أمين صالح
البحرين

محتوى الكتاب

والمنازل التي أبحرت أيضاً

إهداء

إلى

أنيسة المسـاء،
التي جاءت إليّ كالومض،
وأسدلتْ أهدابي على حلم ٍ
رأيت نفسي فيه أهزّ سنابل الغواية جذراً جذراً..
ولما رفعتُ إليها كتاب المدائح
ظن البعض أنها من عطر الهوى مجبولة.

"عيناك مفتوحتان على الضوء.. لكنك لا ترى"

سوفوكليس ـ أوديب ملكاً

*****

مساء يضرم المكائد

جهْماً ووحيداً كجرح، يعود صياد السمك حاملاً شبكته التي ما منْ مرةٍ التقطت ما ترميه الأرضُ من ذهب وما يرميه القدر من مباهج، حاملاً سلّته التي امتلأ نصفها بأسماك صغيرة أهلكتها الغواية، فيما الأصيل ـ هذا الوقت المتلبّد بالضجر ـ يمتص ما تبقى من حُمم الشمس ويضرّجها بالحمرة إيذاناً بالمغيب.
يعود خائضاً في مياه لا تجفل بل تخرّ وتتفرّق لتلتمّ ثانية. مياه تشهق أحياناً آن يمسّها العضل. وهذا الرجل يعرف كيف يتفادى شراك المياه، لفرط معاشرته لها، غير أنه لا يحسن الكلام معها. لذلك يهادن الصمت جُلّ الوقت ويتخبط في حديث النفس للنفس بعض الوقت.
أما في البعيد، ونحو أفق مترف يستعرض بلا كلل مهارته في التمويه ويتلقف بحماسة ما تتقاذفه الرياح من سرائر ومن دعابات ومن دويّ، فتندفع سفنٌ صديقة تشق اللجّ وتحرث الجهات غير عابئة بالأمواج التي تتراكض من حولها في جلبة. سفنٌ تشفّ عن ربابنة وملاّحين لا يكفّون عن السفر وعندما تشاطىء أحداقهم المرافئ الأليفة يراودهم ثانيةً الشغف بالسفر.. كأنهم أسرى رحلة أبدية لا تنتهي عند شاطئ أو ميناء. أما أولئك المسافرين، الذين تتخبط أبصارهم في غموض السفر ذاته، فحيناً يقيسون المسافة بين حنين هنا وحنين هناك، وحيناً يباغتهم النعاس فيرون أنفسهم داخل مدن تهيئ لهم الأسرّة والكمائن في آن.
صياد السمك ذاته يعبر المسالك الملتوية التي تبدو الآن مهجورة، وكأن أحداً لم يعد يأتمن هذه الطرقات على أسرارها وعلى ودائعها، أو يحتكم إليها في شأنٍ ما أو حتى أن يتّخذها جسراً يفضي إلى مكان آخر أكثر ألفة وضجيجاً. هكذا تزداد الطرقات شحوباً. لكن هذا الهجر، وهذه الوحشة، لم تثر دهشة الرجل الذي اعتاد على تقلبات أمزجة وأهواء الناس والطقس والبحر، والذي يواصل سيره تاركاً وراءه أثراً زائلاً من حضور شاحب سرعان ما يوْدعه الوقت ـ مع الظلال المنسية ـ في مكمن الهباء.
قبل أن ينعطف نحو الساحة العامة، يسمع لغطاً وجلبة تثير فيه الالتباس فيمدّ خطواته ليبدّد الإشكال، وعندما يصل يرى جمعاً غفيراً يحتشد في الساحة مديرين ظهورهم إليه، شاخصين إلى الأمام وهم في حالة انتظار لسماع شيء أو حدوث شيء.
يتساءل: "ما الأمر؟" فتأتيه أصوات متفرقة لكن ناقمة بعض الشيء: "لا نعرف.. لا نعرف"، وهو لا يعرف إن كانت ناقمة على سؤاله أم على جهلها بالأمر. يتساءل ثانية: "ما الذي يحدث هنا؟"
تأتيه إجابات مختلطة ومبهمة هي أشبه بغمغمات أو همهمات تبلبل أكثر مما تفسر، لذلك يقرر أن يستكشف الأمر بنفسه، فيشق طريقه ببطء وحذر بين صفوف متراصة وأخرى متباعدة إلى حدٍ ما، متلفتاً ومتمتماً عندما يستشعر ضيقاً أو استياءً كأنه يعتذر عن الرائحة العالقة به وبأسماكه، وأثناء ذلك يبصر وجوهاً تفشى فيها الفضول وأخرى اعتراها الضجر، يبصر نسوةً يحبكن الثرثرات ورجالاً يندلع بينهم الجدال بغتة، يبصر أطفالاً يلعبون فيما ترتطم أجسامهم الهشة بأجسام صلبة تحتقن سخطاً، يبصر مراهقين ومراهقات يتبادلون نظرات يتداخل فيها الحياء والاشتهاء، يبصر حلقة من الرجال يتوسطها كهل لا يكف عن إضحاك البقية بسيل من النكات والتعليقات الظريفة، يبصر بائعاً يروّج بصوت جهوري لبالوناته وألعابه الصغيرة محاولاً إغواء الصغار، يبصر من يحادث رفيقه همساً، يبصر فتاة تضحك بصوت عال لتلفت النظر فحسب، يبصر فماً يعلك وآخر يمضغ القصب، يبصر الهرج المنفلت من عقاله ولا ضابط يحكمه، يبصر بحراً نبيلاً يلملم زرقته ويمضي ملوّحاً، يبصر منازل تبحر بلا وعدٍ بالرجوع، يبصر مدينةً شائخةً تذرع الزوبعة منتظرة الطعنة الرحيمة، يبصر الصخب الذي هو سيد المكان ويشعر باختناق وشيك لولا أنه يصل بمشقة إلى الصفوف الأمامية مستعيناً برائحته المنفرة، وعندئذ يرى ما جعل الجموع تحتشد لرؤيته:
مشنقة. من العمود الخشبي تتدلى أنشوطة تتأرجح في الهواء مثل مهد تؤرجحه يد خفية، تحتها مباشرة يوجد كرسي صغير بلا أذرع وضع هناك لغاية وحيدة. على بعد خطوتين من الكرسي يقف رجل مقيد اليدين من الخلف لا تبدر منه ارتجافة أو يعتريه اهتزاز. رابط الجأش، هادئ. وجهه لا يفشي عن فزع أو ندم أو إحساس بالذنب. كأنه الآثم بلا إثم. وجهه، بالأحرى، يفصح عن وداعة لا حد لها، وبراءة لا حد لها، لكن لا تبدو عليه السذاجة. وجهه يوحي بأنه في الثلاثين من عمره.
هو واقف هناك، بقامته المديدة وشكله الوسيم، غير آبه لما يحدث من حوله، كما لو أنه قد جئ به ليشهد لا لينال العقاب. إنه ينظر جانباً في شرود تام، سارحاً بلا قلق في شؤون لا أحد غيره يعرفها.
فيم يفكر ويتأمل هذا الوديع الباسط جسده وروحه لهتك لا مثيل لفحشه وضراوته، والذي بعد دقائق ربما سيكون في مهب الفجيعة ويصير نهباً للرعب والألم آن يتفرس فيه موتٌ جاء ليقبض لا ليعفو؟
أي صور مجنّحة تحط الآن بعذوبة على أهدابه لتأسر حواسه وتجعل ذهنه بمثل هذا الصفاء وهذه السكينة؟
لكن، عندما يغادره الشرود، رويداً رويداً، ويعود إليه إدراكه الموجع بما يحيط به وبالأعين التي ترشقه بالفضول أو الكراهية، يعتريه الخجل فيخفض رأسه ناظراً إلى الأرض، عاجزاً عن الدفاع.
جانباً، الجلاد جالس على كرسي ذي مسند للظهر، وهو يتناول شطيرةً في هدوءٍ وأناة، غير مبالٍ بالنظرات والتساؤلات الخرساء والريح الخفيفة التي تمرّ أمامه على عجل والنهار الذي يتخفف من أعبائه ويمضي متثائباً ليعتكف مع ذاكرته.
بعد أن يلتهم شطيرته، يخرج الجلاد لفافة من جيبه، يشعلها بعود ثقاب، ويشرع في التدخين على مهل. ملامحه تخلو من القسوة، والشيب الذي يخالط السواد في شعره يضفي عليه شيئاً من الوقار ويوحي ببلوغه الخمسين. عندما ينفث الدخان يبدو كمن ينفث عمراً بدّده في مهنة لا تروق له أو ـ على الأقل ـ لا يؤديها بحماسة أو شغف. تارةً يرمق المحكوم في حياد، وتارةً يطرق رأسه ويستغرق في مناجاة النفس.
هكذا.. انتظار مديد،
محكوم بالإعدام يسرف في التأمل وهو ماثل أمام مرآة روحه كمن يبحث عن حكمة يلخّص بها، أو يختتم بها، تجربةً لم يطل أمدها. أو ربما ينظر إلى العدم، حيث على حافة الهاوية يترنح حاضرٌ محمومٌ لا يقدر أن يكون شفيع أحد.
من حوله تتهاوى كالقش أيامه التي سوف لن يعيشها. وحين يشهق، لا أحد يسمع شهقته.
كرسي واطئ ينتظر أن يرتقيه ذاك الموعود بالتلاشي بعد أن جازف بحياته وقامر غيْباً لا يؤتمن ولا يخسر أبداً. كرسي ينتظر أن تتعثر به قدم منذورة للرماد ويشغف بها الطين، لكن حتى الآن لا تتعثر به غير ظلال تائهة لا تعرف إلى من تنتسب.
أنشوطة تتدلى مدهونةً بلعاب الفتك، تتراءى في فراغ المحنة مثل كوّة يطل منها أجلٌ لم يحن بعد أوانه، أو مثل فضيحة فاغرة لا يسترها حجاب. ألا تود هذه الأنشوطة أن تكون لعبةً يلهو بها طفلٌ، أو قناعاً يتخفّى وراءه وجهٌ لا يضمر شراً؟ مع ذلك، ما من راغب في الدنو وردع هذه المشيئة الفاحشة.
جلاد لا يحسن ترجمة المشهد، ويحسب أن إيماءاته الملولة قادرة أن تبدّد ما هو ملتبس. لا يرى في مهنته أية نبالة، لذا يعبّ من الفكاهة المُرّة ما شاءت له نفسه المُرّة دون أن يستقر عند يقين أو تأويل. يهيب بالمصابيح أن تتوافد لتؤانس روحه المنطفئة ولئلا تخونه عيناه فتذرفان عنوةً دمعتين مأخوذتين بالوشاية.
جمهور يستعين بالضجيج كي لا ينصت إلى ما يهمس به ضميره، كي لا يفصح عن مشاعر لا تنسجم مع طبيعة التجمهر. مولعٌ بالفرجة هذا الجمهور الذي يتوسّل حظوة المصادفات ويتملق الوقت ليهبه فيضاً من الإثارة قبل أن يداهمه النــــــوم. ما الذي يفتن في دمٍ يتكئ الآن متخثراً على أطراف المشهد؟ أم أن للموت رائحة تخلب الحواس قبل أن يميط اللثام عن حضوره الفاجع؟
في خضّم كل هذا يتذكر صياد السمك فجأة أن امرأته حبلى وأنها على شك الولادة في أية لحظة، فيتحرك عائداً، شاقاً الجموع من جديد، ويتجه نحو بيته بينما المساء يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

