الزنزانة

- 1 -

في الموضع نفسه ـ على الساحل ـ رأيتها واقفة، عارية تماماً، تواجه البرد والخوف والزمن.
ـ حزينة؟
ـ كان بين ذراعيّ، حين جاءوا وانتزعوه.
ـ سيأتون بعد قليل.
ـ الجنون؟
ـ أو ربما التحريض على الثورة.

- 2 -

كان الباب مفتوحاً. دخلتُ، الأشياء مبعثرة. كتب، ألبسة، أدوات زينة، لعب أطفال، وهي.
نظرتْ إليّ:
ـ مرة أخرى، جاءوا.
جلستُ بجانبها.
ـ وهو.. ما أخباره؟
ـ لا أعلم.
استأذنتُ. خرجتُ إلى الشارع، وفي المقهى طلبت شاياً.

- 3 -

أ ـ في البدء خلقوا الجنود والشرطة والمباحث والزنازن والقيود.
ب ـ لتبرير وجودهم، خلقوا اللصوص والقتلة والعاهرات ومدمني الخمر والأفيون.
جـ ـ صدرت الأوامر بمطاردة كل من:
     • يقرأ كتاباً .
     • يخرج لسانه لشرطي.
     • لا ينزع سرواله بأمر مخبر.

- 4 -

- لا أبدو سعيدة. وأنت؟
ـ طُلبْتُ للتحقيق.
لم تعلّق. كان شيئاً عادياً.

- 5 -

هناك يحلمون بالبيرة والسينما ولقاء الأحباب.
شربتُ بيرة.. لم تكن بي رغبة في السكر حتى الثمالة. ثم ذهبت إلى السينما. كان فيلماً رديئاً للغاية. نمت. استيقظت فزعاً على ضربات عنيفة، فتحت الباب، دفعني أحدهم بخشونة.
الرطوبة الصراصير الجرذان وجه الحارس الذي لا يعرف الابتسام يطل. الرتابة القلق وصوت شجي ينطلق من الزنزانة المجاورة:
" يا يبه.. أمس العصر مريت على القنطرة
وسألت القنطرة هل مروا عليج أهلي
قالت القنطرة : بلى ، مروا علي
أمس الصبح قبل طلعة الشمس"

- 6 -

صافحت الضوء والهواء والشوارع والأزقة. صافحتها.
ـ حدَّثني عنه.

- 7 -

في الموضع نفسه ـ على الساحل ـ كنت واقفاً، عارياً تماماً، أواجه البرد والخوف والزمن. سمعتُ وقع خطوات خلفي، ودون أن ألتفت، أدركتُ أنها هي.
ـ الجنون؟
ـ أو ربما التحريض على الثورة.
وقفتْ بجانبي.. نزعتْ ثيابها.
وظللنا واقفين حتى مجيئهم.

الضوء والزهرة والطفلة الوحشية

في الكازينو كنا، أنا وهي والجرسون والطاولة وفنجانا شاي وزهور.
قالت: زهرة لك، زهرة لي، زهرة لكل أطفال العالم.. رغم وجود شرطي عند كل منعطف.
كنت يائساً وحزيناً.. لم أقل شيئاً.
لم تنظر في عينيّ كما كانت في السابق تفعل.
قالت: سيغمرنا الضوء.. رغم وجود شرطي عند كل منعطف.
كنت يائساً وحزيناً.. لم أقل شيئاً.
قالت: أعرف امرأة مارست العهر حتى جنّتْ، خرجت يوماً ـ شاهرة سكيناً كبيرة ـ تبحث عن شيء تأكله، لم تجد، فجلســت علــــى الرصيف تلتهم جســدها بشراهة.
كنت يائساً وحزيناً.. لم أقل شيئاً.
همّتْ بالنهوض.
قالت: هل ترغب في المشي؟
قلت : الشرطي ـ هناك ـ سوف يلاحقنا.
قالت: ليفعل.
قلت : ثم..
قالت: ليفعل.
واجهها الشرطي، متحفزاً للانقضاض، أشار إلى الرجل.
ـ أنت.. موقوف.
قالت هي: ماذا فعل؟
قال هو: ما هي التهمة؟
فكّر الشرطي قليلاً:
ـ التهمة. سأفكر فيها، تعال معي.
تحلق حولها أطفال لم ترهم من قبل في هذا المكان، يغنون للطفلة الوحشية التي كانت تغتال رجال الشرطة بغرس الضوء والزهرة في قلوبهم.
قالت: هل ترغب في المشي؟
كنت يائساً وحزيناً.. لم أرغب.
اختفتْ. أمسكتُ الضوء. أمسكتُ الزهرة. نهضت. كان الشرطي يرمقني بنظراته وهو يأكل أسنانه ببطء.

