال مدة الاعتقال التي استغرقت ثلاثة شهور، وذلك بالرغم من أن راتبه يعادل الراتب الذي يتقاضونه.
لم يكن قط خارج دائرتهم. كان يشاركهم أفراحهم ومطاليبهم وهمومهم. يوقّع العرائض، يعتصم، يُضرب.. مثلهم تماماً، ولم يفكر يوماً في أن يتبوأ مركزاً قيادياً في صفوفهم. هو يحترم قدراته المتواضعة التي لا تؤهله لأن يكون خطيباً بارعاً أو محرضاً لبقاً.
في أوقات الراحة يجلس بينهم، يتبادلون الأحاديث والنكات ويتناولون طعاماً أو يشربون الشاي، وتمرْ لحظات ينفردون فيها بأحلامهم. القاسم المشترك لأحلامهم هو التحرر من وضع لا معقول: جموع يغص بها الشارع، متعَبَة، موحلة، جائعة، ترى الشمس رغيفاً والقمر تمراً. وزمرة تسترخي هانئة بعد وجبة دسمة وتفكر في رحلة سياحية حول العالم.
هو ينتحي جانباً مع خيالها ويوشوش في أذنها.. أحبك.
ينزّ العرق من مسامات وجه الحارس، ويشهق دمه الفائر حين يرتفع الثوب إلى أعلى، أثناء تحركها. مباحة هي ولا يفصله عنها سوى خيوط عناكب، عليه ـ كي يُخرِس العواء المستعر في الداخل ـ أن يقضمها خيطاً خيطاً.
"اغتنم الفرصة الآن، كل ما فيها يدعوك أن تتقدم وأن تدخل. إنها ترجّك بفخذيها فالجم سعارها بجذعك النافر".
ينزّ العرق من مسامات وجه الزوج. يزيّت تروس آلة ويحكم إغلاق بعض الصمامات. يدير الآلة فيتأكد من سلامتها، يتجه إلى الأخرى ويفحصها.
نائمة لا تعلم بما يجري حولها. أخذتها الغفوة بعيداً بعيداً إلى حيث ضفاف النهر المزدحم بالقوارب الراسية وطيور البحر، ترقب الموج الملتحم بالأفق، تحاكي الدلفين الذي يشاغب الموج. تقرّر أن تغسل جسدها ولكنها تكتشف مفزوعة أنها نسيت جسدها في مكان ما، فتعدو راجعة...
بدون تردد يتسلق الحارس الجدار، السطح منخفض وسهل ارتقاؤه. من فوق يستكشف الطريق ليتأكد من أنّ أحداً لم يَرَه. لا أحد. بخفة يهبط إلى فناء الدار محاذراً أن يصدر صوتاً.
الزوج يقف أمام رافعة تحمل أطناناً من الحديد، يؤشر بيديه مرشداً سائق الرافعة إلى الموقع الذي ينبغي أن يوضع فيه الحديد.
نائمة.. تعدو.
الحارس يدنو من الغرفة التي تنام فيها المرأة، يشعر باضطراب خفيف لكنه لا يمنعه من التقدم. يراها راقدة على ظهرها، مغرية جذّابة، ولحمها البضّ القريب يتحد ببؤرته.
يدير الزوج رأسه عند سماعه صوتاً يناديه. هو مشرف العمال يتجه نحوه.
نائمة.. تعدو.
يقترب الحارس أكثر وهو متأهب للانقضاض. نكهة الفريسة تخدّر الأعصاب والدماغ، ينحني فوقها.
الحديد أثقل مما ينبغي والرافعة لا تقدر على حمل هذا الثقل الهائل لفترة أطول. المشرف يلحظ ذلك فيصيح في رعب.. احذر يا محمد.. الحديد ينزلق فجأة ويهوي ساحقاً جسمه.
المرأة تفتح عينيها بغتة. ترى وجهاً غريباً محروثاً بالضراوة والدمامة يحوّم فوقها. مذعورةً تهمّ بالصراخ إلاّ أنه يطبق بكفه على فمها، حابساً صرخة رهيبة تتشظى داخل الحلق.

2 ـ الفارس يعبر.. ويدخل من النافذة خلسة

شـاهدوه ـ الجنرال والمأذون والمقاول ـ في العرض الأخير. لاعب سيرك ممتاز. أذهلهم طيشه وخفة روحه، أعجبتهم رشاقته وسرعته، حركاته البهلوانية الخطيرة والمسلّية في آن.
اتفقوا: هذا خير من يرفـّه عنا. سيكون نسناس مجالسنا وخمر سهراتنا، به نسكر وعليه نضحك.
ولم يكن فارس السيرك يعلم ـ وهو يمارس مهنته المعهودة ـ أن ثمة مقاعد تتآمر ضده وتهيئ له قميص البهلول، وربما ما هو أخطر من ذلك. شخص مثل هذا ـ يمتلئ زهواً وفرحاً حين يسمع ضحكات الصبْية وتصفيق الكبار في الصالة ـ يقيناً لا يبطن سوء النية والريبة، ولم يفكر يوماً أنه سيدافع عن نفسه ضد شيء.
لقد اعتاد أن يُعرّج على المطعم المجاور، بعد أن ينتهي من تقديم فقرته، ويشتري عشاءً له ولزوجته، وفي البيت كان يسلّيها بنوادره المضحكة ويحكي لها عن حوادث يومه، بينما يتفقد طفلته النائمة بين الفينة والفينة، وفي كل مرة يطبع قبلة على وجنتها.
زوجته قانعة، راضية، وتحبه كثيراً. قبل النوم تحدّثه عن رغباتها المتجددة في إصلاح البيت أو تعديل وضع بعض قطع الأثاث، أو رغبتها في السفر. تسرد له ما فعلته الصغيرة في المدرسة ومقالبها التي لا تنتهي "ابنتك شقية". يستدير إلى حيث تنام الصغيرة "أنظري إليها، هي الآن تغزل أيامنا المقبلة". بعدها يستسلمان لخدر النوم الساهر، تاركين روحيهما لأصابع ابنتهما العابثة تبعثهما وتصوغهما حسب مشيئتها.
كان طيباً وودوداً، لهذا لم ينتبه، لهذا مشى على القش دون أن يدرك، ودون أن يحذّره أحد، أنّ تحت القش أنشوطة ليس يسيراً الفكاك منها.
استدعاه مدير السيرك وأخبره أن بعض الوجهاء سيقيمون حفلة خاصة ويرغبون في مشاركته بتقديم عروضه أمام مدعويهم المعجبين به، وذلك مقابل أجر سخي.
سريعاً أقنع نفسه بأن الاتفاق عادل وبأنه لن يخسر شيئاً. المكان؟ لا يهم أن يكون العرض هنا أو هناك.
تلك هي فاتحة كل التراجيديات: أن تدخل أو تخرج من غير أن تسأل.
لو أُتيح له أن يشهد عيون الأطفال المأهولة بالخيبة وقت غيابه؟ لو تريث قليلاً وسأل؟
الجنرال:
في الصباح الباكر خنق سبّاكاً لأنه تباطأ في إصلاح الحنفية. يقول "النظام أساس العالم، من لا يحترم هذه الحقيقة، لا يحترم أوسمتي. إذن هو نفاية يجب كنسها".
الجنرال منظم جداً. حماقة السبّاك وتهاونه تسبّبا في تأخير موعد دخوله الحمام نصف ساعة. بعد دقائق يستعيد وقاره ويجلس إلى المائدة. بعد أن ينتهي من تناول فطوره يتوجه إلى غرفة ابنه ـ كعادته ـ كي يطمئن عليه. يجده على السرير ـ كعادته ـ يلهو بمسدساته الحقيقية ويقلد أزيز الرصاص. يرمقه بإعجاب لفترة ثم يخرج موارباً الباب خلفه "ابني أعجوبة في الرماية. كم أنا فخور به".
الجنرال يغادر المنزل راكباً دبابته، قاصداً مكتبه. في سيره يدهس سهواً ـ كعادته ـ واحداً أو اثنين من المارة.

المأذون:
يتعطر بالمسك والعنبر متهيئاً للقاء حسناء ساهم بدور كبير في تطليقها من زوجها. هو لا يحتفظ بمرآة في جيبه لأنه لا يحب أن يتذكر أن له وجهاً مشطوراً نصفين. حين يتحسس وجهه يعرف مقدار تعفّنه، لذا يلجأ إلى المساحيق "هكذا أكون جديراً بقلبِ مؤمنٍ وبثدي مطَلّقةٍ خبيرة في الجنس".
يمقت قوم المستنقعات والقرى النائية، وعندما يضطر للذهاب إلى هناك كي يعظهم ويهبهم بركاته، فإنه يمتطي بغلة سريعة، مهووسة بالتوابل، تنطلق مثل برق مجنون. هكذا لا يلمح الأهالي، الواقفين صفاً واحداً على طول الطريق، سوى عاصفة من الغبار وآثار حوافر رشيقة، فيعودون إلى ديارهم ضاربين كفاً بكف.
"هذا التقيّ صار خيالاً غير ملجوم أو ظلاً مائياً لا يطفو إلا في المساء حيث لا يمكن لأحد أن يلمسه بوضوح. حتى بغلته صارت تنافس الريح بمهارة. من أجل أن نراه، نضحّي بديكٍ أو عنزة. في المرة القادمة سنسد دربه بالجذوع، وإذا لم نفلح في الإمساك به سنرجو المسؤولين أن يبعثوا لنا واعظاً أقل جموحاً ورعونة".
أما هو فيعود مغتبطاً لأنه أدى مهمته وقطع مسافة طويلة وشاقة لكي يصل إليهم. لا أحد منهم ينكر ذلك.
بعد منتصف الليل يمارس عملاً إضافياً: نادِل في حانة رخيصة.

المقاول:

مُغْرَم بالخزانات الحديدية. عدد كبير منها ـ بأحجام وأشكال متنوعة ـ تتزاحم في بيته، إلى درجة أنه استغنى عن معظم قطع الأثاث لكي يفسح مكاناً للخزانات الموجودة والأخرى التي ينوي أن يقتنيها.
وزوجته لم تحتمل البقاء في مكان كهذا، لذلك فقد غادرت البيت ولجأت إلى أبيها. حاول أن يسترضيها ويعيدها معه. إلا أنها عاندت وطلبت منه أن يختار: إما هي أو تلك القاذورات ـ علـى حد تعبيرها ـ ازدرد الإهانة لكنها أصرت، فلم يخترها.
بعد فترة بسيطة من طلاقهما، تزوجت البستاني نكاية به ولمجرد إغاظته. غضب في بادئ الأمر وزمجر "ساقطة، سافلة، منحطّة". وعندما فكر في ما بعد أن بإمكانه استغلال المساحات الفارغة ـ نتيجة غياب تلك التي كانت زوجته ـ فرح كثيراً وسارع إلى شراء المزيد من الخزانات، لكن زوجته عادت إليه مبرّرة ذلك بأنها لا زالت تحبه. سألها عن البستاني. أجابت: "عاد لقصّ ضفائر الأزهار وكأن شيئاً لم يكن". عندئذ اشترط عليها أن لا تُبدي استياءً أو تذمراً من أفعاله وتصرفاته. وافقت.
كان يترك الخزانات مفتوحة، خاوية تماماً، ويظل يتأملها ساعة كل يوم. خزانة واحدة فقط يحرص على إغلاقها بإحكام، وهي تلك التي يكنز فيها أرباح شركته. وولعه الشديد بهذه الأشياء أدّى به إلى أن يصمم غرفة خاصة تشبه تماماً الخزانة، بدون أثاث ولا شبابيك، بداخلها يمكث ساعات، صامتاً لا يفعل شيئاً، لا يفكر في شيء على الإطلاق.
في الآونة الأخيرة صار يستدرج زوجته للجلوس أمامه ويدعها تثرثر طويلاً بينما هو يتأمل شكلها برويّة وتأنٍ مأخوذاً بفكرة عظيمة: أن يعيد خلقها على صورة خزانة.

* * *

لو سأل فارس السيرك عن هوية أصحاب الدعوة وعن سر رغبتهم في أن يكون شمعة الحفلة، لما قدّم نفسه وجبة مجانية على مائدة محفوفة بالسكاكين والشوك.
لم يسأل، بل تدحرج واندلق في الشرك.
بالداخل ألفى نفسه كأنما في حلم: مناخ خرافي، مضمخ بالبخور وماء الورد والنبيذ، يلفّه ويخدّره.. يغريه بالتقدم، فتقدم ولم يلحظ الباب وهو يوصد خلفه بالقفل والمزلاج.
رأى ما يراه المسحور في أدغال الأسطورة:
مارداً أسود منتصباً في منتصف القاعة، عاقداً ذراعيه على صدره العاري، يطوّقه لهاث نسوة شبقات، ورعشات أنامل بيضاء تجوس عبر نتوءاته النافرة.. ولا يرفّ له هدب. من خياشيمه تتسرب الفحولة وتعدو نحو جسد راقصةٍ تتلوى كالأفعى على مقربة منه، ترشح عرقاً مهيّجاً، وتنفخ لذّة تتناثر، بعضها يجري في نسغ المرايا المبثوثة في أرجاء القاعة، والتي تتخلى ـ للمرة الأولى ـ عن حيادها المعتاد وتشهد عربدة الحواس بسرور. تتمنى المرايا أن تشارك صورها في القصف، لكنها لا تقدر، فتلبث في مواقعها، مفتونة بمنظر عناقيد الرمّان والعنب والقرنفل، التي تتدلى من سقف مزخرف بالثريات.
ظن فارس السيرك أنه أخطأ العنوان، همّ بالتراجع لولا سماعه صوتاً يناديه، التفت صوب المصدر، فأبصر نافورة بديعة الشكل، يجلس على قاعدتها الرخامية ثلاثة أشخاص، عرفهم في ما بعد: جنرال، مأذون، مقاول. أحدهم كان يشير له بيده لكي يقترب منهم، ففعل.

* * *

أعدّت الفطور لابنتها، مشّطت شعرها، قبّلتها على خدّيها، وعند الباب نصحتها بأن تتوجه إلى المدرسة رأساً دون تلكؤ، وأن تأخذ حذرها من السيارات.
وحدها في البيت، قلقة، مرهقة. ظلت ساهرة طوال الليل تنتظر عودة زوجها، لكنه لم يعد. لم يحدث هذا من قبل، فقد اعتاد أن يأتي بعد انتهائه من عمله مباشرة، حاملاً العشاء والحكايات والنوادر. لم يكن يسهر في الخارج إلا نادراً، وكان يحرص على ألاّ يتأخر كثيراً. "لماذا تأخّرتَ اليوم يا زوجي؟".

* * *

عندما استيقظ فارس السيرك وجد نفسه في غرفة تحتوي على خزانة ثياب ومرآة ومنضدة صغيرة، غير أنها بلا نوافذ. عصر رأسه بشدة ليخرس ضجيج الصداع، لم يستطع. غادر الفراش بتثاقل واتجه إلى الباب. حاول أن يفتحه لكنه كان مقفلاً من الخارج. طرق الباب مرات، وفي كل مرة يعلو الطرق ويشتد، يعلو صوته ويحتد: افتحوا الباب.
اختنق صوته وارتخت قبضته، وما سمعه أحد. إذن هذه زنزانة وهو مسجون. الأسئلة تحضر وتحتضر. استغاث بذاكرة البارحة لعلها تبدّد حيرته وتمحو الغموض المستبد.
طلبوا منه أن يسليهم، فسارع إلى ارتداء زيه المعروف واحتلّ مكاناً خالياً في القاعة، ثم بدأ يتواثب برشاقة، مبدعاً ألعاباً تُبهر وحركات تُضحك، ممتعضاً بعض الشيء من العرض الآخر الذي يُقدّم إلى جواره حيث الأجساد العارية تُفرط في الكشف عن مواهبها بفجاجة، وترصف لجمهورها ـ الجنرال والمأذون والمقاول ـ ما ابتكرته من تأوهات وارتعاشات والتواءات وأفعال يخجل من تذكرها. وخجل أكثر من نفسه لأنه أباحها للرجم أمام جمهور يمارس جنونه ومجونه مثل الغوريلات. تذكر أيضاً أن يداً مجهولة كانت تسقيه خمراً بإلحاح رغم اعتراضاته التي لم تكن تصمد أمام غزوات هذه اليد، بعدئذٍ انسلخت الذاكرة عن ذهنه ولم يلمح سوى الضباب.

* * *

ماذا بوسع امرأة مكللة بالفجيعة أن تفعل غير أن تسائل الجدران والنخيل والنمل و"يا بنات الحي هل رأيتن حبيبي؟ إذا وجدتموه أخبروه أني وحيدة بدونه وحزينة؟".. وبنات الحي كن يغضضن الطرف ويتشبثن بالأحباب ـ عند الالتقاء ـ خوفاً من الفقد. "قلبي على زينب، راح زوجها ولم يعد".
مضى أسبوع ولم تسمع رنين وداعته ومرحه، بحثت عنه في كل مكان. بدأت بالسيرك، أخبروها عن الحفلة التي دُعي إليها وأعطوها العنوان. ذهبت إلى هناك. خذلها البواب العجوز حين ادّعى أن زوجها غادر مبكراً بعد أن انتهى من مهمته. بعد ذلك استنجدت بالمخافر، المستشفيات، بيوت أصحابه، المقاهي، المطاعم.. خذلها الجميع، وضاعفوا جزعها. عبثاً تبحث وترجو. وأمام استفسارات ابنتها، تداعت وأوشكت أن تفقد النطق.

* * *

ظلّ فارس السيرك يقدم عروضه ـ كل ليلة ـ مرغماً ومهدّداً بالإقامة في غرفته مدى الحياة إذا هو امتنع ورفض تلبية رغباتهم. أيضاً حذروه من تكرار عروضه، فيجلب لهم الملل والضيق. لذا كان يتعين عليه دوماً أن يفتّق عصارة ذهنه ويبتكر حيلاً جديدة. أحياناً يخفق فيرتجل حركات بذيئة تصادف استحساناً وتهليلاً فائقين.
في النهار يحاور نفسه، يندم لأنه لم يخبر زوجته ـ تلك الليلة ـ عن الحفلة بل أرجأ ذلك لحين عودته، مثلما يفعل في كل مرة عندما يسهران على السرير ويروي لها تفاصيل يومه.
"حتماً سألت عني في السيرك، ولا بد أنهم دلوها على المكان.. هل جاءت إلى هنا؟ ماذا قالوا لها؟ مؤكد كذبوا عليها".
كان يظن أن اعتقاله لن يستمر طويلاً. "يقيناً هي نزوة عابرة، الكبار يلعبون أيضاً لكن بشكل يختلف عن الصغار.. إنهم أكثر خشونة وبدائية، بالذات الوجهاء والأعيان، أعرف ذلك".
لكنه لم يعرف أنها ليلته الأخيرة.
اقتادوه إلى القاعة ذاتها، وهناك راح يستعرض مهاراته. لم يسمع ـ أثناء استغراقه في الأداء ـ صوت الجنرال وهو يهمس لصاحبيه بتأفف: "أشتهي أن أخنق هذا الرجل.. صار يضجرني".
عندما دنا منه الجنرال، توقف هو ورأى في وجه الآخر عينين ضاريتين، طافحتين بشهوة الفتك. ارتد إلى الوراء قليلاً، غير أن أصابع قوية انقضّت على عنقه وطوّقته بإحكام. حاول أن يخلص عنقه من الأصابع الصلبة الضاغطة بشدة لكن دون جدوى. اشتد الضغط، طفر اللعاب من فمه، جحظت عيناه، تقلص وجهه، اختلج جسده، ومع النَفَس الأخير لفظ أحرفاً ممزقة ومبعثرة.