الغزال الذي مضى مطأطئاً

ليس ثمة فاصل بين هذا الصبي المغروس كالفزاعة في رصيف منهك تتطاحن عليه الخطى، ومطعم لم تنجح عمليات الترميم المتكررة في استعادة فخامته الأولى، غير حاجز زجاجي صقيل لا يحجب شيئاً لكنه أيضاً لا يفشي شيئاً..
واقف هناك منذ دقائق طويلة، منذ ساعات، منذ أزمنة غابرة.. بلا حراك، بلا ألق، ولا شفاعة. يتفرّس، دونما ضغينة، في كل ما يتحرك أو يسكن ضمن مجال بصره، معتقلاً عناصر المشهد من كائنات وأشياء، لكن بقبضة طرية، إذ سرعان ما تتسرب من المجال البصري لتحل محلها أطياف تنتسب إلى ذاكرة أرهقها التذكّر وتقطن حيّزاً يضيئه فانوس شحيح الزيت فلا يعود الحاضر حاضراً بل خليطاً من املاءات روح تتبعثر على مشارف الهذيان نفَساً نفَساً. لكن من يقدر أن يرَ أو يستبصر ما يراه صبي ينتضي جوعه ويتضور يأساً، ولا يتغذّى الآن إلا من رضاب حامض؟
كلما رنا إلى أفق يشبه الحضن تغضّن الحاضر وغضّت اللحظة حياءً،
كلما تبادر إليه أمل شعر بغيمة تدخل عينه وتذرف دمعةً،
وها واقف بلا حراك، يتكئ على ظل مثقل بأربعة عشر عاماً تناهبته الفصول شلواً شلواً.
يرخي زمام يومه على رصيف استنفد كل هيبته تحت وطأة التقادم وتحت وطأة جلبة تتناثر هنا وهناك ولا تستكين برهة حتى تعود على نحو عارم. انتعلته الخطى الأليفة والغريبة معاً حتى اهترأت أطرافه الحجرية وما عادت الرياح تؤرخ لأحداثه المألوفة. رصيف يتواطأ مع المصادفات العابرة ـ لقاءات غير متوقعة، حوادث عرضية زائلة، تعثرات بسبب الغفلة ـ لعل هذا التواطؤ يزيح ما يشوب ساعاته من ملل. رصيف كتوم لا يبوح بحكاياته ونوادره، غير أنه مسكون بذلك الشغف: أن يرى أنامل المطر، الرخوة والوديعة، تمحو الخطى وتمسح الأختام، ليستعيد شيئاً من رونقه، شيئاً من براءته الأولى.
لا يجنح إلى الحياد هذا الحاجز الزجاجي الذي ينتصب حائلاً دون مرور الصبي إلى الحيّز الآخر، وإن كان يسمح له أن يخترق ببصره ذلك السطح الصقيل فيما يمكث ساكناً، مشلول البدن، يحدّق كمن سُلبت إرادته.
ليس كالمرآة هذا الزجاج، سليل الرمل، التوأم الشفّاف، فالمرآة تحبل بالوجوه، بالصور، التي تكتسب حياة مستقلة خاصة بها وفي برهةٍ تلبّي الرغائب وتستحضر ما تشتهيه النفس كما في النوم، في الحلم. المرآة جسر بين الهنا والهناك، بين اللحظة والأبدية، بين المستحيل والممكن. أما الجسم الزجاجي هذا فمحض سور يشفّ عن حضور سديمي لأفراد يسامرون المكان لقاء وجبة.
مطعم تتجسّم فيه بلاغة الجوع والشبع. في أرجائه يتوزّع أشخاص جاءوا جمعاً أو فرادى، وللطاولات الخالية حضور ورائحة. حركة لا تهدأ لأفواهٍ تمضغ أو تثرثر، أيدٍ تومئ أو تتناول، بقايا أطعمة تتناثر على أقمشة الطاولات وفضلات مهملة.. أما النُدُل فقد علمتهم قواعد المهنة وغريزة البقاء أن يواروا ضيقهم وازدراءهم واشمئزازهم خلف قناع من البشاشة والاحترام والطاعة المطلقة.
في خضمّ كل هذا لا أحد يتمعّن في حال ذلك الصبي الواقف بلا حراك وراء الحاجز الزجاجي، والذي تتخبط نظراته بين وعورة حاضرٍ والتباس ماضٍ، لا أحد يعيره التفاتة أو اهتماما.. ولو من باب الفضول أو التعاطف. كأنه غير موجود، كائن أثيري، أو محض شبح لا يُرى.
هذه اللامبالاة، لا الجوع، هي التي نهشت قلبه وأجّجت فيه مشاعر القهر والغضب. وقتذاك، وبحركة غير متوقعة، غير مخطّط لها، لكنها وليدة يأس باطش، يندفع الصبي نحو الحاجز الزجاجي وينطح السطح الصقيل برأسه فتتناثر الشظايا، يتناثر الدم ليلطخ قميص النادل الذي يجفل في ذعر،
يلطخ وجه رب الأسرة الذي تصعقه المفاجأة،
يلطخ الشرشف الأبيض الذي يشهق،
يلطخ إسفلت شارع تهدر فيه الفوضى،
يلطخ قباب مدينة سادرة في غيّها،
يلطخ عنق غزال يشيح برأسه في أسى ويمضي نحو غابة لم يطرقها أحد،
يلطخ بهو مساء خرج ليضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

