1

الفكرة هي بذرة الكتابة، بذرة أي عمل فني. إنها توجد في الداخل، في ذات الفنان، متخذة شكل جنين لا يمكن تحديده أو التنبوء بالشكل الذي سيصيره فيما بعد. إنه ينمو لوحده، يتحرك ضمن مساره الخاص، خارج نطاق السيطرة والتحكم، متحدياً الاتجاهات التي تُفرض عليه بغية ترويضه وتنظيمه وتوجيهه.
غالباً ما نجهض الفكرة عندما نتكلم عنها، ونعلن عن وجودها، قبل أن يتحقق لها الوجود. إن مجرد كشف وجودها الجنيني يضاعف من احتمال موتها عند ولادتها. وأية ولادة قسرية لا تنتج إلا شكلاً مشوّهاً.
لهذا لا يرغب الكثيرون في التحدث عن عمل هو قيد الإنجاز ولم يكتمل بعد. الحديث قد يعرّض الكينونة الناقصة للانتهاك أو الإفساد أو العطب، حيث تصبح مكشوفة ومباحة ومجرّدة من الغموض المقترن بها.
ما إن يتهيأ للعمل الفني الجو الملائم للولادة، وتتوفر له الحاجات الضرورية، حتى يكف عن الإصغاء إلى خالقه، والتحرك وفق مشيئته وضمن سلطته. إنه يتمرد عليه، ويحطم القفص، متحرراً من كل أسر وسطوة، لينطلق في تياره الخاص، بعيداً عن إرادة خالقه، وليصبح شيئاً مختلفاً عما خطط له.
الفكرة الكامنة في الذهن لا تكون - على الدوام - نفسها عندما تتحقق، ذلك لأنها تخضع للتحوّل عند انتقالها إلى محيط آخر، وغرسها في واقع جديد ومختلف.. أي في شكل فني محدد. في عملية التحول، تتعرض الفكرة لتعديلات وانحرافات تفرضها معطيات البيئة الجديدة التي تنصهر فيه المخيلة والذاكرة واللاوعي مع الوعي والمنطق والتخطيط العقلاني.. أي الشكل الفني الذي يمتص الفكرة ويجعلها تنمو في شروط أخرى.
ويشير السينمائي فلليني إلى هذا التحول في قوله : ) إن فكرة عن الجسر لابد أنها أكثر جمالاً من الجسر نفسه بعد تصميمه.. ذلك أن الجسر المبني يحدّ فكرة هي أصلاً غير محددة. الصورة في اللاشعور ليست ذات هيكل يحدّها. إنها تمتلك فتنة الغامض واللانهائي، والذي لا يمكن التعبير عنه. هذا الغموض يجعلها أكثر إثارة ومتعة، لكن حين تحقق فكرةً ما، فأنت تبعد عنها السحر والغموض اللذين يجعلان الأشياء أكبر من أن تكون مجرد ذواتها (.
لهذا السبب، غالباً ما يكون المنجز أقل اكتمالاً من الكامن. وهذا ما يجعل الكاتب أو الفنان يستمر في الإنتاج دون أن يشعر بالرضا أو الإشباع الكلي، بل يظل في حالة مستمرة من التوتر والجوع، ولا يرتوي أبداً. إنه يشعر دائماً بأن ما أنجزه لا يعبّر كلياً عما يكمن في داخله، وأن ثمة أشياء ما تزال مستترة، متوارية، مستعصية على الإمساك.
أحياناً يكون المنجز تدميراً أو تبديداً لحالة خاصة، حميمية، عاشها الفنان طويلاً مع عمله في انتشاء غريب وتمازج خارق. إنه يأتي ليفصل نهائياً الفنان عن تلك الكينونة التي حملها في داخله ورواها بدمه.
يقول ) باروا (، السينمائي الهندي الذي مات مبكراً نتيجة إفراطه في تعاطي الكحول، تماماً مثلما حدث مع بطل فيلمه ) ديفداس ( (1935) :
) ديفداس كان بداخلي حتى قبل أن أولد. لقد خلقته في كل لحظة من حياتي، وحتى قبل أن أجسده في فيلم. ومع ذلك، عندما تحرك على الشاشة، لم يعد في نظري سوى سراب، تلاعب بالضوء والظل. لقد كفّ عن الوجود بعد ساعتين. هو الآن مجرد وهم أو خرافة (.

2

للصدفة دور كبير في أي عمل فني. إنها عنصر هام وضروري للكتابة التي هي عملية معقدة ومتشابكة، لا تخضع لظروف وضغوطات ومؤثرات خارجية. فالكاتب عادةً لا يقرر متى وكيف يكتب (إلا إذا كان ينظر إلى الكتابة كمصدر للرزق أو للتبشير والوعظ أو لتبليغ رسالةٍ ما).
الصدفة هي التي تحدّد انطلاقتك في الكتابة، وتصبح أحياناً مصدراً تنهل منه كلما اعترضك عائق ما.
في الذهن تتولّد، فجأة، فكرة أو صورة أو حالة معينة، أحياناً تكون غامضة إلى حد أنك لا تجد لها تفسيراً أو حتى مبرّراً لحضورها، وأحياناً تكون واضحة لكنك لا تعرف ماذا تفعل بها أو إلى أين ستفضي بك. إنها تراودك بإلحاح واستفزاز، لا تستطيع الفكاك منها، كما لو أنها تحاول إغواءك. ويتكوّن لديك إحساس بأنك ستقع تحت تأثيرها لا محالة، لذلك تحاول أن تعرف أكثر مما تقدمه، تحاول أن تخترقها وتسبرها.
إنها قد تنبع من المخيلة أو الذاكرة أو المشاهدة أو الحلم، وربما تنتأ من عتمة اللاوعي، وربما من مصادر أخرى كالموسيقى أو السينما أو اللوحة أو القصيدة، وربما من حركة ما أو حدث عابر. ثمة ينابيع كثيرة، وعلى الكاتب أن يحسن فحسب التقاط اللحظة القابلة للتفجّر والاتساع، والإمساك بذراتها وجزئياتها، وذلك عن طريق رصدها والتركيز عليها بحيث تأخذ شكلاً هائلاً وطاغياً. إن ذلك يشبه نظرة العاشق الذي لا يرى في الكون سوى عين حبيبته، لكن في هذه العين يسكن الكون ذاته.
تلك الصورة، المادة الجنينية، الحالة المتولّدة صدفة، تكون عادة مستقلة ومعزولة وغامضة وغير محددة المعالم.. تماماً مثل الجنين. إنها غير مرتبطة بشيء آخر، ولا تتصل بأفكار ورؤى وعلاقات، إنما تطفو وحدها في مثابرة وإصرار.. كأنها لا تطلب سوى المحاورة، كأنها تسعى إلى إحراز شكل محدد. وتدريجياً تبدأ الصورة في التنامي والتناسل والتكاثر عبر التداعيات والاستحضارات والحيل التي يمتلكها أو يبتكرها الكاتب.
وتكتشف بأن الصورة المفردة تجرّ حشداً من الصور، والحالة تؤسس عدداً لا يُحصى من الحالات والعلاقات، والإيقاعات تتشكل خالقة تناغمات فريدة، وعندئذ تجد نفسك محاطاً بجمع من المخلوقات والأشياء الحاملة إشاراتها ودلالاتها ورموزها الخفية والظاهرة، لتغزو حواسك وتغمرك بالأشكال.

3

الكاتب الذي يجد الطريق سالكة، لحظة الكتابة، ويعبر الدهاليز والممرات بعينين مغمضتين، لن يشعر بالمتعة والفضول والدهشة التي يشعرها الراحل صوب إقليم لا يعلم عنه شيئاً. الكاتب الذي يعرف من أين يبدأ، وإلى أين يمضي، وكيف سينتهي به المطاف، سوف ينأى عن كل ما يمكن أن يواجهه من مصادفات ومفاجآت وغرائب، وعندئذ سيفوّت على نفسه فرصة الاكتشاف والفهم. إنه يعرف كل شيء، والكتابة بالنسبة له محض رسالة وليست إبداعاً. إذ ما هو الإبداع إن لم يكن اقتحاماً للمجهول، ودخولاً في مغامرة لا تعرف كنهها وطبيعتها، أو إلى أين ستفضي بك ؟ وفي هذه المغامرة يكون بمقدورك أن تبتكر أدواتك ووسائلك، وتكتشف.
اقتحام المجهول يعني أن تأتي إلى الكتابة دون معرفة مسبقة، دون خطط وتصاميم وخرائط، دون عناصر واضحة ومحددة، دون أفكار ناضجة، دون شخصيات وأحداث مرسومة بدقة هندسية، أعزل إلا من الرغبة العميقة في سبر ذاتك والعالم، ومحاولة فهم علاقتك بالكائنات والأشياء المحيطة بك.
إنك تبدأ من اللامكان، من موقع بكر، من نقطة غير معلومة، من كلمة غامضة لا تحمل معنى بذاتها، وتشرع في الإبحار. حينذاك ستصادف بوابة مائية تنفتح بعد بضع طرقات. والأفق يقودك إلى أفق آخر، وأمامك تتخلق عوالم متعددة ومتباينة، مأهولة بكائنات مألوفة وأخرى غريبة. والمخيلة تنثر عليك صورها في فوضى جميلة، والذاكرة تستحضر ما تشاء من أحداث وحالات، ولا يعود الواقع واقعاً ولا الحلم حلماً، بل مزيجاً من كل شيء.
إنك تضع نفسك في موقع القارئ الذي لا يعرف ماذا سيحدث، وماذا سيصادف، ومتى سيتوقف. لست أكثر علماً ومعرفة وحكمة. لست خالقاً محايداً أو لا مبالياً.
لست ساحراً. إنك مثله تماماً. مكتشف. تجرّب لغتك وأدواتك ومواردك ومصادرك. هذه العملية، أو هذه الرحلة، تولّد بالضرورة المتعة والدهشة.. هذين العنصرين اللذين بدونهما لن تكون للكتابة خاصية أثيرة ومشجعة.
وماذا يبقى للفن إن جُرّد مما هو سرّي ومجهول وغامض.. هل سيكون لوجوده معنى؟

4

على الكاتب ألا يكترث كثيراً بالتسميات التي اخترعت من أجل تحديد الأنواع والاتجاهات الأدبية. إنها تحديدات ونعوت لا تخدم إلا الأكاديميين والتقليديين من الكتاب والنقاد والقراء. وفضلاً عن ذلك، هي تنطوي على إرهاب أدبي يتمثل في وضع لا الحدود فحسب، بل القيود أيضاً، حول أشكال الكتابة. فتلك الأنواع صارت مقولبة ومستبدة. والقصة أو القصيدة أو الرواية، صارت مواقع محصّنة، مسيّجة بقوانينها الموضوعة، أو عوالم منفصلة محظور على المقيم في إقليم ما ( القصة مثلاً ) أن يسافر إلى إقليم آخر ( القصيدة مثلاً ) إلا عندما يتخلى عن هويته نهائياً. كما لو أن القاص أو الشاعر مواطن تحت قيد الإقامة الجبرية، ولا يحق له أن يتعدى حدوده ليلج مجالاً آخر. هكذا تصبح حرية التعبير ضلالة في نظر بعض النقاد، ويصبح اختراق التخوم المحرّمة مثار استنكار وريبة.
مع ازدياد التوجه - لدى بعض الكتاب الآن - نحو تجارب لا تعترف بالتخوم، إنما تخترق تلك الأنواع وتسعى إلى تخريب طقوسها وتدمير مواقعها الاستبدادية، يشعر المرء بضرورة إعادة تقييم ما هو متعارف عليه، وما هو مسلّم به، فيما يتعلق بأنواع وأشكال الكتابة، ويهيئ نفسه لاستقبال كتابة لا تخضع للتصنيفات، ولا تهادن الإرهاب الأدبي، إنما تستمد عناصر وجودها من الأنواع كلها، وتتخلّق من ذلك الانصهار المركّب بين الأنواع والأشكال لتخلق لها جمالياتها الخاصة بحساسية مغايرة ووعي أكثر عمقاً.
هذا لا يعني أن القصة - مثلاً - سوف تنتهي وتموت، بل على العكس، سوف تتطور أو تتحول.. أي تحيا. إن القصة لن تظل كما نقرأها اليوم، بل سوف تبيح نفسها لسلسلة من التغيرات والتحولات التي تقوّض قوانينها وقواعدها، وسوف تتفاعل وتتمازج مع الأنواع الأخرى بحرية أكبر.

5

الواقع، بالنسبة للكتابة الجديدة، ليس فقط المظهر الخارجي، المرئي، المحسوس، والذي يحدّد تضاريس البيئة والعلاقات القائمة ضمنها، والمعطيات الواضحة المحددة، إنما هو أيضاً الداخلي، اللامرئي، الخفي، ذلك الذي يتناسج من عناصر مركّبة مستمدة من الأحلام الليلية، أحلام اليقظة، الكوابيس، الذاكرة، اللاوعي.
الواقع، في جوهره، يتألف من مجموعة مختلفة ومتباينة من البنى المحسوسة والخفيّة، تلك التي تتصل بالسطح الظاهري، وتلك التي تتصل بالقوى المحركة للنفس البشرية، وأخرى تمس الأبعاد الزمانية - المكانية.. وهكذا.
الواقعية، بالمفهوم الأدبي والفني التقليدي، كانت تفرض صورة واضحة المعالم لواقع جاهز، مستقر، منظم، مترابط منطقياً، ومنغلق على نفسه. وبناءً على ذلك، كانت أعمالها تعتمد على البنى السردية المحددة، والحبكات المبسطة، والأحداث المرسومة بوضوح، والزمن المتسلسل، والشخصيات الأحادية البعد ذات السلوك والدوافع المفهومة.
لكن الفن، بدعم ٍ من العلوم الحديثة، برهن على استحالة تصوير الواقع، الذي طبيعته مائعة ومتعددة الوجوه، كبناءٍ ملتحم ومنظم، وقابل للفهم. وتمرد على استبدادية المظاهر الخارجية بمحاولة تقديم فهم جديد، أكثر عمقاً وصدقاً، للواقع. فبدلاً من الإجابات الجاهزة والصراعات المحسومة مسبقاً والرؤية المتحيّزة والتحريفية، تؤكد الأعمال، الخارجة على تقاليد الواقعية، على الغموض والتشوش واللاتماسك والإلتباس. لاشيء مفهوم ويمكن الإمساك به. كل شيء عرضة للشك والاستجواب.
الأحلام واستحضارات اللاوعي والتداعيات التي تولدها المخيلة، تعلن عن حضورها القوي والاختراقي ضمن مستويات البناء. الشخصيات لم تعد أحادية وذات صفات إيجابية أو سلبية مميزة، بل أضحت متعددة الأبعاد ومنسلبة وعاجزة عن فهم القوى المجهولة، المستبدة، التي تتلاعب به وتتحكم في مصيره، كما أن سلوكها وبواعثها غير مفهومة. السرد التقليدي يتعرض للتفكيك والتجزيء والتشظي. العلاقات الزمانية - المكانية تتكثف وتتداخل. والكتابة نفسها تصبح أكثر تحرراً.

6

عندما تكتب، أو تمارس شكلاً فنياً، فإنك تحاول الاتصال - بشكل أو بآخر - بواقعك، بمحيطك، بالعالم. إنك تتصل بطريقتك الخاصة، بلغتك الخاصة، برؤيتك الخاصة. وحين يأتي شخص ما، يحاول أن يحقق اتصاله بالواقع على نحو مختلف جذرياً، ويبدأ - ربما لأنه أقل ديمقراطية أو أقل تحرراً أو أقل مرونة - في اتهامك بأنك تساهم في تعميق الفجوة بين ذاتك والآخر، أو فنك والآخر، وبأنك انعزالي أو منغلق أو نخبوي، وبأنك تقيم في برج عاجي.. فإنك عادة تصاب بالهلع، وتسعى إلى دفع التهمة عن نفسك، وتسعى بكل ما تملك من حجج وبراهين إلى إثبات براءتك.
لا، لا تفعل. لا تضيّع وقتك ولا تبدّد طاقتك. فالتهمة باطلة من أساسها.. إذ لا يمكن لأي مخلوق أن ينأى عن واقعه، ويدير ظهره لما يحدث حوله، وذلك - ببساطة شديدة - لأنه يعيش هذا الواقع، حتى وإن كان على المستوى السلبي، ولأن الواقع يقتحم حجرته ويخترقه رغماً عنه.
لا تصغ إلى الهراء المنتشر حول مفهوم البرج العاجي.. هذا الذي يُعد شيئاً سلبياً، شتيمة مبتذلة، تهمةً فارغة.
لأنهم الأكثر انحناءً وانكساراً، الأكثر استسلاماً للاختراق والإحتلال، فإنهم يعتبرون البرج عاراً، ويرمون المتحصّن بوابل من الأباطيل.
وحده هذا البرج قادر أن يحميك، وأن يصونك، من انتهاكات الآخر، من تهديده المستمر لك، وإرهابه وقمعه.. الآخر الذي لا يأتي ليستمع إليك ويحاورك، بل يأتي ليفرض عليك الامتثال لقيمه ومثله وعاداته وتقاليده، والخضوع لشروطه ومطالبه. الآخر الذي لا يحترم مخيلتك ولا يعترف بحريتك.. الذي يهزأ بأحلامك.
البرج أيضاً يحميك من الواقع الذي يشنّ هجومه عليك بلا هوادة بغية ترويضك وإخضاعك وتدجينك وتحويلك إلى صوت محشرج ضمن الجوقة، إلى قناع يستر التشوّه والانمساخ. الواقع الذي يسعى إلى تهميشك وسلبك كل إرادة وشعور وحس. الواقع الذي يملي عليك شروطه وأعرافه وطقوسه، ثم يلفظك كالنواة في الحظيرة المسيّجة.
لقد حفظنا الدرس الأول منذ سنوات : إن لم تستطع أن تغيّر الواقع، فلا تدعه يغيّرك.
شيّد برجك العاجي ولا تكترث. فيه تحصّن ومرّغ عينيك في الحرية القصوى.
شيّد برجك وأطلق النفحة الخلاّقة.

أنت قادر على ذلك،
إني أؤمن بك.