* * *

زينب استوطنت الحزن، صارت خارج البحث، خارج السؤال. أنهكها الانتظار والتوقع. كم مضى؟ شهر.. شهران؟ فسّرت الغياب بالسفر. الصغيرة صدّقت رغم بوادر الشك، وهي أيضاً تمنّت أن تصدّق ذلك. أحياناً يساورها هاجس أنه هرب مع امرأة أكثر جمالاً وثراء منها، إلا أنها تستعيذ بالذكريات الحلوة وبثقتها من حبه لها.
ويأتي اليقين ـ يوما ًـ مطموراً بين تجاعيد وجه مسن، معذﱠب بالإثم، جاء ينشد الصفح. عرفَته ـ البوّاب ـ وأدخلته بيتها. قبل أن يجلس أخرج من جيبه حزمة من الأوراق النقدية ووضعها بهدوء على الطاولة وقال بصوت مفعم بالأسى والندم:
"هذا ثمن سكوتي". ثم جلس وأخذ يحكي.

* * *

ـ ماذا تفعلين يا زينب؟
تتحصن بالصمت والعزم ولا تُفصح. تصغي للخشب الذي تخترقه مسامير حادة. من الحديد استعارت ساعداً أقسم أن يثأر. والصغيرة تتفرج ولا تعلم شيئاً.
ـ لمن هذه الصناديق الثلاثة التي تشبه التوابيت؟
يزعجهم الطَرق، يضايقهم أنهم يجهلون ما تفكر فيه. ها هي تشمّر عن ساعديها وتتأهب لولوج اللحظة المجبولة بالمجازفة.
حين جاءها النبأ، رفضت دورها المرسوم بدقة في مثل هذه الحالات المألوفة. خلعت صوت الحداد، غمّست راحتيها في ماء الموقد، ولم تفتح ذراعيها لاستقبال النائحات. لقد احتفظت بالأمر سراً .

* * *

ثلاثة كانوا ينتفضون خوفاً كلما اخترق مسامعهم صخب مسمار يطرّز هيكل تابوت:
الأول: يتمترس داخل دبّابة.
الثاني: يتوارى خلف المساحيق.
الثالث: يقرفص في جوف خزانة.
وفي المسافة الفاصلة يتدلى جسمٍ كهلٍ، كان يعمل بوّاباً، شنقوه لأنه غدر بهم وأفشى السر.

3 ـ بين الوتر والشفرة،
تنتصب الأنثى وتكشف صدرها

ـ هي ـ

بعد ستة شهور، منحها رب العائلة خمسة دنانير علاوة على راتبها. إذن، فقد أثبتت جدارتها كخادمة. يتسنى لها الآن أن تتباهى بثوب جديد، وتتبّرج بالكحل والعطر، وتتظاهر باللامبالاة تجاه مغازلات الشبان، وتتوهم أنها الأجمل، وتتخيل ذلك الباسل الوسيم وهو يلوّح لها بمنديله ويدعوها، فتذهب إليه ملهوفة، عذراء، وبلا إرادة. عندما تعبت تخيلاتها تذكرت أمها، فقررت أن تشتري الثوب لها.
تعلم جيداً أن السيد يشتعل رغبة كي تثبت جدارتها كامرأة. تفضحه إيماءاته، نظراته، ارتجافة شفتيه حين يخاطبها. حرصه على مراقبتها سراً، بينما تكنس أو تمسح البلاط أو تلمّع زجاج النوافذ، يضاهي حرصه على المظاهر والأصول والروابط العائلية، لذا يلجم نفسه ويمنعها من الوصول إليها، لذا يقيّدها من رسغيها ـ حدث ذات مرة ـ ويجلدها بالسوط لأنها نسيت أن تضع له جريدة الصباح على المائدة.
تهدر السيدة باسمها، فتهرول نحوها. تقف قبالتها منكّسة الرأس، مصغية إلى هديرها. تأمر، تنهى، تزجر.. ثم تعود إلى غرفتها يرافقها كلبها. كلب نشيط، قوي، يحوم حول سيدته ويهز ذنبه باستمرار. بعد أيام سوف يخرج من البيت هزيلاً، خائر القوى، معقوف الذنب ليحل محله كلب آخر. مسألة عادية لا تلفت نظر سكان البيت ولا معارفهم.
ما إن يحين وقت تنظيف وترتيب غرفة الابن المدلل حتى يقشعر بدنها وتسري في أوردتها رجفة يستعصي عليها إخفاءها. بعد تردد تخطو إلى الداخل وتؤدي واجبها. هنا تفرز المراهقة مكبوتاتها وتفحش بحرية مطلقة. حالما يعود من مدرسته يتجه إلى غرفته مباشرة. بعد دقائق تكون هي واقفة بالقرب من السرير. فِعْل يومي حفظته غيباً وتنفذه بدقة. يجثو على السرير ويسوّرها بنظراته بينما تفك أزرار ثوبها ببطء، لتكشف عن صدرها. ليس مطلوباً منها سوى أن تقف هكذا: مكشوفة، مفتوحة، مباحة. مع ذلك، لا ينال منها الفاتح غير نهديها المكتنزين بالنداوة والبكورة، يرشقهما بوابل من حمم المقل التي لا تطيش، ولا يمد أصابعه لجسّ نعومة التكوّر، بل يدع يده تنزلق إلى الجزء الناتئ، تدريجياً، في وسطه.. ويستمني. هذه هي رغبته، يغذّيها بالصور حتى تشبع، عندئذ ينسلّ خائراً، جائعاً، ويغادر دون كلمة. تبقى هي لتسترَ عُرْيها، ولتغيّر الملاءات وتستبدلها بأخرى نظيفة.
في اليوم التالي استأذنت لزيارة أمها.

ـ هو ـ
الطبيعة تبدع منحوتاتها بإتقان لا يُبارى. ها هي تنفخ النفس الحيّ الخالق في نبض كائناتها وتذري ذُريّتها، جبال تتمخض فتنبثق أشجار معبأة بالليمون والتفاح والبرتقال، تحتك بالمطر وترضع جذوعها بالبَرَد. سهول وسهوب تستوطنها الحمام، وبين الفينة والفينة، تطفح بالديَكَة الرومية والأفراس والنعاج. روابٍ تحرس آبارها وهي غافية، تسفح كرمها وتحنو بما لديها بسخاء على العابرين من إنس ودواجن وماشية. غابات تلقّن كواسرها كيف تقتات الحشائش وتجتر مثل النوق في الضراء. حقول قمح وقطن وصنوبرات وبتولا. أعشاب تتمرأى في مرآة النهر الأزرق وتطالع رونقها بانتشاء.. مثل آلهة حكيمة وعادلة تتجلى الطبيعة وتدعو الأزواج لقضاء بعض الوقت في مخادعها.
من أنامل هذه الآلهة تسرّب الراعي مخفوراً بأنغام مزمار. متوجاً برفيف ملاكين توأمين يرشدانه، والمزمار ينثر أصداءه كي تنتبه البقاع وتفرش أحواضها الفسفورية بساطاً للقادم . على العشب يسير وئيداً تاركاً قطيعه يرعى في طمأنينة وسلام، وعند الحدود ينعطف نحو المدينة ويهبط أعزل إلا من مزمار يصدح.

ـ هي ـ
جالسة قبالة أمها سعيدة بفرحها بالثوب.
ـ بودي أن أقيم معك يا أمي، وأخدمك.
ـ ومن أين سنأكل يا ابنتي؟.. على أية حال أنا لست كبيرة إلى هذا الحد.
هي وحيدة منذ أن هجرها زوجها.. في الأربعين لكنهــا تبدو في الســـتين. تجاعيد الوجه ونتوء العروق تنبئ عن ذلك بوضوح. تعمل خادمة أيضاً، نسل مدموغ بالطاعة والذل، ملعون بالرق، محكوم بغسل بقايا الأسياد. حرام يــا رب العالمين، بسبب سكوتك نوشك أن نكفر.
ـ في كل صلاة أبتهل إلى ربي أن يحقق لي أمنيتي، وأشهد عرسك وأرى بيتك وأولادك.
- سوف تعيشين يا أمي، وستكونين معي.
من يرضى أن يتزوج خادمـــة غير فقير، مأواه الرصيف وخبزه مغمس بالزيت والعرق. تعلم أن لا جدوى من انتظار أمير الحكايات الخرافية، الذي سيمرق تحت شرفتها ممتطياً حصاناً مطهماً بالنبل والفروسية، والذي ما إن يلمــح نضارتهـــــا حتى يرشقها بمنديل أرق من النسيم. تعلم أن الزمن يسلبها في كل خطوة تخطوها ـ أثناء اجتيازها عتباته ـ بعضاً من دمها أو حفنة من أحلامها. تعلم أن مــــن واجب الفقراء أن يدفعوا الضرائب طوعاً وإلاّ فقسراً.
ـ أخبريني يا ابنتي، هل أنت سعيدة في عملك هناك؟
تنكمش لا شعورياً وتشيح بوجهها خشية أن تكشف تعابيرها كذبها. بصوت خافت متهدج أجابت: نعم.
في سجن النساء مكثت أسبوعاً بتهمة سرقة قلادة مخدومتها السابقة. بين المومسات والنشالات والمشوهات والمنحرفات والمخبولات رقدت خائفة، يوقظها كابوس وينهكها كابوس. حشد من الكتل الآدمية ذات الروائح المقززة متراصـة ومحشورة في زنزانة ضيقة لا تسع نصف العدد، ولأنها لم تستسلم لمشرفة السجن السحاقية فقد كابدت عذاباً مضاعفاً واضطهاداً اسـتثنائياً من السجانات والسجينات على حد سواء، حيث تعرّضت لشتى أنواع القسوة: مضايقات أثنــاء النوم، منعها من مغادرة الزنزانة للاختلاط بالسجينات في ساحة السجن في الساعات اليومية المخصصة، حرمانها من وجبة أو أكثر في اليوم، حبس انفرادي. في آخر الأسبوع أطلقوا سراحها بعد أن ثبتت براءتها وعثرت مخدومتها على القلادة المفقودة.
نهضت وقبّلت أمها. آن لها أن تعود الآن.

ـ هو ـ
صادفها في حانوت ما. رآها تعبر المقهى. راقبها عن كثب حتى سكنت في عينيه، عندئذ هتف "هذا هو الحب إذن". وذات مرة ابتسمت له بحياء، فرفرف قلبه وطفر الوله من جميع مساماته، وأيقن "هي تحبني أيضاً".
جنّد مزماره للعشق وحده، به قادر أن يفشي عن الهوى المتأجج المستتر. بلا هندام مزركش ولا عربة، يذرع الممر الفاصل بينه وبينها.. ويتقرّب. أشياء صغيرة يقدّمها، أثمنها ريش قلب، عند التجربة، يثبت سخاءه وإخلاصه. لقد تألّه الحب ولم يعد يعلوه برج أو سحاب. حتى الرئة امتلأت بالرعشة وصارت تهذي تنشد الوصال. بالمزمار خاطب أقفالها لعلها تنفتح دون شرط فيدخلها مطمئناً وفخوراً. لغة ليست مستعارة. ســــوف يصغي إن تكلمت. ســوف يتكلم إن أصغت. أناشيد لا تُعد تترادف في خلاياه هذه اللحظة، وثمة آفاق لا تُحد تجوب مقلتيه.

ـ هي ـ
حول المائدة جلست العائلة. من مكان ما في الخارج تصل أنغام عذبة يبعثها مزمار محب. السيد يتكئ على مرفقيه ناظراً أمامه، سارحاً، يقطب جبينه حيناً، ويزمّ شفتيه حيناً. في الواقع هو لا يفكر بل يتظاهر بذلك، أو بالأحرى يوهم نفسه أنه يفكر. هذا يضاعف احترام المحيطين له، ويجعلهم يتهامسون فيما بينهم قائلين: يا له من حكيم هذا الرجل.
السيدة تلاطف كلبها الوافد حديثاً والقابع باستسلام في حضنها. الابن يطالع كتاباً مصوّراً. والأكل لم يُمس منذ عشر دقائق. بعد فترة يصحو السيد من سرحانه وينفض رأسه مثل قطة مبللة. ثم فجأة ينطلق صوته الجهوري مرتعداً من الانفعال:
ـ هذا المزمار يزعجني. الأصابع التي تعزفه يجب أن تُقطع فوراً.
الخادمة الواقفة جانباً تتقهقر مبهوتة، خائفة.

ـ هو ـ
رجع إلى الحقل باكياً، مقهوراً، دون مزمار ولا حبيبة. أحاطت به الحيوانات من كل حدب تستطلع الأمر، والطيور حامت فوقه تظلله وتلطّف طقسه، والنباتات فرشت راحاتها لكي يضطجع عليها ويهدأ.
ـ ماذا فعلوا بك يا حبيبنا؟
ـ لم يكن بمقدوري أن أقاوم شراستهم. كانوا أقوى مني. سحبوني عنوة إلى البيت الكبير، وهناك كسروا مزماري وبتروا أصابعي.
- وأين.. أين تلك الأنثى التي وعدتنا بإحضارها كي ترث عرش مملكتنا؟
ـ هددوني بالقتل إن عدت ثانية. تركتها وجئتكم لاجئاً.
ـ أيها التعيس. يحزننا أن نقسو عليك. نم الآن فأنت مُتعب.

ـ هي ـ
قابلتك في الحلم، كنتَ شهاباً يتأرجح في العتمة ويسكب شعلاً باردة فوق رأسي، وحين حاذيتني همست في أذني قائلاً: "احذري الثعالب في الشتاء". ومرة طلعت في صورة قديس شاطرني خبزه ثم مسح شعري ومضى، ومن فرط ابتهاجي ألقيت بنفسي في البحيرة فتلقفتني الأسماك غير متذمرة من تطفلي. لكن أجمل الصور تلك التي كنتَ فيها راعياً يتشح بالأغنيات، ويعبر المسافات في غمضة عين، وفي كل خطوة يحث مزماره أن يصون ذاكرة الرمل كالحكاية، وأن يرصد وعورة الليل كالقنديل. قلت في نفسي: هذا من اختاره قلبي، فلأتبعه أينما يذهب وأينما يستقر. سـأرافقه ـ دون تعثّر ـ حتى عصب المدى.. بلا ثوب ولا مرآة، وسأحتمي بساعديه. رأيتك في الحلم تنداح مثل ضوء، تأخذني بين ذراعيك كأبهى ما تكون، كأنقى ما أكون، بينما يبلّلنا الهواء بعناصره.
تزوجتك في الحلم، وحين صحوتُ ترمّلت.

ـ هي ـ
لم يبالِ أهل البيت بحزنها وشحوبها. طلبوا منها أن تستعير جهداً إضافيا من أجل ضيوف الليلة. مسحتْ، كنستْ، غسلتْ، نظفتْ.. حتى آن موعد قدوم الضيوف، وعندما وفدوا ابتدأ عمل شاق آخر. تحمل الأطباق والكحول هنا وهناك، تلبي الأوامر، تنصاع لكل إشارة وإيماءة، وليس من يرحم تعاستها.
بدورها قررت أن لا ترحم. تسللت إلى الخارج من غير أن يشعر بها أحد، وأغلقت الأبواب بإحكام. الصخب واللهو والفحش لا يزال يصل إلى مسامعها فيلتهب حقدها أكثر. على عجل أحضرت البنزين وبدأت تسكبه حول الغرف وعلى الأثاث الفاخر والأجهزة، ثم أشعلت عود ثقاب "جيف متعفنة لا بد أن تُحرق" ..
واشتعل البيت الكبير.
انفتح أمامها درب طويل، غير مأهول، مشت فيه دون تعثر.