العجوز التي حاكت حلماً خجولاً

هذا هو البيت إذن: بسيط، متواضع، يميل إلى التقشف لا البذخ. مكوّن من طابقين، من طابقه الثاني تبرز شرفة تحط على أطرافها بلابل لا تكف عن الزقزقة والتقافز قرب أصص تزهو بأزهارها النديّة، أما النوافذ فمفتوحة على فضاء يحصي ـ وقتذاك ـ عدد السحب التي تمرّ في حقله الفسيح.
لا يوحي بالفقر ولا بالثراء هذا البيت، إنما ينمّ عن جمال هادئ وذوق مرهف في التكوين المعماري، وفي انتقاء الألوان واستغلال المساحات. ثمة من هندس الفراغات بيقين الذاهب إلى الراحة لا بروح الراغب في الإبهار .
الباب ، المصبوغ بنثار طلّ عابث ، كان مفتوحاً قليلاً مثل نهار في أوّله .. ربما لهجسه بالزيارة المرتقبة . دفعته مثلما فعلتْ قبلي مئات الأيدي ـ بحنــــــان وليس بحقد ـ لكن كان له صرير يشبه الأنين. أدخل ومن حولي يحتشد السديم ويتكثف. ثمة بيوت تشعرك بالألفة، بالحميمية، حتى قبل أن تطأ عتباتها وتستكشف جغرافيتها وتلج حجراتها.
أريج منعش وآسر ينبعث من الزوايا والممرات: أطياب وبخور، ماء ورد. كذلك أشم نكهة خبز طريّ ورائحة فاكهة.
ويهديني الدفء إلى غرفةِ من جئتُ لأجلها. غرفةٌ بسيطة لكن مدلّلة، إذ نالت من العناية والنظافة حصة كبيرة. وها هي العجوز، المريضة بداء لا شفاء منه، راقدة على سريرها المضاء بسبعين عاماً أو أكثر قليلاً، سبعين صيفاً أو أكثر قليلاً اجتازتها سيراً على الأقدام، حافيةً وضاحكةً في سهل شاسع رأت فيه المسرّة والأسى، العناق والفقد، الهدوء والصخب.. رأت كل الأضداد والنقائض تسير جنباً إلى جنب نحو النبع الأعظم.
وها هي الآن نائمة في سكينة، مبلّلة بالألق، لا تناوشها محنة ولا يطالها ألم. وحيدة مع وسن وديع ينزّهها ـ متشابكي الأيدي ـ في مملكته الرحبة حيث الغرابة مألوفة ولا حضور لما هو مخيف.. وربما تعكف هناك على حياكة حلم خجول لا أحد غيرها يعرف صوره ورموزه.
أدنو منها، أطلّ على وجهها الذي لم تستطع التجاعيد أن تطمس ملاحته ورقة بشرته ولونه الأبيض المائل إلى التورد. لا بد أنها كانت في ما مضى جميلةً ومحط اهتمام وولع، لكنها اختارت الأنسب والأكثر قرباً إلى قلبها، ومعه كوّنت العائلة. وهي الآن نائمة، بلا ندم، على فراش عطر تقاسم معها البرودة والدفء، الضحك والدمع، السقم والعافية.
وكأنها شعرت بوجودي، إذ تفلت يدها من يد الوسن وتفتح عينيها وتمعن النظر إليّ في هدوء شديد. لم تشهق فزعاً، لم ترتجف خوفاً، لم ترتعش أهدابها توجساً. بل يبدو أنها لم تتفاجأ على الإطلاق، إذ يفتر ثغرها عن ابتسامة عذبة وتهمس:

ـ جئتَ أخيراً؟

أهمس بدوري:

ـ في موعدي.. يا مريم.
ـ كنت أنتظرك..