لا تعبأ بما يُقال عنك.
لست فقير الموهبة كما يشاع.
أنت غائص، حتى الوجع، في واقع يرميك بالالتباس.. ولا حماية لك. تبحث لك عن مكان فيه تستطيع أن تنتزع الاعتراف، لكنك لا تشعر إلا بالتجاهل الوقح.
موحلاً تمشي وسط حلبة من التحذيرات والوصايات، والكثيرون يراهنون على انهيارك العاجل ليؤكدوا اعتقادهم الخبيث بأنك قد ولدت هزيلاً، ناقصاً، معوّقاً.. وسوف تنتهي سريعاً قبل أن يتصلب عودك.
لا تكترث أيها الصغير،
ارشقهم بالأسئلة المتوحشة. مارس جنونك وخروجك إلى مداه.
أي قبول بالامتثال هو قبول بالإخصاء. أي اعتراف باليقين هو اعتراف مذلّ بالعبودية. أي خضوع للمسلّمات هو وأد للمخيلة.
عند كل منعطف يتربّص بك سائسو الثقافة كي يروضوا جموحك. ماذا سيبقى لك إن فقدت الصوت ؟
قيل لك، من باب الإستهانة، بأن الجيل الذي سبقك كان الأغنى تجربة، والأكثر وعياً.
لا تصدق. كانت مرحلة تأسيسية مهمة وضرورية، لكنها ليست مقياساً، ليست المزار المقدس. فأنت الامتداد. أنت حاضر التجربة. بك تغتني وبك تسطع.
لا تنسف الجسر، لكن أيضاً لا تعد إلى الوراء. العودة غير ممكنة.
الآن تحفّ بك، أيها الكاتب الغضّ، الشكوك والمراهنات الفظة.
يقولون أن صوتك مستعار، ويا للبذاءة.
يسيّجونك بالأحكام والمقارنات.
إذن ماذا تنتظر ؟
تمرد وشاكس. أظهر مهاراتك المخبوءة. أحفر في داخلك عميقاً واستخرج ما يوجد هناك.
لكنك لست بريئاً بشكل مطلق،
فأنت أحياناً تصدّق ما يوحى إليك. تصدق أنك ناقص وعاجز.. فتتخاذل وتيأس وتتردد في حيرة بين قيد يشلّ طاقتك وقدم تحلم بالذهاب إلى أفق لم تطأه من قبل.
تخشى أحياناً من الأخطاء، أو تخجل منها. لا تفعل. دع الخطأ يغمرك. ستخرج منه ذات وقت وأنت أكثر صفاءً وثقة.
قوتك، أيها الضعيف، تكمن في عزلتك.. في انحسار الآخرين عن ما تكتب وما تفعل.
لا شيء يفسد الموهبة أكثر من جمهور جاهل ونقاد أميين. إذا أحاطك هؤلاء بالرعاية والتشجيع فاعلم بأنك قد تلوّثت وأصابك العطب.
شيّد برجك الخاص.
ليس عاجياً كما يدّعي السفهاء، إنما من لهب.
في عزلتك تختبر حريتك الحقيقية.. عندئذ لن يحول بينك وبين الإبداع باب أو حائل.
العزلة هنا ليست رفضاً للاتصال بالمعنى الإبداعي، بل رفضاً للاتصال بالمفهوم الاستهلاكي. العزلة حصن يصد غزو المفاهيم المبتذلة والمسلّمات الكابحة، وبداخله تتكوّن الرؤى التي سوف يستقبلها، يوماً، قارئ شديد الحساسية، كثير المرونة، واسع الأفق ومنفتح.
اطرح أسئلتك، أيها الصغير، دونما تردد أو ارتباك.. بضمير يقظ، وبلا خوف.
اجهر بالمغايرة، بالتخطّي، بضرورة ارتياد الفضاءات التي لم نألفها بعد.
وأنت قادر على ذلك.
إني أؤمن بك.

من يظن نفسه.. هذا الوغد

دعوه في غرفته الصغيرة الرطبة، هذا الجرذ الذي يقرض الكتب بنهم، الذي يكتب حتى تحتقن عيناه وتلتهب أطرافه.
دعوه يمشي محموماً في عراء حلمه، يتأبط مخيلته المريضة، ثم يعدو وحيداً على ضفاف عوالمه الفقيرة.
يكتب لأشباهه. يفضح ذاته. يفشي، بلا ضمير، أسرار من يعرفهم.
لا تقتربوا منه لئلا يمسّ أصابعكم لهب جنونه.
دعوه في عزلته هاذياً برؤى لا يسمعها أحد، مسوّراً روحه بمعضلات مختلقة، وبما يتداعى من هواجس ومخاوف ورغبات لا تخص أحداً غيره. يمضغ ذاكرته قطعة قطعة، يعتصر جسده شلواً شلواً. ولا يخرج من متاهة إلا ليدخل أخرى أشد غموضاً وأكثر بلبلة.
دعوه يتمرّغ في فضائه الضيق. يخوض ريش المجال. ينسج لمخلوقاته سقفاً من الغيم وجداراً من الماء، أو ينزّه الثلج في أرياف الطفولة.
ماذا سيضيرنا لو ظن أن الموج سرير، والمهد مملكة، والنافذة عين تطل على الكون ؟
صوره ترتطم بنا مثل الفقاعات. تثير سخريتنا. وإن أصابنا الضجر، قمنا بإزاحتها مع النفايات.
دعوه يحشد أمامنا نصوصاً ليست للفهم وليست للقراءة. نشيح في امتعاضٍ وفي ازدراء. عاجلاً سوف يستبدّ به القنوط ويغزوه العجز. عناده سبب صموده حتى الآن، أو ربما ذلك النفر القليل الذي يحيط به، أو أولئك الأقران الذين يتبادلون معه نخب الخروج والاختلاف. ربما أيضاً إيمانه بالكتابة.
لكننا سوف نكسر صموده بمزيد من التجاهل واللامبالاة. سيكون حصارنا أشد ضراوة إن بالغ في الثقة بذاته.
دعوه يرصّع من يحب بالمدائح، ويجنّح كائناته في ليل النص، ويهب أشياءه ما يشاء من نعوت ورموز ودلالات وإشارات و مجازات وعلاقات.
دعوه يعجن المفردات، ويصنع لغة لن تخذل سواه.
دعوه يضرم الحالات والأبعاد والعناصر بفوضى المخيلة.
دعوه شارداً في سديم المعنى.
لا تعيروه انتباهاً. وإذا مرّ بمحاذاتكم، ارفعوا الصوت عالياً ليتضرّج طريقه بالحمّى والالتباس.
لا تحسنوا الظن به. ارشقوه بالتوجس والارتياب. انسفوا أي جسر يبنيه.
عزّزوا الانفصال والتباعد بإطلاق ما يشين وما يشوّه. فما جاء إلا ليخرّب ويفسد ويضلل.
قد يرسل فراشة الغواية إلى وسائد النوم.
لا تتقاعسوا. فما هو إلا آفة.
يبدع ؟ من قال أنه يبدع ؟ لا تقولوا ما يضحكنا.
من يظن نفسه هذا الوغد.
نعرف كيف نؤدبه إن تجاوز حدوده. نعرف كيف نسحقه إن تمادى في غيّه وأساء إلى مثلنا، وإلى ما نؤمن به.

التحولات الأليفة والقارئ الغريب

1

الفنان أو الأديب يقضي وقتاً طويلاً في تحقيق عمله، وقد يستغرق إنجاز هذا العمل أسابيع أو شهوراً حتى يكتمل في صورته النهائية. وأثناء ذلك يبذل الفنان أو الكاتب الكثير من الجهد والطاقة والتفكير والمعاناة والتضحيات. وقد يصاب بالأرق والتوتر والإحباط، ويرزح تحت ضغوطات هائلة، نفسيه وعائلية ومهنية.. حتى يتمكن أخيراً من إظهار عمله بالطريقة التي يظن أنها مرضية وحسنة، وربما رائعة، من وجهة نظره. وعندئذ يقدم عمله إلى الآخرين، عن طريق العرض أو النشر، ليحكموا عليه أو يستمتعوا به، أو يحقق من ورائه ربحاً أو شهرة، أو يوصّل رسالة سياسية، اجتماعية، تربوية، أو لغايات أخرى متعددة.
بعدئذ، يأتي المتلقي - قارئاً أو مشاهداً - ليطلق خلال دقائق أو ساعات قليلة حكمه النهائي على هذا العمل. إذا كان متلقياً عادياً، بمستوى ثقافي متواضع، فسوف يقول رأيه في إيجاز وعلى عجل، وأحياناً يكتفي بالصمت ليواصل عملاً آخر، أو يتناول عشاءه في أحد المطاعم، أو يعود إلى بيته وهو يفكر في شيء آخر.
أما إذا كان ناقداً، فسوف يحلل موضوع العمل وأسلوبه ولغته وتقنيته ليؤكد الاستنتاج الذي توصّل إليه بعد قراءته أو رؤيته للعمل مباشرة، وربما ينفعل أكثر بالعمل فيكتب مقاله يبعثها في اليوم التالي إلى الصحيفة مضمناً فيها رأيه سلباً أو إيجاباً.
وفي كل الأحوال، فإن الآخر (المتلقي) لا يكترث بالفترة الزمنية التي أمضاها الفنان أو الكاتب في إنتاج عمله، ولا يعبأ بالحالات التي مرّ بها، وبالصعوبات التي واجهها، إنما يهتم فقط بالمحصلة النهائية، بالعمل المكتمل.
وعلى ضوء ردود الفعل المتباينة، من الجمهور والنقاد، تتحدد قيمة العمل.. هذه القيمة التي لا تكون ثابتة أو نهائية دائماً.. إذ ثمة الكثير من الأعمال الفنية استقبلت في البداية بفتور و دونما اهتمام، لكنها مع مرور الوقت اكتسبت أهمية استثنائية، وأعيد اكتشافها كروائع فنية.
استجابات الآخرين للعمل تتفاوت من شخص إلى آخر، فثمة من يستقبل العمل باهتمام واحترام وإعجاب، و آخر يستقبله بلا مبالاة أو بنفور وسخرية. والعمل قد يصبح تحفة فنية أو نتاجاً ممتعاً ومثيراً للجدل، وقد يصبح محض مادة للاستهلاك، أو مثيراً للضجر.
مع ذلك، فإن الفنان يستمر في الإنتاج، مجتازاً الصعوبات والحالات والمشاعر ذاتها، وبدوافع مختلفة..

2

ثمة جمهور خاص لأنواع مختلفة من الموسيقى والرسم والأدب والمسرح والسينما، فهناك من يتذوق الموسيقى الكلاسيكية ويستمتع بها، لكن هناك أيضاً من لا يهضمها ولا يطيقها ويفضّل الاستماع إلى موسيقى البوب أو الجاز. الأمر نفسه ينطبق على أشكال التعبير الأخرى، فالشخص الذي يحرص على مشاهدة مسرحيات كوميدية قد لا يحتمل المسرحية التراجيدية، والذي يشاهد أفلام المغامرات لا يميل إلى مشاهدة أفلام رومانسية، والذي يقرأ نزار قباني لا يقرأ سان جون بيرس، والذي يرتاد المسرح أو السينما ربما لا يرتاد المعارض التشكيلية، والذي يفضل الأعمال التقليدية يرفض أو يسخر من الأعمال الحديثة.
إن ما يحدّد التوجه والاختيار، وبالتالي الاستمتاع، هو المستوى الثقافي، الحس الفني، تعدّد درجات الفهم والتذوق، إضافة إلى عوامل أخرى كالتربية والتجربة والبيئة والمناخ. إن أحداً لا يستطيع أن يفرض على الآخر قراءة أو مشاهدة عمل فني لا يشعر تجاهه بميل أو رغبة أو حب أو تعاطف. إذن من الحماقة إرغام الآخرين على قبول شيء لا يريدونه.
مثلما يختار الجمهور النوع أو الشكل الفني الذي يلائم ذوقه وحسه، كذلك على النوع الفني أن يختار جمهوره.. بمعنى أن يتوجه إلى جمهور خاص، أو مفترض، تتوفر فيه المواصفات التي يريدها، وقادر على الانسجام والتفاعل. هذا الجمهور الخاص هو ما نسميه بالنخبة. النخبة لا تعني صفوة المثقفين، بل - وفق تصوّر جروتوفسكي - تلك النوعية، ذات الانتماءات الطبقية المختلفة، التي يجمعها الرغبة في التفاعل مع العمل الفني، والبحث المشترك في القضايا الأساسية التي تشكّل وجودهم.
التجربة تبرهن على خطأ الاعتقاد بوجوب توجه العمل الفني إلى جمهور عام. تاريخ الفن نفسه يؤكد هذا الخطأ. فالعمل الفني لا يستطيع أن ينال رضا الجميع، بل حتى قبولهم وتعاطفهم، مهما بلغ درجة عظيمة من الإبداع تصل إلى حد الإذهال. وليس مضموناً، في توجه كهذا، عدم توفر حالة من الاستجداء والتملّق والتنازل، الذي يضطر الفنان إلى إظهاره، من أجل الوصول إلى الجمهور العريض بمختلف مستوياته ونوعياته. إنه يضحي بأشياء كثيرة، وأثيرة لديه كفنان، لكي يكون مقبولاً. ومع ذلك فإنه يخفق في تحقيق هذا الطموح، ولا يحصد إلا الخيبة والإحباط.
سريعاً سيكتشف هذا الفنان، أو الكاتب، أنه يتحرك في محيط عدائي للفن، ويشعر بأن أحداً لا يرغب في استقبال ما يقدمه، ذلك لأنه لا يكتفي بالجمهور الخاص بل العام، لا يكتفي بالعدد المحدود بل يهفو إلى قطاعات أوسع، ومجرد إحساسه بأن ثمة نوعاً من اللامبالاة يبديه البعض تجاه نتاجاته، يعرّضه - هذا الإحساس - إلى الكآبة واليأس، وقد يفكر في الاعتزال. إنه يقع ضحية خداع الذات، وحاجته لأن يكون مرغوباً وموضع إطراء.
في علاقة الجمهور بالفن غالباً ما نجد هذا المنطق الغريب : الجمهور ضحية بريئة يغرّر بها الفن، أو يسيء التعامل معها. ومما يؤكد هذا المنطق، المطالبة الدائمة واللحوحة على ضرورة إرضاء الجمهور، والذي يعني ضمنياً تقديم نتاج استهلاكي.
الفن الحقيقي ضد هذا المنطق، لذلك هو محاصر، منبوذ، وعليه أن يناضل من أجل بقائه.

3

عندما يطالع القارئ العادي قصة أو قصيدة أو رواية، فإنه يطالب - قبل كل شيء - بأن يفهم ما يطالعه، أن يستوعب، وبالتالي فإن شرط قبوله للعمل هو أن يكون واضحاً وسهلاً ومفهوماً، دون بنى مركبة وتداخلات فنية يستعصي عليه تمييزها، ودون مجازات ورموز تقتضي جهداً ووعياً وثقافة من أجل استكشافها وسبرها وتأويلها. بمعنى أن يكون العمل منسجماً ومتناغماً مع درجة وعيه وحساسيته، وأن لا يهز قناعاته ومفاهيمه، والاستنتاجات التي توصّل إليها بعد سنوات من التربية والتعوّد والتأقلم.
هذا النوع من القراء اعتاد على كتابة تقليدية لا ترهق، تعتمد على السرد المألوف والبناء السهل والتسلسل الزمني، وتصور عالماً منظماً ومبسطاً، مأهولاً بشخصيات واضحة ومحددة الملامح، وعلاقات مفهومة غير متعددة الأبعاد ومتشابكة الجوانب.
الكتابة التقليدية تنتعش وتنتشر لأنها تلبّي الشروط التي يفرضها مثل هذا القارئ، والذي لا يشعر - إزاء هذه الكتابة - بأي تهديد. إنها تهادنه وتتملقه، تخاطب المستويات الأدنى من وعيه وفهمه وثقافته، ولا تصدم مفاهيمه ومسلّماته. إنها تتوجه إلى قارئ اعتاد على تلقّي نمط معين، ذي سمات وخصائص محددة، من أشكال الكتابة السائدة. وهي تتعامل معه، ضمنياً، على أساس أنه مخلوق عاجز، بسيط الذكاء، متبلّد المشاعر، ويحتاج إلى دليل.
الكاتب، في هذه الحالة، يأخذ بيد القارئ ويقوده عبر ممرات العالم الذي صنعه. عالم مسطّح، بلا عمق، تطفو فيه الأشياء والكائنات كما لو في حوض زجاجي. لا متاهات هنا، لا تعقيدات، لا تداخلات.. ليست كالحياة. عالم مصنوع، مزيّف، محرّف. والقارئ يدخل دون خوف أو قلق، فلا شيء يصدمه. انفعالاته واستجاباته لحظية وزائلة. وعندما ينتهي من تجواله السهل والمريح، يتنفس بعمق قائلاً في اطمئنان، العالم ما يزال منظماً ومألوفاً.

4

من المهم ملاحظة أن ما هو سائد، من أشكال الكتابة، كان مرفوضاً قبل سنوات، وقبل أن يتكرّس تدريجياً بفعل التأطير والتقنين، وأيضاً بفعل التحولات التي طرأت في ذهنية القارئ وخبرته الثقافية، والتي ساهمت في تسهيل عملية القبول والتسليم، ومن ثم الانحياز إلى هذا الشكل الذي يصير تقليدياً بالضرورة.
من الذي يضمن أن ما هو مختلف ومغاير الآن، لن يصبح سائداً، وربما مستهلكاً، في مرحلة قادمة ؟ دعونا فقط نتذكر الصراعات والمعارك الصعبة التي خاضها ما يسمى "الشعر الحر" ضد المدافعين بشراسة عن "الشعر العمودي" في سنوات سابقة.
من المعروف علمياً أن أية فكرة جديدة، عند محاولتها الولوج في ذهنية الآخر، المتلقي، فإنها تسبّب صدمة عنيفة للدماغ الذي يجابه هذا الغزو برفض شديد أو ارتياب، لكن أمام إلحاح الفكرة، وجهودها المتواصلة للدخول، يبدأ الدماغ تدريجياً في الاستسلام، وتخفت حدّة الصدمة.
العقل الكسول، المنغلق، المتعصب، يصدّ على نحو فوري أية فكرة جديدة تحاول الدخول. إنه يطردها بفظاظة وغطرسة، حتى قبل أن يستجوبها ويحلّلها، ويرى إمكانية الاستفادة منها. إنه لا يرى سوى الجانب المهدّد، غير المفهوم، الذي ينوي أن يُخلخل ما هو مستقر في الذهن من أفكار سابقة مألوفة ومريحة.
ولأن الفكرة الجديدة عنيدة ولحوحة بطبيعتها، فإنها تواصل هجومها دونما تعب أو راحة، والعقل يواجه هذا الهجوم بعناد مضاد إلى أن يرضخ في النهاية، ويعلن استسلامه في إيماءة يائسة، عندما تنتشر الفكرة وتحرز قبولاً واسعاً.
المكتشفات العلمية عاشت مثل هذه الصراعات عبر مختلف العصور، ودائماً كانت تحقق انتصاراتها بعد مجابهات ضارية مع العقل الناقص، المحدود، والكابح. لقد جوبهت تلك المكتشفات، في بداية إعلانها، بالاستنكار والاستهجان والاستهزاء، ومع إصرارها على فرض نفسها، تحول الموقف من اللامبالاة والازدراء ليتّخذ شكلاً أكثر عنفاً : غضب، استعداء، قمع مادي ومعنوي، اعتقال أو نفي.. (لنتذكر جاليليو.. على سبيل المثال).
والأمر لا يختلف في الفن والأدب، فكلما برز مفهوم أو أسلوب جديد، أو رؤية جديدة، هاجت الذهنية التقليدية والمحافظة، واستنفرت أسلحتها للدفاع عن معاقلها، والقضاء على هذا الغزو الذي يريد الإطاحة بمثلها ورموزها وقيمها المستقرة منذ زمن.. (لنتذكر موقف أنصار الشعر الحر، بعد شيوعه وتكرسه، من اختراقات النص الجديد.
حتى في أسلوب الحياة، وما يرافق تحولاتها في الملابس والمظاهر الجسمانية والعادات وغيرها، نجد الصراع ذاته بين ما تكرّس وما يأتي ليغيّر ويحل.
الكائن البشري يجد الأمان والطمأنينة في معتقدات ومسلّمات ترسّخت في ذهنه. وانسجمت مع تكوينه الفكري والنفسي، وعلى ضوئها حدّد علاقته بالآخرين، بالأشياء، بالعالم، إنها الملاذ الذي يعينه على فهم ظواهر ومظاهر الواقع، لذا فإنه يكنّ لها احتراماً يصل إلى حد التقديس.
الفكرة الجديدة دائماً تشكّل تهديداً خطيراً، لأنها تخلخل هذه المعتقدات والمسلّمات، تصدم الكائن وتدمّر يقينه. إنها تقلقه، تزعجه، تنتزعه من هدوئه وراحته، وتدفعه نحو التشوش والإلتباس والشك. تجعله يعيد النظر في السائد من المفاهيم والعادات والتصورات. تربك نظامه. تكشف له هشاشة ما كان يعتقده ثابتاً وراسخاً ومنظماً وأزلياً. وهذه أمور تثير هلعه، لذا فهو يبدي مقاومة شديدة، ويستنفر أدواته القمعية لقتل الفكرة.
ولأن الفكرة الجديدة تمارس فعل الانتهاك للمسلّمات، والخرق لليقين، فإن الكائن ينظر إليها كشيء عدواني، افتضاضي، استفزازي، تدميري. إنه ينسبها إلى الآخر، العدو، الشيطان، المجهول الذي يسعى إلى بث الفوضى والبلبلة في عالمه المستقر الآمن.. بالتالي يعطي نفسه الحق في مقاومتها وإجهاضها.
غير أن الفكرة تثابر من أجل تحقيق الاختراق والانتصار النهائي.