4 ـ دادا.. هذا ثدي هائل
لكنه مكتظ بالدم

دار دورتين حول خصمه الصريع على الأرض مضرجاً بدمائه، وعندما أيقن أن الحربة قد قضت عليه أخيراً بعد أن اخترقت صدره ونفذت من ظهره، شعر بألم حاد في خاصرته، نظر فرأى دماً غزيراً يتدفق من جرح عميق أحدثه سيف الخصم، عندئذ أخذ يسير مترنحاً، لا يكاد يبصر من فرط كثافة الغشاوة المنسوجة حول عينيه.
المرئيات تتموّج أمامه ثم تتداعى. بصعوبة شق طريقه وسط هتافات لا يسمعها لجمهور مسعور يملأ مدرجات الحلبة ويهلل ويصفق ويصرخ بحماسة بدائية، منتشياً بالدم.
تكسر الصوت تحت مواطئه، هوت شهقاته الواحدة بعد الأخرى، كل ما يملكه من حواس اندحر أمام سطوة الألم الرهيب الذي يفترسه بلا شفقة. تراءى له أن الساحة جلد أفعى كبيرة تلهو به ولا تدعه يخرج. مع ذلك واصل سيره حتى ألفى نفسه ـ بعد حين ـ خارج الساحة. في تلك اللحظة امتدت أمامه صحراء لا متناهية يجب أن يعبرها كي يصل إلى مأواه المنشود.
يا بلاداً تَشتَتَ أبناؤها في الداخل والخارج، هيئي سريراً دافئاً لهذا المحارب المتعب، أو افسحي له مكاناً بين زغبك المائي. لقد عاد من أجل أن يقبلّك القبلة الأخيرة، ويموت على رملك الأخضر. لا يرجو أكثر من هذا. ملعونة أنتِ إن أشحت بوجهك وأبيتِ أن تضميه إلى صدرك.
أصداء متشابكة تطرق أذنيه، تتضح تدريجياً، إلى أن يميز من بينها: جوقة من الأطفال يرتّلون ـ ضجيج حارات ضاجة بالبؤس ـ بلابل تشدو ـ أعراس ـ صخب عكازات تعدو لكي تنتسب لقبضات هرمة.
ضمن البعد اللانهائي، المنفرج أمامه، فقط الذاكرة تطفو مجاناً وتتلوّن حسب البيئة والمناخات والفصول، وأيضاً لا تجيد المراوغة رغم طيشها، تظل أمينة.. هذا إذا أُحسن استحضار محتوياتها. ساعتها تتوارد الصور، كأنها منبلجة لتوّها من بئر عميقة لا ماء فيها.
قديماً كانت ثلاثون قطعة من الفضة تكفي ليخون المرء صديقه، أما الآن فإن مجرد صفعة من رجل يلبس قناع المحقق تكفي.. وربما دون حاجة إلى ندم أو لجوء إلى حبل معلق في جذع شجرة.. وفي جميع الأحوال، دائماً ثمة عشاء أخير.
بعد أن شوهوا أطراف جسده واحتجزوه شهوراً، قالوا له نحن لا نرغب في وجودك هنا. أنت مخرب. يجب أن تغادر البلاد.
فرانسواز.. لماذا أنت قاسية هكذا؟
تنأى حين يهفو إلى قبلة أو لمسة، تدنو حين يتقوس من اليأس. فطِن متأخراً أن فريسته التي اصطادها بكتاب "ألف ليلة وليلة" في إحدى المكتبات العامة لم تكن سوى صياد ماكر، وصار هو أعجز من أن يقرض الدانتيلا. ذات يوم خرجا معاً إلى السوق، كانت متأبطة ذراعه، يتحدثان ويضحكان بحبور، ويتفرجان على المعروضات، وعندما وصلا إلى متجر كبير، يبيع الألبسة الجاهزة، توقفت غير مكترثة بالمناكب التي تصطدم بها. حاول أن يسحبها من يدها لكنها انفلتت بسرعة ودلفت إلى المحل. وقف ينتظرها وهو يهز رأسه كمن اعتاد على تصرفاتها العابثة والشاذة، بعد برهة لمحها في واجهة المحل، بجانب الموديلات، وهي تقلد أوضاعها المختلفة. أشار لها، وهو يضحك من جنونها بأن تخرج خشية أن يضبطها أحد العاملين في المتجر، لكنها لم تأبه له. فجأة راحت تنزع ثيابها، قطعة فقطعة، وببطء شديد، مثل راقصة محترفة في ملهى. صعقه المنظر فتلفت حواليه مبهوتاً، خائفاً من أن يثور المارة ويؤذوها، غير أن المارة ـ أثناء سيرهم ـ لم يكونوا يعيرونها اهتماماً خاصاً، بل يلقون عليها نظرة خاطفة وهم يبتسمون. أصبحت عارية تماماً وبدأت تثيره بحركات خليعة. لم يستطع أن يقاوم، فتقدم ممغنطاً إلى العري النابض باللذة والسحر، ووضع يديه على السطح الزجاجي البارد مقتفياً خطوط جسدها المتمايل المتعرج، وشيئاً فشيئاً بدأت أصابعه تلتهب. حينئذ ألصق شفتيه على الزجاج وراح يلثم صاعداً وهابطاً مع التواءات الجسد، بينما أنفاسه تلفح السطح. لم يعد هناك ما يحول بين أنسجته وبين التكوين العاري المتواري. ذاب الزجاج تحت تشنجات العروق وصلابة الجلد وانتصاب اللحم. ذابت البصريات. وفي غمرة وُلوجه في التكوين، شعر بأشياء صلبة تنهال على جسمه من كل صوب. قبضات، ركلات، وربما أدوات حادة.. حينذاك غاب عن الوعي.
بعد وقت، لم يعرف أمده، فتح عينيه ووجد نفسه طريحاً على الرصيف، مضرجاً بالدم، وهي جالسة بالقرب منه تنظر إليه. ابتسمت له بوداعة وقالت بنبرة حنونة عذبة:
- يا لك من طفل مجنون، أنظر ماذا فعلت بنفسك.
أغمض عينيه وتمتم:
"فرانسواز.. لماذا تفعلين هذا بي؟".
(... منذ فترة لم نستلم منك رسالة تطمئننا عليك. أبوك مريض جداً. إذا احتجت إلى شيء لا تتردد في إعلامنا.)
باع كتبه وبعض حاجياته التي تستحق أن تُشتَرى. بحث عن عمل، بعد لأيٍ حصل على وظيفة كنّاس... يا أجنبي.. اصقل عاصمتنا واجعلها تتألق بين المدائن كل صباح.
(... أبوك مات. حالتنا المالية تسوء يوماً بعد يوم. اشتقنا إليك كثيراً)
ينتحون به جانباً ويحاولون إقناعه: عضلاتك الشرقية هذه مكانها حلبة المصارعة. هناك تستطيع أن تحصل على ما تريد. اسمع كلامنا. لديك موهبة فلا تدعها تموت في صدرك.
مرة أخرى يقع في الخطأ ويقبل أن يكون مصارعاً يقتات بسفك دماء الآخرين.
ها هو يعود، عابراً الصحراء، مخبئاً جرحه تحت راحته.. لقد دفن أخطاءه في تلك العاصمة، وجاء مكسوّاً بالنقاء كما كان قبل النفي. لم يغتسل بنبع، ولم يلتمس الصفح من أحد، إذ لا نبع هناك ولا أحد. تطهّر بالدم وحده.
للمدينة بوابات، وللبوابات أقفال، وللأقفال مفاتيح، والمفاتيح عند الحراس، والحراس يلعبون الشطرنج فوق شجرة ضخمة، وتارة يراقبون الطريق بالمنظار المكبّر، إذ كانت الجيوش، وأحياناً البواخر، تنفذ من ثقوب البوابات في وضح النهار، وتنهب محاصيل المدينة ثم تغادر دون أن يشعر بهـا الحراس (أو على الأرجح يشعرون لكن يغضون البصر)، فكيف لا يمكن لجرح أن يدخل من غير أن يكتشفوه، وهو الذي يتسرب من أهداب الليل كهرّ أسود؟
زحف إلى أن أيقن أنه بمنأى عن منظار الحراس وصفاراتهم. وقف وحاول أن يمنع جسمه من الاهتزاز فلم يفلح. أدار بصره في الموقع الذي وجد نفسه فيه. مكان وحيد ومتشح بالعتمة، فارقه الناس بعد أن لملم النهار أشياءه ومضى. تنفس الهواء البارد الممتزج بالندى، وشعر بالانتعاش قليلاً. بيته لا يبتعد كثيراً. يلزمه قدر من الشجاعة والاحتمال حتى يصل. مشى وهو يفكر في وقع المفاجأة على أسرته، وكيف سيستقبلون حضوره.
بعد عدة خطوات، بدأ جرحه يؤلمه أكثر ويهدّ بدنه. لم يقدر أن يصطحب جرحه إلى مسافة أبعد، لذلك انعطف نحو زقاق تنبعث منه روائح كريهة، وبالقرب من برميل قمامة، أسند ظهره إلى الجدار ثم انزلق جالساً. حدّق أمامه لثوانٍ ثم غفا.
مع طلوع الفجر بزغت امرأة من البرميل، وجهها متسخ، ولثيابها رائحة طعام متعفن، تثاءبت بصوت عال، وعندما لمحت الشاب النائم وهو متكئ على الجدار، لم يبد عليها الاستغراب. أمرٌ مألوف وشائع أن ينام قطاع كبير من أهالي البلدة في أماكن أخرى غير الأسرّة والغرف الصحية.
خرجت من البرميل بخفّة ويسر، ودنت منه وهي تتفحصه بفضول، لكن بصرها اصطدم بمنظر جعلها تجفل وتجمد في مكانها. دم غزير كان يفيض من بطنه ويندلق على الأرض. ناشدت جسارتها بأن لا تخذلها في هذه اللحظة وتقدمت. جلست بقربه. وجهه شاحب وشفتاه ترتجفان. "نائم أم ميت؟.. يا إلهي ساعدني". مدّت يدها كي تتلمس الجرح، فانتفض جسمه. سحبت يدها بسرعة وتطلعت إليه. كانت عيناه مفتوحتين، مصوّبتين نحوها في تساؤل وريبة. قالت له وهي تطمئنه : "لا تخف، سأساعدك".
نهضت على عجل وأخذت تبحث في الزقاق عن شيء ما، لم تعثر على هذا الشيء. انحنت ومزقت ذيل ثوبها ثم لفّت القماش حول الجرح محاولة أن توقف النزيف.
ـ هذا لن ينفع، يجب أن آخذك إلى المستشفى.
ردّ بصوت واهن ومبحوح..
ـ لا حاجة بي إلى المستشفى. أفضّل الجلوس هنا. لن أمكث طويلاً.
ـ لكنك ستموت..
ـ أعرف.
لم يتحرك من مكانه بل أغمض عينيه، وشيئاً فشيئاً بدأت شفتاه تنفرجان كأنه يبتسم. هو يبتسم الآن. ما أحلى ابتسامته، حتى وهو يموت.
"مَنْ هذا الغريب الذي جاء ليموت هنا تحت بصري وبين ذراعيّ، أنا العاهرة التي تسكن هذا الوكر ولا تجد لقمة سائغة لمجرد أن ابن كلب أشاع في وسط البلدة بأني مريضة بالسل؟ لو قُدّر لهذا الرجل أن يعرف من أنا هل كان سيظل هكذا، في هذا المكان الكئيب، جالساً أمامي منتظراً موته كأنه ينتظر حبيبته؟
لابد أن يكون عنيفاً وأعمى ذاك الذي شقّ بطن هذا البائس. تلك حكاية طويلة لا يقدر أن يسردها الآن. يقولون إن الحكايات مجنّحة، لهذا لا يستطيع أحد أن يصطادها ويدفنها، لهذا تظل تعبر الفصول متقمصة روح فراشة، أو تتجسّد في شكل طفل. يوماً ما سأسمعها تناديني، أما الآن فينبغي أن أفعل شيئاً لأجله"
تنهض بغتة وتتحرك مبتعدة بضع خطوات، لكن يوقفها صوت ضعيف هش..
ـ لا تذهبي.
تستدير وتعود لكي تجلس قبالته وتغطيه بنظراتها الحانية، خائفة وحائرة.
ـ إذا أخذتك إلى المستشفى، أو إلى أي مكان آخر، فسوف تشفى. جرحك ليس عميقاً إلى هذا الحد. أنت تقتل نفسك بهذه الطريقة، وأنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً هنا. أرجوك. قم معي.
أغمض عينيه ثانيةً ولم ينطق بكلمة. بعد ثوان أخرج لسانه ببطء ورطّب شفتيه.
"ظمآن والجرح عميق وغائر. أعيروني قطرة ماء. ليس لأجلي ولكن لشاب لا أعرف اسمه، اصطفاني كي يهبني طيفه وسرّه. هل لديكم مطهر أو يود وضمادات؟ جرحه يستغيث بي، أنا العاجزة الفقيرة إلا من جسد لا يرضى به أحد، لا تمعنوا في رجمي بقسوتكم. تعالوا لتروا ما أراه. إن كان هو يمنعني من الذهاب إليكم، حتى لا يتشوّه موته ولا تضطرب روحه، فبإمكانكم المجيء. قنّعوا حضوركم بالمصادفة إذا شئتم لكن تعالوا على عجل. لن يمنحني الوقت العجول أكثر مما منحني"
تزداد اقتراباً منه إلى أن تلتصق به. تضع ذراعها خلف رأسه وتسنده إلى صدرها. بأصابع مرتعشة تخرج نهدها وتقحم حلمة الثدي بين أسنانه. يشعر هو بنعومة اللحم وطراوته فيفتح فمه ويبدأ في مصّ الحليب بشراهة لا حد لها.
من عينيها تنحدر الدموع دون توقف، ورويداً تبدأ في النشيج.

خاتمة الحكايات

في ذلك الطريق الذي يفضي إلى التلال الفضية نشاهد:
ـ امرأة تنتضي سكيناً حادة يتقطر من نصلها دماء حارس ليلي همّ باغتصابها ذات ليلة.
ـ امرأة تمشي مرفوعة الرأس، تجرّ خلفها ثلاثة توابيت.
ـ امرأة تحمل القنابل وتفجر المناطق الموبوءة.
ـ امرأة تسقي بحليب ثدييها من تصادفه من التائهين والمنبوذين والمنفيين.

ابريل 1980

بابا نويل لا يحب الدمى

يا نجم،
أرفق بهذا السائر ليلاً..
بلا صديق،
وبلا مظلة.
هناك رجل ممدّد على ظهره في الحظيرة، أشبه بالميت، أو ربما هو ميت. إنه ساكن تماماً. فوق صدره يجثم ديك وينقر عينيه على مهل. يرتفع المنقار فيتقطر الدم قطرات قطرات على وجه الرجل وبين الفينة والفينة يحرك الديك رأسه يميناً ويساراً متباهياً بانتصاره وسطوته، غير أنه لا ينتبه لوجود صبي في العاشرة من عمره يقف خلف السياج واضعاً يديه في جيبي بنطلونه وينظر إليهما دونما اكتراث. يستمر الديك في التهام المقلتين والجفنين ويبدأ في محو الأهداب، ولا يكفّ إلا بعد أن يصير موضع العينين مجرد حفرتين صغيرتين عميقتين يفور منهما الدم بغزارة، عندئذ يشعر بحضور شخص ما، فيلتفت نحو الصبي الذي لا يبدو عليه أي انفعال. يرمقان بعضهما لفترة ثم يغمز الديك بعينه فيبتسم الصبي ويغمز له بدوره، بعد ذلك يستدير متّجهاً صوب البيت وهو يصفّر مغتبطاً ومنتشياً.
صرخ الأب بقسوة: لماذا لا تأكل؟
رفع الصبي بصره عن الأطباق الموضوعة أمامه على المائدة وهمس بصوت مرتعش: شبعت يا أبي.
همّ بأن يقول له بثبات ودون وجل "لقد رأيتك يا أبي ميتـاً والدّيك يأكل عينيك"، لكنه آثر أن يصمت خوفاً من أن ينال صفعة أو يتلقى شيئاً حاداً في مكان ما من جسمه.
قال الأب وهو يرمقه بحدة: إذن ماذا تنتظر، قم واغسل فمك.
نهض الصبي على عجل، وقبل أن يمضي إلى الحمّام ألقى نظرة سريعة على أخته التي تصغره بخمسة أعوام، فلاحظ أنها منهمكة في الأكل. ربما اعتادت الأمر أو أنها تتظاهر بعدم الاهتمام خوفاً من غضب الأب الذي قد تتعرض له هي الأخرى.
في غرفته كان مضطجعاً على السرير يتأمل السقف "لو يأتي أبي الآن ويأخذني معه للتنزه؟ لو يحبني؟ جميل التنزه في الحدائق قبل المغيب. جميل أن يحب الأب ابنه. لكنه يكرهني من غير سبب"
سمع حركة مقبض الباب وانفتاحه فأدار رأسه سريعاً ناحية الباب راجياً أن يكون القادم أباه، وأنه جاء ليدعوه للمضي معه، إلا أنه شعر بالخيبة عندما لمح أخته تجرجر ألعابها خلفها، فعاد إلى وضعه السابق وهو يعضّ على شفتيه مانعا نفسه من البكاء.
نادته أخته بوداعة:
ـ محمد..
أجاب دون أن يلتفت:
ـ ماذا؟
دنت من السرير:
ـ إلعب معي.
ـ إلعبي وحدك. أريد أن أنام.
حدّق في مروحة السقف طويلاً لعلها تجفف دموعه التي بدأت تطفر.
وأخذ يسير في الوحل بتثاقل ومشقة بَيّنين، على طول جانبي الطريق الطويل الممتد، اصطف رجال ونساء بملابس غريبة منمّقة ذات ألوانٍ صارخة، يسيّجونه بنظرات محايدة ترعبه وتضاعف من عزلته. قدماه تغوصان في الوحل ولا أحد يغيثه. صامتون، ساكنون، أشبه بالمومياءات. يوشك على البكاء أو على الصراخ لكنه يكبح انفعالاته ويواصل المسير. سيصل إن تشبث بجذر الهواء، هكذا يفكر. يرسم بأنفاسه صورة طائر سرعان ما يتجسد ويحلق فوق رأسه. سيكون دليلي، هكذا يقول. فجأة ينبثق من بين الجموع وجه يشطر السكون بعنفه وشراسته، إنه وجه أبيه: متفصّد، متقلّص، مخيف.. يتحرك الفم بتشـنج، وببطء ـ بلا صوت ـ كأنه يتوعّد ويهدد. يزداد ذعر الصبي لكنه لا يتوقف، وعندما يوقن أن الوجه عاجز عن اللحاق به، يحس بفرح عجيب يغمره وينعش خلاياه. يرنو إلى الطائر بسعادة بالغة. لكن هذا لا يدوم طويلاً، إذ يباغته منظر يجعله ينتفض هلعاً، فمن الوحل تتصاعد فقاعات وبخار لافح، ويصير كأنه يتحرك في مرجل يغلي. يشعر بالعرق يتدفق من جسمه وبسائل ساخن يلهب شفتيه. يكتشف بأن أنفه ينزف دماً، وأذنيه ترشحان دماً، يهمّ باللجوء إلى إحدى الضفتين حيث لا وحل ولا دم، لكنه لا يفعل لأنه يدرك أن الناس المزروعين على الضفتين سيمنعونه بالرغم من حيادهم المكشوف، لذا لا يجد أمامه غير الاستمرار فيمشي مغمض العينين، ويبدأ رويداً في الانحدار نحو الغيبوبة مستسلماً لأصوات مبهمة وصفارات وحفيف أوراق ـ لا يعرف مصدرها ـ تتزاوج في ذهنه وتختلط بعضها ببعض، ومن بين هذا المزيج الشاذ يتشكل صوت عميق واضح النبرات: "ها قد دخلت جذري وانتسبت إلى مملكتي". فيفتح عينيه لأنه عرف أن الهواء يخاطبه، وحينئذ يلفي نفسه في مرج، محاطاً بالحشائش والعصافير، يستنشق رائحة أوراق الشجر النديّة ويصغي إلى ضجيج الحشرات. يجد أمامه باباً كبيراً مفتوحاً على حديقة فسيحة ملأى بالثمار والزهور والجداول. يرفرف الطائر بجناحيه ويقول: "لقد وصلت. ادخل رحم الأمومة"، ثم يختفي. يتقدم ويدخل ويخطو على الحشائش مبهوراً بما حوله إلى أن يصل إلى قبّة خضراء مغروسة في منتصف الحديقة، يتأملها للحظات جاهلاً كُنْهَ هذا الكيان المهيب. فجأة يسمع صوتاً آتياً من خلفه: "هذا ضريح". يستدير فيرى شيخاً جليلاً له لحية بيضاء ويرتدي ثوباً أبيض، وقبل أن يستقر، يبادره الشيخ المتوكئ على عكاز قائلاً: "هذا ضريح أمك يا ولدي".

* * *

نهار بديع، شمس مشرقة، عصافير تغرد.. لكن من يبصر نفَس هذا الصبي سيلمح كسوفاً وضباباً وحزناً ثقيلاً، فهذا المتوجه إلى مدرسته القريبة من البيت، حاملاً حقيبة مكتظة بالكراريس التي لا يطيقها، يستقبل يوماً مألوفاً يدرك سلفاً مجرياته وتفاصيله الصغيرة: سيدخل الفصل ويصغي إلى أستاذه من غير انتباه وتركيز، وسيحاول أن يخاطب زملاءه دونما جدوى فمعظمهم يتحاشون الحديث معه رغم أنه لا يكنّ لهم بغضاً، وفي فترات الاستراحة سينزوي في ركن بعيد يراقب منه التلاميذ وهم يلهون ويتمازحون في الساحة، وسيأتي هشام ـ صديقه الوحيد ـ ويجلس بجانبه ويقدم له سندوتشاً يعتذر عن قبوله، وسيحاول أن يسأله، لماذا يتجنبونني؟ لكنه يحجم عن ذلك، لأنه سأله مراراً، وفي كل مرة كان يتلقى إجابة ثابتة لا تتغير: بسبب أبيك.
"أبوك ضابط. قتل رجلاً أعرج لم يستطع الهرب أثناء مظاهرة سلمية. أطلق عليه من الخلف، وعندما سقط الأعرج دنا منه وانحنى فوقه، لم يكن قد مات بعد، ولكي يُخرسَ توسلاته أدخل المسدس في فمه وأطلق. انفجرت جمجمة الأعرج".
بعد الظهر، اتجه إلى غرفة "شريفة" الخادمة، وجدها ترتّق ثوباً، رفعت بصرها نحوه وابتسمت له ثم واصلت عملها. اقترب منها وجلس بقربها على السرير، أخذ يراقب ما تفعله ويتأمل وجهها. لقد اعتاد أن يجلس معها ويحدثها، لذا لم تسأله عن سبب مجيئه. بعد حين:
ـ أنت جميلة..
ضحكت وقالت دون أن تترك ما بيدها:
ـ أعرف.
ـ لماذا لم تتزوجي بعد؟
نظرت إليه وتنهدت، ثم أجابت مازحة:
ـ لأنني لم ألتق بالشخص الذي يحبني.
ـ أنا أحبك.
ضحكت ثانية. لضحكتها رنين مدغدغ يحلو له الإصغاء إليه.
ـ حبك يختلف.
ـ وأبي.. هل يحبكِ؟
ارتجفت شفتاها، وتظاهرت بأنها لم تسمع، وعادت إلى رتق الثوب. يبدو أنه لم يلحظ ارتباكها، إذ استدرك قائلاً بصوت خافت مسموع:
ـ لا.. أبي لا يحب أحداً.
ـ هو يحبك .
ـ لماذا يكرهني؟
ـ قلت هو يحبك ولم أقل إنه يكرهك.
ـ إذن لماذا يقسو عليّ، ولماذا لا يدعني أرى أمي؟
ـ لأنها تعيش مع رجل آخر.
(أذكر كيف جرّها تلك الليلة من شعرها حتى عتبة البيت وركلها في بطنها ورأسها بلا شفقة. لم يرحم ضعفها ولم يرقّ قلبه لصرخاتها وتوسلاتها، بل تركها دامية الوجه شبه عارية ولم يسترها بغطاء. أنت كنت صغيراً آنذاك وأنا خشيتُ أن تشهد هذا المنظر البشع فأقفلت عليك الغرفة. طلّقها تلك الليلة، وما عدتُ أراها. لن أحكي لك هذا. اذهب والعب خارجاً، فلا جدوى من الأسئلة)
فرشت الثوب بعد أن انتهت من رتق موضع منه:
ـ ما رأيك فيه الآن؟
ـ عندما أكبر سأشتري لكِ ثوباً جديداً.