قالتها وإحساس غريب بالطمأنينة يراودها. ومثل طفلة تتودّد في دلال، تبادر إلى القول في جذل:
ـ أمهلني قليلاً لأسرد لك حلمي.. هل تحب أن تصغي إلى حلم امرأة عجوز؟
أومئ برأسي موافقاً وأنا مأخوذ بالومض الذي انبجس من جبينها وانداح ليضرّجها ببراءةٍ لا توصف وعذوبةٍ لا حدّ لها.
تنظر إليّ بامتنان وتطلق ضحكة خفيفة، حلوة وخجولة، ثم تضيف:
ـ لا أبدو هرمة في أحلامي. نعم.. أرى نفسي شابةً وجميلةً، كما كنت قبل سنوات طويلة. ودوماً أرقص في أحلامي، هل تعرف ذلك؟.. حسناً، لن أطيل عليك. كنتُ أتنزّه مع غزال صادفته في الساحة العامة وقد تلطّخ عنقه بطلاء أحمر يشبه دم طفل. كنا نتمشى وسط أشجار رمّان لا تحصى، حاملةً معي مظلة، ذلك لأنه كان يوماً غائماً. غيوم كثيرة تلهو عابثة مع بعضها وتتقاذف بالأنداء التي تتساقط وتتناثر علينا. لكنها لم تمطر. طفقت أتأمل الغيوم في انبهار وما انتبهت إلى الأرض التي رحت أرتفع عنها رويداً رويداً، بخفّة ورشاقة لم أختبرهما من قبل. كنت أحلّق على مهل حتى صرت قريبة من الغيوم، عندئذ فقط اكتشفت إنني ارتقيت أدراج الهواء دون أن أشعر. واعترتني غبطة لا نظير لها. ها إني ألهو وأرقص مع غيوم متخمة بالماء.. هل أثقلت عليك؟
أهزّ رأسي نفياً وقبل أن...
فجأة يدخل زوجها المسن، ومن خلفه يدخل أبناؤها وبناتها وأحفادها.. يجتمعون حول السرير محيطين بها في مودّة بالغة وانجذاب عميق، ويشرعون في الحديث عن الريح التي تنحني على الطرقات لتلتقط ما ينثره الخريف من أوراق شجر ودعابات، عن الشحارير الممسوسة بالحركة التي لا تتذكر أين بَنت أعشاشها فتحوم هائجة وتبني أعشاشها في مواقع سوف تنساها بعد برهة، عن المطر الذي أرجأ قدومه حتى ينال الظمأ من الأرض ويتهددها الجفاف، عن الجيران الذين يحاكون جيرانهم في كل شيء.. حتى في تأثيث منازلهم.
حديث ضاحك، مرح، مفعم بالأمل والتفاؤل، ذلك لأن أحداً لا يتحدث عن الموت، عني، أنا الواقف على مقربة أشهد ما يشهده المكروب وقت تحوم المحنة ولا يقدر أن يردّها.
أخيراً، تقطع العجوز الأحاديث الجذلى بقول لا رعشة فيه لكن يبث فيهم الحيرة والبلبلة:

ـ يجب أن أذهب الآن، إنه ينتظرني.
ـ من؟
ـ الموت.. هو هناك، ينتظرني.

يلتفتون، عشاق الحياة، إلى حيث أشارت. أنا الخفيّا يستطيعون رؤيتي.. أنا الخفيّ، المحجوب إلا عن الموعود بالرحيل، مع ذلك أشعر بارتباك، بحرج، وأقول لنفسي: يحق لهم أن يمقتوا حضوري لأنني أبعثر هذا الشمل الحميم وأفسد عليهم البهجة الراهنة.
يتحرك زوجها خطوةً وهو ينظر صوبي كأنه يراني، ويقول بصوت خفيض أقرب إلى الهمس: ترفّق بها أيها الموت.
وسط ذهول المحيطين بها ووجعهم البليغ، تغادر العجوز سريرها بخفّة فراشة، وبثبات ورباطة جأش تقترب مني، ناظرةً إليّ في ودّ ودونما ضغينة، ثم توشوش: هل نمضي؟
أدع يدها الطريّة تحطّ على راحتي الممدودة محاذراً أن تبدر مني أية إيماءة تنمّ عن عنف أو قسر، محاولاً الإيحاء لها بأني محض رفيق لها في الرحلة الأخيرة المحتومة. وأقودها أنا الدليل الرافل بالسديم، المثقل ببلايا الخليقة، المرجوم بوابل من الظنون. أقودها بعيداً عن موضع الفجيعة والالتباس لنمرّ معاً على مسالك طرَقْتها مراراً ودروبٍ لا وحشة فيها ولا تعب. مع ذلك تتريّث العجوز بين وقت وآخر لتلتفت إلى الوراء وتبحث بعينين يترقرق فيهما الحنين إلى ظلها الذي تركته هناك، يطل وحيداً من شرفة مسّها الفقْد بشفرته الحادة فأطلقت العويل الأبكم، أو يمكث تحت غيمة حبلى تخلّفت عن موكب رفيقاتها ويُراهِن جمعاً من ظلال المتنزهين تحت أشجار الرمّان أن أوان المخاض سيحين بعد دقائق قليلة، أو يقتفي هسيس مساء كان وقتذاك يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