5

انطلاقاً من هذا، يمكن القول بأن ما يُكتب الآن من أشكال جديدة، وما يعتبر خروجاً عن المألوف، أو تطرفاً أو شعوذة، سوف يكون مستساغاً ومقبولاً في مرحلة قادمة.
الكتابة الجديدة تتوجه إلى قارئ مختلف : مرن، حساس، ناقد، يمتلك حساً جمالياً، ووعياً حاداً أيضاً. إنه لا يسأل الكاتب عن تفسير لما يقرأ، إنما يسعى إلى توسيع مداركه، وتنشيط مخيلته، والكشف عن آفاق أكثر طراوة وخصوبة. تأملاته الخاصة تفضي به إلى تأويلات للعمل ربما لم تخطر ببال الكاتب، وهي تجد مبرراتها في جوهر النص وبنائه وحركته.
في الكتابة الجديدة، ليس مطلوباً من القارئ أن يفهم فقط ثم يستريح عند حدود فهمه. فهذه غاية غير مفيدة دائماً، ولا تخرج القارئ من تخوم النص ليستشرف الكامن وراءه أو في عمقه.
مطلوب منه أن يبدع، وذلك بأن يبتكر صوره الخاصة انطلاقاً من الصور التي أبدعها الكاتب في نصه. فالصور قابلة للتناسل والتمدد في ذهن القارئ ووعيه إذا استطاع أن يخضّ مخيلته ويفسح لها مجالاً للحركة، وإذا استطاع أن يوظف قدراته في استحضار ما من شأنه أن يثري تفاعله مع النص، مستمداً ذلك من موارده ومصادره الذاتية : التجربة الحياتية والثقافية، الذاكرة، الحلم، الوعي واللاوعي.
الكاتب يقدم حالات، رموزاً، مجازات، تهدف - من بين أشياء أخرى - إلى إثارة القارئ وتحفيزه وتحريضه.. عاطفياً وذهنياً.
ومن هذه التركيبة المتشابكة، الغامضة بالضرورة، يؤسس القارئ بناءه الخاص لعمل آخر مختلف، لا يمثل تفسيراً لما قرأه، بل خلقاً لحالات وصور جديدة.. هي بدورها ربما تكون غامضة.
القراءة عملية إبداعية بالدرجة الأولى، فيها يشارك القارئ في الخلق، وينتج نصاً آخر خاصاً به وحده.
ليست مهمة الكاتب أن يكيّف كتابته لتتوافق مع مستويات الفهم والإدراك عند القارئ، إنما عليه أن يكتب ما يحس به، وما يتخيّله، وما تمليه عليه موهبته وثقافته، وعلى القارئ أن يستنبط ما يريده، ويستخرج مكتشفاته بحرية و دونما وصاية من أحد.

6

كثيرٌ من الكتابات الراهنة تعاني من الافتقار إلى الجرأة الفنية، إما بسبب الوعي الناقص بمعنى الفن وماهيته، أو الجهل - وربما عدم الاقتناع - بما تكتنز به أشكال الكتابة من إمكانيات واحتمالات لا متناهية، وإما بسبب خضوع أصحاب هذه الكتابات لسطوة القارئ والناقد معاً.. الناقد التقليدي والقارئ المستهلك، السلبي والقمعي في آن، الذي يطالب دائماً بالوضوح - أسلوباً ومضموناً - كي يفهم ما يقرأ. وبدلاً من أن يسعى الكاتب إلى إرباكه وتجريده من كل سلطة بحوزته، فإنه يخضع لمطالبه ويمتثل لأوامره.
العديد من هؤلاء الكتاب مازالوا أسرى مفاهيم ومعتقدات تنظر إلى العمل الأدبي أو الفني باعتباره وظيفة اجتماعية وسياسية، من خلالها يمكن تحقيق الإصلاح الاجتماعي أو التغيير السياسي. وفي هذه الحالة ينصبّ التركيز على المضمون وحده، و يولي عناية فائقة، في سبيل توصيل الفكرة، أو المعلومة أو حتى الموعظة، بشكل فعّال ومؤثر من وجهة نظرهم، وهذا يأتي على حساب النواحي الجمالية، والأدوات الفنية التي عادةً يكون الاهتمام بها ثانوياً أو معدوماً في أسوأ الأحوال.
اللغة تصبح عنصراً ثانوياً، الغرض منها واضح ومحدد : مجرد وسيط، وسيلة لنقل الأفكار، لذلك لا تختلف عن لغة السياسي والخطيب.
الخيال يتم استبعاده في ازدراء. العلاقات المركّبة يتم تبسيطها بشكل تعسفي.
التعبير عما هو خفي وسرّي في الحياة لا يُعد إلا هلوسة. الاستفادة من المنجزات الحديثة، في الأشكال الفنية، محض ترف.

7

إننا ننظر بريبة وتوجس إلى كل نص أدبي، أو عمل فني، نظن أنه لا يكشف عن رموزه ودلالاته بسهولة، ولا يفصح عن معانيه بوضوح. ولا يحدّد علاقاته وإشاراته واتجاهاته على النحو الذي ألفناه واعتدنا عليه.. باختصار، كل ما نعتبره غامضاً ومعقداً.
إننا نتغاضى عن حقيقة أن العمل الفني يقتضي قراءةً عميقة، معرفةً ثقافية جيدة، نظرة فاحصة، تأملاً يخترق المظهر الخارجي.
إننا نتبنى مفهوماً ساذجاً ينظر إلى هذا العمل بوصفه رسالة اجتماعية أو بلاغاً عقائدياً أو بياناً سياسياً.. وغالباً كحكاية أخلاقية.
بطيش نبادر إلى إصدار حكمنا على أي عمل، لا ينسجم مع وجهة نظرنا وتفكيرنا، بتهمة الصعوبة والتعالي، وبتهمة أكثر ابتذالاً وتضليلاً : الابتعاد عن الواقع وقضايا المجتمع.
عوضاً عن احترام النتاج الذي بين أيدينا، أو على مرمى بصرنا، ومحاولة الاقتراب منه ودخوله، بنيّة محاورته والتفاعل معه، فإننا نبني جداراً بينناً يصعب هدمه، ويحول دون وصول هذا الشيء إلى أعيننا وأدمغتنا.
موقف النبذ والنفي هذا سهل ومريح لأنه يجنّبنا مشقة الدخول في متاهة التفكير والتأويل، لأنه يصون معتقداتنا وقناعاتنا من أي انتهاك أو خلخلة، لأنه يحمي ما هو مقدس من طرائق وأساليب وبنى، لأنه ينقذنا من وجع إعادة النظر في الأشياء برؤية جديدة ومن زاوية مختلفة، لأنه يطمئننا على سلامة مفاهيمنا وثبات العالم من حولنا، لأنه يعزّز الفكرة الراسخة في أذهاننا منذ بلوغنا سن الرشد : وحدنا نمتلك الحقيقة والمعرفة، وغيرنا ضال وعلى خطأ.
نحن لا نكتفي باتخاذ موقف الرفض والمحاربة فردياً، إنما نحاول تعميمه لكي تنحاز الأغلبية إلى صفوفنا، ولكي نضمن الانتصار. إننا نظهر هذا الشيء الذي لا نفهمه كغول يحاول افتراس قيمنا وتراثنا، كغزو ثقافي يتآمر على حضارتنا، كطاعون يتسلل إلى بيئتنا النظيفة. نبالغ في تصويره بهذا الشكل الأثيم لنبرر ذبحنا الوحشي له.
الرافض يتكلم باسم المجموع، ينصب نفسه ناطقاً باسم الشعب، ويعلن بغطرسة : أنا نور العالم.
لكن كم سيكون مخجلاً هذا الموقف، ومثيراً للشفقة، عندما نكتشف بأن شخصاً ما، في مكان ما، قد استطاع أن يقترب من ذاك العمل، وأن يستكشف أسراره ويسبر أغواره ويحلل أبعاده، وأن يبرهن لنا على مدى أهميته وقيمته.
أي خزي سيلحق بنا إن اضطررنا إلى الكشف - حتى إلى أنفسنا - عن مدى جهلنا وحماقتنا وقصورنا ؟
أليس هذا ما يحدث، تكراراً، على مر العصور، حيث تحرز الأعمال - التي تجابه بالازدراء والتجاهل - اهتماماً واسعاً ومكانة بارزة فيما بعد ؟
إذن لماذا نتخذ موقف النقض بدلاً من النقد، الإلغاء بدلاً من التحاور، التعصب بدلاً من المرونة ؟
لماذا نحاكم من موقع الفهم القاصر، ولا نتريث في إصدار أحكامنا ؟
لماذا نكره مالا نفهم في الفن ؟
لماذا نفتح نافذة واحدة، بينما هناك مئات النوافذ الموصدة التي يمكن أن نطل منها على جهات متعددة من العالم ؟

8

هناك، دائماً، من يصيح في وجه المبدع : أضئ دربنا، حل ألغازنا وما يستعصي علينا، فسّر لنا ما يحدث، اجعلنا نفهم مالا يمكن فهمه.
وعندما لا يجدون لديه ما يضيء وما يريح، ولا يعثرون إلا على أسئلة وبحوث ورؤى قد تبدو غامضة، وتضاعف من البلبلة والالتباس، عندئذ تتعالى الأصداء المخيفة، متهمةً هذا المبدع بالتعالي أو الجهل أو التحذلق أو الهروب من قضايا مجتمعه، وراجمةً إياه بكل ما هو مهين ومشين.
هذا الولع بالفهم، بالمعنى، بإيجاد تفسير - في أشكال الأدب والفن - لكل كلمة وصورة وحركة وقول ومجاز وحالة وموقف وحلم وتخيّل -- يكشف إلى أي حد هو - القارئ أو المتفرج - خاضع للفهم الخاطئ لطبيعة وجوهر الفن، وإلى أي حد اعتاد التعامل مع تلك الأشكال من موقع الجاهل والقاصر والممتثل والأقل معرفة، معتبراً الآخر ( مبدع النصوص والأشكال ) عارفاً ومفكراً ومنجماً وقادراً أن يستجلي المكامن والمفاتيح والحلول.
العلاقة بين المبدع والقارئ لا تتأسس هنا على المستوى الإبداعي الذي يفترض - قبل كل شيء - توفر الرغبة في التفاعل جمالياً، إنما تتأسس على المستوى التعليمي والإرشادي والوعظي، حيث يصبح الكاتب أو الفنان في مقام المعلم أو الأب أو القائد أو الفيلسوف، في حين يرضى القارئ بدوره المتواضع كجهاز استقبال للمعلومات والمواعظ والتوجيهات.
لكن ماذا تريد أن تفهم ؟
ألغاز الحياة والموت والجسد والنفس ستظل ألغازاً. والعمل الفني الذي هو، على حد تعبير أندريه مالرو "سؤال موجّه إلى الرب حول معنى الحياة"، سيظل مكتنزاً بالأسئلة، وعندما يعثر على الأجوبة فإن مهمته ستنتهي ولن يعود لوجوده ضرورة.
الأجوبة، أو الحلول، يمكن إيجادها في كتب الفلسفة والاقتصاد والسياسة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع والقانون.. لكن حتى هذه الكتب هي عرضة للاستجواب وإعادة النظر.
إذن ماذا يمكن أن يفعل الفن ؟
لاشيء.. أو ليس بالكثير. لا تتوقع أفعالاً خارقة ومعجزات. ربما يحرّك مخيلتك، ربما يجعلك تكترث أكثر بأحلامك ورغباتك، ربما يجعلك تنظر إلى حبيبتك من زاوية مختلفة، ربما يبتكر لك أسئلة جديدة، ربما يثير لديك الرغبة في تذوّق - جمالياً ومعرفياً - شيء لم تألفه، ربما يخترق روحك ويبذر البهجة والمتعة، ربما يجعلك أكثر استعداداً للاتصال بالمستويات الأعمق من ذاتك ومن مشاعرك، بأشباهك من البشر ومن عناصر الطبيعة.
وحسبه أن يفعل شيئاً من هذا ليكون مجدياً وضرورياً.

9

العمل الفني أو الأدبي لا يخضع دائماً لسلطة مبدعه، أو يمتثل للتصميم الذي وضعه مؤلفه. إذ ما إن يولد هذا العمل حتى يتحرك بذاته، ويبدأ في النمو بمعزل عن إرادة خالقه ورغبته.إنه ينتحل شكلاً خاصاً به، يحيا بعناصره الخاصة والاستثنائية، وينعطف صوب الاتجاه الذي لم يُحدَّد لمساره. المخلوق هنا يكفّ عن الاستماع إلى خالقه والانصياع لأوامره ورغباته، يتحرّر من الأسر المهيأ له، ويصبح شيئاً مختلفاً عن ذلك الذي خطط له خالقه أو توقعه أو تنبأ به.
هذا يعني أن العلاقة بين الفنان وعمله الفني ليست دائماً علاقة منطقية وعقلانية، إنما يمكن أن تكون غريزية. ولهذا السبب نجد أن الفنان أحياناً هو آخر من يستطيع أن يفهم عمله. ونتيجة الجهل بهذه الحقيقة، تلقى الكتابة الجديدة هجوماً أو تندراً من خصومها بدعوى أنها غير مفهومة حتى بالنسبة إلى أصحابها. إنهم لا يدركون هذه العلاقة الغريزية، ومن جهة أخرى، يعتقدون بأن لكل كلمة معناها المعجمي، ولكل صورة معادلها العقلاني، ولكل رمز مغزاه المنطقي.. في حين تتفجر الصور، وتتوالى الحالات، وتتشابك العلاقات.. على نحو غامض، حدسي، إيحائي، مجازي.
ثمة ولع طاغ ٍ بالبحث عن تفسير، عن معنى، في الوقت الذي تتجسّد أشكال العمل الفني ومظاهره أمام المتلقي لكي يحاورها ويغوص فيها ويكتشف أقاليمها المجهولة.
إن البحث الدائم عند القارئ (والمتفرج) عن مغزى العمل والهدف منه، نابع من الافتراض الخاطئ بأن الفنان يمتلك الحقيقة المطلقة، ويعرف أسرار الكون، ويوجد لديه تفسير جاهز لكل ظاهرة. وهو لا يعلم بأن الفن (بكل أشكاله) لغز آخر، وأن المبدع، في استنطاقه للعالم، يطرح أسئلة ولا يجد أجوبة.
لا ينبغي أن نطالب المبدع بأن يفسر عمله، لأن أي تفسير مصادرة لحرية الآخر (المتلقي) في الفهم والاستنباط والاكتشاف، وفرض نمط معين من التفكير، وتقييد وجهات النظر الأخرى. فمن حق كل قارئ أو متفرج أن يفسّر وفق منظوره الخاص.
من جانب آخر، المبدع يجد صعوبة فائقة في تفسير أمور ذاتية جداً، وحسيّة جداً.