* * *

في المساء، أمام إلحاح أخته لم يجد بدّاً من الانصياع لطلبها ومشاركتها اللعب بالدمى والألعاب العديدة المبثوثة في الأرجاء.
- محمد أنظر، بابا نويل أحضر هذه الدمية الحلوة. جاء من الشباك. لا، كان في الدولاب مختبئاً، كنتَ نائماً، أنا رأيته. كان يحمل على ظهره صرة كبيرة مليئة بالألعاب. كل ليلة يأتي ويعطيني لعبة. يقول لي يا أميرة. محمد، أنا أميرة..
لم يكن ينصت باهتمام، كان منهمكاً في تركيب لعبة معقّدة، وعندما انتهى من ذلك راح يساعدها في تشغيلها ويراقبها وهي تضحك جذلى. بعد مضي ساعة أو أكثر بدأت الصغيرة تتثاءب، فطلب منها أن تنام، وأخذ هو يلملم الأشياء ويرتّب المكان. بعد ذلك اضطجع على فراشه لكنه بات يقظاً ولم يراوده النعاس. (يجب أن أحصل على عنوان أمي. شريفة لا تريد إخباري، دائماً تتهرّب من الإجابة. الآن سأجعلها تبوح لي بذلك. سأخبرها بأنني مشتاق كثيراً إلى أمي وأنني أحتاجها. ستشفق عليّ شريفة).
بهدوء تسلل من غرفته. كانت ساعة الحائط تشير إلى العاشرة والربع. كانت الإضاءة خافتة، غير أنه يعرف جيداً الطريق إلى شريفة. طرق بابها فلم يسمع رداً، فتح الباب، الغرفة مظلمة وهي لم تكن هناك. استغرب من عدم وجودها في هذه الساعة، بحث عنها في المطبخ وفي المخزن، أيضاً لم تكن هناك. أثناء عبوره أمام حجرة أبيه سمع همسات وتأوهات وشيئاً أشبه بالفحيح. لم يستطع مقاومة فضوله، رغم الخوف والرهبة والحذر، إلا أن ثمة رغبة عنيفة أخذت تستدرجه وتجذبه نحو مصدر الأصوات. دفع الباب قليلاً، لم يكن مغلقاً، والأصوات ازدادت وضوحاً. دفع أكثر، تسمّر في مكانه مذهولاً، فاغر الفم، فاتحاً عينيه على سعتيهما. لقد رأى أباه مستلقياً فوق شريفة، عاريين تماماً ويقومان بحركات معيبة، بعد لحظات انتزع نفسه من مكانه وركض صوب الحمّام وهو يكبح بكاءً يصطخب في داخله. في الحمّام أخذ يجهش مقهوراً ويائساً. بعد حين هرع إلى غرفة شريفة. هدأ بكاؤه لكن هياجه كان يستعر ويتجاوز حده. أخذ يفتش عن شيء ما، وجد الثوب الذي كانت ترتقه ظهر اليوم وراح يمزقه بيديه وأسنانه ثم يقذف به على الأرض ويدوسه.

* * *

في رقعة جرداء مقفرة تحفّها شجيرات صبّار وعلب صدئة وقناني فارغة، يجلس الأب منكس الرأس، موثوق اليدين من الخلف، على كرسي من حجر يتسرب منه الغبار وينسكب على الأرض من جميع الجوانب. ثمة غراب أمام الكرسي يحفر بمنقاره قبراً. أما الصبي فيدور حول الأب ويقف أمامه، مشيراً ناحيته بسبابته وهو يصيح ـ دون صوت ـ كأنما يتهمه. برفع الأب رأسه ويتكلم ـ دون صوت ـ كأنما يدافع. ملامح وجهه تعبّر عن المذلة وتوحي بالاستجداء. بغتة تنبت الأرض نساءً عاريات، شاحبات، معصوبات الأعين. شعورهن أغصان غير مورقة، ومن جروحهن العديدة يتدفق الماء. يحلّقن في الهواء ثم يتلاشين. والأرض لا تتوقف عن الإنجاب، مزيداً من النسوة الشجرات، النسوة المائيات، النسوة النسائم، تصحبهن رغوات ملونة وترانيم ملائكية. مهزومات مهجورات موءودات كأن التربة تنفث مزاميرها، تنثر مراثيها، لعل قافلة الرياح الرحيمة ترأف بها وتسكنها هوادجها. والصبي يذرف الدمع بينما الأب يحملق مفزوعاً، ويزداد فزعه حين يلمح حبلاً دائرياً يتدلى ببطء من فوق، من مكان مجهول، ويلتفّ حول عنقه، فتتغير سحنته وينسلخ جلده. يحل محله جلد أخضر. يصبح بشعاً ومخيفاً. تنمو أنيابه وتكبر أذناه، ومن فروة الرأس ينبثق قرنان حادان يلمعان. حدقتاه تقدحان شرراً، ومن شدقيه الواسعين يخرج ثعبان هائل يفحّ ويقطر لعاباً ساماً، يتحرك نحو الصبي الذي يقف رابط الجأش غير خائف. فجأة يتقهقر الثعبان عائداً إلى المكان الذي خرج منه. يلتفت الصبي فيرى قطيعاً من الأيائل يدنو، يتقدم أيّل ويجثو أمامه فيمتطيه.. عندئذ ينطلق القطيع.

* * *

في اليوم التالي حاول أن يتجنب التقاء نظراته بنظرات شريفة. لقد انتصب حاجز كبير بينه وبينها منذ أن خانته. الخيانة هي تلك الكلمة التي وجدها تعبّر تماماً عن فعلتها البارحة. هي الآن تبدو في نظره ساقطة ومقرفة ومتواطئة ضده. كل حركة منها تولّد في صدره بغضاً لا حدود له.
(أردت أن ألجأ إليك لتخبريني عن مكان أمي. كنت مستعداً لأن ألثم أصابع قدميك لو طلبت مني ذلك، لكنك تواطأت ضدي وارتميت على الفراش الذي حرمت منه أمي. صرت لا أشتهي أن أكلمك ولا أن أراك . صرت أشتهي موتك ولن أغفر لك).
حزن شريفة كبر حجمه، تسلل قبل أن يسدل الجفن غطاءه على المقلة. شاحبة ضامرة بدت. تتكئ على جدار رخو وتتخيّل نفسها كهفاً تستوطنها الخفافيش. لماذا يحدث لها كل هذا؟ حين أبصرت الثوب الممزق فهمت المسألة، وحين سقط الطبق من يدها وانكسر أدركت أن الشرخ يغزو نسغ كل شيء لا محالة، وأنها أول من ستتعرّض للرجم بالطين أو بالسكاكين.
(كيف أشرح لك وأنت صغير؟ لقد رأيتَ ولم تر. ما أصعب أن يكون الطفل قاضياً. تتحاشى أن يقع ظلك على ظلي؟ إذاً أدر وجهك شطر أي بئر تصادفها واغمس راحتك في مائها، سترى ما لم تره. يوماً ستفهم ما معنى أن تكون المرأة خادمة، وأخشى أن تصبح مرآة لأبيك قبل أن يصل ذلك اليوم، وقتئذ ستفهم بشكل آخر. يبدو أن المطر سينهمر بعد قليل. كم أنا حزينة اليوم)
وقف أمام النافذة يرنو إلى الخارج عبر الزجاج وعبر قطرات المطر التي تطرق الزجاج برفق، وشيئاً فشيئاً تكسو سطحه أو تمحوه. هناك الحيوانات تغسل جلودها مغتبطة، وزمرة من الصبيان على دراجاتهم يتنزهون، وبلابل مبلّلة تبحث عن أعشاش دافئة. كان يمكن أن يستغرق في تخيلاته لولا نداء أخته طالبة منه أن يلعب معها.
صاح في وجهها بحدة: اصمتي.
انكمشت قليلاً ثم عادت إلى اللعب بمفردها واستأنف هو مراقبة هطول المطر الذي بدأ يشتد. للمطر حوافر، لخطواته على الإسفلت وقع صاخب. الغيمة وحدها لها الحق في ترويض هذا الوحش الأليف الذي يأكل اللجـام كمــا يأكل الجزرة.. بهدوء وتأنٍ. يتغلغل في كل مكان، يغور في التراب، يمازح المظلات والقبعات، يتحد بعناصر الهواء. وعندما يكفّ عن عبثه ويتعب، تحمله الغيمة بين ذراعيها وترسو به في فضاء آخر.
مرة أخرى سمع نداء أخته وأحس بها تقترب منه.
ـ أنظر يا محمد إلى هذا الدب. أحضره لي بابا نويل وأنت نائم. قال لي..
استدار فجأة وضرب ذراعيها الممدودتين فوقع الدب على الأرض، صاح:
ـ أنت غبية، بابا نويل يخدعك.. بابا نويل لا يحبك.
انفجرت الصغيرة في البكاء. استفزه صياحها ولم يدر ماذا يفعل. كان الغضب يتأجج داخله ويستنفر أعصابه المتوترة. لبث في مكانه برهة ثم اندفع راكضاً، وكاد أن يتعثر على السلّم لكنه تماسك وانطلق خارجاً بأقصى سرعته. المطر كان ينهمر وهو يعدو، لم يحدد جهة معينة يقصدها بل راح يعدو كما لو أنه يهرب من شيء أو كائن مرعب. اتسخ حذاؤه بالوحل، تبللت ثيابه، تموّجت المرئيات أمام بصره ولكنه لم يتوقف بل ظل يجري، يسبقه لهاثه وتتبعه آثار أقدامه. ساقاه ازدادتا عزماً وتصميماً ولم يصبهما الوهن. تكسرت الأعشاب تحت قدميه، تفتت الحجر. انسحق الطين..
يعدو، حوافر تعدو، جواد يعدو. على ظهر الجواد يستقر الصبي ممسكاً باللجام ويطلق صيحات عالية ومبهمة. يعبر السهوب، يقتحم مشارف الغابة ويتوغّل في أحشائها. تحيد عنه المستنقعات وتفسح له الفروع طريقاً ويسمع همس التمساح للبومة "إلى أين يمضي هذا الفارس المستعجل؟". يجتاز الصحراء وصخور الجبال، يمرق تحت الشلالات وفي عمق المغارات. كل الكائنات تخرج رؤوسها وترمق بإعجاب هذا الخيّال الذي تولّه بالسفر وعلّم حصانه قراءة الخرائط. في أقصى الوادي يلمح شجرة تفاح يكبر حجمها كلما تدنو منه. يطلق صرخة مزلزلة إيذاناً بوصوله. هائلة هذه الشجرة مكتظة بالثمار، تنتصب بمفردها في العراء كأنها ملكة لم تتوّج بعد. على غصن تقف غزالة وتنجب وليداً بشرياً، على غصن آخر أطفال عراة يقوزحون الضوء ويرشقون الحوذيين ـ الذين يمرون في صمت ـ بالأكاليل والقش. وتحت الشجرة امرأة فاتحة ذراعيها ترقب القادم وتبتسم. يترجّل الصبي ويهرع إلى حضنها فتحتويه بذراعيها وتقبّل رأسه.
ـ لماذا تأخرت يا حبيبي؟
ـ جئت في الموعد يا أمي.
ـ جميع الفصول جاءت ثم ملّت الانتظار وذهبت، أنا نفسي كدت أيأس.
ـ أمي.. أنا وحيد. أبي أخذ شريفة، بابا نويل خطف أختي.. ليس حباً فيها ولكن كرهاً لي.
ـ لا تخف يا حبيبي، أنا هنا.
تضع أناملها الرقيقة تحت ذقنه وترفع وجهه. تلمح دموعاً، فتقول بحنان دون أن تفارقها ابتسامتها العذبة:
ـ أنت تبكي؟
ـ أريد أن أبقى معك.
تقبّل وجنتيه.
ـ ليس الأمر بيدي.. سأمضي الآن.
يقول مستغرباً غير مصدق ما يسمع..
ـ إلى أين؟
ـ سأمضي.
تبتعد عنه. حوذي كان ينتظرها. لم يتبين وجهه فقد كان يغطي نفسه برداء أسود. ولما صعدت إلى العربة، صاح بخشونة:
ـ عودي.. عودي.
تحركت العربة.
ـ أنا أكرهكِ.. أكرهكم جميعاً.
حين مرّت العربة أمامه استطاع أن يرى الحوذي جيداً. لقد كان هيكلاً عظمياً.

* * *

توقف المطر الذي استمر ساعات. تزحزحت الغيوم. تمتم الصبي: "أخّمن أن السماء ستمطر قبل غروب الشمس".
توجه إلى دار صديقه هشام وهو يحمل حقيبة جلدية صغيرة. دعاه للتجوّل. تمشيا معاً وتحدثا عن المدرسة والمذاكرة والكلاب والأشياء التي يصادفانها. سأله هشام عن الحقيبة، فأجاب بأنه جلب معه طعاماً. اقتنع هشام بالإجابة. وصلا إلى مكانٍ ناءٍ ومنعزل. جلسا على العشب وتحدثا قليلاً، وعندما اضطجع هشام على ظهره فتح محمد حقيبته وأخرج مسدساً راح يتأمله برهة ثم أدناه من وجه صديقه الذي ما إن رأى المسدس حتى نهض مفزوعاً.
ـ حقيقي؟
ـ طبعاً، ومحشو أيضاً.
ـ من أين لك هذا؟
ـ أنه مسدس أبي، أخذته دون أن يعلم.
كان هشام مذهولاً، ينظر إليه باستغراب.
ـ أنت مجنون، سيمزق جلدك إذا عرف بالأمر.
ـ لن يعرف. سأعيده قبل رجوعه.
ـ ولماذا تحمله معك؟
ـ أتسلى به فحسب.
أثارته أكثر رباطة جأشه وهو يربت على المسدس ويمسح عليه كأنه يلاطف هرّة، وأفزعته أكثر تلك الابتسامة الغامضة التي ارتسمت على شفتيه.
ـ إذا لم تُرجع هذا الشيء الآن، سأذهب ولن أكلمك مرة أخرى.
نهض محمد متململاً:
ـ لا تكن غبياً. ليس الأمر خطيراً إلى هذا الحد.
ـ هذا الشيء ليس للتسلية، وأنت تعرف ذلك.
ـ بهذا نستطيع أن نصطاد الأرانب من هنا، هل تريد أن نجرب؟
ـ سأذهب.
تحرك هشام. ازدادت ابتسامة محمد غموضاً. صوّب المسدس نحو ظهر هشام.
ـ عد.
لم يلتفت هشام ولم يتوقف. ظهره كان قريباً. تسلل الإصبع إلى الزناد. الفوهة مصوّبة نحو منتصف الظهر. لحم طريّ. هدف كهذا سهل ولن يخفق في إصابته. لامس الإصبع الزناد. الظهر مكتنز بالدم. الإصبع. الزناد. الظهر. الأم. الغزالة. شريفة. هشام. الطفل. الرجل. الكهل. الدم. اللحم. القلم. العالم. وضغط على الزناد، ومع الطلقة المدوّية التي انفجرت بغتة، خرج هتاف صارخ عنيف من جوف الصبي: يحيا الأب.

أغسطس 1980

للشهادة أيضاً مدارات

تقدموا مثل موكب تزهو فيه الفوضى. هذا هو طقسهم اليومي. بأصابعهم العارية يوسمون الرمل الناعم بشعارات تنبئ عن حضورهم. جاءوا ممشوقين، يمتشقون صناراتهم وحرابهم وشباكهم. جاءوا من الغرف الضيقة، مدفوعين بالصلوات الجائعة ونظرات الأولاد المتكوّرة. لقد انحدروا من أطراف البلدة تسبقهم خيالات جامحة يعرفون أنها لن تتجسد، غير أنهم لا يحاولون ترويضها، أو على الأرجح، لا يريدون.. فالذاكرة الشقية تنفلت عادة من هودج الرأس الساكن، لتنطلق في أقاليم باهرة تبتكرها اللحظة التي لها أجنحة متعددة، لذا يتخيلون أثداء زوجاتهم وقد اكتظّت بالحليب، ووجنات أطفالهم وقد اكتنزت بالضحك، عندئذ يبتهجون، لكن البهجة تغادرهم، حين يلمحون مواطئهم تنغرز أعمق فأعمق في الرمل الناعم، ويدركون أنهم وصلوا أخيراً.
نزلوا، دنا منهم الماء. دخلوا، دخل فيهم الماء. ودون تردد انتهكوا طمأنينة الماء وأسروا في نسغه..
"أيها البحر الرحيم كُنْ سخيّاً هذا اليوم. أيها البحر الرحيم ارأف بنا".
نداءات لم تكن تستجاب في الأيام الماضية إلا نادراً، أما اليوم فيبدو أن البحر لم ينزعج من فضولهم ووقاحتهم، إذ ظلّ مسترخياً بكيانه الهائل، لا يأبه لمضايقتهم الطفولية، وربما يضحك سراً من تخبطهم وهم يبحثون عن مخلوقاته الصغيرة. بأصابعه داعب موجاته وطلب منها أن تكون وديعة، لأن ثمة خدَراً لذيذاً يناوشه. لا ريب أنه سوف يستسلم لنوم عميق. هكذا تتوقف طواحين الماء عن العمل، هكذا تهدأ أجراس الأعماق ولا يُسمع منها سوى أصداء رنين يخبو شيئاً فشيئاً، هكذا تستكين الكائنات المائية وتحترم رغبة سيدها في النوم.. لكن لا شيء يمنع الأسماك العابثة من مواصلة لهوها والتسابق فيما بينها حتى مشارف تخوم مملكتها.
رموا الشباك والصنارات، غرزوا الحراب في الماء. أفواجاً أفواجاً أقبلت الأسماك دونما حذر، فخورة بألوانها وطراوتها، لا تدري أن الماء صار فخاً، لذلك وقعت في الفخ. أسماك كبيرة وصغيرة، أسماك زاهية الألوان، أصداف وأعشاب ومعادن.. كلّها وقعت، فأطلق الصيادون صيحات بدائية تعبّر عن أشياء كبيرة، السعادة إحداها بالتأكيد. ثانيةً رموا شباكهم وانتظروا فترة ريثما تمتلئ.
كم هو سخيّ هذا البحر. أجل. دعوا النسوة يهزجْنَ بالأغنيات الحلوة وينقرْنَ الأوعية النحاسية تلك النقرات الأليفة ويرقصن على إيقاعات الغبطة. ستأكل اليوم سمكاً كثيراً يا ولدي. وأنت يا مصطفى بوسعك أن تبيع نصف حصتك بمبلغ يكفيك شهراً. من يعرف أن يرقص في الماء؟ احتفظوا بطريقة تليق بالفرح الذي يغمر قلوبكم. أيها الشاب، خذ هذه الإسفنجة وامحُ بؤس الأمس. يتسنى لكم الآن أن تتفحصوا مواقعكم وتدوزنوا خطواتكم لتكون جديرة بالمناسبة.
تتدحرج الأسماك جاحظة أعينها. بخفة تتواثب الأقدام الحافية غير مكترثة بالحصى المدبب وبشظايا الزجاج التي تنغرز في باطن القدم. يلتقطون الأسماك. يسحبون الشباك ثم يرمونها دون كلل، لا ترتخي العضلات لحظة، بل تظل نافرة، لا تتعب. والبحر، هذا الهائل، يغفو محتوياً عناصره في عناق طويل.
فجأة،
اعتدل واحد منهم في وقفته، وقد اعترته رجفة لم يقوَ على إخفائها، وراح يحدق أمامه فاتحاً عينيه على سعتيهما في فزع جلي. هذه الحركة أربكت الآخرين، نظروا إليه برهة ثم التفتوا إلى حيث كان يحدّق. فجحظت عيونهم، وتمتم أحدهم "يا إلهي، ما هذا؟".
انفلتت الشباك الحبلى من القبضات بشكل لا إرادي، واحتل التوتر والرهبة مواقعهم. لبثوا في أماكنهم ساكنين فترة، لا يجرؤ أحد على خدش الهدوء الذي هبط عليهم بغتة. لماذا يحدث هذا الآن؟
شعروا أن الدم قد بدأ يتجمد في عروقهم، هجسوا أن الرعب سيغتصب مُقَلَهم إذا لم يبادروا لفك الحصار قبل فوات الأوان، أيقنوا أن الأعصاب لا يمكن أن تكون محايدة في مثل هذا الموقف.. لذلك أطلق أحدهم صيحة فشلت في أن تحافظ على توازنها "اسحبوا يا رجال".