مدى فسيح تتراكض فيه الرياح

لا يعرف كيف وصل إلى هنا، إلى هذه الغرفة العارية، الخالية تماماً من أي أثاث. ورغم أنها لا تبدو حديثة البناء، إلا أنها لا تزال محافظة على متانة طوبها وتماسك طلائها وخلوّها من خيوط تنسجها العناكب عادةً عندما يعتري المكان هجرٌ أو إهمالٌ أو نسيان. لكن لا شيء ـ ما من رائحة، خربشة، خدش، أثر طفيف ـ يوحي بأن ثمة من سكن هنا أو مرّ من هنا، لا شيء يوحي بأنها استضافت أحداً أو شهدت أياماً من حياة كائنٍ ما..
لا شيء غير مرآة طولها ستة أقدام تقريباً، محفورة في الحائط بحيث يستحيل تحريكها أو انتزاعها..
لا شيء غير نافذة مفتوحة، مثل أرق أزلي، على مدى فسيح تتوسده غيوم حبلى لم يحن بعد أوان مخاضها، وتتراكض فيه الرياح الملجومة، المشدودة أعنّتها إلى مرابط الفصول، والتي لحوافرها وقع رعد رضيع..
لا شيء غير بضع أزهار من الشوكران انبثقت من شقّ في جدار صلد قرب الزاوية البعيدة.. كما لو بفعل إعجازي ولا دخل لإنسان أو طبيعة فيه.
بعد أن جال الرجل بنظراته في المكان، انطفأ فضوله سريعاً ولم يرغب في البقاء مدة أطول. اتجه نحو الباب، فتحه وخرج مغلقاً الباب خلفه. لم تمر خمس دقائق إلا وانفتح الباب ثانيةً ليدخل الرجل ذاته ويتفحص المكان من جديد كما فعل في المرة الأولى لكن بدهشة عارمة، إذ يبدو أن أحداً أو شيئاً غامضاً يجبره، إما عنوةً أو بطريقة احتيالية، على المجيء إلى هنا.
يكرّر المحاولة، وفي كل مرّة يعود إلى هذا المكان داخلاً من الباب ذاته ـ الذي خرج منه قبل دقائق ـ وفي كل مرّة يزداد حنقه وسخطه، ويحتقن وجهه حتى يوشك على الصراخ غضباً وقنوطاً لكنه يتمالك نفسه ويخرج لتتكرر العملية، حتى ينهكه التوتر واليأس، وعندئذ يكفّ عن الخروج معلناً استسلامه.
بجسدٍ واهن وعينين مرهقتين، يطوف في أرجاء الغرفة كمن يريد أن يتيقّن من عدم حدوث أي تغيير، حتى لو كان طفيفاً، وأن عناصر جديدة لم تطرأ على المكان. معاينته الدقيقة للمكان لم تسفر عن نتيجة تحرّك فضوله وريبته. ولوهلةٍ خطر له أن الغرفة ليست نفسها بل أن هناك عدداً من الغرف التي تتشابه إلى حد التطابق، مثل غرف الفنادق، غير أنه سرعان ما تخلى عن هذه الفكرة ليس بسبب عدم معقوليتها أو أنها بعيدة الاحتمال بل لأنها تضاعف من تشوّشه وتضفي نوعاً من العبثية على الحالة. وإزاء السؤال الأكبر والأبرز (لماذا هو هنا، وما الذي جاء به إلى هنا؟) يقف عاجزاً وخائراً تماماً.
يقترب من المرآة، بلا هجس ولا توجس، وفي لحظة مثوله أمامها تنطبع صورته، شكله التوأم، على الزجاج الذي يعكس كل نظرة، كل إيماءة، بدقة متناهية.. وهذا ما تفعله المرايا عادةً.
يطيل النظر إلى التوأم البالغ من العمر ستة وثلاثين عاماً، إلى الوجه الشاحب قليلاً، إلى القامة النحيلة المثقلة بالحيرة. لكن بشيء من التعجب يلاحظ أن السطح الزجاجي صقيل وبرّاق، لا يلطخه غبار أو وسخ أو أي أثر يتركه الزمن على الشيء عندما يصير مهمَلاً، إذ يبدو أن أحداً يثابر، بحرص شديد، على تنظيف ومسح وصقل هذا السطح الزجاجي كل دقيقة.
قبل أن يتحرك الرجل، يسترعي انتباهه شيء آخر، أكثر غرابةً وخرقاً للعادي، ففي عمق المرآة، في الخلفية البعيدة، تتراءى له فجأة صورة، أو انعكاس لصورة، شجرة زقّوم ـ تبدو صغيرة جداً لفرط بُعدها ـ وهي تحترق. كردّ فعل طبيعي يسارع إلى الالتفات وراءه ليتيقّن من الأصل إلا أنه لا يرَ غير الفراغ فيزداد تشوّشاً.
المرآة إذن لا تعكس الشجرة بل أنها موجودة هناك، بالداخل، في الغور السحيق، حيث تحترق على مهل. وهو يلبث طويلاً هناك، أمام المرآة، منتظراً أن تنطفئ النار، أن يخمد الحريق، أن تموت الشجرة، لكن شيئاً من هذا لا يحدث، فالشجرة تستمر في الاحتراق كما لو إلى الأبد، كأنها خالدة والحريق خالد.
في استسلام مذلّ يجرّ نفسه في اتجاه النافذة ويطلّ منها على فضاء يفرش ملاعبه كالسجاد لضيوف القيلولة الذين بعد قليل سوف يتوافدون فرادى حاملين سلالاً ملأى بالصور والرؤى،
يطلّ على شموس صغيرة وباردة تتقاذفها أيادي نسوةٍ محتشمات يتعلق بأذيال ثيابهن أطفال يمضغون الأرغفة الطريّة ويتضاحكون في جذل،
يطلّ على مدرّجات المدى التي تشهد نزالاً غير متكافئ بين رياح عاتية تحتدم في اهتياج شديد وسفينة خانتها المنارات فضلّت طريقها،
يطلّ على كل هذا ثم يقول همْساً: ها إني أحلم واقفاً ومفتوح العينين.
لكنه يعي في قرارة نفسه بأن ما يراه ليس حلماً. وها هو الآن يلمح المرأة العجوز ـ التي سوف تموت في يوم غائم ـ وهي تحلّق على مهلٍ، بلا جناحين، وتراقص غيوماً متخمة بالمياه. يرى أشياء ترتفع في الهواء وتطفو في انسياب: ملاعق، أطباق، طاولات، شراشف، شظايا زجاج.. ويقرّر عندئذ أن يخرج من النافذة لعله يجد سبيلاً آخر ينفذ منه إلى مكان يقدر أن يتجانس معه ولا يشعر فيه باغتراب أو بلبلة.
يرتقي النافذة ومنها يخرج برشاقة ودونما مشقة. تمرّ خمس دقائق هادئة وصامتة، لا شيء خلالها يتحرك أو يُصدر نأمة، بعدها ينفتح الباب ليدخل الرجل ذاته، مع الحيرة ذاتها، مرسلاً نظراته الزائغة في أنحاء المكان ليتيقّن من جديد بأنه في الحيّز ذاته مع نافذة لا تفضي إلى موقع آخر، ومرآة تحترق في جوفها شجرة زقّوم، ونبتة شوكران تزهر ببطء عبر سيقان مبقعة تنبثق رويداً من شقّ ضيق في جدار غير قابل للتصدع.
بيأس شديد يجرجر قدميه على أرضية يحسّ بأنها غير محايدة بل تضمر له الشر والعداوة، رازحاً تحت ثقل معرفة أكيدة: أن لا مهرب من هنا، لا شيء ولا أحد سوف يهديه إلى ملاذ آخر.
يتوقف أمام المرآة راغباً في رؤية الحالة المزرية التي وصل إليها، في اكتشاف كنْهَ هذا الكائن الذي كانَه وما عاد يشعر بالانتماء إليه، الشخص الذي تقمّصه وانتحل كينونته بعد أن انسلخ عنه. لكن بهت عندما لاحظ بأن المرآة لم تعد تعكس ذاته أو صورته أو طيفه.. كأنه صار خفياً، غير منظور، أو محض روح بلا جسد، محض شبح.
أراد أن يتأكد من وجود السطح الزجاجي، أن يوقظ نفسه من حلم مخيف يباغته في كل خطوةٍ بصورةٍ تجفله وترتاب في سلامة عقله، فيمدّ يده لتلامس الزجاج غير أنها تنفذ إلى الداخل دون أن تمسّ أو ترتطم بأي شيء، إذ لا يوجد هناك أي سطح أو حاجز، مجرّد فراغ أو مدخل، وفي الخلفية البعيدة لا تزال تلك الشجرة تحترق، حتى أنه يحس بحرارة اللهب من هنا.
الآن، هو والهاوية وجهاً لوجه، وكل منهما يحدّق في الآخر.. بلا ضغينة.
يتردد قليلاً ثم يستجمع شجاعته ويدخل في المرآة عابراً الرواق الذي لا يعرف إلى أين يفضي به، حتى يغيب عن البصر. عندئذ تختفي الشجرة المحترقة، وتهبّ من النافذة ريح خفيفة لحوافرها وقع من يعْدو خبباً.
بعد ساعة، ينفتح الباب وتدخل امرأة بلغت الأربعين تقريباً. تتلفّت في حيرة وارتياب، وتترك لنظراتها حرية التنقل من مرآة محفورة في الجدار إلى شوكران يجاهد للانبثاق من الشقّ إلى نافذة مفتوحة على أفق تنادمه اللقالق الثرثارة.