10

الغاية الأهم، والأكثر إلحاحاً، لأي عمل فني أو أدبي هو تحقيق الاتصال بالآخر، (القارئ أو المشاهد)، وهو اتصال إبداعي بالدرجة الأولى، أي يتم عبر المستوى الثقافي والجمالي، وليس عبر المستوى التعليمي الذي يعتمد التلقين أو التحريض المباشر.
لكن في محيطنا العربي (ومحيط العالم الثالث بشكل عام) نجد أن الفجوة بين العمل الإبداعي والآخر - المتلقي - تزداد اتساعا بشكل يتعذر اجتنابه. إنه واقع مفروض على المبدع والمتلقي معاً، يفرضه المناخ السياسي والاقتصادي والثقافي. ومثل هذه الفجوة قد تعرّض الكاتب أو الفنان لشتى حالات الخيبة والإحباط واليأس. وإمكانية صمود واستمرارية الكاتب أو عدمه، تحدّده درجة وعيه بقيمة وأهمية ما ينتجه على الصعيدين الذاتي والموضوعي.
الكاتب الذي ينظر إلى نتاجه كفعل سياسي أو اجتماعي بحت، قد يشعر بلا جدوى ما ينتجه عندما يرتطم بهذه الفجوة، فيتوقف ويعتزل الكتابة. وهناك نوع آخر من الكتّاب الذين يلجأون إلى تبسيط أعمالهم، وتحاشي الدخول في أية مغامرة فنية، في محاولة منهم لردم جزء من الفجوة، ولتوصيل الأفكار السياسية والاجتماعية، وهذه العملية لا تحقق الاتصال الإبداعي المفترض والمطلوب بقدر ما تعرّض الكاتب للجمود والوقوع في التكرار واجترار المواعظ وتكريس ما هو قائم لدى المتلقي من قيم ومفاهيم.
في هذه الحالة يصبح الكاتب، بالرغم من براءة نواياه (أو بسببها)، عبداً ليس للقارئ فحسب، بل أيضاً لتقاليد الكتابة المستهلكة، ويتحول إلى مهاجم متعصب ضد ما هو جديد وصادم. وسوف يكتشف بأن الفجوة تزداد اتساعاً دون أن يدرك أسبابها وأبعادها، ذلك لأن الاتصال الحقيقي ينبغي أن ينبع من الفعل الإبداعي ذاته وليس الفعل الخطابي أو التبشيري أو التعليمي، والذي يمكن أن يتحقق عبر وسائط أخرى (كالصحافة) أو عبر مجالات أخرى (كالاقتصاد وعلم الاجتماع).
إن الكاتب الذي يمارس فعل الكتابة كشكل من أشكال توكيد الذات، وتحقيق نوع من التوازن مع محيطه، ويسعى عبر كتابته إلى التحاور مع ذاته وعالمه من أجل الوصول إلى فهم أعمق لمعنى وجوده، ومعنى العالم الذي يعيش فيه، يعي على نحو عميق الفجوة الفاصلة بينه وبين الآخر، لكنه يدرك جيداً حقيقة البنى السياسية والاقتصادية والثقافية التي تفرض مثل هذا الواقع. وهو لا يخضع لها، إنما يستمر في الخروج عليها بأكثر الطرق ثورية في المجال الثقافي، ممارساً حقه في الابتكار والتجديد بحرية.
إن شرط التواصل الإبداعي يلزم الطرف الآخر (القارئ) أن يكون على درجة عالية من الوعي بقيمة الثقافة، وأن يتوافر لديه الحس الجمالي، وأن يكون قادراً على التفاعل مع النص ومحاورته إبداعياً.
لذلك فإن الدائرة التي يتوجه إليها الكاتب، في محيط كمحيطنا، هي ضيقة ومحدودة بالضرورة. وهذا أمر لا يدعو إلى اليأس المطلق، فالدائرة الصغيرة يمكن أن تكبر تدريجياً، على نحو بطيء لكن فعال. إنه جمهور صغير، نخبوي، لكنه مؤثر وفعال.
ثمة فهم خاطئ للاتصال على أساس أنه اتصال معرفي، بمعنى توصيل معرفة أو معلومات من طرف عارف وحكيم (الكاتب) إلى آخر أقل معرفة (القارئ) والذي يكون دوره متواضعاً وسلبياً، وينحصر في التلقي والتأثر وإظهار استجابات عاطفية مباشرة.
الاتصال الذي نعنيه، يتأسس على الحوار والجدل، والرغبة المشتركة في اكتشاف الذات والعالم معاً. إنه حوار بين صديقين، لم يلتقيا ولم يعرف أحدهما الآخر، لكنهما لا يخجلان من كشف أسرارهما وأحلامهما ورغباتهما الدفينة.
عندما أكتب نصاً أدبياً فإنني أتوجه إلى شخص راغب في الإصغاء، وقادر ٍ أن يفهمني، وهو ليس أقل مني إدراكاً ومعرفة. إنه مؤهل للمشاركة والتحاور. بيننا لغة مشتركة. أقدم له أحلامي وهواجسي ومخاوفي وطموحاتي ورغباتي، التي قد تتطابق أو تختلف نوعياً عن تلك الموجودة لديه، لكن قطعاً لن تكون غريبة وخيالية بالنسبة له، فنحن نعيش في عالم واحد يشكّل لكل منا مثل هذه الأحاسيس والرغبات. الاختلاف بيننا أن الصدفة أو الحظ أو المبادرة أو امتلاك طاقة الكتابة جعلتني أكون قادراً (أو أملك الرغبة على الأقل) على التعبير عنها.
في الكتابة ينشأ هذا الاتصال الخاص، الهادئ، المرن، يمكن أن يصادر أحدنا حق الآخر في التخيّل، في التأويل، في الاكتشاف.

11

قلة تقرأ ما تكتب ؟
قلة ترى ما تعرض ؟
قلة تسمع ما تعزف ؟
لكن لماذا تظن أن الخلل فيك، في رؤيتك وفهمك ولغتك وأسلوبك وطريقتك وطموحك وأحلامك.. فتمضي سريعاً، جاهشاً ومختنقاً ويائساً ومشوشاً، لتجلد نفسك عقاباً على ذنب لم تقترفه، مطلقاً كل شحنات الوجع والندم واللوم وأحاسيس الإثم والعجز، مقرراً في النهاية أن تعيد النظر في ما تكتب وما تفعل وما تقول، معتذراً للآخر وللواقع عن حماقتك وسوء فهمك لهما، راجياً أن يتيحوا لك فرصة أخرى ؟
ثمة من يقرأ، ويرى، ويسمع، هنا وهناك، غير أنك لا تحس بوجوده لأنك تنظر إلى الكتلة لا الطاقة، إلى القطيع لا الرفيق، إلى الثمار لا الشجرة.
إقرأ نيتشه لتعرف بأن المبدع يبحث لنفسه عن رفاق، لا عن جثث أو قطعان أو مؤمنين. إنه يبحث عن رفاق إبداع ينقشون قيماً جديدة على ألواح جديدة.
أنت تنجز فناً لكي تصل إلى الآخر. ربما تخطئ الطريق، ربما تذهب إليه وأنت مترع بالشك والتناقضات، ربما تتخلى قليلاً عن صرامتك وتخفّف من شروطك من أجل أن تغويه وأن تلفت انتباهه. لكن لا تخضع له، ولا تتملقه، فتتحوّل وتنمسخ وتنسى ما جئت لأجله.
هل صار الجمهور ذريعة يراد بها تسويغ العجز أو الكسل أو أفول الموهبة، أم أن الجمهور فعلاً مخيف إلى هذا الحد بحيث يمثل عاملاً محبطاً يدفع الفنان إلى اليأس والانسحاب والجمود.. وأخيراً إلى فقدان ثقته بنفسه وإيمانه بفنه ؟
هل الجمهور، بتكوينه اللامتجانس ثقافياً واجتماعياً، المتعارض إلى حد التضارب في الأهواء والرغبات والاهتمامات والأذواق والاستجابات، المتعدد والمتباين في المطالب، المتقلب في المزاج، الذي لا يمكن التنبوء بما يريده.. هذا الجمهور، الأشبه بكتلة هلامية مبهمة، هل هو مؤهل لأن يكون حكماً أو قاضياً على العمل الفني ؟
أسوق الأمثلة إلى الذي يزداد حيرةً وتردداً والتباساً كلما صادفته معضلة العلاقة بين فنه والآخر الذي يتلقى النتاج :
موزارت، في حياته، لم يسمع موسيقاه غير الأمراء وأفراد الطبقة الأرستقراطية. والقلة فقط كانوا يعرفون بيتهوفن وموسيقاه في عصره.
لوحات جويا ظلت مجهولة ولم يشاهدها سوى نفر قليل. كذلك فيرمير. ونعلم الآن أن فان جوخ لم يبع من أعماله الكثيرة غير لوحة واحدة فقط.
كافكا باع 35 نسخة من رواية "القصر" .. عشرة من هذه النسخ اشتراها كافكا نفسه بعد أن طاف مكتبات براغ، وعدد من رواياته لم تطبع إلا بعد وفاته.
نيتشه كان وحيداً دائماً، ولم يتعد المعجبون به في حياته عدد أصابع اليد، وحتى هؤلاء كانوا ينقلبون ضده في كثير من الأحيان.

أمام الأفق، يهتف الناقد :
ما هذا الخط الأحدب !؟

النتاج الثقافي، عند عرضه أو نشره، يثير لدى جمهوره ردود فعل واستجابات وانفعالات مختلفة ومتباينة إلى حد التعارض. وهو يتوقع - بديهياً وعلى نحو محتوم - استقبالاً متعدد المظاهر، ينسجم مع تعدّد وتنوّع وجهات النظر والتصورات وزوايا الرؤية التي يفرضها اختلاف كل فرد من الجمهور عن غيره في التكوين الفكري والاجتماعي، والتركيب النفسي، والاهتمام الثقافي، والحس الجمالي، والتذوّق، ومستوى الوعي الفني. وبالنتيجة، يتباين الاستقبال من الترحيب والإعجاب والقبول، إلى التحفظ والشك، إلى النفور والازدراء.
ردود الفعل هي فردية، مستقلة، وعفوية في بادئ الأمر.. أي أنها لا تخضع للتحليل والتقييم الموضوعي. أحياناً تكون مباشرة ومسموعة، بهدف إيصالها إلى منتج العمل والمشاركين فيه. أحياناً تكون كامنة (ربما بسبب اللامبالاة أو المجاملة أو التحيز) وغير متداولة إلا في دائرة ضيقة من الأصدقاء والأقارب.
وعندما يأتي الناقد، أو أي قارئ أو مشاهد آخر، ليكتب عن العمل، فإنه أساساً يريد أن ينقل وجهة نظره إلى الآخرين ومن يعنيهم الأمر، ووجهة النظر هذه - إذا كانت عميقة وجادة ومثيرة للجدل - لا يمكن توصيلها إلا عبر مناقشة العمل والتحاور معه، وتحليل أبعاده ومستوياته. أما إذا اعتمد الناقد على الانطباع الأوّلي، والانفعال المباشر، أو انطلق في تقييمه للعمل من سوء فهم أو جهل أو مقاصد ونوايا شخصية، فإن وجهة نظره ستبدو سطحية، مضللة، غير مسؤولة، واستهلاكية.

* *

ينبغي على الناقد أن يكون مدفوعاً بالحب لا بالكراهية. والحب في النقد لا يعني المحاباة والتغاضي عن السلبيات والأخطاء، إذ يمكن أن يكون قاسياً دون أن يخفي حبه واحترامه للفنان. أما الكراهية فقد تدمره إذا كان مفرطاً في الحساسية وغير محصّن.
إن من حق الناقد أن يرفض العمل، أن يبدي استياءه وحتى نفوره، وأن يعبّر عن هذا الرأي بالطريقة التي يراها مناسبة. ومن حق الفنان أيضاً أن يستجوب منطلقات ومعايير هذا الرأي، وعلى ضوء ذلك، يمكن أن يناقشها أو يتجاهلها.

* *

الظاهرة المثيرة للاستغراب في موقف بعض النقاد، أو من يزعمون النقد، إصرارهم على اعتبار أنفسهم ممثلين للجمهور، ومتحدثين باسمه، وأن رأيهم وتقييمهم يمثل رأي وتقييم كافة الجمهور. فإذا لم يعجب هذا الناقد بالعمل، لجأ إلى تعميم موقفه ليشمل الجميع، وإذا لم يفهم العمل، ادعى (ليستر جهله) بأن الجمهور كله لم يفهم.. ثم يبدأ في ممارسة الإرهاب والتضليل دون أن يخشى العواقب.
إنه يقرر، باستبداد مطلق، صلاحية هذا العمل أو عدمه.. قراءة ً أو استماعاً أو مشاهدة. وهو يطلب من الآخرين أن يثقوا برأيه ويمتثلوا لتقييماته، مهيناً بذلك قدراتهم ورغباتهم الخاصة، ومصادراً حقهم في القراءة أو الاستماع أو المشاهدة، ومصادراً - بالتالي - حريتهم.
إن أحداً لا يهين الجمهور، ويحتقر وجهات النظر الأخر ى، مثل هذا الناقد الممتلئ إدعاءً وتعصباً وتعالياً، والذي يعيّن نفسه ناطقاً باسم الجميع، متذرعاً بحماية وعيهم أو وقتهم أو نقودهم أو براءتهم.
الرقيب يسكن في رأسه، وكل رقابة إرهاب.

* *

مع تزايد الصفحات الثقافية في الجرائد والمجلات، توافد إلى هذه الصفحات صحفيون وكتّاب فاشلون وأنصاف مثقفين ونقاد موتورون. ودون أن تتوفر لديهم ملكة النقد والحس الفني والموهبة، اخذوا في تقييم كل ما ينشر وما يعرض في ثقة مطلقة، وبإحساس من يمتلك وحده الحقيقة كلها، والسلطة كلها.
كل عمل أدبي أو فني، أيا كانت طبيعته واتجاهه ورؤيته، صار خاضعاً للتقييم والأحكام الجاهزة. هكذا رأينا (ونرى) من يعطي لنفسه الحق في أن يكون ناقداً، يكتب نقداً (أو انطباعاً كما يزعم حين يتعرّض للمساءلة) عن قصة ثم قصيدة ثم مسرحية ثم فيلم ثم لوحة تشكيلية ثم بحث فلسفي ثم دراسة اقتصادية.. وذلك بلغة واحدة وبأحكام ثابتة، صادرة غالباً عن موقف أيديولوجي أو رؤية أحادية، دون أن يكترث بواقع اختلاف المجالات وطبيعتها وخاصياتها المميّزة، التي تستدعي طرائق ومناهج خاصة لكل منها، سواء في النظر أو السبر أو التحليل أو اللغة.. وهذا كله ينبع من ادعاء بالمعرفة الشمولية، وبالقدرة الكلية على فهم مختلف أشكال الفعل الثقافي.
شخص كهذا لا يفرق بين قصيدة ومسرحية. في حضرته يتساوى كل إنتاج فني وأدبي. عشوائياً، وبلا حساسية، يوزّع درجات التفوق أو الفشل. إنه لا يحلّل بل يشير إلى الحيثيات التي على ضوئها توصّل إلى قراراته العميقة والحكيمة (هذه القرارات التي عادة لا تحتاج إلى حيثيات، يل يكفي أن يعتبر العمل سيئاً - مثلاً - لكي يرمي صاحبه بوابل من الشتائم البذيئة التي تشفّ عن حقد مدّخر).
وفي سيادة العلاقات الشخصية، لا يكون النتاج هو المستهدف بل منتج العمل. إذا كنت محبوباً من "الناقد" فسوف يسبغ على عملك كل مفردات المديح والإطراء، وإذا كان عملك ضعيفاً فسوف يبحث لك عن الأعذار، وربما يكيل السباب للطقس الذي لم يسعفك في الإبداع. أما إذا كنت على خلاف شخصي أو أيديولوجي معه، فلا تنتظر تقييماً عادلاً، ومن الأفضل صحياً أن تتحاشى قراءة ما يكتبه عن عملك، لأن الكتابة بالنسبة إليه نزال وعراك لا ينتهي.

* *

بين الحين والآخر، تعلو النبرة الهستيرية، العاجزة عن فهم الجديد في الأدب والفن، الرافضة لأي تحاور مع كتابة لا تخضع للمعايير التقليدية، مطالبة باتخاذ موقف حازم ضد "التخريب" الأدبي أو الفني، والقضاء على الخروج المدمّر لكل ما هو أصيل وثابت في الثقافة (والحضارة) العربية.
هذه النبرة تنطلق من ذهنية عصابية، متسمة بالانغلاق والجمود، وغير قادرة على التحرر، والانفتاح على مختلف الاتجاهات.
بإمكاننا أن نفهم موقف الكاتب المحافظ الذي يحارب التجديد من موقع المدافع عن آراء وقيم ثابتة لا يستطيع التحرر منها، لأسباب كثيرة، والذي يرى في التجديد تهديداً لما يؤمن به ولما يخضع له.
لكن كيف نفهم موقف مثقف يزعم لنا دائماً أنه ناقد مستنير وثاقب الرؤية، في الوقت الذي لا يتقدم تفكيره خطوة إلى الأمام، ولا يسعى إلى توسيع مداركه، والتفاعل مع المجال الثقافي عبر الجدل والحوار، ولا يعيد النظر في آرائه ومواقفه ؟
نعلم أن من إحدى مهمات الناقد أن يمدّد وعي الآخرين، ويحرضهم على رؤية الشيء من زوايا متعددة، وذلك باستغلال طاقة التفكير والشعور والمخيلة.. لكن كيف يفعل ذلك إذا احتجز تفكيره عند تخم محدد، ولم ير من الأفق سوى ذلك القوس الذي يراه الجميع ؟
من حق الناقد أن يتجاهل كتابة لا تتفق مع رؤيته ومنطقه ومعاييره، فثمة كتابات متنوعة، قد يجد في بعضها ما يتلاءم مع ذوقه وحساسيته، مما يدفعه إلى تمجيدها، ولا اعتراض لأحد على ذلك، غير أن هذا لا يعني نفي الكتابة الأخرى، المغايرة، والتحريض ضدها، والمطالبة بإخراسها نهائياً بحجة أنها معادية أو منحطة أو مفسدة. فلهذه الكتابة أيضاً قراء (وإن كانت الدائرة صغيرة ومحدودة الآن) ولا يجوز مصادرة حريتهم في الاختيار لمجرد أن آخرين لا يستسيغون، أو لا يفهمون، هذا النوع.
إننا ننظر إلى النقد من منظار مختلف، فالناقد الحقيقي هو الذي لا يفرض رؤيته وأفكاره وشروطه وأحكامه المسبقة على النص الذي يرغب في تناوله أو اقتحامه، بل يأتي محملاً بالبراءة والفضول، تاركاً خلفه أدواته وطرائقه التي بواسطتها اعتاد أن يقيّم النتاجات. وهو هنا يمارس النقد بدافع الحب لا الكراهية.

* *

في غياب الأجواء الصحية للحوار، وانعدام التقييم السليم للأعمال الفنية والأدبية، وضمور النقد الجاد والواعي، يفرز المناخ الثقافي، على الصعيدين الفني والأدبي، قيماً متخلفة وظواهر سلبية عديدة، لعل من أخطرها ذلك الوهم الذي يستحوذ على ذهنية وسلوك المثقف : وهم أن نتاجه قد بلغ مستوى عالياً من التألق الإبداعي بحيث لا يمكن لأحد أن يتعرّض له بالنقد سلباً.
وبسبب هذا الفهم - أو الوهم - يبدأ في التصرف بحساسية مرضية إزاء أية محاولة لعرض وتناول وتحليل نتاجه، ويرى بأن أي مساس بعمله هو مساس بشخصه وكرامته، وأن أية ملاحظة سلبية هي في جوهرها تجريح وتشهير نابعين من حقد دفين أو غيرة مدمّرة. إنه يطالب بالثناء دائماً،، بالإعجاب والتكريم، بالاعتراف له بالتفوق.
ما إن يتناول شخص عملاً معيناً بالنقد، طارحاً ملاحظاته حول الأوجه السلبية والقاصرة، حتى يتحفّز منتج العمل ويستنفر كل مشاعره وطاقاته للرد على هذه الإهانة، فيدافع عن عمله بهستيرية وتشنّج، متهماً الآخر بالجهل وعدم الفهم والحقد، إلى آخر مفردات الشتم والقذف والتشهير. ممارساً بذلك نوعاً من السلوك الإرهابي الذي يهدف إلى إخراس الصوت الآخر ونفيه، إن أمكن، ويسعى من ناحية أخرى إلى إثبات براءة عمله من الشوائب والعيوب، ومحاولة إقناع الآخرين بأن عمله رفيع المستوى ومتكامل من جميع النواحي.
هذا السلوك، المتكرر في الوسط الثقافي، هو انعكاس لخلل في مفهومنا لطبيعة الحوار والنقد، وعدم قدرتنا على فهم العلاقة بين الكاتب والناقد من جانب والكاتب والقارئ من جانب آخر. وهو أيضاً انعكاس لوعي زائف نحاول حجبه خلف غلالة من الادعاءات الخرقاء كالمبالغة في تقدير الذات المعصومة عن الخطأ، والزعم بأننا على حق، وأن الآخرين يضطهدوننا ويريدون تدمير مواهبنا. أي أننا نمارس إرهابيتنا بدوافع نبيلة ومُثُل عليا (هكذا نتظاهر، أو هكذا نتوهم).
لقد أدى هذا السلوك، في كثير من الأحيان، إلى تشوّه العلاقات الودّية بين المثقفين أنفسهم، وإلى خفوت صوت النقد. وتولّدت حساسية مرعبة بين الناقد والكاتب (أو أي فنان) وأضحى الناقد شخصاً مكروهاً، شاذاً، مشحوناً بالحقد، وينبغي عزله وعدم الإصغاء إليه.
إن قوة العمل تكمن في قدرته على إثارة الجدل والاختلاف، مع احتفاظه بقيمته الإبداعية. من جهة أخرى، إذا كان العمل قوياً ومتقناً فإنه ليس بحاجة إلى دفاع. أما عندما يشعر الكاتب بأن عمله هش وضعيف، ولا يصمد أمام الملاحظة والتقييم والنقد، فإنه يلجأ إلى الدفاع والتبرير الذي يصل عادة إلى حد استجداء القبول والاعتراف، إضافة إلى شن هجوم ضد من تجرأ على اختراق عمله وكشْفِ أخطائه ومساوئه.
إنه، باختصار، لا يثق في عمله، لا يؤمن بالحوار، يرتاب في قارئه، ويهين ذكاءنا جميعاً.
إننا أمام ظاهر ة تكاد تكون عامة، وذات تأثيرات خطيرة، وتفرز سلوكيات سلبية : تملّق، رياء، إدعاء، تواطوء، ابتذال، كذب، جبن.