وكان الحلم بنفسجا

كفراشة حلّق الطفل في الهواء يحمل في قلبه قمراً أخضر. ينثر البنفسج على الأبواب وفي الطرقات والينابيع.
ـ أنت تبغي قلب الموازين وتغيير وجه العالم؟
ـ حين يكون الجزْر، أحمل دلواً، وأرش الساحل ماء وحلما.
ـ تحلم بالطوفان! اعترف بأنك تشكل خطراً على الأمن؟
ـ وحين يكون المدّ، تمتدّ السنابل ويصفرّ وجه العالم رعباً.
ـ لم ينته التحقيق بعد، أخرج.
كانت رائحة البنفسج تضوع أرجاء المدينة. فتح الناس صدورهم، اكتشفوا أن في الصدر يختبئ الحلم والفرح، مشوا على الرمل والماء والهواء يعانقون الطفل والقمر والبنفسج. قال صديقي: البكاء لا يفيد.
انزويت في ركن وبكيت. سمعت طرقاً عنيفاً.. فتحت الباب. كان شرطياً. قال: جئت أتأكد من وجودك.
قلت: أنا.. وصمت لأنه اختفى فجأة، فبكيت مرة أخرى لأنهم لا يدعونني أحلم. سمعت طرقاً عنيفاً، فتحت الباب، كان شرطياً آخر، عرفت أنه آخر، لأنه يأتي يومياً في مثل هذا الوقت وخرجنا. مشينا في طريق وعر على الحصى والشوك والزجاج، هو بحذائه الأسود وأنا حافي القدمين. شرح لي. الأشقياء شوهوا الشوارع بالبنفسج. توقفنا عند موضع ما. قال: انتهت الجولة الليلية.. حان وقت الرجوع.
رجعنا، وعند الباب لمحنا شعاعاً أبيض يدنو، كان الطفل يتألق في العتمة. صاح الشرطي: ابتعد. دنا الطفل أكثر. صاح الشرطي بحقد وقد أخرج مسدسه: ابتعد.
بينما الناس في أسرّتهم يحلمون بالطفل، البنفسج، القمر الأخضر، كانت قطرات الدم تتسرب من خلال شقوق الجدران والأبواب والنوافذ.

الذوبان حباً ودهشة

- 1 -

الغريب، لم يكن غريباً. كان يحب التنقل والسفر من بيت إلى بيت، من مدينة إلى مدينة، ولأن الناس أصروا على منحه هذا اللقب، لم يعترض.
الحراس الليليون في جيوبهم أمر بالقبض عليه في أي زمان أو مكان.

- 2 -

وضع الغريب وردة في شعر الفتاة الغزير الفاحم ثم اختفى وذابت الفتاة دهشة، وحيث أن الشارع كان وحيداً لا منعطفات فيه فقد توقعتْ أن تراه وهو يسير، لكنها لم تره فذابت دهشة.
الغريب لم يختف. كانت الجدران والأشجار والطريق عيوناً وأيادٍ، انتزعته من الأرض فجأة ووضعته في زنزانة. ولأنه يحب التنقل والسفر، عندما وجد نفسه يتنقل من سجن إلى سجن لم يتذمر.

- 3 -

كان جالساً على ربوة رملية ليست مرتفعة، يراقب الجثة. البطن منتفخ ينذر بالانفجار في أية لحظة والعينان جاحظتان. سكنت الجثة في أحداق الذين تجمهروا لرؤية المنظر. عندما ذابت الصورة ذهبوا وبقي هو والجثة ورائحة البحر والموت.

صرخ فجأة:

ـ هل يعرف أحدكم زوجته أو أمه؟

- 4 -

- أنا زوجته، ماذا تريد؟
ـ وجدته غريقاً. مات.
ـ أدري.
صمت قليلاً. البرد قاتل والريح...
ـ هل أستطيع أن أدخل؟
ـ لماذا؟
أغلقت الباب بشدة قبل أن يجيب، فهمس:
ـ أردت أن أسألكِ.. ماذا كان يفعل في البحر والريح...

- 5 -

- حبيبتي.. بحثتُ عن وردة فوجدت لغماً، معذرة.

- 6 -

أخذته الجدران والعيون مرة أخرى واستجوبته:
ـ دائماً تحمل وردة.. لماذا؟
ـ اليوم وجدت موتاً.
الزنزانة الضيقة. الصراصير. القضبان. العيون. عامل بناء يسقط من الطابق السابع في حين يرتفع المصعد إلى الطابق السابع. البحر. الجثة. المرأة. الريح.
الغريب، لم يكن غريباً. كان يحب التنقل والسفر.
الفتاة، كل يوم تذوب دهشة وحباً وتنتظر.