تقترب المرأة من النافذة وتطل على:

بحرٍ يتظاهر بالبراءة ليغوي صياداً يعرف كيف يتفادى شراك المياه،
ومدينةٍ تختلج كلما لاحت في البعد فضيحةٌ لكن أهلها لا يختلجون،
ومساءٍ يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

عند قناديل تبارك اليقظة

إلى هنا، إلى هذا الميدان العام الذي يعجّ بأنفاس تهبّ لتتلاطم وتهوي على القرميد، وبمصادفات تعرف كيف تموّه غموضها، وفيه لا تهدأ حركة أو مشادة، أما ضوضاء البشر والمركبات فتتداخل مع هديل حمام وزقزقة عصافير تتأرجح على الأسلاك ومعها تتأرجح الشرفات والمحلات والمتسكعين من كل صنف..
إلى هنا جاء الشاب حاملاً حقيبته الجلدية وبقايا حلم رأى نفسه فيه يدخل غرفة لا يستطيع الخروج منها والفكاك من أسرها.. جاء في وقته المعتاد مع مجيء الضحى الناثر حيويته وبرودته الخفيفة في أنحاء الميدان، والعارف بأن زيارته ستكون قصيرة.
يدنو الشاب من المقهى الذي يحتل حيزاً من الرصيف ويزدحم بداخله ندماء الذاكرة ـ كما يسميهم ـ الذين يأتون فرادى ليسترجعوا أحداثاً وقعت بالأمس أو قبل سويعات ويشبعوها تمحيصاً وتأويلاً كي يتخذوا قراراً بشأنها، وأولئك الهاربين من أعمالهم ليهدروا الوقت بالاسترخاء الكسول أو بقراءة غير متأنية لجريدة سوف يتلقفها آخر لإرضاء فضولٍ ما، وأولئك الذين يتجرّعون الثرثرة بعد كل جرعة ماء أو رشفة شاي.
ومثلما يفعل كل ضحى، يختار طاولته الصغيرة الأثيرة، الجاثمة على الرصيف قرب المدخل. يضع حقيبته جانباً، وفي لحظة جلوسه يخرج اثنان من رواد المقهى ويتوقفان شاخصين إلى السماء.
يتأتئ أحدهما: تقول الأرصاد أنها ستمطر اليوم..
يجيب الآخر بيقينٍ مستبد: لا، لن تمطر.
يرتاب الأول: ثمة غيوم..
يقاطعه الآخر في حسمٍ مستبدٍ: عقيمة، لا ماء فيها.