* * *

اسمي يونس.
كنت واقفاً هناك أرتجف مثل الآخرين. لا أدري. أعتقد أنهم كانوا يرتجفون مثلي لأنهم ظلوا واقفين فترة، ولم يكن الموقف يسمح بأن يتفحص كل منا الآخر. كنا مشدودين للمنظر الذي استحوذ على أبصارنا، وحين تحركنا نحو.. نحو الجثة، اكتشفت أنني كنت أخنق سمكة كبيرة دون أن أشعر، أرخيت أصابعي فسقطتْ في الماء وكانت ميتة.
توجهنا نحو الجثة ببطء. البطن منتفخ، الوجه منتفخ ومشوّه تقريباً بحيث يصعب التعرف عليه. كان رجلاً، هذا ما أدركناه للوهلة الأولى، ولكننا لم نعرفه، كيف يمكن أن نميّز وجهاً محفوراً بالطعنات؟
في مدار هذا الوجه دارت أبصارنا لعدة دقائق. ثم تبادلنا النظرات لعل أحداً منا قد صادفه ذات مرة في حانة أو مرفأ أو مخفر، غير أن شحوب النظرات وانكسارها برهنا على إخفاقنا. دنونا أكثر، انحنينا فوق المقتول بحركة موحدة وانتشلناه من الماء.. وعلى الرمل تركناه ممدداً، شاخصاً في أعيننا، وكان حزيناً جداً.
لمحت شفتيه المتشققتين تنفرجان قليلاً ثم تتحركان كأنه يتكلم. لم أسمع جيداً، فجثوت على ركبتي ووضعت أذني بالقرب من أنفاسه، سمعته يقول بصوت ضعيف "ساعدني على النهوض".. أنهضته برفق حتى وقف قبالتي. كان هشاً، وكانت الندوب غائرة بشكل مخيف. هممت بأن أمدّ يدي لأجوس في أخاديد وجهه لكنني لم أفعل. أشفقت عليه وخشيت أن يسقط ويتهشم، إلاّ أنه ظل واقفاً يرمقني، وظِلُ ابتسامة غامقة توشك أن تذوب بين فكيه.
سألته: مَنْ أنت؟
أجاب مستغرباً: ألا تعرفني؟
هززت رأسي نفياً، فمال برأسه إلى الناحية الأخرى وقال في أسى: هذا مؤلم.
كدت أكرر السؤال الأليف، غير أني تراجعت أمام تحصُنه بالصمت المفجع، وقاومت أسئلة عديدة بدأت تستفزني. بعد حين التفت صوبي وكان الأسى قد غادره، وفي عينيه لمحت شيئاً من التهور والشقاوة.
قال: أود أن أركض في هذه الأنحاء. هل تلعب معي؟
باغتني هذا الطلب ولم أعرف الإجابة، وهو لم يمهلني كي أخترع ما يقنعنا معاً، بل راح يجري مثل أيل حر، يختصر المسافات ويتحد مع الكائنات النباتية، يجرد امتدادات الظلال من أصلها ويطلق سراحها. أبصره يهرّب أسرار الجذور لأسراب الطيور، ولا يكف عن غزو ميادين الريح بروحه المستقلة.
ركضت وراءه لا لألعب معه وإنما لأستفسر: مَنْ هو، ومَنْ قتله، ولماذا قُتل، وكيف قُتل؟
عندما توقف، أشار إلى رابية بعيدة:
- أنظر، هناك زوجتي تنتظرني، سأذهب إليها الآن.
مرة أخرى لم يمنحني الفرصة كي أتحدث معه، إنما واصل ركضه، فركضت وراءه، لكنه كان سريعاً جداً ولم أتمكن من اللحاق به، لذا توقفت وأنا ألهث متقطّع الأنفاس، فيما أرقبه وهو يبتعد ويصغر تدريجياً حتى اختفى، عندئذ استدرت وعدت.
البطن منتفخ، الوجه منتفخ ومشوّه تقريباً، وكان نظري مسمّراً على هذه الكتلة الممدّدة أمامي. أدرت رأسي بعد حين فلم أجد أحداً من الصيادين، و ألفيت نفسي وحيداً مع الجثة.

* * *

جلس يونس على سطح داره مطرق الرأس يفكر. سمع وَقْع خطواتٍ رشيقة قادمة نحوه، عرف أنها زوجته. بعد برهة، شعر بأنامل رقيقة تحط على كتفه. التفت نحوها، كانت منحنية فوقه تتطلع إليه بنظرات حانية. جلست بجانبه.
ـ ما زلت تفكر فيه؟
نظر أمامه وأومأ: نعم.
ـ ألن تحاول أن تنساه؟
ـ لا أقدر.
ـ ليس في إمكانك عمل شيء من أجله.
ـ يجب أن أعرف السبب.
ـ ما الذي ستجنيه من ذلك؟
ـ أريد أن أعرف.
ـ دع الأمر للمحققين. لقد دفنته وانتهى دورك.
ـ بل ابتدأ يا سكينة. ابتدأ منذ أن رأيته في البحر. مضى أسبوع ولم يكتشفوا الجاني. من يدري، ربما سجلوا القضية ضد مجهول.

* * *

البحر كبير ـ قالوا ـ يسع كل صياد ، فرداً كان أم باخرة. لا بأس ـ قالوا ـ بإمكان الصيادين أن يصطادوا مع شركة صيد الأسماك جنباً إلى جنب. لكن الصيادين كانوا يدركون جيداً أن هذا غير ممكن، وأنها صفقة غير عادلة. إذن، ماذا نفعل؟
انسحب أبناء البحر مزوّدين بحكايات لا تنتهي عن العواصف وآثام الموج. بحثوا عن جمهور يصغي وعن قانون يحكم. بعد يأس، استقروا على الشاطئ يَرْنون إلى مواويل فقدت أصواتها، ترتطم بالصواري الحديدية وتهوي ممزقة ـ يعذبهم ضجيج البواخر التي تحمل زادهم وتعبهم.. وديونهم أيضاً. يعذبهم أكثر أن يعودوا كل مساء إلى ديارهم فارغي الأيدي وبلا أعذار معقولة.
عجبوا للبحر، هذا الجبار، كيف يرضى أن تستغلّه باخرة وتحتكر ما يملك. حسناً، لن يجدي شتم البحر، المسالم غالباً، ويتعين عليهم الآن أن يغادروا أماكنهم وينقّبوا في دوائر البر لعلهم يعثرون على رزق مختلف. حقاً ليس سهلاً الصيد في الإسمنت، غير أن البدائل ليست معروضة كالسلع. حل آخر، أن ينتشروا في الموانئ مثل القراصنة ويقتنصوا المؤن المخزونة في صناديق الجمارك. حل ثالث أكثر سحراً وطيشاً، أن يشكلوا جيشاً مدججاً بالجرأة يقتحم دخان البواخر ويهاجم. حل رابع أن يحمل كلٌ قدرَه على كفه، فمواجهة أسماك القرش ومزاج البحر المتقلب أيسر من مواجهة باخرة من حديد. حل خامس.. صمتاً، لا مجال للرعونة والغضب، ينبغي أن نتأمل، لكن ـ أردف أحدهم ـ لا تنسوا أن في التأمل يكمن الألم، خاصة في مثل هذه الأحوال.
استدرجت شرانق التفكير أبناء البحر. حبال ثخينة لم يجدوا مفراً من قرضها. قريباً سيصبحون أبناء سبيل، وهذا ما لا يرضونه لأنفسهم. مع ذلك يلجأون في النهاية إلى السؤال القديم: ما العمل؟ رغم أن العديد من الآراء تتواكب ثم تذوب كالشمع.
تختال الباخرة مزهوة مثل ملكة تجهل لغة شعبها، لأنها تعلم أن إشهار إصبع يعني أمراً لا بد أن ينفّذ، ولأن لديها وسيلة تستطيع بها أن تُنْطقَ البحر بلغتها. مكائن لترويض الموج ومكائد لسلب محاصيل الأعماق. هي تظن أن احتجاجات الصيادين حيوانات منزوعة الأنياب، لذا تتمادى في الاختيال والابتزاز.
بالأمس دنا قارب صيد أعزل من منطقة مزروعة بالأسماك فدهسته الباخرة وأغرقت مَنْ فيه.. طفا الحطام شاهداً على هذه المأساة الروتينية.
الصيادون يمتلكون آذاناً رهيفة، وهم عادة ينصتون في الأمسيات الدامسة لمآسي شتى ترويها مرساة تائهة بصوت ساخر تارة ومرير تارة.

* * *

يونس طرق باباً فتحته امرأة لم يُخرّب الزمن جمالها، يونس لمح في مقلتيها المتسائلتين حزناً ثقيلاً. كيف يمكن للكلمات الموزونة أن تنفذ، في هذه اللحظة، دون أن تعرج؟ نسي يونس ـ لشدة حرجه ـ كيف يبدأ الحديث فقال بصوت منخفض ومرتبك:
- حدثيني عن زوجك..
فتحت فمها ونظرت إليه مندهشة. ظن أنها لم تسمعه جيداً فكرر طلبه بصوت مرتفع بعض الشيء:
- حدثيني عن زوجك.
تصلّب وجهها واتخذ شكلاً صارماً: لماذا ومن تكون؟
قال لها برجاء: هل تسمحين لي بالدخول؟
ردت بقسوة: اذهب من هنا.
ثم أغلقت الباب.
في اليوم التالي طرق يونس الباب ذاته، فتحته امرأة لم يُخرب الزمن جمالها، لمح في مقلتيها غضباً يكاد ينفجر.
صاحت بحدة: أنت ثانية؟
أسرع يونس قائلاً قبل أن تغلق الباب: رأيت وجهي في الماء. العينان مغمضتان. بغتة انغرزت حربة في الحدقة اليمنى، فانبثق الدم. انغرزت حربة أخرى في الحدقة اليسرى، فانبثق الدم. صار الماء سائلاً أحمر. ورأيت وجهي ينشج.
خفّت حدة صوتها: وما علاقتي بالأمر؟
قال لها: لزوجك علاقة.
ترددتْ في بادئ الأمر، ثم رويداً اطمأنت إليه وأدخلته دارها. في الداخل، شرح لها المسألة، وبعد أن انتهى، أحضرت له شاياً ارتشف شيئاً منه ثم جال بصره في أنحاء الدار: آلة خياطة، ملابس رجالية معلقة على مسامير مغروزة في الحائط، خزانة قديمة، أوانٍ نحاسية، مجموعة من الكتب موضوعة على رف مليء بالغبار.
لاحظت توقف نظرته عند الكتب. قالت بصوت دافئ عذب:
ـ لم يعرف القراءة لكنه كان يحب الكتب. يوماً ما سأتعلم القراءة، هذا ما كان يقوله مراراً.
ـ تسكنين وحدك؟
هزت رأسها بالإيجاب.
وقفت عند النافذة:
ـ كانوا يتناوبون على مراقبة البيت باســتمرار. ســيارة زرقاء كانت تتوقف هناك. عند تلك النقطة، بداخلها ثلاثة أشخاص. في بعض الأحيان يترجل أحدهم ويعلن عن نفسه بحركة مكشوفة. بعد ساعتين تأتي سيارة أخرى، بيضاء، تؤدي الوظيفة نفسها. ثم انقطعوا فجأة عن هذه العادة قبل يومين من مقتله. أحياناً كان يخاف، لم يصرّح بهذا الخوف لكنني كنت ألمسه وأشمّه من خلال نقرات أصابعه على الطاولة. أعتقد أنه كان يخشى أن يمسني سوء أو يسبب لي عذاباً وألماً كما في المرة السابقة. تعرف، ذات مرة غاب عني شهوراً طويلة وعندما عاد لم أرحم شحوبه وتعبه بل ارتميت على صـدره أشكو له عزلتي وهمومي وما عانيته في غيابه. أخطأت. في ما بعد أدركت خطأي. هل أحكي لك عن تسكعه حول المصانع والمرافئ، أم أحكي عن تجواله في أحـلام مجنونة يبتكرها كلّ ليلة؟ كان يحتوي أصابعي بين كفيه ويضغط عليها برفق وحنـو وهو يحدثني عن الأخطاء والتناقضات، وكلما نظرت إلــى الومض المنبلج من عينيه أحسست أن حبي له يزداد وأني فخورة به. لم أعد أخشــى على عناده ومحاربته لأي نوع من المصالحة، وأنا كنت أشجعه سراً. في ذلك اليوم وشم شفتي بنبوءة موته وخرج. ليس من عادته أن يقبلني كلما همّ بالخروج من البيت، إلا أنه قبّلني حينذاك وكأنه كان يهجس بما سيحدث له في ذلك اليوم. هل تظن حقاً أنك دفنت زوجي في التراب؟ لقد دفن نفسه في فمي قبل ســـاعات من موته، وما زلت أشعر بنكهته وعذوبته هنا.. في هذا الثغر.

* * *

التفاوض أسفر عن مهادنة وقحة لصالح الباخرة. مسؤولون من مؤسسات متعددة جاءوا مع خُطَبهم ومواعظهم المبهَمة، صرحوا بأن الأدوات البدائية لن تصمد أمام التكنولوجيا، وأن البرّ مكتنز بالثروات لمن يسعى، ثم رجعوا بحقائب ملأى بالتصريحات الصحفية والابتسامات المصنوعة خصيصاً لعدسات الكاميرا، بينما ظل الصيادون في أماكنهم فاغري الأفواه وهم في ريبة من ذكائهم وقدرتهم على الاستيعاب. بعد ذلك تحركوا جميعاً إلى ملاذهم الوحيد: صخور الشاطئ. فهموا أن حتى الطقس يتواطأ مع الأقوى. ها هم بين احتمالين: تذوّق أملاح تلسع اللسان، تنمية عضلات قادرة على الهدم. اختاروا الاحتمال الأكثر جاذبية.. ومشوا في مسيرة يسترها هتاف جماعي. أمام انتفاضة تلوّن شفافيتها بألوان قزحية وتلمع قبضتها بنيران الأفران، راحت المدرعات تستعرض شراستها وتحصي ضحاياها بإتقان ودقة.
أخذوا يصيخون السمع للحجارة التي يفتّتها الرصاص أينما كانت ومن أي جهة تأتي، عُزّل إلا من وعد بتحطيم عمارات شيدت طوابقها بكومة هائلة من عظام بشرية. على أية حال، انتهى اليوم وقد أثبتت المدرعات قدرتها على المراوغة والتسديد في القلب.
مرة أخرى ينحاز النصر لطبقة تدرك أنها في خطر ما دامت هناك طبقة تتربص بها وتهيئ لها قبراً لائقاً .

* * *

سكينة اسمها، خلدت للنوم ساعة الغسق بعد نهار شاق، نسجت فيه شبكة لزوجها يونس الذي لم يرجع حتى الآن. في آخر الليل نهضت من نومها، إلا أنها لم تجد زوجها بقربها فازداد قلقها وجزعت عندما راودتها فكرة حدوث مكروه له. استعاذت بالله من شر الوسواس الخناس، وفي الوقت ذاته لم يكفّ ذهنها عن التوجس.
مسكينة سكينة لأن زوجها ذهب ولم يترك لها عنوانه. كم محطة عليها ارتيادها حتى تصل إليه. هل تذكر يوم زفافها؟ وقفت أمام المرآة طويلاً وحين اطمأنت على حسنها وأناقة ثوبها وافقت أن تزّف إليه.. يونس طيب لكنه يمارس مهنة خطرة. تتذكر الآن جارتها التي ترملت ليلة زفافها وجُنت.. كان صياداً أيضاً.
أضاءت سكينة النور. الفراشة تنجذب للضوء. قد ينجذب يونس أيضاً ويأتي.
"تأخر حبيبي كثيراً وأنا وحيدة وخائفة. لا أحد يسامرني ولا ذراع تضمني. عفريت هذا الليل، يسكب على روحي أفكاراً سيئة".
سكينة تحسست الفراش، وجدته بارداً يهفو لجسد ملتهب بالشبق كي يدفئه. رقدت على بطنها فمسّ عريها الحرير البارد، وبدأ السرير يهتز. والليل المتألق نشوةً يهتز، وتأرجحت الظلال وتشابكت، ومن بين هذا التمازج العجيب انتصب ظل عملاق يعلن عن حضور رجل له تقاطيع يونس وقامته. انحنى يونس، وكان عارياً، لمس الجسد المتقمص شهوة المراهقات ومرر أصابعه بين ثنايا الكائن الجميل منتشياً بالليونة والطراوة، حيناً يعتصر ثماراً نافرة وحيناً ينحدر مغموراً ببياض مشع، وعلى حدود الجسد ينتشر زغب حريري ممزوج بندف تنهمر من المسامات.. أخيراً انسل الزبَد حراً بلا رقيب.
أطفأت سكينة النور وحاولت أن تمنع دموعها من فضح وحدتها فلم تستطع.