الرايـــة

بعنف نطح الطفل الصغير الجدار، وعندما غطى الدم عينيه ولحيته الطويلة البيضاء أجهش في البكاء. ذعرت الأم وهرعت إلى الصندوق الخشبي القديم تفتش عن شيء ما. جواز سفر. التقطه الطفل بلهفة وفرح. حاول أن يرقص لكنه لم يستطع فأخذ عكازه وخرج دون أن يودعها.
اســـتقل ســيارة أجرة وجلــس في المقعد الخلفــي. التفت السـائق بوجهـه الطفولي الذي شوهته التجاعيد والشعيرات البيضاء.
ـ المطار.
قال السائق: ألا تريد أن تلعب معنا؟
أجاب بصرامة: المطار.
هز السائق منكبيه وأدار المحرك.
بعد بضع ساعات وبدون ضجة، تحت شجرة كبيرة يستلقي، يغمض جفنيه ولا يفتحهما أبداً. يوماً ما حاول أن يموت في حجرته فأغلق الباب والنوافذ بعد أن طرد الفئران والعناكب والأثاث ما عدا مهده الخشبي الذي تمدد فوقه، أغلق جفنيه وحبس أنفاسه، بعد فترة هرب فزعاً. كان الأطفال الذين طالت لحاهم وتغضنت عروقهم يحيطون به، يعوون بطريقة حيوانية ووحشية، وأمه تقف عند الباب المخلوع تنظر إليه بشراسة، تقدمتْ نحوه فدفن وجهه في الفراش وهو يرتجف. سحبتْه من لحيته والآخرون ينهشون ساقيه وظهره ويمزقون بأظافرهم الطويلة ثيابه. وعندما أصبح خارج البيت كان عارياً تماماً.
أحنى الشرطي الواقف عند باب المطار قامته المديدة وتفرس في وجهه:
ـ لماذا تريد السفر؟
ـ لا أحب الضجيج والزحام..
- لماذا تريد السفر؟
ـ وعندما أتمدد في الظل تحت الشجرة، أموت بهدوء.
مزق الشرطي جواز السفر، فأخذ الطفل يضرب بقدميه الأرض ويمرغ جسده في التراب ويزأر بصوت متحشرج. تضايق الشرطي فسحبه إلى أقرب مركز للشرطة. هناك ظل حتى يوم آخر.
قال: أنا متعب.
ألقمته ثديها، في حين أخذت تنزع شعيرات لحيته بقسوة.
ـ منذ متى لم تحْلق؟
لم يجب، لأنه كان يلعق الثدي بشراهة وشهوة، ويتحسس بأنامله جيدها وصدرها، أطبق بكفه على نهدها، عصره بقوة فتألمتْ وصفعته على وجهه ثم قذفته على الأرض، حاول أن ينهض فعاجلته بركلة في بطنه ارتمى على أثرها عند الباب. زحف وهو يزفر بصعوبة وفي الخارج ضاع في الزحام.
ـ ألا تريد أن تلعب معنا؟
صاح بأعلى صوته: لا، أنا متعب.
ـ إلعب معنا.
التفوا حوله، حاصروه: إلعب.
قال الشرطي وهو يقترب:
ـ لماذا لا تريد أن تلعب معهم؟
ظل الطفل صامتاً. لكمه الشرطي على أنفه. سقط الطفل والدم ينزف بغزارة من فتحتي أنفه.
عاد الطفل إلى البيت والدم ما زال ينزف، فرح لأن أمه لم تكن موجودة. بحث عن عصا طويلة، وجد عكازة، خلع قميصه الملوث بالدم وعلقه في طرف العكاز، ثم خرج حاملاً رايته.
ذعر الجميع، اختبأوا في المقاهي والمتاجر وعلى أسطح البيوت، يراقبوا الطفل والراية والدم ينزف، وهو يسير. قرر أن يلعب ولكن بطريقة مختلفة. الجنون أو الموت. ليس هذا وقت الاختيار. الجنون والموت. أسقط المسافة ومزج الجنون والموت والراية، والدم ينزف. وهو يسير. فجأة.. اخترقت رصاصة صدره. بدأت اللعبة. تقدّمَ خطوة أخرى. مزقتْ رصاصة ذراعه التي أمسك بها الراية ولم تسقط الراية. تتابعت الطلقات تثقب الجسد الصغير. سقط ولم تسقط الراية. وفي لحظة سقوطه تألم لأن اللعبة قد انتهت.

هنا الوردة.. هنا نرقص

- هنـا؟
ـ لا.
صباح كل يوم أنتظر ولادتي ـ لكي أنزل إلى الشــارع وأثبت هويتي الحقيقية ـ (1) لكن هذا لا يحدث، فأنتظر، ويدخل الشرطي بدوره من الباب الجانبي، ويضربني كالعادة ثم يخرج.
إذن..
وقوفاً.. نرمي المرأة (هي أمي على أية حال) على سريرها الخشبي. ننزع عنها ملابسها (بالقوة إذا اقتضى الأمر) كل ملابسها، ونفتح ساقيها، بشدة.(طبعاً سوف تصرخ وتتألم وتفقد وعيها.. هذا لا يهم) يتمزق فرجها الضيق، ومن الشروخ تخرج السوائل والزوائد اللاصقة بالرحم.. عينان. أنف. ذقن. وجه بشري. نمسك الرأس. نجذبه...
وقوفاً.. هل الوجه أصفر شاحب كريه ذو نظارة طبية، تغطيه افرازات ذباب؟ ( من الوصف يتضح أن الوجه المطلوب هو وجهي، لا داعي للتفسير لأنني أعتمد على ذكائكم) إذا كان الجواب لا فإنني سوف أنتظر.
مشينا أنا وصديقي (2)

* * * * *

عندما ترون الشرطي قادماً لضربي كعادته كل يوم أطلب منكم أن تسدوا الباب وتعترضوا طريقه حتى أتمكن من الهرب من النافذة للقاء حبيبتي (3)
ومشينا. تشابكت أصابعنا.. قلت لها: أحبك كثيراً. قالت: وأنا... وفي الحديقة العامة، جلسنا والأطفال يدورون حولنا. يرقصون ويغنون. كانت هي تضحك. أصبحت هي الضحك، هي الفرح. قامت كفراشة برية وأخذت تدور حول نفسها ترقص منتشية. توقف الأطفال عن الرقص ولم تتوقف هي. نظروا إليها في حب واعجاب مثيرين. تعبوا ولم تتعب هي. ثم ذهبوا.
اقترحتُ عليها أن تتوقف عن الرقص فتوقفتْ ومشينا. لم تتشابك أصابعنا هذه المرة. كانت خطواتي سريعة (أعرف أنها عادة سخيفة) لذا تمهلتْ هي. وعندما التفتُ خلفي رأيت أن هناك مسافة. أشرت إليها بأن تسرع، وقبل أن تجيب، تدحرج رأس دائري الشكل مفصول عن جسده بضربة سيف أو مقصلة ( كان السؤال يسيل بلزوجة من الفم والعيون.. الآن لمحتُ الدهشة) صاح الرأس: ابتعدوا، هم يقتلون العصافير وأوراق الشجر.
ابتعدت حبيبتي رغم أني أشرت إليها مرة أخرى بأن تسرع لكنها ابتعدت وغابت، بعد أن قالت: جثة هنا، هذا يعني أن شرطياً ما موجود في هذا المكان).