رعب المختلف

في المجال الثقافي، لكل منا قناعاته ومعتقداته وميوله ووجهات نظره بشأن ما يحب (أو ما يكره ) أن يشاهده وأن يقرأه وأن يسمعه. لا نستطيع أن نفرض على الآخرين مشاهدة أو قراءة أو سماع ما نظن أنه الأرقى والأسمى والأصح والأنفع. لا نستطيع أن نجبرهم على قبول ما نقبل، ورفض ما نرفض، وتذوق ما نتذوق.
حتى إذا حاولنا ذلك فسوف نخفق حتماً، وسوف نصاب بالخيبة والإحباط واليأس، ذلك لأننا - في محاولاتنا العقيمة هذه، التعسفية والاستبدادية - نفترض أننا في جانب الحق، الصواب، المعرفة.. بينما الآخر يقف في جانب الضلالة، الخطأ، الجهل. ونفترض كذلك أن الكائنات البشرية كتلة موحّدة، منسجمة في الطباع والخصال والشعور والتفكير، ولا تحتاج إلا لتوجيه بسيط، أو نصيحة حكيمة، كي تنقاد جميعاً كقطيع نحو هدف محدّد، أو تتبنى طريقة واحدة في النظر.
وسوف نخفق أيضاً لأننا - في تلك المحاولات - ننكر حرية الأفراد في اختيار ما يروق لهم وفق خلفية وتربية ووعي وحس ومزاج وذائقة تختلف وتتباين من شخص إلى آخر.
ينبغي أن نعترف بهذا الاختلاف، وهذه التعددية، لكي ننجو من وهْم أننا أفضل من يقيّم ويوّجه ويهدي، ولكي ننأى عن معارك لن نجابه فيها غير السراب، أو غير ظلالنا المرهقة.
من حقنا أن نبدي رأينا في أي عمل فني، وأي شكل أدبي. أن نظهر جدواه أو عقمه، أن نوضح إيجابياته ومساوئه، أن نبرهن على قيمته وأهميته أو ضعفه وفقره. لكن بالتأكيد ليس من حقنا أن نطالب بمنعه أو تدميره، إذا كان متعارضاً مع قناعاتنا، أو نحرم الآخرين من إبداء وجهات نظرهم الخاصة، واقتراح تقييماتهم الخاصة.
الظاهرة الملفتة أننا كلما استشعرنا، أو توهمنا، تهديداً أو خطورة أو ضرراً من جهة ما (نوع، شكل، وجهة نظر، توجه فني معين) سارعنا فوراً إلى الاحتكام إلى سلطة ما (جهاز رسمي، جمهور، نقد) متوسلين إليها أن تكبح وتحظر ما نعجز عن التصدي له بالحوار والنقاش والبرهان، وبعد أن يتبيّن إخفاقنا في إقناع الجميع بأن هذا الشيء سيئ وضار ومخرّب.
هذه الظاهرة (الدعوة إلى فرض رقابة صارمة، حازمة، باطشة) تنشأ في حضور الخوف والضعف والعجز والتعصب.
القوي والواثق والمحصّن، لن يلجأ إلى الرقابة لأنه لا يحتاجها، ولأنه يحتكم إلى العقل والبصيرة، ويؤمن بالحوار والمواجهة الفكرية، ويحترم تعددية الآراء.

* *

ما هو مؤلم ومؤسف، أن نرى بين الداعين إلى فرض الرقابة أفراداً يمارسون التعبير الأدبي أو الفني، بمختلف أشكاله، لمجرد رفضهم لأعمال أو اتجاهات يرون فيها تهديداً مباشراً للمجتمع، وتخريباً لقيم إنسانية وفنية، أو إسفافاً وابتذالاً وتفاهة. هؤلاء الذين يُفترض أن تتوفر فيهم درجة عالية من الحساسية تجاه الرقابة بكافة أشكالها، الذين يتعيّن عليهم أن يكونوا في طليعة من يدافع - بثقة وإيمان - عن حرية التعبير والفعل الثقافي، أياً كان توجهه ومهما كان اختلافنا معه، نجدهم - في لحظة يصعب تبريرها - يلوذون بالقادر على إخراس ونفي الخصوم.
في غمرة الحماس والتعصب، ينسى هؤلاء ما يشير إليه المنطق :
إن قبولك بفرض رقابة على اتجاه معين، أو المطالبة بإيقاف ومنع عمل فني، يعني الاعتراف - من حيث المبدأ - بضرورة الرقابة، وهذا بدوره يعني التسليم الضمني بحق الرقابة في ممارسة دورها بشكل عام وشامل، ضمن نتاجات فنية أخرى، أو أشكال أخرى من التعبير. بالتالي، هذا يلزمك بقبول أي قرار يصدر ضد ما تمارسه أو تتبناه، إذا رأى شخص آخر في ما تفعله تهديداً للمجتمع. بمعنى آخر، أنت لا تستطيع أن تبيح لنفسك اللجوء إلى الرقابة وتمنع ذلك عن الخصم.
إذا كنا نبيح لأنفسنا الحق في مطالبة الجهاز الرقابي بفرض إجراءاته الصارمة ضد عمل نجد فيه ما يهين ويضر ويسيء ويشوّه ويسمّم عقولنا وأخلاقياتنا وأذواقنا، فلابد أيضاً أن نبيح للآخرين الحق في اللجوء إلى الرقيب ضد نتاج أدبي وفني، راق ٍ ومهم، لكنهم يرون فيه أشياء مهينة ومضرّة ومسيئة ومسمّمة. إذ من الذي أعطانا الحق - وحدنا - في الوصاية والمعرفة وتقرير ما ينبغي عرضه وقراءته ؟ من الذي خوّلنا - وحدنا - بحماية المجتمع من الآثار الضارة ؟ من الذي وهبنا - وحدنا - سلطة المنع والكبح والإلغاء ؟

* *

ثمة حقيقة موجعة تؤكدها أقوالنا وأفعالنا اليومية :
إن آلية القمع متجذّرة داخل كل فرد منا، وهي أساس كل أنشطتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والعاطفية. ومهما حاولنا تمويه أو تغليف هذه الحقيقة فإنها تنبثق، بين حين وآخر، لتفضحنا ولتعرّينا.

* *

إن رغبتنا في قمع الآخر، تدفعنا إلى إنكار المبدأ الأهم : حرية التعبير.
عوضاً عن المطالبة بمنع النتاج الثقافي، لأي سبب من الأسباب، علينا أن نقوم بنقده وتقييمه وتحليله.
ولا يجب أن نغفل واقع تعدد وجهات النظر، واختلاف الأذواق والأهواء. فالشيء الذي لا يروق لنا، ولا ينسجم مع ما نريده ونطمح إليه، لا يعني بالضرورة أنه لا يروق للآخرين. هناك من يعجب ويحب تلك الأعمال التي نرفضها، ومن العبث اتهام الآخرين بالجهل أو الانحطاط لمجرد اختلافهم عنا، وذلك لسبب بسيط : أننا لا نستطيع فرض أذواقنا ومفاهيمنا على الآخرين.
كذلك لا ينبغي إغفال حقيقة أن فعل المشاهدة أو القراءة هو فعل اختياري، إذ لا أحد يجبرك على أن تشاهد أو تقرأ عملاً يهينك، أو يسيء إليك، يثير أعصابك، أو يسبب لك الضجر.

داخل كل منا كينونة قمعية، لا تكبح رغباتنا ومشاعرنا فحسب، بل أيضاً كل ما يخالف ويتعارض مع مفاهيمنا وأفكارنا وتصوراتنا ومعتقداتنا وقيمنا.
ما إن نشاهد أو نقرأ أو نسمع شيئاً، لا يتلاءم أو يتوافق مع ذوقنا وطبيعتنا، حتى نستنفر طاقة القمع الموجودة بداخلنا وحولنا، من أجل الحيلولة دون أن يمارس هذا الشيء تأثيره على مشاعرنا وأفكارنا. يحدث هذا أيضاً عندما نعجز عن مناقشة هذا الشيء والتحاور معه، أو استجوابه وتحليله.
الفيلم أو المسرحية أو الكتاب، أو أي منتوج ثقافي آخر، يصبح منتهِكاً وخطيراً، وذا نزعة تدميرية، عندما :

  1. يشكّل تهديداً للمعتقدات والمعايير الأخلاقية والثوابت الفكرية والسياسية، ويستجوب المفاهيم بجرأة.
  2. يخترق المسلمات، وما اعتاد عليه المر ء من طرق في التلقي والتذوّق والنظر. العمل الجديد يصدم دائماً الذهنية المحافظة والتقليدية، يثير قلقها، يبلبل مداركها. لذلك غالباً ما يكون رد فعلها جاداً وعنيفاً.
  3. يكون مستعصياً على الفهم، وخارج نطاق الإدراك والسيطرة. فهو يمثّل - من جهة - تحدياً لقدراتنا المحدودة في الاستيعاب، ولمدى ما نتمتع به من مرونة وانفتاح. ومن جهة أخرى، يثير الارتباك بشأن فعاليته وتأثيره الكامن.. فبالرغم من اقتناعنا - أو هكذا نوهم أنفسنا - بعقم ولا جدوى النتاج، نظراً لصعوبته وانغلاقه، إلا أننا نشعر بأهميته وخطورته ما إن يتحمس له فرد واحد. هذا يفسر الهجوم المتواصل على الأعمال الغامضة، رغم التوكيد بأن أحداً لن يتفاعل معها ويتأثر بها.

ضمن هذه الحالات، يصبح النتاج الثقافي شراً يحاول إغواء ذواتنا البريئة، وباءً يلوّث أجواءنا النقية، غزواً يهدّد طمأنينة أفكارنا، خطراً يسعى إلى تدمير قيمنا.
مكشوفون نحن، بلا غطاء ولا حصانة. حساسون للغاية.. إلى درجة أن أي فعل ثقافي، مغاير لما اعتدناه وتآلفنا معه، يمكن أن يخدش أخلاقياتنا الهشة، ويخترق كالسم جلودنا الناعمة.

* *

رعبنا الدائم من المختلف، والنقيض، يجعلنا نلوذ ونستنجد بمن يملك القوة (الرقابة، الجمهور، الصحافة) لردع وقمع هذا الفعل المهدّد.
استعداء الآخرين محاولة يائسة لتغطية فشل الذات في مواجهة مصدر التهديد. الفرد منا يلجأ إلى تعميم الخطر لكسب المزيد من الأصوات المؤيدة، ولكي يصبح القمع عاماً وأكثر فعالية.
هذا الفرد يتظاهر عادة ً بحماية المجتمع، والدفاع عن قيمه وتقاليده، ليواري مركبّات نقصه، ويغلّف دوافعه الإرهابية بشعارات النبل والنقاء والبراءة. إنه يرتكب مصادرة حق الآخرين في التعبير، مهيناً بذلك أي مظهر حضاري للمجتمع الذي يتحدث باسمه.
فرد كهذا لا يتأمل ولا يحلل ولا ينقد، إنما يتمتع بروح غوغائية وعدائية واستبدادية، لذا فهو يسيء تأويل مالا يتفق مع وجهة نظره، ويذهب في ترويج الفهم الخاطئ إلى أبعد مدى، مطالباً بإعدام الرأي الآخر.
فرد كهذا لا يستطيع أن يحمي ذاته أو مجتمعه لأنه، ببساطة، خائف.

* *

الطبيب يستخدم المشرط في بتر الأورام والأجزاء المريضة.
الرقيب يستخدم المقص في بتر الأجزاء (المقاطع) التي يرى أنها مفسدة وملوّثة وهدامة.
الفارق : الطبيب يعالج جسداً مريضاً، بينما الرقيب يعالج كينونة ليست سليمة فحسب، بل نتاج فعل إبداعي.
الرقيب يعتني بالصحة الأخلاقية. إنه لا ينظر إلى الكتاب، أو الفيلم أو المسرحية، كعمل فني، كنتاج إبداعي، وإنما كسلعة لابد من التأكد من سلامتها وخلوّها مما هو سام وضار.
الرقيب يرى مهمته مقدّسة : حماية المجتمع.
إنه يحافظ على تابوات المجتمع، ولا يسمح بأي انتهاك لها. يريد إنقاذ المجتمع من أي انحراف أو تشوّه.
لكن لماذا يعتبر نفسه وصيّاً على المجتمع، ومهمته حماية عقول وأخلاق وذوق الشعب ؟ وهل هو مؤهل أكثر من غيره لتحديد ما هو صالح وما هو مفسد ؟
وإذا لجأ إلى حذف بعض المقاطع من الكتاب، أو بعض اللقطات من الفيلم، بذريعة أنها قد تفسد أخلاقنا وعقولنا، فلماذا لم تفسد أخلاق الرقيب نفسه الذي قرأها أو شاهدها ؟
ما الذي يضمن بأن المواد التي يراها سامّة وضارة على الآخرين، لم تضرّه وتؤذيه هو، ولم تسمّم أفكاره ومعتقداته ؟
هل هو خارق إلى هذا الحد ؟ ما الذي يميّزه عن الآخرين ؟ أية حصانة يملكها والتي تجعل هذه المواد غير مؤثرة فيه، وغير قادرة على اختراق نفسيته وذهنيته كما تفعل مع الآخرين ؟
الرقيب لا يفرّق بين البالغ والقاصر. إنه يتعامل مع الجميع بوصفهم كائنات لم تبلغ سن الرشد، ولا تميّز بين الخطأ والصواب، بين ما هو ضار وما هو نافع.
وهو عادةً يمارس عمله بسريّة تامة، وقراراته غير معلنة.
إنه يجلس في صومعته ولا أحد - غير منتج العمل - يعرف ماذا حذف وماذا عدّل. إنه يمارس سلطته المطلقة دونما مساءلة. وهو وحده الذي يحدّد ما الذي ينبغي أن نراه ونقرأه، ومالا ينبغي.
ما هي المعايير الأخلاقية التي يحتكم إليها، والتي على ضوئها يقرر إذا كانت المادة ضارة أو نافعة ؟
كيف نضمن أن قرار الرقيب، بالحذف أو المنع، ليس تعسفياً أو استبدادياً، طالما أنه لا يتاح لنا رؤية ما رآه، أو قراءة ما قرأه ؟
هل هو مؤهل فنياً، كفء أخلاقياً، نقيّ نفسياً ؟
ولماذا القرارات تكون سريّة دائماً ؟

هستيريا التعصب

الفرد المتعصّب (عقائدياً أو سياسياً أو عرقياً أو ثقافياً) والمقتنع كلياً بأنه المنتخب للذود عن حصن ما يعتقده، وبأنه يخدم قضية عادلة، هو الأكثر خطورة وضراوة. فهو يبدو كائناً عاديا، ويعيش وسط الناس على نحو غير ملفت، أما مظهره الخارجي فيقنعك أنه وديع وأليف. غير أنه يكشف عن وحش ضار، يسكن في داخله، ما أن تتعرض قيمه ومعتقداته ومفاهيمه لأي تهديد.. حتى لو كان هذا التهديد وهمياً. فأنت تستطيع أن تتوقع الشر من رجل مسلّح، ذي دوافع عدوانية، لكنك لا تتوقع أن يداهمك الخطر من شخص يعيش في محيطك كأي فرد عادي ومسالم (لكنه عرضة للتضليل حتى النخاع).
التعصب هو الإدعاء بامتلاك مالا يمكن امتلاكه.. أي الحقيقة.
المتعصب دينياً يعتقد أن الله يقف إلى جانبه وحده، وأن من يخالفه عدو من الواجب تصفيته.
المتعصب سياسياً يريد تعميم أيديولوجيته، وهو في حالة حرب دائمة مع من يناقضه.
المتعصب ثقافياً لا يقبل بفكرة ٍ تتعارض مع فكرته، فيظل محافظاً عنيداً ويسعى إلى قمع الصوت الآخر.
المتعصب عرقياً ينظر إلى جنسه أو لونه كنموذج سامٍ، وهو دائم الاضطهاد والبطش بالمختلف.
المتعصب لا يسعى إلى توصيل ما يعتقده إلى الآخر عن طريق الجدل والنقاش والإقناع، إنما يحاول إرغام الآخر على القبول والإذعان لمنطقه، وبالتالي التسليم الكامل بما يقول. إنه يريد ولاءً وتطابقاً كلياً.
النقد مرفوض، لا يقبله، حتى لو كان الدافع الوصول إلى فهم سليم للأمور. والحياد أيضاً مرفوض، إما أن تكون معه أو ضده. وهو يصادر حق الآخر في الاختلاف، ويقمع تعدد الآراء ووجهات النظر.. فهو إذن معادٍ للديمقراطية حتى وإن كان يجهر بالدفاع عنها (عندما يجد أنها تحقق مكاسب له).
حين ينمو التعصب ويزدهر، يولد الديكتاتور. الديكتاتور نتاج التعصب.
المتعصب لا يريد أن يتحكم في عقل الآخر فحسب، بل أن يستعمر جسده أيضاً. باحتلال الجسد يمكن أن يتحكم في وعيه ومشاعره وغرائزه. عندئذ يصبح الآخر محض آلة.. آلة دعاية أو قتل. يقال أن هتلر كان يدفع جمهوره، المستمعين إلى خطبه الملتهبة، إلى بلوغ الذروة الجنسية.. مجازياً.
أسلوب المتعصب دعائي. ليس عقلانياً أو تحليلياً. إنه يروّج لمعتقده، دون تعب أو ضجر، موظفاً آلية الدعاية التي تعتمد على نقل المعلومة المباشرة دون أن تتيح للآخر مجالاً للإستفسار أو المناقشة أو الشك. والدعاية قائمة - في الأغلب - على التكرار والتضليل. التحليل يعني الموضوعية. والموضوعية ليست في صالح فكرته إذا كانت خاطئة. وفي كل الأحوال، هو ينظر إلى نفسه كشخص معصوم عن الخطأ.
المتعصب دائماً يرتكز على مرجعية إرهابية يشهرها في وجه من يخالفه في الرأي، من أجل إرهابه وقمعه.
المتعصب نتاج يأس وخوف جماعي.