* * *

ـ يونس.. يونس..
حوت هائل الحجم يحرس ما في جوفه بحرص شديد، يشق الماء نصفين متجهاً إلى الساحل حيث الأمان وغفلة الأعداء. حتى الحوت يمكن أن يكون صديقاً وفياً للقاطن في البطن والمليء بالجراح، والذي يحتضر. حتى الحوت يمكن أن يبكي من فرط اللوعة على هذا الفارس المثخن بالطعنات. على الأعداء أن يخجلوا من جبنهم ويقدّموا أنفسهم وليمة لأولئك الذين يطاردونهم في الظهيرة تعويضاً عن جرائمهم.
ـ يونس.. يونس.
رفقاً بهذا اللاجئ إلى الحوت بعد أن حاصرته خوذ النبلاء وأتباعهم من المشاة والخيالة. اتركوا ضوضاءكم وصدى نداءاتكم عند الباب وادخلوا بهدوء لتروا المحارب في أبهى صوره يعانق الشهادة. احذروا أن تسدلوا جفنيه، عندئذ لن تبصروا ملامح قاتله، وإذا كان يبدو لكم نزقاً ومجنوناً فلا أقل من احترام هذا الجنون. إنّ صلاةً واحدة تكفي.
الحوت وحده يدرك مدى شجاعته ويعرف القصة كاملة:
جاءني ـ يحكي الحوت ـ يخبئ جراحه تحت سترته، والعرق ينضح بغزارة من جلده، وهمس: "أغثني، دعهم يكفون عن ملاحقتي".
ربطت جبينه بقماش مبلل ومسحت على أنفاسه لئلا تجهده الحمى. بعد قليل غاب عن الوعي واستسلم لعربدة الهذيان، تراءى لي أنه بلا بيت ولا أصدقاء، إلا أنه ليس كذلك، فقد أخذ لسانه يذكر أسماء وتواريخ وطرقات سمعت عنها. خلته سيموت في حضرتي: غريقاً، نائياً عن كل شيء، محروماً من صلاة يتيمة أو دمعتين حبيبتين. من يكون مثلي لا يخذل لاجئاً، أنا الرابض خارج التناقض والصراع، أتفرج دائماً وأتدخل أحياناً، بالذات في مثل هذه الظروف، أجزم: هذا رجل لم يضلّ طريقه لكن ضلّه النصر. سأحمله إلى الجانب الآخر كي يحتفي به معارفه ويشاطروه لحظاته الأخيرة.

* * *

على الرمل وبين أطراف الحصى المتناثر، يرقد يونس ميتاً. وسامته لا تُقارَن، وموته ينبض كنبع نادر لا ينضب. الصيادون جالسون حوله، معتصمين بصمت وحزن عميقين. واحد ينبش التراب بعود رفيع، واحد يستحضر أحداث الأمس، واحد يرنو إلى ما لفظه البحر من بقايا، والبقية تتأمل موت يونس وكأنها تتوقع انبعاثه في أية لحظة.
حشد يوقد ناراً للصبر الطويل ويأمر اللهب أن يسرع قبل أن تعج البلدة بخراطيم المياه. غداً لن يكون يوماً آخر. ينتفض الجمع وينفضّ من حول يونس، تاركينه للرمل يرعاه ويحرسه.
على مهل تنحدر الشمس، تنحسر الموجة، وتبزغ امرأة لم يخرّب الزمن جمالها.. تتقدم بخطى واثقة نحو يونس، وعندما تدنو منه تجثو وتقرّب وجهها المضيء من وجهه الدامي وتهمس "تعال إليّ، افعل مثلما فعل زوجي، ادفن نفسك في فمي".
يفتح يونس عينيه وينظر إليها مثل طفل وديع ويهمس: "خذيني".
تلصق المرأة شفتيها على شفتيه. وتدمغهما بقبلة طويلة.

يونيه 1979

المصهر

منحني مفتاحه، فتحت الباب ودخلت.
الغرفة مكتظة بصور مأهولة بشعب مخذول، بشعب يزيح رداءه عن حافات الوقت ويبتهل. بحمَام يلملم أجنحته ويستنفر ريشه مستفزاً الطقس المتواطئ مع الشظايا، بفتيات جميلات يستحممنَ تحت شلال رائق ويتراشقن بالماء، بطفل يرتدي هيكلاً عظميّاً ناتئاً يحمل في يده وعاءً فارغاً ويحمل في عينيه دموعاً مالحة غير صالحة للشرب، بضوء يبث فلوله لتقتحم الحقول والبراري رغماً عن الأسلاك الشائكة والفزاعات، بغلام ينحني تحت حنفية ويشرب، بمولودة تبكي، بموءودة تأكل الرمل، بقروية تتأبط جرّة وتحاول عبثاً أن تستر رتوق الثوب في أعلى الكتف، بحدّاد يطرق الفلز، بثلج يكسو تلاً بزغبه الأبيض.
تتكاثر الصور، أينما أدير رأسي أراها أمامي تباغتني من الخلف ومن فوق:
أبصرُ شارلي شابلن بلباسه المألوف يرفع قبعته محيياً راسماً بشفتيه ابتسامة مرهقة، أبصرُ رياضياً يحتسي الشمبانيا، أبصرُ الصور نافرة على تخوم الغرفة تناوشني فأتراجع. أُجْفلُ لمرأى زنجي تحاصره كلاب بوليسية تمزّق أطرافه في حضرة جمهور ساكن. أعتصم بأرض استباحها الجفاف وهتك أنوثتها، كيف أستنجد بصلصال؟ يسخر مني ضعفي. أجمع أنفاسي المبعثرة وأقف أمام أرجوحة شاخت وتهدلت بعد أن غادرها اللعب. أسمع مسيرة عسكرية ونفير حذاء عسكري يبحث عن موطئه فلا يعثر إلاّ على عشب مسالم، لذا يدوسه بالعقب ويمضي مترنماً. أصيخ لنشيج الصور، لنشيج وجه مسنّ يتفصّد دماً بينما العينان مغمضتان مثقلتان بالألم الضاري، لنشيج البحر الميت والنيل والفولتا والأمازون. والقمر المتخم بالأسى ينسحب خلف ناطحة سحاب في خسوف تدريجي.
لماذا ليست الصور مبهجة مثل الحدائق؟

* * *

أمسكته من ذراعه لكنه انفلت غاضباً وابتعد عني. هرولت وراءه حتى حاذيته ثم تجاوزته ووقفت أمامه سادّاً طريقه.
ـ أخبرني ماذا حدث؟
توقف. غير أن أنفاسه كانت تتدفق وتلفحني، وجهه محتقن مسكون بالانفعال الممزوج بالحنق.
ـ أرجوك دعني وحدي.
ـ ماذا فعلت؟ لماذا أنت غاضب مني؟
ملأ رئتيه بالزفير ومسح شعره بعصبية واضحة. تجاهل إلحاحي برهة بدّدها في مراقبة الطريق المزدحم بالسيارات والمارة ونداءات الباعة المتجولين التي تندلق على الرصيف في صخب. بعد ذلك نظر إليّ متحاشياً أن يشوب صوته نبرة انفعال.
ـ لست غاضباً منك ولا علاقة لك بالأمر.
ارتجافة شفتيه لم تسعفه في التظاهر بالهدوء وضبط النفس، لذلك لم أتجاهل الموضوع.
ارتشف الشاي بينما كنت أرمقه منتظراً أن يبدأ في الحديث. مدّ بصره نحو الزبائن وهم يتحدثون بصوت منخفض لا يكاد يُسمع. تمتم:
ـ واضح جداً أنهم خائفون.
ـ مَنْ؟
ـ الذين حطموا كاميرتي.
ـ مَنْ؟
تناول رشفة أخرى.
ـ كنت واقفاً عند بوابة المصنع ألتقط صوراً للعمال وهم يغادرون المصنع، فجأة انقضّ عليّ اثنان من حراس المصنع وانتزعا الكاميرا من يدي عنوة وحطماها بعد أن أخرجا الفيلم. هممت بالمقاومة، بَيْدَ أنّ بعض العمال حالوا بيني وبينها، وقد اكتشفت السبب حينما لمحت يد أحد الحراس تنزلق بسرعة خاطفة نحو مسدسه المعلق في حزامه بينما الآخر يتجه نحو سيارة فارهة ويسلم الفيلم إلى رجل سمين يجلس في المقعد الخلفي.
ـ أتنوي تقديم شكوى ضدهم؟
ـ شكوى؟
ضحك بغتة بصوتٍ عالٍ. ابتسمت في ارتباك.
"أهفو إلى أرملة مجنونة ـ تجمّد الحسّيات وتتقمص المأساة ـ كي أقتنيها: أضاجعها فجراً، أكشف لها رؤياي فتبلّلني بالحزن ظهراً، وفي الليل أتمترس خلفها مذعوراً" ـ كان يحلم ـ
أشعر بالإرهاق فأضطجع على السرير لعل التعب ينزلق ويغادر، لعلي أنام. لكن كيف، وطيفه يطوف بي ويقتادني عبر دغل يفضي إلى واحات محرمة محفوفة بالشفرات؟
فكّرتُ، سأشطر سنواتي نصفين وأرتقي النصف الأول بحذاء من مطاط لئلا أوقظ دقائق النصف الثاني. تهيأتُ. شاهدت نفسي غلاماً في الرابعة عشرة يستمني أثناء المذاكرة ويؤدي واجبات البيت والمدرسة والشارع بطاعة مذّلة. يسكن عاصمة مدجّنة وضمن علاقات مهجنة، فروّعني ما شاهدت وعدت مخموراً بالخيبة والضجر.
للذاكرة أجنحة فراشة، أقصد أن الطيف طفق يلازمني ويلاطفني طوال الهجرة.
أدرت رأسي، رأيتها قبالتي. لها ـ في الصورة ـ الحضور المتألق نفسه. مجبولة بالحب، تجيد مخاطبة الكائنات وتمنح نفسها للغبطة وللحزن معاً بحرية مطلقة. كم أود أن أكون معها في هذه اللحظة، ليس لغرض المؤاساة أو المساهمة في تحمُل العبء، لكن خوفاً من الوحدة.

* * *

مشينا على الجسر معبئين بالبهجة، أنا أثرثر وهما يصغيان متخاصرين. انحدرنا إلى أسفل الجسر حيث الشاطئ الشاسع يرنو إلى أفق فضي يفصلهما بحر يرقد باسترخاء متلذذاً بنعومة أنامل الشمس وهي تجسّ بدنه.
هتفت هي: اسمعا، ما رأيكما في نزهة بحرية؟
تطلّعتُ إلى الساعة، قلتُ: لديّ موعد، أخشى أن أتأخر.
ألحّت: لن نأخذ من وقتك أكثر من نصف ساعة.
لم أجرؤ على إفساد تلك اللحظات الجميلة. هي تتقن اقتناصها وتعرف كيف تستغلها، وليس من اللائق أن نخذلها.
استأجرنا قارباً راح يتهادى على الماء بتمهل، يسوقه مجدافان.
هو: يلتقط صوراً عديدة لطيور البحر، للموج، للزوارق الشراعية، لي، لها، لنا، وينحني ويلثم وجنتها.
هي: تضحك، تتحدث، تلهو بالماء، تعبث بخصلات شعرها المتطايرة، ترمقه في ولَهٍ.
أنا: أجذّف مغتبطاً بهذه الدقائق المخلوقة من بلور ونرجس وشهب، أشهد تناغم الكون وطهارة العلاقات، أتخيل أننا من نسل الثلج.. ندَفٌ يسترها الغيم ويؤويها الزجاج. ننضو عنّا الغبار ونتنزه، تارة يسفحنا الماء برفق نحو مائدة البحر، وتارة يحملنا الغصن إلى جوار ثمار شهية تتهجى أسماءنا وتغازل عذوبة بشرتنا.

* * *

أنقل خطواتي في محيط الغرفة مثقلاً بالتعب مكبّلاً بأوتار الذكرى، تعزفني فأرتعش، تعزفني فأنكمش، تعزفني. . رفقاً بي يا مستقبل أيامي. ماذا يدّخر لي هذا الومض المنبعث من بين أهدابي؟
هناك خزانة ثياب. أجازف بأعصابي المتوترة وأتجه إليها: ملابس معلقة، ملابس مرتبة فوق بعضها، بضعة أشرطة، حزمة من الأوراق ملفوفــــة بعناية.. أخرجتها.. إنها رسائل مكتوبة بخط يدها: حبيبي...
(مفزوعاً أكتشف أن الذاكرة لم تعد تتجوّل حسب مشيئتي، بل صرت أنا الخاضع لطيشها)

* * *

ـ اتفقنا على الزواج.
ـ لنحتفل إذاً.
أسرينا في لغات الفرح بغير إبطاء. عندئذ انداحت الشوارع فاسحة مكاناً لتهورنا اللذيذ، والمارة ينظرون في استغراب. عرجنا على الضواحي والقرى ومن حولنا أسراب من الأطفال يشدون. نحطّ على أرض نسجت أعشابها تواً ونشم رائحة أشجار. ها هي تدنو تُتوجها عصافير توقع بأجنحتها إيقاعات العرس، وعصير الثمار يهطل فوقنا رذاذاً والحشائش تتأرجح، تحفّ بنا قوافل النمل والسناجب والأرانب، تفيض البذور تورق أهازيج تراقص نشوتنا، تغمر حناجرنا مفردات الغزل فنتخاطب بالقبل.
حين نأيْتُ عن الحشد المحتفِل كانا لا يزالان مضطجعين على العشب.

* * *

قال: لا يا صديقي.. سأشتري كاميرا جديدة.
صاحب المقهى كان يعبث بمؤشر الراديو، استساغ محطة كانت تناجي الأطلال بصوت أم كلثوم.
ـ ما الذي يجذبك في منظر عمال يخرجون من مصنع؟
حدّق للحظات في الفنجان، لحظت ارتعاشه طارئة وسريعة تسري في أصابعه. أجاب:
ـ العرق، التجاعيد، الخطوات الثقيلة، عروق الأيدي المتشنجة، النظرات المتهشمة. هل أدركت الآن؟
ـ أدركت ماذا؟
ـ أن لا علاقة لك بالموضوع.

* * *

ممغنط إلى الصور، أهيب بإرادتي أن تنشلني من شَرَك هذه الأنسجة، أن أتوارى أو تتوارى الصور، أن أخرج أو تخرج.
أنظر، نظرت مثل تلميذ تعلم فن التلقين، عاماً بعد عام أتحرك في مدى التعاليم أعرف أن الفصول أربعة والفرائض خمس والوصايا عشر، وأعرف أن بين الولادة والموت صراطاً مستقيماً وأن المنبر وحي يوحي بالمباح والممنوع. لا أعرف، أعترف الآن فهذه الغرفة تختزل الفصول وتبتكر فصلاً طائشاً يهز أوردتي.
أتماسك. خفيفاً أتحرك ـ لقد أرخت الصور قبضتها وأخلت سبيلي ـ أحاذر أن أصطدم بظلالها المتأرجحة.
أشعار ماياكوفسكي مبثوثة على البساط بالقرب من السرير. فان غوخ، هاملت، رامبو، الأوديسة. على الطاولة مجموعة كتب: في الاقتصاد، في علم الاجتماع، في التاريخ. على طرف الطاولة مظروف كبير بداخله صور فوتوغرافية عديدة، تفحصتها:
شحاذ مبتور اليدين، مطبق العينين، يستند إلى جدار متهدم.

* * *

ـ أنظر جيداً..
ـ أنا أنظر.
ـ ماذا ترى؟
ـ شحاذاً.
ـ ماذا أيضاً؟
ـ لا شيء. مجرد شحاذ.
ـ أنظر جيداً..
ـ أنا أنظر.
ـ ماذا ترى؟
ـ هو نائم.
ـ لا، هو ميّت.

* * *

ثمة مظروف آخر: حشد من الصور.
أنبأني ذات مرة أنه ينوي طبع كتاب مصّور. مشروعات لا تُحصى تتناسل في تلك المخيلة الجامحة. عندما تتكاثر تنبجس أفواجاً مزهوة بتنافرها وشذوذها، غير أنها لا تجد موضعاً لم تحتله بعد حوافر النواميس وأعراف الأسلاف، لذا تتخثر الواحدة بعد الأخرى.
"أرحل إلى نجد، أتجرد فيه من ملابسي وأقف عارياً فارداً ذراعيّ مرصّعاً بالجسد المفعم نداوة. أرقب روحي وهي تمضي خبباً تسري في شعاب شعبٍ يجهل القراءة ويتعاطى الفقر، أطالبهم بالمبايعة فيبايعونني مواطناً يقاسمهم الشعير ويموت غيلة ثلاث مرات في اليوم" ـ كان يحلم ـ
يكتئب ساعات ويستسلم لهواجس تهذي أن لا جدوى فانتسب، حينئذ يستدرجه القنوط إلى إقليمه.. هناك لا يكلم أحداً، لا يلمس أحداً، لا يشتهي شيئاً. لكن سريعاً تصحو الذاكرة وتستعر مثل غجرية راقصة لا تستقر ولا تهفو إلى الانتساب.
أعيد الرسائل إلى مكانها. أحسّ بسخونة شديدة تلهب صدغي. حّمى؟ لا ريب إني محموم. أتنفس البخار الحار الطالع من شدقي الغرفة وأوشك على الإغماء.
يراودني الفرار ولكنني أحجم. هذا مأوى صديقي أكتشفه حسب رغبته وليس من الشهامة أن أخيّب ظنه. أمكث دقيقة أقاوم الحمّى والدوار، بعدها أمد يدي وأفتش بين الثياب، أجد دفتراً صغيراً.. هنا كان يدون يومياته. أقرأ:

10 يوليو:
هزني المشهد بعنف إلى درجة أنني لم أحتمل رؤيته، فهرعت إلى غرفتي وبكيت. ظللت فترة أبكي وأرتجف. كان الوقت مساء عندما لمحت ذلك الصبي وهو يجرّ هزاله ويلوذ بركن في الطريق. دنوت منه. كان منزوياً يعتصر بطنه بشدة والدموع تنذرف بغزارة، لم يقو على رفع يده طلباً للصدَقة بل ظل يتضور جوعاً. يقيناً لو أن بمقدوره أن يرفع سبابته إلى صدر الكون لأخترقه وأحدث ثقباً تنهمر منه كل الأسس والمثل المعلّبة

أغسطس:
التقيت بها. لاحظت شرودي فسألتني: ما بك؟
هممت بأن....

3 ديسمبر:
في المبنى المقابل رأيت زوجين يتشاجران. الزوج يفقد أعصابه ويحطم الأثاث. الزوجة تجلب البنزين وتضرم النار في محتويات الشقة. يتواجهان وكل منهما يتفرس في الآخر بحقد واشمئزاز، الاثنان متحفزان، كل منهما ينتضي آلة حادة، وقبل أن ينقضّا على بعضهما، يحاصرهما اللهب ويلتهمهما.

16 فبراير:
أذكر يوم كنت صغيراً طلبت مني أمي ـ كالعادة ـ أن أحمل الطعام إلى أبي الذي كان يعمل وقتئذ حارساً في إحدى المزارع. وصلت هناك. أبصرت رجلاً مطموراً في الوحل، يحيط به رجال ونساء في ملابس زاهية وهم يضحكون ملء أشداقهم وينخسون جنبيه بعصا طويلة. كان الرجل أبي. في ما بعد اكتشفت أنهم كانوا يمارسون ذلك مع أبي مرة كل أسبوع.. على سبيل التسلية.

تنتهي اليوميات في 30 إبريل. في اليوم التالي مات مقتولاً.