* * * *

بين السيف والرقبة، عوت الحنجرة: "أنا ورقة" (4)

* * * *

(المشهد الخامس بعد الستين)
أنا.. مواجهاً الجمهور، لم أنطق بحرف بعد. ذلك أنه لم يمض على رفع الستار سوى لحظات قصيرة جداً. فجأة. يندفع من الباب الجانبي شرطي (يركل مؤخرتي ثم يجثم على ظهري ويصفع قفاي)
أنا : (مازلت في وضعي السابق، أكاد أختنق) ماذا فعلت؟
الشرطي: شتمتَ الحكومة.
أنا : لم أنطق بعد!
الشرطي: ليس ضرورياً أن تنطق.. للشتيمة ألف منفذ.

* * * *

ـ ها.. أنتَ من ضمن الذين اشتركوا في الإضراب؟
أغلقتُ النافذة بشدة. كان صوت شرطي (من الأحداث الروتينية التي صادفتني، اكتسبت حاسة تمييز الأصوات، أصوات رجال الشرطة بالذات).
ـ يا وحيدي لا تسافر.
قالت أمي، بعد ذلك اغرورقت عيناها بدموع حقيقية.
ـ الموت افترش الرصيف. تجشأ. تمدد. لكنه لا ينام أبداً.
ما زالت تبكي (كان تفكيرها غالباً ما ينتهي بالبكاء ويبدأ أيضاً بالبكاء).
ورددتْ بسذاجة:
ـ يا وحيدي لا تسافر
(يا خوفي من أن تتحول الدموع إلى نهر أغرق فيه)

(المشهد الثاني بعد السبعين)
أنا: (مواجهاً الجمهور ومكملاً حديثاً سابقاً لم أقله بسبب تدخل الشرطي)
والآن. هنا الوردة، وهنا علينا أن نرقص، رقصاً جماعيـــاً،
لينهض الجميع...
(يدخل الشرطي مسرعاً، يغرز في عينيّ قنبلة مسيلة للدموع) وفي الزنزانة رأيتها وهتفتُ بمرح: حبيبتي الشجرة. المرأة. الـ....

هوامش:

  1. هذا يعني أن اسم (أمين صالح) مزيف فعلاً. وأن شهادة الميلاد (1949) ينتسب إليها أكثر من معتوه ودجال ومجرم حرب.
  2. أكون كاذباً لو قلت أنا وحبيبتي، لأن حبيبتي كانت غائبة. لا لم تكن غائبة (ابحثوا عن ذلك الذي قال هذا زمن الاعترافات لكي أضع وساماً صدئاً على صدره) كانت غير موجودة رغم إنها في الحلم غالباً ما تتجسد في صورة شجرة.
  3. في حلم ليلة أمس لم تكن حبيبتي شجرة، كانت امرأة. وقد أعربت عن رغبتها في التحدث إليّ بعد أن سأمتْ من الدوران حولي وهي في صورة شجرة. ترددتُ في بادئ الأمر وعندما ألحت، تقمصتُ شخصية " إزرا باوند" وأنشدت:

    "لقد دخلت الشجرة يدي
    وارتقت العصارة ذاتي
    ونمت الشجرة في صدري
    وتحت
    تنمو الأغصان مني كالأذرع
    شجرة أنت"
  4. وأنتم.. كيف تتصورون المنظر؟
    عليكم أن تختاروا: العصفور أو الورقة.

لحظة التفرس في الوجه يكون الاختباء

1 ـ اللحظة:
كنقطة مضيئة في برج مدينة مظلمة وبعيدة. كوشم أخضر على ذراع امرأة بيضاء عارية، تكون اللحظة.
واقفاً ملصقاً بالجدار، كان كالألف ـ هكذا تخيلته ـ ليس كالمسيح المصلوب. شعره أسود غزير. (هل رأيت فزاعة من النوع الذي يرهبون بها الطيور في الحقول؟) كان الصبي فزاعة يرهبون بها الجنود الذين انتشروا في أرجاء المدينة بأقنعتهم المضادة للغازات السامة وبنادقهم المحشوة بالرصاص والقنابل. والصبي ملصق بالجدار.. كإعلان، كمنشور. يضحك سراً. والجرح الذي في ظهره يكبر. الجنود طلبوا الإذن من السلطات العليا لإزالة الألف. وحتى يصدر التصريح، أخذ الجنود يتفرسون في وجه كل شخص يمر، برعب وذهول.