* *

" هل ما ترونه من العالم، عبر هذه النافذة، جميل إلى حد أنكم لا تريدون أن تنظروا عبر نافذة أخرى ؟ إلى حد أنكم تحاولون منع الآخرين أيضاً ؟ " (نيتشه)
هكذا الحال دائماً مع المتعصبين، ضيقي الأفق، أحاديي النظر.. الذين يؤمنون بأنهم وحدهم يمتلكون المعرفة والحكمة والبصيرة، ويحاولون - بلا تريث أو تواضع - فرض معتقداتهم ومفاهيمهم وتصوراتهم على الآخرين، معتقدين أنهم يقومون بمهمة عظيمة ونبيلة من شأنها أن تخلّص وتنقذ البشر، وتقيهم الشرور والمفاسد.
في كل مجال ثقافي نجد نماذج من هؤلاء الذين يتعصبون لطريقة معينة في التفكير والممارسة، ويسعون بكل ضراوة وشراسة، إلى إقناع (كمرحلة أولية) ثم إرغام (كمرحلة أخيرة يائسة) الآخرين على تبنّي طريقتهم ونظرتهم، ومحاربة كل طريقة مغايرة، أو اتجاه معاكس، أو نظرة لا تتفق ولا تنسجم مع أفكارهم وأساليبهم.
ولأنه في الفن لا يوجد درب واحد، واتجاه واحد، بل تعدّد وتنوّع ضمن فضاءات لاتُحد، وآفاق لا تُعد، فإن حروب هؤلاء المتعصبين تصبح عبثية أو وهمية.
بدلاً من الانفتاح على شتى التجارب، والاعتراف بضرورة التعايش بين مختلف الاتجاهات والتيارات، نجد عندهم الانكفاء والانغلاق، وإنكار كل ما يخالف اتجاههم، إلى حد استعداء الآخرين ضد ما يتعارض مع أفكارهم وطرائقهم.

* *

المتعصب ليس قوياً وحكيماً، كما يتوهم، أو يحاول إيهام الآخرين بذلك، فتعصبه يفضح ضعفه وهشاشة بنيته الفكرية والأخلاقية، ويكشف فاشيته الكامنة.. إنه شخص خائف دائماً.. على نفسه ومكانته وقيمه.

* *

بين الحين والحين، نشهد - هنا وهناك - حملات مسعورة وضارية، تصل غالباً إلى ساحة القضاء لكي تُحسم قانونياً، تستهدف مفكرين وفنانين وأدباء، حيث تتحول حرية الرأي والتعبير إلى قضية جنائية، ويتم التعامل مع أي اختلاف في الرأي والرؤية والتفسير كجريمة أو جناية.
إن معظم الحملات تنطلق من سوء فهم، أو سوء تأويل، للنتاج الثقافي، لكنها جوهرياً تحمل نيّة مبيّتة ضد الآخر - المختلف، بغية قمعه أو إسكاته أو حتى عزله بالحبس أو النفي. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، تلجأ الحملة - عادة - إلى التحريف والتشويه والتهويل، ثم استعداء السلطات القائمة - السياسية والدينية - وبعد ذلك تحال إلى المحاكم للنظر فيها قانونياً.
مثل هذه الحملات لا يمكن أن تنطلق، وتتضخم وتنتشر، في مجتمع حر ومنفتح ومتسامح، ويؤمن بالنقد والحوار المتحضر. إنها تتنفس وتنتعش في غياب تلك المظاهر والقيم الحضارية، وتستمد قوتها من الجهل والخوف واللامبالاة، وتغذّي نفسها بالإرهاب.
وهي عندما تشنّ هجومها ضد فرد ما، فإنها لا تسعى إلى إخراس وتحطيم هذا الفرد بذاته، بل تطمح أساساً إلى تحطيم إرادة ووعي أمّة بأكملها. إذ أن الهدف الأبعد للحملة هو قهر العقل وطاقة التفكير، وانتصار الفكرة الواحدة أو النظرة الأحادية، فلا يعود هناك غير هاوية، لا قرار لها، تساق إليها العقول المفكرة والطاقات الإبداعية، ولا يعود هناك غير فضاء معتم بلا أفق أو مدى مُضاء.
الآخر يصبح عدواً، تنبغي تصفيته أو - على الأقل - إقصاءه، عندما يؤمن بالحرية وبحقه في الاختلاف، وفي الاجتهاد، وفي الحوار والجدل. وهذا العدو يصبح خطيراً ومخيفاً أكثر عندما يبدأ في استجواب قناعاتنا ومنظوراتنا، وإرباك تصوراتنا للذات وللعالم، واختراق وعينا بأفكار ومفاهيم جديدة قابلة للنقاش والجدل. عندئذ تكون محاربته، والقضاء عليه، واجباً وطنياً أو دينياً.
العدو حاضر دائماً.
موجود، مكشوف أمام مرمى البصر.. أو متوارٍ في الذاكرة، في الفكرة، في الشعور.

* *

للإرهاب الفكري مرتكزاته ومعاييره الجامدة، منذ قرون طويلة، وله ذرائعه ومبرراته الثابتة، وله خطابه الأيديولوجي أو العقائدي الخاص.
الحرب ضد الآخر، المختلف، تُشنّ دوماً بدوافع تبدو ظاهرياً صادقة ونبيلة، وتحت شعارات تتكرر، دون أن يمسّها أي تغيير، من زمن إلى زمن، من جيل إلى جيل، من مكان إلى مكان : حماية المعتقدات والقيم الأخلاقية، حماية المجتمع من الانحطاط والانحلال، المحافظة على العادات والتقاليد، تطهير المجتمع من أي انحراف اجتماعي وأخلاقي ونفسي، الدفاع عن الخير والفضيلة.
لكنها، جوهرياً، دوافع خادعة وشريرة لأنها تتسم بالإرهاب والعنف غير المبرر، وتنبذ الحوار، وتنطلق من رغبة في إخضاع المجتمع وسلب حريته في التفكير والتعبير.
إن من يمارس الإرهاب الفكري يهين عقولنا ويحتقر مشاعرنا، ذلك لأنه لا يوحي فحسب، بل يعلن جهراً، أن عقولنا ناقصة، وإيماننا ضعيف، وأخلاقنا هشة وقابلة للانحراف في أية لحظة، وبفعل أي مؤثر، بالتالي فإنها تحتاج إلى من يحميها ويصونها ويحافظ عليها باستمرار.
إنه ينظر إلى نفسه ككائن سام ٍ، محصّن من كل إثم، معصوم عن الخطأ، وهو المرشد والمقوّم والحامي والفاضل والمنزّه والمتبصّر والخارق، والذي ينظر إلى الآخرين بوصفهم كائنات هشة، ناقصة، ضعيفة، فقيرة الإيمان، عرضة للإغواء، وقابلة للانحراف.
مثل هذه الوصاية والحماية شنيعة ومخيفة لأنها ترشّح أي فرد منا للعزل والنفي ما إن تبدر منا التفاتة نحو أفق آخر.. أكثر صفاءً وبراءة.

إسردْ أحلامك، كي أفهمك.

(انطباعات)

كل صرخة ألم، فضحٌ لوهم الأمان.

*
الصدى : أشلاء صوتٍ مهدور ٍ في الفراغ.

*
الفرح ثمرة تؤرجحها يد مدهونة بالقسوة.

*
جلس على الشاطئ، مواجهاً البحر، و في نيّته أن ينقذ نفسه من الانتحار.

*
من بين القضبان، مدّ لسانه ليتذوق طعم الحرية.

*
زوّار حلمك ليسوا غرباء، فقد تسللوا من تحت جلدك ليمرحوا أمامك،
ويدهشوا بصرك بحيلهم.
إنهم مظاهر متعددة، مختلفة، من ذاتك..
والتي تحاول عبثاً أن تفهمها.

*
يتكئ على مشاريعه المؤجلة.. رانياً إلى الزمن في حقد هائل.

*
يوماً ما سنتحول جميعاً إلى مهرجين.. غايتهم تسلية طفل مدلل يدعونه : الجمهور.

*
عندما شعر بأن العالم يحتضر، وأن النهاية وشيكة، نبش التربة بأصابعه وغرس بذرة.. ثم استغرق في الانتظار.

*
التابع يلتقط رذائل المتبوع كما لو يلتقط أحجاراً كريمة.
إنه يسبح في مستنقع المتبوع كما لو في نهر رائق.
مأساة التابع جهله أنه تابع.

*
العين شهوانية.

*
للأمكنة ذاكرة.. زيارة عابرة لمكان ٍ ما، تمهّد الطريق لفيض من الصور والحالات والأحداث
والأحاديث المتدفقة من مخزن الماضي.

*
في لحظة الإبداع، لا تقل عن الكاتب أو الفنان أنه يعمل.. قل أنه يتنفس.

*
إنه يغويك عاطفياً وسياسياً، لا ليطهرك روحياً وجسدياً، إنما ليجعلك تستعير أمراضه وأخطاءه، حتى ينكر وجودها في ذاته.
إنه يغتصب براءتك، هذا الذي يزعم أنه يحمي براءتك.
كل متبوع مغتصب، وكل تابع ضحية تنشد الاغتصاب.

*
في شيخوخته، مد يده وداعب طفولته في حنان، ثم أغفى بعد أن أطبق أجفانه على عالم ظن أنه رحل بلا رجعة.

*
أحياناً يتحالف اليمين واليسار في شن الكراهية
ضد ما هو جديد وحر وجميل في الفن والأدب.

*
كل صباح، بلا ضجر ولا يأس، تنصحنا الإذاعة بالتفاؤل والابتسام.. إنهم أشبه بزوار من كوكب
آخر.

*
يسير في الظلام كي لا يعرّي الضوءُ روحه.

*
أيها الفنان، لا تكن خادماً للجمهور.. كن صديقاً له.

*
الشعب حائر بين يمين ٍ لا يتورّع عن الكذب، ويسار ٍ لا يتورّع عن الكذب.

*
الغبار سوف يدخل أفواه أولئك الذين يملأون الهواء ضجيجاً.

*
ثمة أدمغة مسلحة بالحديد. لا تحاول اقتحامها، بل أطرق عليها برفق.
إن لم يرد أحد، فاعلم بأنها خاوية.. وغادر بهدوء، وبلا حسرة.

*
إذا أعلنتَ المعرفة فلن تعرف.
أعلن اللامعرفة لتعرف.
الجهل منبع الدهشة والفضول والسؤال.

*
لا شيء يوحّد البشر مثل الموسيقى :
اتحاد مع الذات، مع الآخر، مع الكون.. في آن واحد.

*
لماذا تحاول أن تفهم دائماً ؟
لا تبحث عن التفسير هنا أو هناك.
دع الغموض يكون دليلك إلى غابة المعاني الموجودة بداخلك.. لا بداخل النص.

*
نصمت لكي نفسح للأمكنة مجال الكلام.

*
أغنية لا تفهم لغتها : تهيّج حواسك، تلهب مخيلتك، تدغدغ جسدك.
أغنية تفهم لغتها : تشلّ حواسك، تعطّل مخيلتك، وتفضي بك إلى الخمول.

*
الذي يذهب إلى مشورة الذئب، عليه ألا يجزع حين يسمع وقع دمائه الراكضة على الرصيف.

*
أكتبْ ما لم تختبر، ما لم تجرّب، مالا تعرف.
عندما تكتب عن تجربة ما، كما هي، كما حدثت فعلاً، فإنك لا تبدع بل توثّق.
التجربة تجد امتلاءها وكفايتها في العيش، في الممارسة. يمسّها الضجر إن تكررت في شكل كلمات.
الكتابة أن تعيش تجربة لم تعشها. الكتابة ليست مرآة.

*
البعض يظن أن الصداقة صدَقة.. لذا يقدم، مع الحب، لائحة بالشروط والواجبات والمساءلات والاستجوابات والظنون.
الصداقة ليست قفصاً، إنها فضاء حب.

*
هذا الذي يدعو إلى الديمقراطية، سيكون أول من يقطع رأسي إذا قلت رأياً مخالفاً لرأيه..
على جبينه أرى وشم التعصب.

*
بعد أن فقد براءته، أحتارُ كيف أترجم صمته.. وجهه صار مضللاً.

*
جذر مخاوفنا يمتد إلى ذلك الركن المظلم.. من طفولتنا.

*
كل منا يخترع مأساته الخاصة، ويظن أنها الأكثر نبلاً وجمالاً.

*
يدعوك لتؤنس وحدته، وأنت تعتذر بلباقة، مختلقاً عذراً وهمياً.
ماذا يضيرك لو رافقت وحدته ساعات قليلة، فلربما أنقذت حياة إنسان.

*
احذرْ، إنهم ينصبون الفخاخ لأخطائك.

*
الزبَد : حيوان يقرض بنهم أطراف جزيرة مسوّسة.

*
قال كلاماً لم أفهمه، لأن مشاعره كانت محجّبة.

*
لا أؤمن بالتناسخ، لكن كافكا يسكن فيّ.

*
من حلمة الليل يرضع الأطفال مخاوفهم.

*
تزعم أنك لا تحتاج إلى أحد، إذن لماذا تجعل النافذة تصغي إلى نحيبك.. كل ليلة.

*
كل شخص يريد أن يشكّلك على هواه.
تُرى، كم وجهٍ ستحمل إن أصغيت إليهم ؟

*
الكاتب الذين يزعم أنه واقعي، مزوّر غير بارع..
إنه يعرض لنا العالم الغامض، والمركّب، في صورة واضحة ومنظمة.

*
في تلك السهرة الضاجة، كان صمته عامراً بالصخب.
آخر.. كان يمضغ الكلام، طوال السهرة. وعندما يصمت برهةً
فلكي يصغي إلى صدى صوته.

*
اللغة، عند بعض الكتّاب، تتثاءب ضجراً.

*
عجيب هو هذا الكائن، يريد أن يغيّر وعينا لكي ننسجم مع وعيه غير القابل للتغيير.

*
كلّمني مثلما تكلّم نفسك.. بمشاعرك.

*
عندما يخطئ فرد منا، نلبس جميعاً رداء القاضي،
ونتقمص هيئته، وننتحل صوته.

*
لدى البعض قدرة خارقة على تحويل الضحية إلى مذنبة..
ففي حالة اغتصاب امرأة، تصبح هي المدانة بالإغواء
والتحريض على الجريمة.

*
كان الشك يطرق بعنف صدغ النائم الذي يعانق اليقين.. في طمأنينة.

*
أخطاؤنا وتناقضاتنا هي من العناصر التي تشكّل كينونتنا،
فلماذا نحجبها خلف ادعاء كاذب بالكمال ؟

*
يخرج من جلده برشاقة الذي يخرج من قميصه.

*
عوضاً عن التعرّف على مخاوفنا، فهمها، كشفها، والتعايش معها..
نقوم بمحاولات يائسة ومضحكة لإخفائها، حجبها، طمرها تحت البشرة،
والتظاهر بعد ذلك بأننا مخلوقات خارقة.

*
حدّق فيّ ولم يرني.. لأنه كان قد نفى وجودي.

*
خوفه من العزلة يجعله عارياً أمام الآخرين..
مباحاً وعرضة للانتهاك في أية لحظة.

*
إسردْ أحلامك، كي أفهمك أكثر.

*
عندما يقدم لك كاتب أو فنان عمله، لتبدي رأياً فيه،
فإنه يقدم لك، في الوقت ذاته، محبّته وعداوته
تقييمك النقدي للعمل هو الذي يحدّد اختيارك.. إما لمحبّته أو لعداوته.

*
لا بأس من وجود مدّعي الثقافة بيننا.. إنهم محض توابل.

*
كل هذا الوعظ.. ألا يوحي بأن الخطيئة سيدة الإنسان ؟

*
عندما تحزن، لا تفتقد الأصدقاء.. دعهم يمرحون.

*
أعرف أن التفكير بتعبك، لكن ماذا أفعل بكل هذه الألغاز ؟

*
هذا الذي يمجّد نفسه، ويعرض كما لها للآخرين،
ويتباهى بأن حياته خالية من الأخطاء.. يكنّ - في قرارته - كراهية شديدة لذاته.

*
كثيرون يريدون تغيير العالم.. لكن إلى الأسوأ.

*
كلنا قمعيون.. بدرجات متفاوتة.

*
العبد ينتحل صوت سيده.

*
لكل منا دوره. الأدوار تستعمرنا. ولا تحرر دون مجازفة.

*
الوجه الذي تنظر إليه، عبر المرآة، لا يعود وجهك. إنه آخر.
يحدّق فيك مثلما تحدّق فيه.. ولا أحد منكما يفهم الآخر.

*
للفكرة أصداء. خبئ الفكرة لئلا تضيع في المدى، ولا تعود ملكاً لك.

*
بخطوات سريعة وواثقة، كان يتعقّب ظله.

*
كل تحديقةٍ، تعطيل مؤقت للزمن.

حيوان خرافي.. تلك الكتابة

(شهادات)

1

لا أحد يعي التطور التقني في الكتابة.. إنه يحدث مع استمرارية تجربة الكتابة.. بعيداً عن الوعي، بعيداً عن المنطق، بعيداً عن الاستقصاء والتحري. مسألة الإخفاق أو النجاح تكون هامشية في هذه الحالة، لأن الكاتب يكتب وهو مغمور بإحساس أن يعبّر بشكل جديد ومختلف بالنسبة إليه.
التقنية تتطور، أو بمعنى أدق، تتحول تلقائياً، إذا كان الكاتب منفتحاً على ما حوله، قابلاً لامتصاص كل المؤثرات المحيطة به.

2

عندما يدخل الشعر في المرئيات والسمعيات، وفي كل مظاهر الطبيعة والحياة، فكيف نستطيع منعه من اختراق شكل أدبي (القصة أو الرواية) يشترك مع القصيدة في استخدام الأبجدية المقروءة ولكن بطريقة تعبير مغايرة ؟
مادام الكاتب يتعامل بالمفردات ومشتقاتها، وبصياغة أو خلق الصور والحالات والشخوص التي تنتسب إلى عالم الكاتب قبل كل شيء - رغم امتداد جذوره إلى الواقع المعاش - فإنه من المحتم أن يلجأ إلى تنقية عالمه من الشوائب في اللغة والأسلوب انسجاماً مع رؤيته وأفكاره.. والشعر يكون حاضراً دائماً.
التفكير في الحواجز، بين الشعر والقصة والأشكال الأخرى، مضيعة للوقت. ما يهمني أن يكون العمل الذي كتبته - بكل ما يحتويه - قادراً على الوصول إلى الآخر.. الذي لا أعرف أين يوجد. ليست اللغة وحدها ينبغي أن تكون شفافة وموحية وجميلة ( أي شاعرية) بل المناخ القصصي كله ينبغي أن يحوي هذه الروح التي لن تؤذي هيكل القصة بقدر ما تعطيه تماسكاً وكينونة متجددة.
من هذا المنطلق يكون تعاملي مع اللغة واعياً لأنها أداتي التي يجب أن أشحذها جيداً، فالحالات تنتظر - في مخيلتي - لكي تتشكّل، وما عليّ إلا أن أستنفر اللغة لتحتك المفردات مع بعضها، وتتجاور، وتنتج علاقات، أشبه بالعلاقات اللونية، تتناسب مع تلك الحالات.