* * *

رنّ التلفون. جاءني صوتها خافتاً مرتعشاً. على عجل توجهت إلى المستشفى.
اليوم الأول من مايو كان موعد عرسه. تأخر الموعد قليلاً فسبقه موعد موته.
كان في الساحة العامة يصوّر سكان الصفائح المنبجسين من الجحور والجبال والمقابر في مدّ يهدر، يفيض، يزلزل. آنئذٍ هجس أن الصدع سيتحقق وأن الأركان ستتهاوى. بكاميرته كان يرصد التصدّع ويرقب الانهيار. يتحرك في كل اتجاه ويلتقط: قبضةً، فماً، قدماً، وجهاً مُضرّجاً بالغضب، أذرعاً صلدة ممدودة إلى أعلى، عجوزاً تلوّح بكسرة خبز.
أدار آلته نحو الجهة الأخرى من الساحة والتقط: مفرزة من قوات الشغب متأهبة للهجوم.
بغتة حدث التصادم وكان مروعاً. سيول تنجرف هنا وهنا، أجساد ترتطم بالأرض، قطيع من العويل يهوى على الإسفلت متناثر الأشلاء. وهو في عمق ما يجري يصوّر في إصرار ودون خوف غير آبه للسواعد التي تصطدم به، وبالكتل التي تكاد أن تسحقه. في هذه الأثناء لاحظ شيئاً ما، ركز كاميرته على هذا الشيء، من خلال العدسة رأى خوذة.
حرّك الآلة إلى أسفل: وجه يكمن خلف قناع واق.
إلى أسفل: بندقية مصوبة نحوه، فوهتها فاغرة تحدق فيه.
لم يحاول أن يتفادى الفوهة، ظل ثابتاً في مكانه يرقب من خلال عدسته، وكانت الفوهة قريبة جداً. فجأة...
رن التلفون. جاءني صوتها خافتاً مرتعشاً. على عجل توجّهت إلى المستشفى.
كانت واقفة مستندة إلى الجدار، عيناها مغرورقتان بالدموع. دنوت منها، فالتفتَت صوبي ومسحت دموعها. مكثنا فترة صامتين، كل منا ينظر في عيني الآخر، يفصلنا حزن ثقيل احتل المسافة دون مقاومة، مَنْ منا يستغيث بالآخر؟
أخيراً، كسرتْ هي السكون القاسي بحركة ذراعها. لمحتُ مفتاحاً في راحتها. تناولته. قالت بصوت متهدج:
ـ افحص كل ما تجده هناك.. هذا ما أوصاني به.
ـ هل أستطيع أن أراه؟
دخلت ورأيت.

* * *

ها أنا أغيب في المرئيات ترجمني بجوهرها فأهوي، تفضّ بلادة سنواتي فأهذي. لا شيء يعصمني. بخار دخان يغشى بؤرتي وينيخ على صدري. انصهر، يأمرني الصوت. هي؟ محموماً أتحسس طريقي السائل، موطئي الذائب. أصل إلى الباب. الباب مقفل ـ المفتاح معي ـ لا ينفتح، لا مقبض ولا مزلاج، أكسره لا ينكسر. انصهر، يأمرني الصوت. أرتجف هلعاً. كيف أخرج. هذه السخونة تسلخ جلدي، ليست حُمّى هي مفازة تتلظى. أتحسس الحائط يلهب أصابعي، لا منفذ لا نوافذ. لوهلة ألاحظ أنّ الغرفة لا نوافذ لها. ينفذ الجمر فيّ. أخرّ. كيف أنجو؟ انصهر، يأمرني. غامت عيناي، تدور الصور تدور الأشياء تدخلني. يدخلني القارب ـ العرس ـ الموت، كيف أنجو؟ تدخلني الجمرات ـ الأكسيد ـ الكبريت ـ العدسة ـ المرأة، ويغادرني الوعي، لا ذاكرة للعناصر ولا ذاكرة لي. أعود. تعود أيامي، تواريخ تتقهقر، تتقلص أطرافي. انصهر، يأمرني. يتلوى بدني، هشاً أصير وتصير غضاريفي، يتضاءل أفق الحدقة لا تستوعب البؤرة ما يكون وما يحدث، فضاء هُلاميّ، ألوان تتلاشى شيئاً فشيئاً. أتوق إلى ثمرة، من يلقمني ثدياً؟ انصهر، يأمرني. امرأة حبلى انبثقت، من أين؟ أرى صورتها بوضوح، لا تنظر إليّ، راقدة على ظهرها مفتوحة العينين ترنو إلى فوق، أرنو إلى بطنها، مأخوذاً بهذا الانتفاخ، كوخ، بيت، خيمة، ممغنطاً أحبو، يستحوذني البطن يأخذني مأسوراً مسحوراً. أقترب ـ هائل الحجم، اقترب ـ طرياً ناعماً كالزغب، يفتح شقاً لا يسعني، أتقلص يتعملق البطن، اقترب أكثر ينفرج الشق لا يسعني، أنزع الجلد واللحم لا يسعني، أفتّت العظم، سائلاً أصير، أنزلق، أنسكب في الشق يسعني الآن. . أنا نطفة.

نوفمبر 79

ذات مساء.. صهلت الوعول،
دخل الغجر

نقش ابن العبدة على الجدار صورة امرأة سماها "وشام".. ثم طفق يتأملها.
تعرج وشام صوب الغابة مثل موجة شهوانية، تسوق قطيعاً من الوعول روضتها بأناملها الممرغة بومض البرق والمبللة بالطهارة التي تزهو بنفسها. تغزل بخطواتها ممراً شائك الجهات لمن لا يتقن العزف على الحنجرة، ناعم الزغب لمن يلغي تقاويم الهدوء والقبول بما هو كائن ويتقدم. شَعر وشام أهداب نهار لا يغفو، خيوط سحب تمتد إلى مشارف الأفق، تغري مواسم الحصاد كي تمارس طقوس بعثها دون تباطوء، وتسري في شريان المحيطات والمدن الجميلة. الثديان رابيتان تفيضان بالخضرة، تسرح فوقهما طيور ملونة مع أمطار وأجراس لا تهدأ. يخفق قلب الغابة وهي تلحظ انتساب أقدام وشام الحافية لروحها الخلاقة. وعلى مقربة يعدو ابن العبدة مُحاطاً بالنشوة والحبور والرغبة في الانضواء في نسغ القطيع الهائج الذي يعشق الفوضى ويهب نفسه لثورة الأشياء والأمكنة.
لدقائق تتوقف وشام في الغابة، فيهدأ القطيع، وتتهيأ المخلوقات البرمائية للإنجاب، ويلتقط ابن العبدة ثمار الأرض وينثرها في ذرات الهواء.
ها هنا تعلن الأعراس بدء مواسمها. يتعلم الهدهد لغة الأشجار ويعلّم. تجري الوعول في منعطفات الغابة وفي أطراف مدّ البحر المنفرج، تصهل وتمتشق قمحاً موعوداً لتربة جافة بعيدة. ها هنا تعرض السناجب بضائعها المجانية، فلا أحد ينهب أو يستغل أو يموت انتحاراً أو يموت دفاعاً عن النفس. ها هنا تضطجع وشام على الحشائش المزدهرة، ترقب السواحل وتهمس "غداً سننشر الفوضى في المدن". وابن العبدة يرمقها بين الحين والحين، مفكراً في ابتكار أبجديات متجددة وملغومة يمكن أن يخاطب بها وشام.
وشام تنحدر في غابة أخرى تتوهج غبطة.

* * *

خرج ابن العبدة، ومضى ـ ترشده الكآبة وغبار التعبـ يتسكع في الطرقات والحواري.
أراد أن يتجنب اليتامى وأبناء السبيل المبثوثين في الأرجاء وفي الزوايا، فهو لا يملك شيئاً وهم لا يملكون غير السؤال، لكنهم كانوا يتكاثرون وينتشرون كالطقس. لقد تسامقت الأذرع واحدودبت الظهور رغم منع التسول والحضور في مظهر غير لائق أمام أبناء البلاجات والفنادق، لذا لم تُجدِ المراوغة، واستسلم للأيدي الممدودة حوله ومشى.
قطن إقليم البؤس، وصارت رئته هدفاً لطعنات الهواء الفاسد. طرق باباً. لمح بين ضفتي الباب وجه أبيه الذي أضحى بلا ملامح والذي لم يسأله عن سبب مجيئه بل أغلق الباب بعنف قبل أن يسمع هذا الهمس "أبي.. أمي مريضة".
ليست هي الخيبة الأولى، مرات عديدة لجأ فيها إلى ذلك الباب، لكن أباه كان دوماً منهمكاً في رتق ملابسه الداخلية بينما زوجته الشابة تتمدد على الفراش مانحة ساقيها لنظراته في شبق وتستعجله، ذات مرة ألقى به في الوحل صائحاً "هذا مكانك فاستقر فيه، لا أريد أن أراك ثانية".

* * *

اتجه ابن العبدة نحو الشوارع المتشحة بالنيون وهوائيات التلفزيون، يحمل على كتفه غراباً ميتاً، ويتقلد كفناً بداخله بقايا حلم خمدت جذوته، لقد سطع الهم وسقط الوهم، فالأب رحل في ذاته وليس ثمة أمل في بعث الجسد الأمومي من خلاله.
التقى بكهل ذاهل يجلس على عتبة داره، ويرنو صوب طائرة ورقية تتهادى في الفضاء. ناداه الكهل:
ـ تعال العب معي .
ـ نلعب؟
أشار الكهل إلى الطائرة الورقية.
ـ مثلما يلعبون.
ثم استدرك، وقد لاحظ الغراب:
- لماذا تحمل غراباً ميتاً على كتفك؟
ـ وجدته تحت جذع شجرة.. أردت أن أدفنه ولكني فكّرت، إذا لم أعثر على طعام فسيكون عشائي.
ـ هذه قسوة منك. دعه جانباً وتعال العب معي.
لوح ابن العبدة مودّعاً، مواصلاً سيره.
وعندما حلّ الليل، اسـتنفر عذاباته، وبدأ يحصـي "يوم آخر من عمري يحتضر أمامي".

* * *

اندلق عشب يابس ارتطم بالإسمنت وأحدث صخباً. لا تصمد النواميس أمام طيش الأزمنة الجائعة، فالفقر يفسح مكاناً للكفر في الأظافر وأحياناً في المقلتين. والصرخة مدوية "ليسقط الجميع في أتون الغضب".
يتفصد عصب الانتقام هائجاً في ضلع ابن العبدة: دمّر.
"سأضطهد فلول هذا النهار، وأقوّض كلّ سدّ يمنع عني الماء. سأشهر عروقي وأزعق في وجه قافلة الطوفان أن تُقْبل برعونة وتتجسد فيّ. تموت كل دابة وكل مخلوق. تنسحق الحقول والمداخن. تتهشم المباني وتحترق الهياكل، ولا شيء يبقى غير قداس الموتى تصدح في الخراب الشامل".

* * *

رجع ابن العبدة إلى داره مرهقاً، متراخي الأنفاس. لا يستطيع أن يواري خجله. ستدرك أمه المريضة ـ حين يجادلها وجهه الصامت ـ
إن الأمور سيئة، وأن الصلاة ملجأ لا يخذل أحداً. أصغى إلى سُعالها النازف من صدرها الضامر، لاحظ هزالها المخيف، فأغمض عينيه وتمتم "يا إلهي.. إنها تموت، فأغثني".
دنا منها. طوّق ظلّها بدمعتين. انحنى بقربها.
ـ أبي طردني.
امتثل الألم بين تجاعيد وجهها الشاحب، تخثّر الأمل.
ـ استجديتُ العمل، لكن أحداً لم يهتم.
همّت برفع ذراعها، عجزت، همهمت بكلمات غير واضحة.
ـ أكلت رغوة الوحل فأزداد ظمأي. قلت في نفسي، هذا عام الجدب، سيأتي عام الخصب والشبع. اطمئني يا أمي.. سأجلس بقربكِ وأحميكِ.

* * *

استدرجه هيكل أمه وجوعه إلى مخبز وقف قبالته متردداً.
رائحة الخبز.
أمه تترنح في غيبوبتها وتهذي.
خبز يرقب نفسه في مرآة الدكان "كم أنا شهي".
أمه تذوي، يبدأ الجلد في الانسلاخ عن الجذع، يبرز الضلع.
خبز آخر أناخ، في خبث، على طبق بلوري الشكل.
يختلج جسد الأم، شهقة تتلوها انتفاضة.
خبز..
وفي ذلك المساء اقتيد ابن العبدة إلى المخفر متّهماً بسرقة رغيف. أمضى شهراً في السجن يسائل الجدار والنمل وعبوس الحارس وهموم المسجونين عن حال أمه.
"اسمعيني يا أمي.. لم أرتكب ذنباً. خطاياهم احتلت مواقع أعضائي حتى صرت أنا الخاطئ. لا تغفري لأحد، بل انهضي وهيئي لهم موقداً".
يُقال: إن ندَف الثلج تذوب عند التقائها بالأرض وتتخذ شكل كائنات تتزاوج بالسماد وتنجب نباتات لها أذرع بشرية ترث الحقل ومن عليها من مواشٍ و طواحين.
يُقال: إن قوم المطر يهلعون حين يجسّون ثدي الغيمة ويجوسون في خلاياها ولا يجدون حليباً أو ماءً. فيقايضون البخار الذي لا يستجيب عادة إلا في فصل الشتاء، لذا يعانون العزلة، بينما يُرجمون بالإهانات والشتائم من شتى التخوم وأبراج المراقبة.
وابن العبدة يحرس ذاكرته لئلا تتهوّر وتستحضر ماضي الأيام وحاضرها، فيفجع لدى رؤيته المآسي تنهمر في حوضه، ويفجع في مصير أمه "كيف حال أمي؟".

* * *

خرج من السجن، لكنه لم يجد أمه في الدار. وجدها في القبر. صمد أمام الدموع ـ للحظة ـ ولم يسمح للحزن أن يتجسد. تدريجياً، تشققت قنوات جرحه ونزف الوجع قطرات. وحين نقش على الجدار صورة امرأة سماها وشام.. أجهش بالبكاء.
تدنو منه وشام وتتمتم بحنان "عندما يبكي الرجل يتوقف نبض الطرقات وتنفتح فوهة الحشرجات". يسترسل في البكاء، ثم يغفو على صدرها، وتغفو هي بين جناحي حمامة تنطلق عبر تلال رمادية لتهبط في واحة. تترجل وشام ويترجل ابن العبدة، في راحتي كل منهما مياه شلالات عذبة ورائقة. يستقران في ظل هضبة اندحر عنها الغبار، ويزرعان صارية تعتمر راية منقوشة بالأصداف والقواقع. تعلن وشام قيامة المخلوقات وبعث الأشياء، بينما يعد ابن العبدة الولائم واللبن والبهجة. ومن شقوق الرمل تتدفق المراكب محملة بالمؤن والشعوب، وتأتي المواكب زرافات زرافات، حبلى بأجنة ذات أجنحة زاهية الأشكال والألوان.

* * *

هذه الغرفة ـ منذ أن فارقت أمه ـ باتت تثير الفزع في نفسه. في زاوية يقعد مالك البيت فاغراً فمه يطلب إيجار شهور الإقامة أو إخلاء البيت. في زاوية يشحذ رجل ضخم الجثة أنيابه ويعوي في شراسة. من شق السقف تزحف العقارب، تحدّق فيه طويلاً وتتنفس بصوت رهيب. في زاوية توجد نافذة، يخرج منها ابن العبدة.. وفي المرفأ يلمح قارباً خاوياً.
منذ اليوم سيصبح هذا القارب مأواه، يلتحف النجمة ويتوســــد الموجة و"يا بحر احمل سلامي إلى تلك النخلة التي رصّعت جبينها بوشم الطفولة. لقد باعَدَت بيني وبينها المسافات منذ أن ضاعت طفولتي في حظيرة النبلاء وملاّك الحقل".
حراً يضطجع، حراً يستعير المواويل من ذاكرة البحر. يصنع مملكة من فرو الثعالب والدببة. يرعى أسماكه متى شاء، وينسج شباكه لصيد الحشرات الفضولية حين يرغب. ويوماً فوجئ بالقارب تغمره المياه.. "من أغرق قاربي؟".

* * *

ــ ماذا تريد يا ابن العبدة ؟
ــ أمي ماتت، أبي نبذني، كل المنافذ سدّت أمامي، ففكرت أن أنضّم إليكم.
ــ دربنا محفوف بالزنازن وحراس الليل.
ــ أغامر.
ــ نحن لصوص.
ــ أنظروا هذا الجرح الغائر في الرسغ.. ناب كلب حراسة منعني يوماً من اكتشاف مذاق العنب.
ــ سمعنا أنك دخلت السجن مرة.
ــ ثلاثون يوماً. عرفت نكهة الحجر، تآلفت مع العتمة، ولم تعد غارات السلاسل تخيفني.
ــ اجلس.
وعندما جلس ابن العبدة، احترف السرقة ووقع في فخ السجن دونما حذر. بعد ذلك أضحى، كلما حدثت سرقة، في قائمة المشبوهين، سواء تلك التي ارتكبها أو التي لم يرتكبها. ينام في الحانة ليلة و في الزنزانة ليلة. عاشَرَ أغنيات الصعاليك ونكات السكارى. ابتكر مفاتيح عديدة للشرفات وموعداً للخروج.
"آه يا نبع الحزن، هل حُلّت المسألة؟.. هذا السرداب محجوز لمنبوذ جديد أكمل عامه العاشر تواً، وهذا المزراب لجثة عصفور احترق منقاره وريشه، وهذا المرآب لجمهور محتل استطالت أعناقه وأوشكت أن تلامس شفرة المقصلة. هل حلت المسألة؟"
أردف ابن العبدة السؤال الممنوع بصرخة وحيدة أبحرت مع الريح والصدى. ثملة هذه البقاع، تشرب عصير المشنوقين بحبل الفقر ولا ترتوي. وقعت الحنجرة من الإعياء".

* * *

النواميس ترتكب الحماقات جهراً، تستبدل جلودها حسب المناسبات، مثلما يستبدل المرابي ربطات العنق عندما يحتفل بالشعوذة.
ثمة قروي يسكن كوخاً يسمونه بلاداً، ثمة غجري يسكن خيمة يسمونها عاصمة. نظرت في المرآة، أبصرت وجهاً بدوياً يقتحم شرفات المدينة ويشيع الرعب في دهاليزها ظناً منه أنه ينتقم. نظرتُ في الماء، أبصرتُ قلباً يهفو لتقويم جديد، يدعو لوليمة يجلس حولها الفقراء. أنا من يدعى ابن العبدة، أخطأت. هذه حبالي أعلقها على السطوح وأهبط السلّم لأنني أدركت أن السرقة غير مجدية، و أن عذرية الرمل منتهكة.

* * *

ــ ماذا تريد يا ابن العبدة؟
ــ علميني القراءة يا وشام.
ــ اقرأ.
ــ علميني أن أحب الغجر.
ــ تعلّم.
يهمّ ابن العبدة بالمغادرة.
ــ إلى أين يا ابن العبدة؟
ــ ذاهب لأغيّر اسمي.


ابريل 1978
**كل شيء ليس على ما يرام

ما حدث أربكني، وَقْعُ حذائي على الإسفلت أربكني أكثر.
عندما وصلت إلى مسكني لمحت جاري يطل من الشرفة ـ كعادته ـ ويحدق في العتمة.
ــ يا جاري، سمعت نحيباً عند ذلك المنعطف لكنني لم أرَ أحداً.
أدار رأسه صوبي. أضفت:
ــ أعتقد أنها فتاة صغيرة.. هكذا بدا الصوت الشفاف، هكذا تهيأ لي، لكنني لم أرَ أحداً.
هز كتفيه وأشاح بوجهه ترشده العتمة والسكينة مرة أخرى.
ليس لائقاً اقتحام عالم شخص آخر دون مفتاح.
دخلت غرفتي، ثمة بقايا طعام: نصف رغيف وشرائح من اللحم. أكلت ثم استلقيت على الفراش. بعد دقائق قفزت ضفدعة على صدري وراحت ترمقني، ربما تستفزني. كيف أبدو في عدستي عينيها المنفرجتين؟ مهرّجاً؟ مسافراً أعمى؟
سأحدثك يا ضفدعة:
قبل سبعة شهور، قلت لصديق، تعرّفت عليه في مكان ما، إنني أفتش عن مأوى. فقادني إلى هنا، إلى هذه الغرفة، ثم تركني مع المالك الذي لم يُخفِ جشعه بين أسنانه كما يفعل المرابون، بل قايض حاجتي الشديدة إلى مأوى وأخذ أكثر مما يستحق. رجل آخر يستغلني دون حياء.. لماذا يا ضفدعة؟ إذا كنت تعرفين الإجابة فسأمنحك إبهامي وجبة للعشاء. هس.. أسمع صوتاً. اختبئي في الوسادة وتظاهري بالنوم. كان المالك يتسلل خلسة من النافذة. متى يُقلع عن هذه العادة السخيفة ويكف عن استباحة حرمات غيره؟ ها قد بدأ يجس الحائط والمحتويات على مهل. اطمئن أيها المالك، أشياؤك سليمة وكل شيء على ما يرام. مباغتاتك لم تعد تزعجني كثيراً، غير أني لا أريد أن أرى وجهك في المرآة المحدبة عندما أحلق ذقني صباحاً.
ها هو يغادر. رفعت رأسي وأبرزت الضفدعة رأسها. قلت لها:
لا شأن لي بما يحدث وبما يفعله الآخرون، إذا شاهدتيني أرنو إلى الضوء، فلأنني أهفو إلى زوجة تقدّس أفعالي.