2 ـ التفرس:
برعب وذهول.
هذا زمن التفرس والافتراس. العينان اللتان كانتا نوراً وناراً، الآن يمضغهما أحد آكلي لحوم البشر.
ـ قف يا ابن الجارية.
أمي كانت جارية. أعترف أنها لم تكن كسواها من جاريات الخليفة النجسات. لم يضاجعها أمير أو تاجر أو خبير دولي في البترول. كان المدعو أبي الوحيد الذي ضاجعها ومات بين فخذيها. قصة أبي طويلة، سأختصرها لضيق المجال. كان قرصاناً، أو هكذا كان حكام الولايات يدعونه (من الضروري أن نعيد النظر في التاريخ) طاردوه كثيراً، وعندما اجتاز النهر الكبير، وجد أمي. كان عطشانا وكانت أمي عذراء.
ـ عيناك لذيذتان وشهيتي مفتوحة لالتهام الورك والذراع والمخ. تركتُ جوادي عند باب الخليفة ترجلتُ. اعترض حارس طريقي، أوقفني. قلت: جئتُ أشكو الخليفة ظلم الوالي. أجابني أنتَ موقوف ولديّ أمر بقتلك أو نفيك إلى عصر آخر (ملامح الوجه تتوقف على علامات التعجب، لا توجد علامة، إذن يتسطح الوجه وتختفي الملامح) قلت: دون أن يقرأ الخليفة شكواي؟ قال: دون.. واجتزنا بوابات المدن الكبيرة والصغيرة، وجدنا كل رجل يصحبه حارس. كل امرأة يصحبها حارس. كل طفل يصحبه حارس. دخلنا رحم المدينة الأخيرة المجهضة بآلاف العبيد المكبلين بالقيود. اشترينا ثياباً غريبة الشكل والحجم قال عنها الحارس أنها تناسب العصر الذي نحن فيه (قلت من قبل: إن ملامح الوجه.. الخ الخ) وفكرت: هذا يعني أن شكواي كذلك تناسب هذا العصر.
آه. هذا زمن.. يختبئ فيه كل من يطمح لأن يكون حراً.

3 ـ الاختبــاء:
كان السوق تابوتاً كبيرا. وكان الطفل جثة كبيرة. الطفل مسجي بين ذراعي المرأة مبقور البطن. الدم مبثوث على شكل مستنقعات.
المرأة تتمتم بشفتين باردتين: جثة طفل للبيع.
يقول الطفل وهو مغمض العينين: أما من مشترٍ؟
تقول المرأة: لا.
ـ الشجاعة نادرة في هذا الزمان؟
ـ ضربة سيف ويتحول المشتري إلى سلعة.
ـ لنبحث عن مكان آخر.
ـ سنبحث.
تنهض المرأة والطفل مازال بين ذراعيها، يتساقط الدم كرذاذ مطر. وقبل أن يخرجا من باب السوق يدخل الجنود، يقرأ جندي مرسوماً صدر الآن يقضي برمي الجثث والنفايات في الصحراء حتى تتخلص المدينة من الروائح الكريهة الضارة بالصحة والتي تجلب الذباب والطاعون د.
يقول الطفل دون أن يفتح عينيه: ما الذي يجري الآن؟
تقول المرأة: سيرمونك في الصحراء.
ـ لكننا قررنا أن نبحث عن مكان آخر.
ـ أنت الحنجرة التي يشتاق إليها السيف، هنا أو في أي مكان آخر.
ـ سأهرب واختبئ في مكان ما حتى أجد من يشتريني.
ـ كيف؟
ـ سترين.
كدس الجنود الجثث في عربة. سارت العربة. سارت المرأة في اتجاه آخر.
في الصحراء اكتشف الجنود اختفاء جثة الطفل، فصدر مرسوم آخر.

رصيف الأزهار والموت

بنادقهم على أكتافهم، يحدّقون في الناس والبيوت والدواجن. ينتظرون شيئاً؟ لا ندري. يريدون شيئاً؟ لا ندري. ونحن الأطفال المسنين سألنا شيوخنا المسنّين. قالوا: ليس الآن، عندما تكبرون.
دخل الغرباء مدينتنا الهادئة التي كانت تنام عند الغروب وتحلم دائماً بالحب والأمان، تغيّر كل شيء. مواسم الحصاد والمطر، مواعيد الصلاة والأذان، نكهة الحزن والفرح. حزنا كثيراً حتى نسينا الفرح، صار الفرح حلماً، وأصبحنا نضحك عندما يُقتل واحد منا أمام عيوننا وأمسينا.. ما هو الحزن؟ ما هو الفرح؟ لا ندري.