3

كإنسان وككاتب، أهفو إلى تحقيق الاتصال مع الآخر، وأن أنقل إليه ما أشعر به وما أفكر فيه، بدءاً من القضايا التي تؤرقني : التناقضات المريعة، العلاقات المشوهة، القيم المضادة، التشيوء واللاأمان.. الخ.
من جهة أخرى، لأنني أؤطر أحاسيسي وأفكاري في شكل فني معين، فإنني ألجأ إلى الحيل المعروفة : الدعابة، الغرابة، الميلودراما، التشويق، الألاعيب السحرية.. وغيرها. أي ألهو به ومعه، لكي يصغي إليّ باهتمام أكثر، وكلما شعرت بأنه يشيح بوجهه عني.. ضيقاً أو ضجراً أو لامبالاة، ألملم ثانية حروفي لأحدثه بصيغة أخرى.. وغالباً ما أحدّث نفسي لأنني لا أجد من يصغي إليّ.
ومازلت أكتب دون خجل لأنني أحب أن ألهو، أن أنثر ألعابي النارية، وأن أستمع إلى أصدائها.
أنا مجرد راو ٍ يبعثر حكايات غير مقروءة أو مسموعة، دون أن ينتظر ناقداً شهماً يشيد به ويلفت أنظار الآخرين إليه، أنا حاوٍ، مفجّر ألعاب نارية.

4

في نصوصي أحاول أن أستفيد من كل المؤثرات التي تصادفني.. حتى صرير الجداجد.. أين ؟ كيف ؟ متى ؟ الأجوبة مبعثرة في جوانب النصوص، وتقدر أن تكتشفها بقليل من الجهد.

5

القصة ليست ضيقة كما قد يوحي حجمها، كذلك الأشكال الأخرى. كل إقليم من هذه الأقاليم يحشد إمكانياته الهائلة، ويجنّد مناخه الجميل، لاستيعاب المحاولات الإبداعية بشتى أشكالها وأحجامها متى ما أحسن اختيار المادة الملائمة لها، وطريقة طرحها ومعالجتها.
كل فنان يبحث عن مأواه. والمطلب الأساسي أن يبدع لكي يكون جديراً بالمأوى الذي اختاره.

6

في حالات نادرة، يلتقي الناقد المبدع والفنان المبدع، ويكون لقاؤهما مبدعاً حقاً.

7

في أحوال كثيرة، تربكني المقابلات الصحفية - التي هي شكل من أشكال المواجهة مع الذات ومع الآخر في آن - لأنها تطالبني بنقل وتوضيح أفكاري.. التي غالباً ما تكون مشوشة، مراوغة، ومتناقضة.
إني أشعر بالارتباك والدوار أمام أسئلة تنتهكني وتنهكني، ولا أجزم أن أجوبتي ستكون صائبة ودقيقة.

8

الكتابة حالة مستمرة من التوتر والجوع.. أو لنقل، الشراهة.
الكتابة حيوان خرافي لا يرتوي، لا يشبع، ولا يكفّ عن التهام المخيلة والروح والعقل والأحاسيس.
والكاتب ليس خالقاً يتوقف، بمجرد أن ينتهي من صنع مخلوقه، ليرصد مساره وحركاته، بل هو كائن غريب، ملعون، متحفّز دائماً، يلهو بالأشياء التي أمامه، ويحطمها ليصنع غيرها.. قد تكون مختلفة أو جديدة، وقد تكون مماثلة لما سبقها لكنها متميزة بنكهة خاصة.
لنقل، أيضاً، أنه يعيش في قلق دائم، عذاب أزلي، ومرح لا حد له.
إنه يركض في البريّة مطلقاً صرخاته البدائية ودعاباته العصرية.. كيف لكائن كهذا أن يتوقف عند حدود طريقة واحدة في الكتابة ؟ الذين توقفوا ماتوا وهم أحياء. الاستقرار خمود، احتضار، غبار خيول كانت تسابق الزمن.
عندما يستقر الكاتب، عند شكل أو منظور أو رؤية، فإن الوقت سوف يشلّه، ليبتلعه السبات، فيما تحتدم في الخارج أصوات، حركات، حالات، مشاهد، أحلام وكوابيس، أفعال خارقة، بكاءات، جلبة لا تهدأ.
الكاتب الذي لا يسمح لنفسه بأن تتحول، تتخطى، تتناسخ في كل نص، هو موظف كسول يستخدم الكتابة كمنبر للوعظ أو الهجوم أو الدفاع. إنه، في حقيقته، محافظ ومسالم ولا يرتاب في شيء. إنه أشبه بساعة رملية تستنزف روحها، ذرةً ذرةً، بوتيرة رتيبة ومضجرة.
هل نسمّي النماذج، هنا وهناك ؟ عدد لا يُحصى.
أنظر إلى كلماتهم : تكرار، نسخ، ثبات لا يُطاق. العالم عندهم علبة خاوية.
أنظر إليهم : حواس مريضة، ولا يحلمون أبداً.

9

لا أجيد التنظير، ولست من هواة البحث عن تعريفات أو نعوت لأشكال الكتابة. إذا كان مصطلح " النص "، في حد ذاته، غامضاً وغير محدد، بالنسبة لي، فكيف يمكنني أن أجيب - بدقة وبثقة - عن معناه وشروطه.
عندما تصيبني حمّى الكتابة، أبيح أنحائي لوحوش تحتل الورقة وتفترسني على مهل، دون أن تتيح لي فرصة التأمل في شكل وسيماء الثمرة التي في طور التكوّن.
ألا يشبه هذا عملية الولادة على يد قابلة مجنونة ؟
لكنني أحياناً أتدخل - بوعي - في مجرى الكتابة، ربما لافتقاري إلى جرأة المجازفة، حيث أحاول أن أوجّه مسار ما أكتب، بعيداً عن عالم القصة وعالم الشعر معاً، ونحو عالم آخر مجهول.. قد تمتزج فيه الأنواع، أو قد يكتسب مستقبلاً خاصية مستقلة ومميّزة.
عندما نشرت كتاباتي الأخيرة، دخلت - دون اقتناع - لعبة المصطلحات، ووضعت عبارة " نص " أمامها. وكان دافعي في ذلك أن أجعلها تُقرأ بطريقة تختلف عن قراءة القصة أو القصيدة.. لكنها كانت وسيلة ساذجة في اعتقادي. وعلى الكاتب ألا يشغل نفسه بمثل هذه الأشياء الصغيرة التي تثير - عادة - اهتمام الأكاديميين والمولعين بالتأطير والزخرفة.
عندما أقرأ نصاً أدبياً، لا أهتم بنوعه و " موديله "، وإنما أبحث فيه عن مكمن الاستثارة والدهشة، عن الموقع الذي تتشكّل فيه العين السحرية التي ترى وتحس، على نحو أعمق وأكثر جدّة وطراوة.. حيث العالم والكائنات والأشياء تلبس مناخاً جديداً، وتتعايش ضمن حالات طقسية تجسّد - ربما - طفولة الخليقة.

10

القارئ الذي يريد أن يفهم لن يحسن الاقتراب من كتاباتي، لأنني أساساً لا أريد منه أن يفهم بل أن يبدع. إنني أقدم له مفاتيح، فحسب، كي يتمكن من فتح الأبواب ومشاركتي في البناء، أو الابتكار، أو اللعب.
لنأخذ، على سبيل المثال، صورة وردت في إحدى نصوصي الأخيرة عن امرأة تستقبل حشداً من اللبوءات التي تهبط سلالم الغابة كي تفترسها.
هذه الصورة تبدو غامضة، وقابلة لتأويلات عديدة. وشخصياً لا أعرف دلالتها أو معناها، ولا أطلب من القارئ أن يفهمها. إنها مستمدة، أو منبثقة، من لوحة روسو عن امرأة نائمة، وبقربها أسد يحدق فيها بعينين حادتين.
إن تفاعلي مع اللوحة جعلني أعيش حالة خاصة، حافلة بالاستثارة والتهيّج، معها تولّدت تلك الصورة. هذا التوالد هو الذي يعنيني في علاقتي بالقارئ.. بمعنى أن ينطلق من الصورة ذاتها ليبتكر بدوره صورة أخرى، أو مجموعة من الصور، تشكّل نصاً، أو عملاً إبداعياً، مختلفاً وخاصاً بالقارئ وحده.
بهذه الطريقة ينتج النص نصاً آخر، مختلفاً، ويشارك القارئ في عملية الخلق.
لهذا فإني عندما أكتب، أفترض وجود قارئ مرن، خلاّق، ناقد، يمتلك حساً جمالياً مرهفاً، ووعياً حاداً أيضاً.

11

لا أحد يستطيع أن يعترض مجرى التجديد. وإذا كنا نجد من لا يزال يتشبث بالقديم والمستهلك، فإن ذلك أمر طبيعي يفرضه التخلف الثقافي، والقصور الذاتي عن فهم عملية الخلق الفني، والخضوع لسطوة القارئ المستهلك.
شخصياً، لا أشعر بسلطة القارئ عليّ، ولا أسمح بحضوره أثناء الكتابة.
لابد من إرباك القارئ السلبي، القمعي، الذي يطالب دائماً بالوضوح كي يفهم ما يقرأ. لابد من تجريده من كل سلطة بحوزته.

12

ليس لدي رسالة معينة أوجهها إلى القارئ، ولا أرغب في لعب دور المبشّر والمفكر والداعية، كما لا أعتقد أن من مهمتي القيام بعمليات حسابية واحصائية لجرد مستويات الفهم والإدراك، بحيث أكيف كتابتي رياضياً وكيميائياً. إني أكتب فقط ما أحسه وما أتخيله.

13

الكتابة حديث خاص وعام في آن : سرّي وعلني، خفي ومكشوف، حميمي وصارخ، كامن وظاهر، مباشر ومراوغ.
الحديث، الخطاب، مزدوج أو متعدد الأوجه.. ذلك لأن الكتابة سبر للذات وكشف للتناقضات والصراعات الداخلية، وفي الوقت ذاته، هي استجواب للعالم بكل علاقاته وتناقضاته أيضاً. إنها العلاقة الجدلية بين الذات والآخر، بين الذات والعالم.
الكتابة، في المحصلة النهائية، هي عملية مركّبة ومعقدة، تتضمن البوح والكشف والاعتراف والفضح والهجم والدفاع والاحتراق والانبعاث.. هي كل هذا وأكثر. هي المتعة والفرح والانتشاء والارتواء. هي القلق والألم والجوع واليأس.
الكاتب يكتب لأنه يفتقر إلى الانسجام مع واقعه. إنه في حالة تصادم دائم مع نفسه والعالم على حد سواء. إنه في حوار مستمر مع نفسه والعالم.
الكاتب، قديماً، كان يعرف كل شيء، أو يتظاهر بمعرفة كل شيء. كانت الأشياء بالنسبة له، منظمة والعالم مفهوماً. أما الآن، فالكاتب يشعر بأنه جزء من هذا التشوش والفوضى والغموض الذي يلفّ وجوده، ويربك علاقته بالآخرين وبالمحيط. إنه لم يعد يفهم، يريد أن يفهم لكنه يعجز. لهذا تبدو الكتابة منسجمة مع وضعه وحالته الداخلية.
الكتابة، إذن، حوار مع الذات، وفي أكثر الأماكن غوراً.. حيث تكمن الأسرار والمخاوف والهواجس، منتظرة الفضح الشرس. وحوار مع المحيط الخارجي بكل أشكاله المتعددة وكائناته وأشيائه، الوديعة والمفترسة معاً.

14

فيما أسبر الذات والعالم، أكتشف بأنني لا أصل إلى مكان. لهذا أستمر في الكتابة، في فضح نفسي ومحيطي.
أظن أن مأزق الكاتب - في زمننا - يكمن في شعوره بأنه مخذول من أطراف عديدة، من واقعه وقارئه، ومن دوره ككاتب أيضاً. فلم يعد ذلك العارف والمصلح والمحرض والمغيّر، حتى أنه لم يعد شاهداً ولا رائياً.
ماذا بقي له ؟
مع ذلك فهو يستمر في الكتابة، ربما لأنها تحقق له ذلك التناسق المفقود مع وجوده. ربما لأنها الوسيلة الوحيدة التي تُركت له، ومن خلالها يستطيع أن يدافع عن البراءة والحب واللعب وحق الآخرين في مشاركته هذه القيم.
أكتب لكي أدافع عن نفسي، لكي أمتحن ذاتي وأختبر قدرتي على مواجهة التلوّث والتشوّه. أكتب لأنني أرتاب في كل شيء.
لدي صور وحالات ومشاهد.. أرتّبها وفق إيقاعات معينة وأطرحها أمام القارئ.
أعتمد كثيراً على الحلم والمخيلة، والصور التي تنتجها قد لا تبدو مفهومة في حينها، لكنها تملك منطقاً خاصاً يمكن تأويله فيما بعد، أو يمكن أن يوحي بأشياء ودلالات متعددة.

15

لا أعتقد أن أحداً يفهم نفسه بشكل جيد. نحن نعرف الكثير عن التاريخ والجغرافيا والفلسفة وربما علم التشريح، لكننا لا نعرف إلا القليل القليل عن أنفسنا، ذلك لأن أحداً لم يعلمنا، ولم نحاول نحن أن نتعلم، أو ربما لأن ذواتنا معقدة ومركبة إلى حد تستعصي على الفهم.
ثمة طبقات كثيفة داخل ذواتنا، وإزالة كل طبقة تسبب ألماً فظيعاً، لذلك نوهم أنفسنا بأن كل شيء واضح ومفهوم، ونكتفي برصد الآخرين والحكم عليهم، متجاهلين كلياً رصد وسبر ذواتنا. إن خدشاً بسيطاً للجلد سوف يظهر حجم المخاوف والرغبات والعلل الكامنة في الأسفل.

16

من يكترث بكاتب فقد كل أسلحته ؟
رغم ذلك ما يزال يشكّل خطورة ما. هذا يتضح أكثر عندما نتأمل حجم القمع والقهر الذي يتعرض له. هل هي مفارقة ؟
أعتقد أنه ما يزال يمثل تهديداً لأن الكلمة نفسها لم تفقد طاقتها الهائلة على خلق الصدمة، وبالأخص فيما يتعلق بالتابوات. أو ربما لأن المجتمع نفسه لا يسمح بأي نقد، أي اختراق، لهيكله ونظمه وقوانينه.

17

أحاول في أعمالي أن أشكّل عوالم خاصة، غير منفصلة عن الواقع الذي أعيشه، إنما تستعير منه العلاقات والأشكال الخارجية والتناقضات الجوهرية. إنها عوالم مخلوقة من عجين المخيلة والحلم والرؤى. وفيها أقوم، بحرية، في استنطاق الأشياء، وإلباس الكائنات هيئات أخرى. عندئذ أستطيع، حسب قدراتي، أن أبوح وأكشف وأكتشف. وعندئذ أيضاً يكون الحوار بيني وبين العالم مجدياً أكثر.. حتى وإن كنت أشعر بالضآلة.

17

مجموعاتي القصصية الأولى لم تنسف الحكاية، إنما كانت ترويها بشكل مختلف، دون الاعتماد على البناء التقليدي للسرد والتسلسل الزمني، وغيرها من عناصر الحكاية. بعد ذلك توقفت عن الاهتمام بالحكاية لأنني اكتشفت بأن آخرين يحكون بشكل أفضل.. الجدّات مثلاً، لا أحد يستطيع أن يضاهي الجدّات في سرد الحكايات. لذلك بدأت نصوصي تشكّل بنيتها على المستوى الشعري، كحالات وعلاقات، والمتداخل مع المستوى السردي، وتستمد عناصرها من مصادر أخرى غير الحكاية. إن تعدد مستويات التعبير الفني هو الفعل الذي يخترق رتابة السرد عموماً، وليس التقليدي فحسب. لكن هذا لا يعني أن فن السرد طريقة جامدة لا تنطوي على طاقة. على العكس، فالأمر يتوقف على قدرة الكاتب في تفجير إمكانيات السرد، وتوظيفه على نحو إبداعي بحيث يشكّل مع المستوى الشعري حالات فاتنة، وغير مألوفة.

19

عندما كنت أكتب القصة بلغة تقترب من الشعر، فإنني لم أكن أعبّر عن رؤيتي للواقع فحسب، بل لشكل الكتابة أيضاً. أدركت أنني لكي أخلق عوالمي الخاصة، المتأسسة على صور وحالات مستمدة من الواقع والحلم والذاكرة والمخيلة معاً، فإنني بحاجة إلى تقنيات في الكتابة تتلاءم مع تلك المكوّنات، أو قادرة على توصيلها. واللغة الشعرية كانت أهمها. فالعملية إذن لم تكن مقصودة من أجل تجاfوز شكل إلى آخر، إنما هي ضرورة فنية فرضتها التجربة والرؤية.
الآن، لم يعد الكلام عن التجديد والتجاوز في الكتابة كافياً. علينا أن نكتشف هذا في النص الجديد المتحقق. ليس لدينا قانون واضح ولا ينبغي أن يكون. والكلام عن مستقبل الكتابة يشبه قراءة الغيب.

20

اللغة لم تعد أداة وصف، أو لنقل معلومات. إنها طاقة إبداعية تتجاوز المعنى القاموسي المباشر لتصبح فضاءً تتوالد فيه المعاني والدلالات المتعددة.. الكامنة والمحتملة، بحيث تكون أكثر إيحاءً وعمقاً.
لقد أشار السورياليون إلى تأثير التجاور المفاجئ بين أشياء لا تمتلك علاقات فيما بينها، وكيف أنها حين تنتظم في بنية لغوية ما، فإن تأثيرها يكون سحرياً وخارقا.
اللغة تخلق علاقات جديدة، ليس داخل النص فحسب، بل مع قارئه أيضاً. يحدث أن يبتكر الكاتب صورة ما، لكن عند قراءتها تتولّد صورة أخرى، ذلك لأن اللغة هنا قد استطاعت بذاتها أن تمنح القارئ معانٍ وإيحاءات أخرى.

21

الكتابة سهم إبداعي يعبر الزمان والمكان. والمبدع الحقيقي هو الذي يتصل بجوهر الأشياء.
التراث، الممتد من الماضي إلى المستقبل، لبنة حية وفعالة في تجربة الكتابة. إنه لا يصير ثقيلاً إلا في سياق تجربة الكتابة الضعيفة، القاصرة عن اقتحام المستقبل بعناصرها الذاتية.

22

المرأة عالم أحاول اكتشافه في كل مرة. إنها الجسد الذي يغمر الكون، ويقترح على النص إعادة خلق دائمة، حيث كل جزء، كل عنصر، في هذا العالم أفق مكتنز بالمكتشفات.
المرأة، عندي، ليست أقنعة أدبية - فنية ثابتة، للوطن والأم والأرض، والاستعارات الأخرى التي تقع في السذاجة والتبسيط.
المرأة عالم متحول، وليست ذات طبيعة واحدة. إنني أضع المرايا، المزيد من المرايا، أمام هذه المخلوقة التي لا تكف عن الخلق.

23

هناك تجارب أدبية متنوعة، وفي غاية الأهمية. إنها تغرينا بالتحاور معها واكتشاف احتمالاتها، وتحرضنا أيضاً على التحديق في المستقبل بوضوح وثقة أكبر.
شخصياً، تهمني كثيراً تلك التجارب التي تبدع جمالياتها الخاصة، ولا تحجم عن اختراق وعينا على المستويين الفكري والفني.