* * *

ــ عد إلى بيتك، أنت مفصول.
ــ لماذا؟
ــ هكذا. أنت وهؤلاء.. زائدون عن الحاجة.
ــ حسناً، سأتنزه اليوم وغداً أبحث عن عمل آخر.
مشيت، محاطاً بنسوة كفيفات يناوشن المرئيات بضحكاتهن المتواثبة. أخاصرهن وأغازل شعورهن الطائشة، و أبتهج لأن أجسادهن تتسامق مثل ملكات لا يجدن غضاضة في كشف النقاب عن الوجه أمام الجماهير المحتشدة تحت الأسوار.
تنقر اليمامة في راحة يدي نقرتين، فنعرف أنها صارت دليلاً لنا. تدخل حديقة، ندخل وراءها. إحداهن تنحني على الجدول وتجسّ الماء بأناملها وأخرى تفرد ذراعيها لتحتضن شجرة حبلى بالفاكهة، وثالثة أقودها عبر ممرات الحديقة المكتظة برائحة الياسمين.
لكن خذلنا حارس الحديقة الذي جاء ناحيتنا مهرولاً، ملوّحاً بعصاه، فجزعت النسوة وتراكضن، تناثرن، انتشرن في الأرجاء. أما أنا فقد راوغت الحارس واختبأت في جذع شجرة، وحين طال اختبائي نمت في موضعي مذعوراً.
فجأة، اندلق نحيب وانسل فيّ، فباغتني الارتعاش وانتفضت "يا فتاتي، لا تفزعيني. تقدّمي وانزعي السواد عن صوتك. ها أنا خارج من زند أنثى تنجب الثمر لكي أرى وجهك". لم أرَ غير ظل الوحشة الممتد. عبرت الظل، عبرت الصوت.. وكنت خائفاً.

* * *

مستلقياً على السرير أرقب السفن وهي تمرق، مختصرة المسافات، متجهة إلــى محيطات ممتلئة بالأسماك والجزر الجميلة. أرقب قوافل مــن النـورس، غيوماً تطعن المساحات بحوافرها النافرة وأشــتهي أن أكون ملاحاً تنبعث من أصابعه إشارات ضوئية، يقرأ المنارات ولا يحاذر الأرصفة والموانئ، غير أني صحت:
"وداعاً أيها الرّبان، لا أستطيع أن آتي معك".
تذكرت سنواتي وندمت لأني لم أصغ إلى نصيحة أمي بالزواج والإنجاب، و حزنت لأني لا أستطيع السفر.
"وداعاً أيها الربان، اعتن بالدفة والنجوم. صفير باخرتك يبعث في نفسي الشجن".

* * *

ــ يا نادل، هل أجد عملاً في هذه الحانة؟
ــ لا.
ــ هل تسمح لي أن أتفرج على الزبائن؟
ــ تفضل.
هذه مهنة أجيدها. سأفتح عدستي وأقتحم الوجوه:
زبون يتأمل علبة البيرة فترة طويلة ثم يدخل فيها ويصيح "اشربوني". زبون يغني بصوت حاد. آخر يستعرض عضلاته الصلبة ثم ينهار فجأة على الكرسي ويجهش في البكاء. كسيح يفرط في الشرب ويتشاجر مع المنضدة. المروحة تترنح. المطر في الخارج يحبو وضجيج السكارى يعلو..
ــ حين تعرّى الرجل في وسط الشارع أدركوا أنه مجنون فعلاً..
ــ إذهب ونم.
ــ تأرجح لاعب السيرك بين الحبال ثم ارتطم بالزجاج وسقط في البحر.. البحر كان بارداً.
ــ أستطيع أن أُحطّم هذه الزجاجة على رأسك، تراهن؟
ــ لا تفعل. سأريك شيئاً، هذه صورة زوجتي.
ــ إنها جميلة.
ــ حقاً؟ لم أكن أعرف. ماتت في العام الماضي.

لا شيء غير مألوف يحدث في هذه البقاع. سأعود إلى غرفتي وأتأمل الدخان المتسرب من أذني.

* * *

ماذا يفعل هذا الجواد في غرفتي؟
"أخرج، لا عشب لدي ولا سرج".
دنوت منه، بدا شاحباً وحزيناً. أغمض عينيه وأرخى رأسه فأيقنت أنه على وشك الاحتضار. لو ينطق لعرفت ما به. سأدغدغه لكي يضحك.
"أنظر إلى هذه الحركة، أليست مضحكة؟ أنظر.. يمكنني أن أخرج ديكاً من ياقتي". لا جدوى، لم أر قط جواداً هشاً كهذا. سيموت حتماً ولن أستطيع انقاذه، من الأفضل أن أضعه في الخزانة لئلا أتّهم بسرقته.
"أيها الجواد، هل تحلم؟.. سأخبرك شيئاً، يوماً التقيت بحاو، اقرأ كفّي أيها المنجّم، قلت له. فتأمل كفّي برهة ثم نظر في وجهي طويلاً وهو فاغر الفم. استغربت من ذهوله وانتظرت أن يفسر لي الأمر، أخيراً ســألني: ألم تحلم قط؟.. لم ينتظر مني الإجابة بل واصل طريقه وهو يهمهم".
أيها الجواد، سأضعك في الخزانة وأنا حزين من أجلك، أين صاحبك؟ لكل جواد فارس، فأين فارسك؟ هل مرّ من هنا؟ إذن امض خلفه. لا تريد؟ إذن أدخل هذه الخزانة.. إنها تابوت يليق بالنبلاء.
بينما كنت منهمكاً في إقناع الجواد بدخول الخزانة، انهمر النحيب من السقف وغزا موقعي مرة أخرى.
"من أنت؟ أين أنتِ؟ لدي حلوى ومشمش إن كنتِ ترغبين، فقط تجسّدي أمامي ودعيني أراك".
نحيب متقطع.. تارة يتصاعد، يصبح حاداً وعنيفاً، وتارة يخفت، يبدو
كحشرجة مكتومة. وبدأت أشعر بالرعب. ليس هذا وهماً.
"من أنتِ؟ جنيّة بحر تشتهي اختطافي؟ نجمة مسحورة؟"
هرعت إلى الخارج. سكون مخيف يغمر الساحات. جاري كان ظلاً ينظر في المرآة، هممت بالاقتراب منه ومحادثته، لكنه تغلغل في المرآة بسـرعة خاطفة واختفى، عندئذ وقعت المرآة على الأرض وتهشمت شظايا تئن بتوجع. أصغيت إلى صرخات تأتي من بعيد، انجذبت إليها. كان جمع من الأهالي يقفون في صف طويل وقاطع طريق يفتش ثيابهم ويسلب ما عندهم.
هرولت بعيداً إلى موضع غير مأهول. خفّفت من سيري، وحين التفتُ ورائي، أبصرت الجواد يسير خلفي منكس الرأس، شاحباً وحزيناً ما يزال.
تمتمت: لا عشب لدي و لا سرج.
المصابيح مطفأة، والقمر المستوحش يغفو في كآبة، وأنا متعب.
صحت في وجهه: عد إلى الغابة.
ودون أن ننتبه وقعنا في الأسر. أحاطت بنا كتيبة من العسكر انبثقت من كل جهة، بدأوا برشقنا بالصرخات المخيفة ثم سيجوا المكان بأحذيتهم. شـهق الجواد حين وجد النظرات الحاقدة تلتف حوله، ولم يحاول أن يتجنب الطلقات الهائلة التي أخذت تمزق جلده.
زعق قائدهم: أخيراً وقع في أيدينا.
ثم استدار ناحيتي: أين صاحبه؟
جثوت على ركبتي منتفضاً من الهلع: أقسم أني لا أعرف.
وخزني بنصل الحربة في صدري، فأيقنت أن مشارف الغيبوبة قريبة مني. غبت. أخرست كل التوقعات وغبت. سمعت صوتاً:
هذا يكفي، لقد نال ما يستحقه.
أفقت، كان فمي محشواً بالرمل والدم، وبدأت أســـير قاصداً غرفتي، وحين فتحت الباب رأيت فتاة صغيرة، في العاشرة من عمرها، مشـــــنوقة بحبل غليظ يتدلى من السقف./p>

أغسطس 1978

ترانيــم

الطفولة:
ثم دلفت إلى إقليم الطفولة متوّجاً بالدم، أبحث عـــن الشـجرة الملتحفة بالعصافير والبهجة والمطر، تلك الشجرة التي كنت أتفيأ في ظلها بينما الثمار تهطل في جحري، والندى يتدحرج في فمي ويصير نبيذاً. أبحث عن الموجات التي تزهر زبَداً حين تسري في عروق الرمل وتتناسل، لكنني ما وجدت غير الرمل والينابيع التي نضب ماؤها، والمخافر التي تتساحق في شـــهوة داعرة، والأمومة التي أنكرتني صاحت "هذا الوجه الملوث بالدم ليس وجه طفلي". رجمني الطين، وامتلأت عيناي رعباً وغباراً.
عدت يافعاً كما كنت.

الغيبوبة:
بدأت أركض في ممرات البلدة وأنا أعوي، وقافلة من الصدى تركض خلفي وتعوي، وألفيت جسدي يهوي على شيء صلب بعد أن غادرتني الأنفاس واستوطن اللهاث في أعصابي، وغبت فــي الغيبوبة. حين فتحت عيني رأيت السقف والجدران وصــورة عائلية محجّبة بالغبار وخُفّين متآكلين وصفحات صفراء من جرائد قديمة وجرّة مهشمة. لم تكن لدي رغبة في رفع رأسي عن الأرض واستكشاف المكان أكثر. شعرت بسخونة الأرض فجأة لكنني لم أنهض، بل استدعيت ذاكرتي التي لم تستجب، لذا ظللت راقداً في مكاني واهباً عنقي للسخونة، مستسلماً للألم الذي لا يفتأ ينسكب في صدري وداخل سرتي.
سيعرف الصرخة كل طفل صودرت طفولته قبل أن يتكون في الرحم، سيتعرف على الغربة والغرابة النافرة في الأوردة، سيعرفني. وها أنا ممدّد طافح بالنعاسة، استعير حفنة من حنان الهواء البخيل.
كيف أنجو من الحزن الساكن فيّ، كيف أنضو عن جسدي التعب المتكلس؟
سأسدل أهدابي ثانية وأفغر فمي كالدهشة لأجسّ نعومة ثدي أنثى يشتهي الاحتكاك بشفتيّ.

الغربة:
انهض أيها الغريب، فهذه الدار ليست دارك، وهذه الأرض ليست أرضك،
انهض أيها الغريب، فأنا أشم فيك رائحة الطيور البحرية، وأشـــم فيك الماء والعشب والساحل.
إنهض أيها الغريب، وأخبرني من أين أتيت، وماذا جئت تفعل؟ ولماذا تحمل هذا الجرح الممتد من العنق حتى الخاصرة؟
أخاطبك أيها الغريب وأنا أعرف أنك نائم، لأنني أخجل من دموعي. صعب أن ترى شيخاً يبكي.. هل أبصرت، في أسفارك، نهراً متفرّداً يجوب التلال؟ هل ذقت ملوحة هذا النهر؟ هكذا أتلمّس مجرى الدمع وانسلال الملوحة في شعيرات لحيتي المسنة.
نائم أيها الغريب؟ النوم واحة موشّاة بالحلم. دعني أتحسس هذه الطعنة الضارية. آه يا ولدي عرفتك، وما زلت أذكر طفولتك. هذه دارك، وهذه أرضك.. أبوك مات، وأمك مذ صارت ضريرة، أخذت تشحذ في السوق، وقبل أن تموت راحت تستجدي تمراً من البحر. عرفتك أيها الجرح.. توضأت بالنفي، وأسريت في ملفات السجون دونما حذر. أنا الشيخ الهرم أعرف كل شيء عنك، لكني أجهل سبب مجيئك إلى هنا؟
هل أنت مطارَد؟.. هذه طعنة ملكية لا أحد ينكرها.
كنت أرقب نضوجك وأنت على كتفي. ما زلت أذكر تلك الأيام، حين كانت بذور العنب تنقش عصارتها في التربة الخصبة، والدار تزهو بسكانها وبمواسم الحصاد، والطيور الممغنطة بعبق الساحل تهزج وتتغامز مغتبطة.. والوطن كان وطناً، أو ربما كان حلماً.
بدأت الفصـول تتفصد، والأسماء تخرج من ثقب الباب، لأن الحراسة أصبحت مشددة. والطفل خرج عند الأصيل فداهمه الضباب.. وضاع. وأنا اتكأت على طاحونة هوائية، كانت تجتر الذكريات، ورحت أتمرأى في الرجولة الناهضة في ضلوعك وأنت تجوب برفقة الفقراء أسمدة الأرض الموحشة.
إنهض أيها الغريب.. بلا خبز تدخل كرنفال العالم، وبلا أنثى تعبر جسر الولادة. مدان دوماً بالجوع والحلم واللغة الجامحة. ما أصعب أن تمشي بلا أنثى، وجرحك الممتد من العنق حتى الخاصرة يشهد على ذلك.
إنهض أيها المسافر في ظل المشـنقة، فأنت موعود بفصول المرأة، المدّ، امتلاك العالم.

البحث:
الألم يفترسني، ويتعين عليّ أن أنهض. لا أعلم كم من الوقت مضى عليّ وأنا راقد في هذه الدار. هنا كانت أمي تعجن، وهنا كنت ألهو مع الصبْية، وهناك كانت السلحفاة تتأوّد وتتغنج، والقمر مثقل بالضـوء، والبحيرة القريبة تحكي أسرارها دونما خجل وتسامر عازف الناي، وما من إنس إلا ويتألق بالبهجة الشفافة.
هنا كنت أعيش قبل الهجرة الملعونة، واليوم قد عدت متشحاً بالوجع، تطاردني نبابيت الحراس والبنادق المعبأة، تلاحقني حوافر القمح. خرجت من الدار أكتشـف قارتي من جديد، وقارتي لم تعد قادرة على التنفس، فقد جثم فوق مسرّتها العدو منذ أن تلقحتُ بالتشرد وتلحفتُ السجون. وابتكر العدو راياته النجسة: القيود، الأوراق النقدية، اللغة المدجنة، الملاهي. وأخذت أبحث عـن امرأة نقية تكون ملهمتي للكشف عن البكارة. ننقش وجه البراءة في المخيلة المتوترة، ونبدأ في التنقيب. هذا وجه الشمس يتوجع من الحمّى، ونافذة البحر تلمع وتخبو، وأنا أتيه في المنعطفات الضيقة النائحة.. لا تخوم للكشف ولا خروج.

التوحد:
تشعل الموءودة دمها، بخوراً ونذوراً، لمن يأخذ بثأرها. رائحة الإبط تضوع أنفاس الفارس العاشق، والعاشقة تشهر ثدييها البريين المفتوحين لرمح المغامر وتحلم حتى يتم لقاء الوهج بالدم عندئذ تضطجع العاشقة على شفرة سيف الفارس وترتحل معه إلى وادي الطيور البنفسجية.
مبارك هذا التزاوج. مضاء هذا العري الجميل المتآلف مع العشق الدموي. لا بناء بدون هدم، ولا فعل بدون تخريب، سيكون حضوراً مشعاً ذلك التناسل المتوحد مع الدم.

المغامرة:
وطفقت أسير بلا قناديل أو قمر يضيء دربي، أستفز غضبي المتواري بعيداً عن ملاحقات البنادق.
اختبأت في غرفة رجل أعمى دون أن يشعر، وفي الصباح اختبأت في حقل مليء بالجراد، وجلست بين أعواد الذرة.. لا أحد يراني، ولا أحد يقرأ اسمي. أصغيت إلى نداءات الفزاعات المنتشرة بكثرة، لكن الطيور لشدة ذكائها، راحت تسخر منها وتتباهى بجرأتها بالوقوف على أكتافها.
يا بحر أتوغل في لجّك غير خائف فلا تغضب مني. معك أتجدد كما الجنس، أنسلخ عن الجسد المألوف وأدخل في الجسد الغامض، و بنا يتحقق الخلق. كل الأسماء تقف عند حدودها وتجفل، كل العلاقات الموسومة بالأختام تتهدل بسبب العقم، ولا يبق سوى جسدينا ومن يشاركنا في خبزنا وفي إبداع الكائنات الجديدة.

الهدم:
وأصغيت إلى صرخات طلق حادة صادرة من الجانب الأخر، فانسللت من الحقل واتجهت إلى المصدر. في مساحة صغيرة من الأرض الجرداء المحفوفة بالحصى والشوك والزجاج المتناثر، شاهدت امرأة مستلقية رافعة ركبتيها، كاشفة عن النصف الأسفل من جسدها، والعرق يترذرذ من جسدها، تصرخ في وجع.
إنها لحظة المخاض، الولادة المتأججة في رجفة الجسد، المطهرة بالصرخة والدم. التفتّ إلى أصابعها المتشنجة الدامية، نزعت الشوك والزجاج المغروز في راحتيها وفي أجزاء من جسدها، وهتفت:
هيا يا امرأة، لا أستطيع أن أساعدك، لكن في مقدوري أن أرقب انحدار البرعم المكتنز بالحياة. توضأي بالدم يا امرأة وسأجلب لك الياسمين والنرجس. افتحي بوابتك أمام هذا العبور العظيم، هذه النداوة العذراء. لا أعرف من فجّر هذه البذور في أحشائك، لكنني أشهد أن الرحم كالثلج المخضب بالدم الشرس المفترس.
وأنت أيها الجنين، ذكراً كنتَ أم أنثى، أرسم خطوتك الأولى على هذه الأرض الوعرة، متقمصاً شفافية الجرأة والمجازفة، مجسداً لغة الدم. ستكون خراباً وفتحاً. مزّق نسيج التكوّن وتسلّق لهب الرحم. كل القرى، أمام قامتك المتسامقة، تهتف باسمك.
هذا الطلق يا امرأة طلق ناري، منه تنطلق البشارة عبر ألف باب ومنفذ، وفيه تجدين نفسك. ستنهار الهياكل والردهات الثرية، ومن كل حدب ستأتي فلول الأنهار المغمسة بالحمم البركانية. هيا اصرخي ومرّغي عروقك في جذور الأرض وفجّري ينبوع الدم.. لكن ابتكري الولادة النارية.

الطفولة:
كجياد غير مروّضة، اتجهنا ـ أنا والمرأة والجنين ـ صوب البحر. غمرنا أقدامنا الحافية في الماء، ومشينا في البحر.. دخلنا.

سبتمبر 1977