وجدناك في تلك الليلة تجلس وحيداً وتنظر إلى القمر، بم كنت تفكر؟
ـ لم أكن أفكر.
ـ كذاب. لابد وأنك كنت تفكر بشيء ما !
ـ نظرت إلى القمر وغنّيت.
ـ لا تغنّ.
كنت أضاجع مومساً لا رأس لها، مجرد حفرة عميقة دخلتُ فيها بكامل جسدي، كان المكان مظلماً، تمنيت أن أرى نقطة مضيئة.. لم أر. شعرت بسائل لزج يلتصق بقدميّ العاريتين، كلما أتقدم خطوة أشعر بالسائل يرتفع أكثر ويصل إلى ركبتي ثم فخذي حتى يغمر نصفي السفلي وفجأة انسحب الظلام وكان الضوء. ضوء النهار، واكتشفت أنني أسير في وسط المدينة، أما السائل فكان دماً. الجثث الطافية تصطدم بجسدي، تتسرب من شفتي همهمات، تغوص الجثث وتختفي وتأتي غيرها وأنا أسير والدم يغمرني.. يغمرني.. آه.
ـ تحلم كثيراً؟
ـ كثيراً.
ـ لماذا؟
ـ لا أدري. أحلم.
عندما دخل الغرباء كانت أبواب المدينة مفتوحة، لا يوجد حراس ولا سلاح، يوجد بوابون وقلوب طيبة. دخلوا المدينة وقتلوا البوابين. اجتمعوا في ساحة المدينة واجتمعنا. قالوا: حذار أن تغادروا المدينة أو يعلن أحدكم التمرد.
ـ هل نسأل؟
ـ ممنوع السؤال.
جفّت حلوقنا. ننتظر المطر لا يأتي المطر. يأتي الموت راكضاً في الشوارع يدخل من النوافذ يدوس على الزرع يخنق الزهرة ويرميها على الرصيف.
في الصباح بعد نهوضي من الفراش فتحت النافذة وأخذت أنبح. أزّت رصاصة في الجو فانبطحت أرضاً وقلت في نفسي: سأفكر في طريقة يمكنني بها مواجهة الرصاص دون الانبطاح أرضاً. أعددت شاياً احتسيته بسرعة ثم ألقيت بنفسي على السرير، كنت عاجزاً عن النوم ثانية، فلم أنم ولم أفكر. تناولت سيجارة أشعلتها. مرت فترة سمعت بعدها صرخة.. صرخة أنثوية.. لم أنهض ولم أعر الأمر اهتماماً.. اعتدت سماع الصرخات يومياً.. لكن الصرخات تتابعت، الأمر الذي أثار دهشتي وفضولي ـ عادة تكون هناك صرخة كل ساعة أو ساعتين في اليوم ـ زحفت إلى النافذة. كانت جثتان مرميتان في وسط الشارع ـ امرأة وواحد من الغرباء ـ نزلت بسرعة، كان مثيراً أن أرى جثة أحد الغرباء.
ـ حاول أن يغتصبها فأمسكت بخصيتيه وعصرتهما حتى الموت.
ـ والمرأة.. كيف ماتت؟
ـ قتلها الآخرون.
دفنوا جثة الغريب، ولم يدفنوا جثة المرأة، تركوها في الشارع وحذرونـــا "يجب أن تظل الجثة ثلاثة أيام لتكون عبرة للآخرين". وجاورنا الموت، اتخذ له مسكناً. كان زائراً، الآن أصبح مقيماً بيننا.
في الليل لبست ثيابي وخرجت. الجثة وحيدة وبصيص من ضوء القمر ينعكس على وجهها الأصفر الشاحب، نظرت إليها برهة، حتماً كانت جميلة جداً قبل أن تموت. حملتها وسرت.
ـ أنت الذي دفن الجثة ؟
- أنا..
ـ لماذا فعلت ذلك؟
ـ لأن رائحة الجثة تفقدني شهيتي ولا تدعني أنام.
قالوا: سوف نمنحك فرصة أخيرة، اصطد لنا غزالاً.
سرت مع أحدهم ـ وضعوه حارساً عليّ حتى لا أهرب أو أنتحر ـ فكرت، لقد نسيت أن أخبرهم.. هنا في المدينة لا توجد غزلان.
قال الحارس: ماذا قلت؟
ـ لم أقل شيئاً.
ـ ولكنك فكرت؟
ـ فكرت.
ـ بماذا؟
ـ نسيت أن أخبركم.. لا توجد غزلان هنا.
لم اصطد غزالاً.. اصطدت كلباً ميتاً، حملته على كتفي وكان الحارس يضحك طوال الوقت، لم يكف عن الضحك..
وضعوني في زنزانة.
قلت: الآن بإمكاني أن أفكر دون أن أخشى شيئاً.