24

إذا تعرضت بنية النص لانفصام حاد بين الشعر والنثر، بحيث يسهل تجزئ النص إلى قسمين منفصلين، فهذا يعني أن ثمة خللاً كبيراً في العمل الأدبي سوف يفضي إلى إضعاف النص.
لقد ارتبطت اللغة الشعرية بأسلوبي منذ بدايات كتابتي، وما يحدث الآن في نصوصي أعتبره تبلوراً طبيعياً للحالة الشعرية التي صارت إحدى مكونات لغتي. وأعتقد بأنه لا أهمية لأي فن يخلو من الروح الشعرية.. لغةً وحالات ورؤى.

25

تجربتي في "الجواشن" مع الصديق الشاعر قاسم حداد، إحدى التبلورات التي تشكّل سياقاً منسجماً مع طموحي التعبيري الذي يذهب إلى مغامرة الكتابة. ولأن تجربتنا ترافقت عبر الزمن والمسافة الفنية والرؤية المتقاربة، فقد تحولت إلى كتابة نص مشترك مشحون بالمتعة والمكتشفات الخاصة. التجربة تمثل، بالنسبة لكلينا، منعطفاً مهماً في الكتابة.

26

عندما يبدأ الكاتب في صياغة نصه فإنه لا يحقق عملاً مكتملاً أو منتهياً.
الكتابة هي اقتراح شكل حياة قابلة لعدد لا نهائي من الخلق وإعادة الخلق.

27

لأن الكتابة فعل فردي، أو شأن شخصي، إلى أقصى حد، فإن العزلة هي قدره الخاص، أو ربما الملجأ الآمن الوحيد أمام الكاتب.. لكنها العزلة التي تقترح طاقة أوسع أمام الآخر لاقتحام الواقع ومعانقة أرواح الآخرين.

28

أشكال التعبير، الفنية والأدبية، لا تعيش وضعاً تنافسياً، أو تناحرياً، في حلبة الإبداع، بل تتعايش وتتفاعل في ما بينها من أجل تحقيق أغراض سامية : أن يعي الإنسان وضعه وواقعه، وأن يصل إلى فهم لمعنى وجوده.
لكل شكل فني طبيعته المغايرة، وخاصيته المتميزة، وأدواته في تحقيق الاتصال. إن الطرق المؤدية إلى المعرفة متعددة ولا متناهية، فإدراك العالم والوضع البشري ككل لا يتم بواسطة المعرفة العلمية وحدها، إنما هناك المعرفة الروحية والحسية والجمالية. العلم يفسر الظواهر على المستوى العقلي والمنطقي، لكن الفن أو الأدب يثير الأسئلة، بشأن وضع الإنسان ومعنى وجوده، على المستوى الفكري والعاطفي والنفسي. إنه إحدى وسائل الإنسان للاتصال بالواقع واستيعاب وفهم العالم، لذلك فإن وجوده واستمراره هو شيء ضروري ويلبي حاجة بشرية.

29

الكلام عن تداخل الأنواع الأدبية لم يعد جديداً، والاختراق الذي تحققه بعض التجارب الأدبية الجديدة لحدود أشكال التعبير ليس سوى اجتهادات مشروعة سبقنا إليها آخرون. وما علينا إلا أن نمنح هذه الاختراقات حريتها المطلقة، ونستقبلها بفهم ومرونة وبراءة.
ليس هناك سلطة خارجية بإمكانها أن تفرض حدوداً أمام الكاتب والنص. لا قوانين ولا قواعد. كل شيء متاح ومباح إذا كانت الغاية تعميق الرؤية وإثراءها، وإضفاء خاصيات جمالية أكثر تألقاً وجاذبية، والتحرر من أسر السائد والمألوف.
وهنا يحق لنا أن تساءل : من يستطيع أن يفرض شكلاً محدداً وثابتاً للقصة أو القصيدة ؟
الأشكال السابقة مجرد اقتراحات، نابعة من تجارب إنسانية في أزمنة سابقة، وقد تكرست مع مرور الوقت، وتراكم الحركات الأدبية، لكن من المؤكد أنها ليست مقدسة، وليست نهائية.

30

تجربة "الجواشن"ولدت كفكرة بشكل عفوي وطبيعي جداً، ثم تبلورت في صيغتها الأخيرة عبر فترة طويلة، تعرّض النص خلالها لكثير من التحولات وإعادات النظر. النص ثمرة رفقة أدبية طويلة، وصداقة حميمة، ورؤى مشتركة فنياً وفكرياً. كانت التجربة انحيازاً لرغبة الاكتشاف عن طريق كتابة لا تخضع لأية سلطة. عندما جئنا للحظة الكتابة، لم تكن عناصر الشكل حاضرة بصورة مسبقة، ولا حتى المضامين. كانت لدينا هواجس كثيرة تحتدم في ذات اللحظة. كنا نبحث عن لغة تعبّر عن هذا ا لطموح التعبيري الذي نحاوره، ونحمله باستمرار. مثل عبء جميل.
كنا نشتغل ببطء شديد، ونرتكب التعديل والتغيير دونما ضجر أو إحساس بالذنب.. ففعل الكتابة، بالنسبة إلينا، شكل من أشكال المتعة أيضاً.

31

في الكتابة، لا يكون الوعي وحده حاضراً، إنما تتدافع مصادر وعناصر أخرى : اللاوعي، الذاكرة، المخيلة، الأحلام.. وهي جميعها تنداح بعفوية، وبحرية، أمام الكاتب لحظة الكتابة، ويبدأ في تدوينها بشكل محموم. هنا تسعفه الموهبة والخبرة والتقنية في قبول ما يريد وإلغاء مالا يريد.. أي التحكم في تلك الاندياحات، والاعتناء باللغة والصورة، واقتراح الصياغات المناسبة.
لا أعتقد بأن هناك عفوية مطلقة في الكتابة.. تلك محض أكذوبة.

32

أنا شاعر.. لكن بطريقتي الخاصة.

33

الكتابة حياة أخرى.. أكثر سحراً وغموضاً وجمالاً. هناك أجد ذاتي الحقيقية، وأحاور - بحرّية - أحلامي وكوابيسي وطفولتي، وأصوغ عوالمي الخاصة.

34

لماذا أكتب ؟ يربكني هذا السؤال. كأنك تسأل النائم : لماذا تحلم ؟
الكتابة مثل الحلم.. أمارسهما دون أن أهيئ نفسي لتبرير هذين الفعلين.
لمن أكتب ؟ لنفسي، لأشباهي، لمن يحب قراءة ما أكتب.

35

من منا لم يشهد مصرع أحلامه، الواحد تلو الآخر، في تجواله اليومي عبر منعطفات العمر ؟
كلما روادنا حلم، جاءتنا الهزيمة لتفتك به. كواهلنا مثقلة بالهزائم، تلك المفروضة علينا، وتلك التي شاركنا في حدوثها وفي صياغتها. مع ذلك، تتناسل فينا الأحلام الصغيرة، كما العشب، ونحملها داخل ذواتنا - بعناية وحذر - لتنادم عزلتنا وانكساراتنا.

36

العمل الأدبي لا يقوم على الأفكار فحسب، إنما على الأحاسيس والرؤى والتخيلات، والتي تخلق بدورها منطقها الخاص ولغتها الخاصة.
الكتابة، بالنسبة لي، ليست فعلاً محدّد الملامح، ومرسوماً بدقة على نحو مسبق، بل رحلة مجهولة وغامضة، أحاول من خلالها أن أسبر الحالات الخاصة والعامة التي أعيشها وأحسها وأرغب في التعبير عنها.. وهي حالات تتصل بالذات في علاقتها الجدلية بالوضع الإنساني.
إن حساسيتي الفنية تدفعني بعيداً عن المنطق الصارم للأشياء والعلاقات، وتجعلني أقترب أكثر من منطق الحلم والشعر، والذي هو طريقة خاصة للاتصال بالواقع.. على المستوى الفكري والجمالي معاً.

37

أسعى إلى خلق عوالم خاصة بي، تستوطنها مخلوقاتي وأشيائي، التي قد تجد تماثلات لها في الواقع المعاش ولكنها تكتسب سمات وخاصيات مغايرة.

48

كل حالة، في النص، تتخلق عبر تفاعل خاص.. نفسي وفكري ولغوي. وهذا التفاعل غير ثابت بل متحول، أو هكذا ينبغي أن يكون، وإلا تشابهت النتائج ووقع النص في التكرار. أحياناً تتناول ثيمة معينة، وتعود إليها بين فترة وأخرى، لكن ليس بالدرجة ذاتها، والمستوى ذاته من الانفعال والتفاعل.

39

لا يمكن لأي كاتب أن يطمس ذاته، حتى لو بدت متضخمة للآخرين.
والذات ليست حاضرة، بالضرورة، في كل نص، بالدرجة ذاتها من الهيمنة والفعالية. قد تبدو متوارية تماماً، أو مقنعة، فاسحة المجال لحضور كائنات أخرى متعددة ومتباينة، وتمتلك كينونتها الخاصة، المستقلة عن ذاتي.
إن أحد مساوئ الحوار، هو أن تجد نفسك مطالباً بالدفاع عن تهم غير مفهومة، كاتهامك لي "بالغنائية الفردية وأرستقراطية الرؤيا"، أو تجد نفسك حائراً أمام تقييمات مجانية تتعرّض لسطح تجربتك الكتابية ولا تسبر عمقها.

40

كان مهماً بالنسبة لكلينا - أنا وقاسم حداد - أن يُقرأ نص "الجواشن" كما لو أن كاتباً واحداً قد كتبه، بمعنى أن يأتي القارئ تاركاً خلفه أي إدراك مسبق لخاصية كل منا، كي لا يشغل نفسه بأمور هامشية لا تتصل بالنص ككيان قائم بذاته : مثل عقد مقارنة بين الأسلوبين، أو البحث اللامجدي عن حضور كاتب هنا وآخر هناك. لذلك كان التجانس ضرورياً، وشرطاً أولياً لكتابة عمل مشترك، وأعتقد أننا قد حققنا هذا التجانس.. جمالياً وفكرياً.

41

الكاتب لا يهندس نصه وفق منهج لغوي ما، ولا يرتّب كلماته حسب تصوّر مسبق لمفهوم الإشارة والدلالة والمستويات الأخرى.
الكاتب مبدع للنص وليس محللاً له. إنه يكتب ببراءة شديدة، وبحرية تكاد تكون مطلقة، دونما ارتكاز على قوانين معينة. عندئذ يأتي الناقد - إذا شاء - ليحلل إشاراته ورموزه، ويكتشف دلالاته وعناصره، التي قد لا تكون حاضرة في ذهن الكاتب أثناء عملية الإبداع.
الكاتب طفل. ومن الخطأ الاعتقاد بأنه يعي - لحظة الكتابة - الآلية والتقنية التي يكتشفها الناقد فيما بعد.

42

ليس بإمكان أي كاتب التنصل من مجتمعه وزمنه، لأنه - ببساطة - نتاج محيطه، بالتالي لابد أن يتفاعل مع واقعه. وأياً كانت توجهاته وأفكاره، فلابد أن يعبّر عن واقعه، أو مظاهر معينة منه. الإختلاف يكمن في طريقة وشكل التعبير. والقول بأن كاتباً ما يقف خارج مجتمعه، هو قول يشوبه سوء الفهم.

43

المكان، في مفهومي، يحمل بعداً كونياً. الغرفة، مثلاً، تتحرر من إطارها وكينونتها المعروفة لتكتسب خاصية أخرى، ودلالة أخرى. كذلك النخلة والشارع. المظاهر الخارجية لا تهمني كثيراً.

44

اللقاءات الصحفية، المباشرة، تربكني وتسبب لي توتراً وقلقاً. أشعر أنني مستباح، الآخر، هذا الذي يدير اللقاء، ويوجّه مسار الحديث كيفما يشاء، وحسب ما يحلو له، لا يستبيح أفكاري فحسب، بل مشاعري أيضاً.
إنه يراقب وجهي وحركاتي، يرصد إيماءاتي، يتابع إشاراتي المتوترة، يلاحظ هفواتي، يحاكم كلماتي التي تخرج من فمي بلا تركيز ولا دقة، يحاصرني بأسئلة قد لا أتوقعها، والتي تضاعف حالة التوتر والارتباك عندي.
وتسوء حالتي عندما يعتبرني عارفاً في كل شيء، وقادراً على الحديث في كل شأن، في حين أنني أكتب ما لا أعرف، وأختبر حالات تبدو غامضة بالنسبة لي. فأنا لا أزعم الحكمة، وليس لدي مواعظ أو نصائح، وثمة أمور كثيرة في الحياة، وفي الكتابة، أجهلها ولا أصلح أن أتحدث فيها.
أنا موجود في كتاباتي فقط، أما خارج دائرة الكتابة، خارج عالم النص، فأنا مجرد فرد مجهول، متوار ٍ، لا يثق كثيراً بنفسه، ومشحون بالقلق والخوف دائماً.
في اللقاءات أشعر أنني أمام شخص يستجوبني باستمرار، يمتحن أفكاري وقدراتي في التعبير الشفوي.. وهذا مالا أجيده تماماً.
اللسان يمكن أن يخون أو يحرّف. في الحديث أفتقر إلى التركيز والدقة، وإلى تنظيم الأفكار. أفكاري تصبح مشتتة، ويصعب استدعاءها بالدرجة نفسها من التماسك والتناسق كما في الكتابة. وأنت، في هذه الحالة، لا تراهن على قدرتك في انتقاء الكلمات المعبرة وتوصيلها بشكل مقنع فحسب، بل أيضاً على ذاكرتك (في تقديم معلومات وأمثلة وبراهين تدعم وتعزّز ما تقول ) والتي هي - أي الذاكرة - عصية غالباً، ويقتضي استحضارها وقتاً وصبراً وتركيزاً.
أما بحضور كاميرا التلفزيون، فإنك تشعر بألف عين تخترقك وتعريك، وليس أسوأ من أن تجد نفسك مباحاً ومنتهكاً بمثل هذه الصورة البذيئة.
لهذا السبب أحاول تجنب اللقاءات المباشرة.. إنها تخيفني.
أمام الورقة أجد حرية أكبر في التعبير، في قول أفكاري ومشاعري بصياغتي الخاصة، بلغتي التي أعرفها. أكون أكثر تركيزاً وتنظيماً وصدقاً. أكون واثقاً أكثر.
الأسئلة المكتوبة تتيح لي التأمل، تخلق لدي حالة من الاطمئنان والراحة. بوسعي أن أرفض الإجابة، أو أن أجيب بحرية وبإسهاب. لدي هنا أكثر من خيار. الأسئلة المكتوبة أكثر ديمقراطية.

45

أعرف أن قلةً تحب أو تتذوق أو تستوعب ما أكتبه الآن. لكنني أعرف أيضاً أن الأشياء ( ومن ضمنها الذائقة والقبول والاعتراف والتفاعل ) ليست ثابتة، بل هي في حالة تغيّر مستمر. ما يكون مبهماً وملتبساً الآن سوف يصبح مفهوماً ومقبولاً غداً. الأمثلة والشواهد عديدة في مجالي الفن والأدب. ليس هذا جديداً.
كتاباتي الأولى كانت مرفوضة، لأنها اعتبرت غامضة أو منفصلة عن الواقع اليومي والثقافي، فيما بعد صارت مقبولة، وداخلة في النسيج الكتابي السائد. الآن يطالبونني بالعودة إلى ذاك الأسلوب، وتلك الطريقة واللغة والكتابة. إنها ليست مسألة أجيال، بل مسألة واقع متغيّر، ذهنية متحوّلة، وعي متبدّل، قارئ قابل للتطور والانفتاح على نحو قد لا يتوقعه أو يستوعبه الكثير من كتابنا، الذين يؤمنون بالثبات والمكوث في المواقع الآمنة، والذين يعطون لأنفسهم الحق في تقرير ما هو صالح ومفيد لقارئنا ولواقعنا.
ليس لدي ادعاءات وأوهام بشأن القارئ، وبشأن الكتابة. لم أكن يوماً متكيفاً مع القارئ أو الناقد السلبي. كنت دائماً في حالة تنافر وتعارض معهما، خاصة عندما أشعر بأن عليّ تقديم تنازلات وتسويات تكفي لأن يعترف بي هذا القارئ أو الناقد.
نصوصي الأخيرة، مثلها مثل أية كتابة أخرى، مطروحة لتخلق ردود فعل خاصة، انفعالاً معيناً. والذي قال بأنها مجدبة، وغير مجدية، تفاعل معها حتماً بشكل سلبي، هذا شأنه، ولا دفاع لدي. مع ذلك أستطيع أن أقول بأنها لم تقرأ دون تعصب أو تحيّز. أحياناً يجد المرء صعوبة في التوافق مع أشكال تختلف عن تلك التي اعتاد عليها أو تآلف معها، مما يؤدي إلى رفضه للعمل واستنكاره له. إنه يريد نصوصاً تنسجم مع ذائقته وذهنيته، ومع مفاهيمه. بالتالي هو ينحاز إلى الكتابة التي يعرفها، متجاهلاً ومهملاً تلك التي تبدو غريبة عليه.
النصوص تحتاج إلى قارئ منفتح على مختلف الأشكال والأساليب، مرن ومتفاعل، وتقييمه نابع من هذا الانفتاح. بمعنى أن يستجيب إلى داخل النص وليس خارجه، جوهره وليس سطحه. عندئذ سوف تختفي الأحكام المطلقة والتقييمات اللامسؤولة، كما في القول بأن هذه الكتابة منفصلة عن كل شيء.. ماذا يعني هذا القول ؟ إنه لا يعني شيئاً. كيف تكون الكتابة منفصلة.. عن من، وعن ماذا ؟ وهل بإمكان كاتب ما أن يعزل نفسه عن محيطه وعن الآخرين ؟ هذا غير ممكن.
الكاتب، في يومنا هذا، واقع في الشرك أكثر من أي وقت مضى. إنه غائص في الالتباس واللايقين، في العتمة، لا يعرف مخرجاً ولا ملاذاً. الكتابة الجديدة تعبّر بالضبط عن هذه الحالة. إنها تتكلم عن إنسان يتحرك في السديم، مغلفاً بالشك، ويحيط به الغموض من كل جانب. إ نه يبحث عن شيء لن يجده أبداً.. الخلاص.

46

بشكل عام ليس للأدب جماهيرية. ليس هنا فقط بل حتى في أوروبا وأمريكا. حتى الذي يقرأ نزار قباني أو نجيب محفوظ (بعد فوزه بنوبل) هو جمهور خاص ومحدود. مساحة القراءة محدودة وضيقة. ثمة عوامل عديدة (اجتماعية واقتصادية وثقافية) تساهم في تضييق المساحة، ولا دخل فيها للكاتب أو المؤسسات الثقافية، رغم أنه يحلو للكثيرين - من خصوم الكتابة الجديدة تحديداً - اتهامها بأنها سبب القطيعة أو الفجوة بين الكتاب والقارئ.
هذا كلام غير دقيق. إذا تأملنا تاريخ الأدب العالمي كله للاحظنا بأن الدائرة كانت ضيقة دوماً، ربما تتسع قليلاً ونسبياً لتستقبل الكتابة الاستهلاكية التي تلبي شروطاً خاصة عند القارئ، لكنها - مع ذلك - تظل في حدود الواقع وليس الطموح.@