مرثية لماسح الأحذية

ارتكز على مؤخرته وزحف بيديه نحو الجدار بعد أن قضى حاجته في حفرة ليست بعيدة. من غار صغير في الجدار تناول زجاجة خمر نصف فارغة. سقط ضوء القمر على وجهه المتعب. تذكر أول مرة رأى فيها ضوء قمر.(عندما استيقظ، وجد نفسه في كهف مظلم لا منفذ فيه. خاف فركض. صدمته أنسجة حريرية، ظن أنها خيوط عنكبوت، بعد لحظة اهتز الكهف بعنف فانفتحت كوة سقط منها على الرصيف حيث ضوء القمر). حدث هذا منذ سنوات لا يذكر عددها، ولكنه يذكر أسئلة الفضوليين والمخبرين ومحصلي الضرائب.
ـ من أنت؟ ومن أين أتيت؟
لم يعرف.. وهذا أدى إلى تعرضه لشتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي من قبل سائليه، ولم يكفوا عن استجوابه.. حتى تلك اللحظة التي واجههم فيها كهل غريب:
ـ سقط من رحم امرأة.. أحس بعطش شديد. فغر فمه. سأل عن ماء أو دم. ولكن الرحم انغلق بقوة معلناً عن إفلاسه، ونفاذ الدم فيه.
بعضهم صدق ذلك والبعض الآخر لم يصدق، واعتبرها خرافة. لكنهم انفضوا من حوله، وتركوه وشأنه.
يضع الزجاجة في فمه، يغفو، يبدو كطفل يرضع. يمر الحارس الليلي ـ كعادته كل ليلة ـ يتوقف:
ـ ما زلت هنا؟
يجيب الرجل دون أن يفتح عينيه:
ـ منذ ليلتين، بعد مرورك المعتاد بدقيقتين، جاء رجل غريب. يصمت، فيتثاءب الحارس.
تمر فترة صمت طويلة.
يتململ الحارس في وقفته. يتضايق، فيجلس متربعاً بين ساقي الرجل.
ـ وبعد؟..
ـ لن أقول لك.. أشعر بخجل شديد.
يتثاءب الحارس. (الفك العلوي إلى أعلى والفك السفلي إلى أسفل.. أسفل.. يتمزّق الفكان). يتدلى الرأس، يفتح الرجل عينيه. يتأمل الحارس.
ـ منذ ليلتين. بعد مرورك المعتاد بدقيقتين، جاء رجل غريب. برتقالي اللون. يحمل فوق كتفه مدفعاً، وبين أسنانه خنجر وعلى جبينه وشم قراصنة.. عظمتان وجمجمة. ضاجعني. ثم بنى فوق صدري قلعة.
يوجه قبضته نحو صدر الحارس وقبل أن يضربه، يفتح الحارس عينيه.
ـ ماذا ! ماذا !؟
ـ انظر اللوحة المعلقة.. فوق رأسي.
يتثاءب الحارس.. كثيراً، وفي فترات متتابعة. يستسيغ العملية، فيتثاءب أكثر. وينام مرة أخرى.
الرجل يقرأ بصوت عال:
"أنا ماسح أحذية الأمراء والملوك والطامعين في العرش والتاج..
لدي مساحيق جديدة لتلميع الأحذية
لدي جباه عالية للسجود تحت الأقدام
لدي شفاه ممطوطة لتقبيل الأنوف
لدي مؤخرات طرية للمضاجعة، وأحياناً للرفس".
ينهض الحارس .
(صاح بائع الجرائد وهو يركض في جميع الجهات: الجوقة الموسيقية ستمر من هنا. ثم اختفى.
لم أتحرك ـ الرجال لا يهللون أو يرقصون لدى رؤيتهم شيئاً غريباً كهذا ـ كانت الجوقة تعزف ألحاناً جنائزية ومارشات عسكرية وعندما جاورتني انقطع العزف. جاءني ذلك الذي يسير في المقدمة ويلعب بالعصا. وضع وردة فوق جبيني وطرطوراً فوق رأسي ولطخ وجهي بمساحيق وأصباغ ملونة. قال قبل أن يذهب: تبدو الآن جميلاً)
يبتعد الحارس. بعد عشر دقائق، يسمع صرخة عالية، يعود مهرولاً. وبفزع يسأل:
ـ ماذا هناك؟
ينتفض الرجل. يهتز جسمه ولكنه لا يحاول الوقوف.
ترتعش كلماته:
ـ دم. من النبع فاض. غسل الرصيف. ومن الرصيف انبثقت نخلة. فوقها وقف أبو موسى الطنبي..
ـ لا أفهم. ماذا تقول؟
ـ مدّ لي يده. كان الدم يتقطر منها. خفت. أخفيت رأسي في معدتي، ولم أمدّ يدي. وعندما أبرزت عنقي مستطلعاً.. لم أر شيئاً.
يغضب الحارس. يمسك الرجل من كتفيه ويلصق جبينه بجبين الآخر، يهزه. يهتز معه. ثم يهدأ.
ـ اهدأ. والآن. اخبرني. ماذا رأيت؟
ـ أبو موسى الطنبي.
ـ ومن هو أبو موسى هذا. هه !؟
ينظر إليه الرجل باستغراب في بادئ الأمر ثم باحتقار، يسأله:
ـ ألا تعرفه؟
يضحك الحارس ضحكة قصيرة. ثم يعبس ويقول :
ـ أ .. هل لديه سوابق؟ أقصد، هل صوره معلقة في مراكز الشرطة وفي أرشيف المباحث؟... لا ؟ قاتل محترف؟
(وقف أمامي، يتصبب عرقاً. في إحدى يديه شمس ـ تضئ طريقه ـ وفي الأخرى رسالة ملفوفة. قرأ بسرعة المكتوب على اللوحة. ابتسم. كانت ابتسامته حلوة وحزينة. ثم قال كلاماً ربما كان شعراً، حاولت أن ألتقط كلماته. فلم استطع. همّ بالذهاب ناديته.
ـ أنت يا..
توقف. التفت إلى مستفسراً وشيء من القلق يشق وجهه. لم ينبس بحرف. قلت:
ـ لم أرك هنا من قبل يا..
ـ أبو موسى الطنبي. اسمي.
أخذت أحدق فيه. كان رأسه يدور في جميع الجهات يحاول أن يستشف الظلام لرؤية شيء ما.
خمنت أنه..
ـ مطارد؟
ـ منذ أن ولدتني أمي.
ـ من هو؟
ـ شخص ما يحاول قتلي.
ـ هل ارتكبت ذنباً؟
ـ وجودي هو ذنبي.
ابتعد عدة خطوات. ثم وقف مبهوتاً لدى رؤيته شخصاً ما يندفع نحوه بسرعة خاطفة، ونصل الخنجر في يده اليمنى يشع ببريق مخيف. يهوى النصل. ينغرز. يلتحم الصدر بالنصل، وينبثق الدم. يتسلل النصل خارجاً (يعوي أبو موسى) ثم يعود بطيئاً.. حاداً. وينغرز مرة ثانية. ينبثق الدم. يتسلل النصل خارجاً (يعوي أبو موسى) ثم يعود بطيئاً.. حاداً. وينغرز مرة ثالثة. ينبثق الدم. من الصدر يفيض. يغسل الرصيف. ومن الرصيف تنبثق نخلة فوقها يقف أبو موسى الطنبي. يمد لي يده ... يـ .. د .. ه)
ويصرخ الرجل صرخة هستيرية تدفعه خارج وعيه، فيغمى عليه. ينظر إليه الحارس ببلاهة يشوبها فزع وعدم فهم للموقف. تمر فترة. وبحركة بطيئة لا إرادية.. يرفع الحارس يده ويخرج صفارة الإنذار من جيب قميصه ثم يضعها في فمه وينفخ فيها. ينطلق صفير خافت مذبوح. وعندما يتعب الحارس من النفخ، ينحني على الآخر ويسنده إلى الحائط بحيث يتخذ وضعه السابق، ثم يجلس متربعاً بين ساقيه، يحدق في وجهه. ويغفو.

* * * *

صاح المفتش العام في يأس:
ـ بالأمس. اغتصب قزم قميء فتاة شريفة كانت تبيع البرتقال تحت شمس الظهيرة، وعندما حققتُ معه بصق الحقير في وجهي واعترف بأنه مذنب ثم سار في دربه دون أن يتمكن أحد من إيقافه. واليوم...
لم يعلّق ماسح الأحذية، ولم يتحرك. فقط أخذ يراقب المياه المندفعة من الخراطيم والتي تغسل بقع الدم اللاصقة بإسفلت الشارع. فكر.. (تحدث الجريمة، يحضر الشرطة. يحققون، يزيلون آثار الجريمة ويذهبون)
ـ أين الجثة؟
قال المفتش العام بعد أن جلس بين ساقي ماسح الأحذية المنفرجتين.
(هوى النصل ثلاث مرات. عوى أبو موسى ثلاث مرات. ومن الصدر انبثق الدم بغزارة).
ـ أين الجثة؟
ـ لا أعرف. حين مد الطنبي يده، أغمى عليّ. لا أعرف.
ـ والطنبي هذا.. اسم القتيل أو القاتل؟
ـ هو الذي وقف فوق النخلة وأنشد شعراً. ألا تعرفه؟
يهز المفتش رأسه غير مصدق. يتثاءب ثم يدلي رأسه على صدره ويغفو. ينظر إليه ماسح الأحذية، يتأمله. يرفع نظره نحو الحارس (كانت "بومبى (1)" تحترق.. الحمم تفور من البركان وتغطي المدينة. وكان الرجال والنساء يجرون مذعورين.. ما عدا أحد الجند عند باب المدينة، لم يحرك ساكناً، رفع غطاء رأسه بهدوء حتى لا تحجب سحب الدخان عنه الرؤية، وتثنيه عن واجب الحراسة.. هكذا وجدوه بعد ثمانية عشر قرناً. واقفاً) وقد أخذ شخيره يعلو شيئاً فشيئاً.

* * * *

في الزنزانة وقف ماسح الأحذية يفكر: الكوة بعيدة، حاول أن يتسلق الجدار ليصل إليها، لكنه في كل مرة كان يفشل. فكر كثيراً.. بعد ذلك تعب فنام.
في الحلم تسلق الجدار بسهولة ورشاقة.. احتضنته الشمس هناك.. داعبت شعره.. انسل من حضنها ثم جرى كحيوان بري.. وعندما غاب الحلم، صحا مـن نومه وقرر أن يعيد المحاولة مرة أخرى.

1) بومبى: مدينة إيطالية قديمة دمرها بركان فيزوف.

الرقص تحت أضواء الصمت

يا سادة.. المخرج والمؤلف لم يحضرا، أحدهما انتحر والآخر فر هارباً لأنه لم يجد ما يقوله. وبقينا نحن.. هنا.. نرقص بين عقارب الساعات.. توقفت العقارب عن الدوران لأنها رأت أن فكرة الدوران سخيفة ومملة، وأن الزمن أصبح عديم الوزن والمعنى.
يا سادة.. لأن متعهد الحفلات انعدم وزنه ومعناه أيضاً.. إذن سنعرض هذه الليلة رقصاتنا مجاناً وحتى الفجر. لا نريدكم ـ يا سادة ـ أن تستمتعوا بمشاهدة هذه الرقصات أو أن تتلذذوا برؤية الفراخ الذبيحة وهي تشوى فوق قطعة من الصفيح الصدئ. لا.. (نحن تعودنا الرفض منذ أن تعلمنا الرقص) نريدكم أن تشاركونا الرقص. أن تنصهروا معنا في بوتقة واحدة. كلٌ يعبّر عن نفسه، بأدائه رقصة ولتكن فريدة. المهم أن يشارك في استمرار حفلة الليلة. ببساطة نقول: لا تخشوا الرقباء والمخبرين وأولياء الأمور.. نبدأ.
لنكوّن دائرة صغيرة على شكل (5) وبجانب هذه الدائرة نشكل علماً على هيئة (6). نرقص بعنف. نضرب خشبة المسرح بأقدامنا وبأيدينا وبصدورنا، ومن الجانب الآخر من المسرح، يأتون مسلحين. راكضين. يدوسون على ظهورنا، ثم يغادرون. يختبئون خلف الستار. (5) تهتز، (6) ترفرف. نمشي في جنازة. لتكن خطواتكم حزينة ورؤوسكم مرفوعة. نتمرغ في هواء المسرح (لا يكفي أن نفسر الأشياء) ارسموا بأصواتكم جسراً طويلاً يكون معبراً للرفض والاحتجاج، بعد ذلك اصبغوا هذا الجسر باللون الأحمر ـ لا رفض بدون دم ـ الرصاص يأتيكم من خلف الستار مجروراً بحبل.. دماؤه تكتب (أردت أن أكون)
أفراد الـ (5) وأفراد الـ (6 ) يزحفون دون أن يسقطوا.
الهزيمة. قرطبة؟ زهرة المدائن؟ أوال؟
يفتح باب الحصن فجأة.. (لا بد من وجود خائن داخل الحصن يفتح الباب للأعداء) تبرق السيوف في المرايا المعلقة في جوانب المسرح، وتنفجر الميكروفونات نتيجة صهيل الخيول وتلاطم الدروع. نصف سكان الحصن نائمون تحت تأثير المخدر. أما النصف الآخر: جبناء يملكون السلاح، وشجعان لا يملكون السلاح.
حدثت المجزرة، وسقطت قرطبة، زهرة المدائن، أوال. وبين الدمار والخراب نرقص، ووسط الدخان نرقص.
يا سادة,. قبل أن يبلغنا الفجر، لنقف لحظة ونسأل: هل هناك وسائل أخرى للتعبير؟