أوشك الأول أن يزعم بأنه يلمح امرأة هرمة هناك تراقص الغيوم ضاحكةً، إلا أنه خشى من تهكم الآخر فآثر أن يستر رؤياه، ومعاً يغادران: أحدهما يستبد، والآخر يذعن.
من هنا، من موقعه المثالي المفتوح على الميدان، بوسع الشاب ـ فيما يرتشف قهوته التركية ـ أن يرصد ما يرصده القدر الحامل كتاب المصائر والساهر عند مكمن السرائر متتبعاً ما يمليه الطالع نفساً نفساً:
هواء يهرول بعيداً عن المهب ليرتطم بأجساد نشطة وأخرى خامدة /
مارة يطأون بالخطى الوئيدة نهاراً يبسط عريه بلا عداوة، وبالخطى النزقة يوسمون الأديم بوسم التعصب /
عمال يحفرون جانباً من الطريق لشق مجرى قيل لهم بأنه ضروري، ولا يمنع الإنهاك والغيظ من أن يسرّب أحدهم دعابة تثير الضحك /
سيارات تتنافس في إلحاق الأذى بالجو وبالحواس عبر ما تبثّه من غازات وما تحدثه من ضوضاء /
دكاكين تستعرض في إغواء مجاني، لكن كثير الابتذال، نماذج مما في جوفها من سلع بعضها يستوقف العابر وبعضها لا ينال غير الإهمال /
قطة تتمطى في كسل وأخرى تموء بلغة لا يترجمها أحد...

لكن وراء هذا المشهد الضاج، العامر بالفوضى والاختلاط، حيث لا يبدو الكائن على حقيقته، والشيء قابل لأن ينتحل هيئة أخرى، وراء كل هذا، وكما لو عبر غلالة تشفّ عن الكامن، يرى الشاب حياةً تدبّ بتوءدة وانضباط دقيق، بوتيرة من يذرع باحة داره شارد الذهن، وكأن ذاك المشهد ضرب من التمويه الذي يواري فتور المطامح وتقشف الغواية.
رتابة العادة، تكرار السلوك، ثبات الطباع، أشياء تحرّض الشاب على المكوث عند طاولته الأثيرة وتحريك المجال بصور مشعة تسرّحها المخيلة لتلهب الأفق وتحيط من يقع عليه الاختيار بهالة من الحظوة والتفرد.

(1)

وها هو، من بين الكائنات التي يغصّ بها الميدان، ينتخب:

الأكثر تقشفاً واحتشاماً، الخادمة العاكفة على تنظيف وتلميع نوافذ الشقة الكائنة في المبنى المقابل، تلك التي تكفّ الآن، على نحو مفاجئ، وكما لو بأمر صادر من جهة خفية، عن مسح الزجاج، وتغادر الغرفة على عجل. تهبط السلالم على عجل، تهبط أدراج زمن كان يتقهقر قَرْناً قَرْناً ويطوي فراسخ الغياب جذراً جذراً، معيداً إلى الأمس فتوّته ونضارته. وعندما تصل الدرج الأخير تبدو في كامل أناقتها وزينتها ورونقها:
أميرة بهيّة، بشوشة المحيا، ترفل بثوب أبيض طويل، وعلى مهل تخرج من بوابة القصر الداخلية وتمشي في الممر الذي يفضي إلى الحديقة حيث تتنزّه، وتحت أيْكةٍ ملآى بالثمار والأغاريد، تجلس وترنو إلى البعيد. كثيرون من أمراء الولايات جاءوا يتوددون إليها ويبثونها اللواعج ويطلبون يدها من أبيها الحاكم، لكنها تنتظر ذاك الذي تهواه، الشاب الذي ما رأته إلا في الحلم، وفي الحلم تزوجته. عارفةً أن قدرها يكمن في موضع آخر.. وربما في زمن آخر.

(2)

ها هو، من بين الكائنات التي يغصّ بها الميدان، ينتخب:
الحلاّق الذي يخرج من دكانه، ملبياً النداء الغامض بالخروج، متخلياً عن مهنته، عن مقصاته وأمشاطه وعطوره، ويمضي ـ بلا تباطوء ودونما التفاتة ـ نحو الحقل الذي حلم بامتلاكه منذ صباه، حقل الحنطة المبلل بحليب الخصوبة، الحقل الأشبه ببحيرة من ذهب آن تميس وتتموّج في انتشاء فاحش ـ مع حركة الرياح الثملة ـ تلك السنابلُ المضاءة بنثار بروق عابرة، فيما يبدو المنظر من أعلى كأن يداً أزلية تحرّك مهداً أزلياً.
هناك حيث بالمحراث يشقّ شغاف السماد ويشحذ همّة البذور، وبالمقص يجزّ زوائد العشب ويشذّب ما تهدّل وما شحب، وبمفاتيح رخوة ـ تؤرجحها مشيئة اليقين والخفيّ من شهوة الحواس ـ يدلّ الفراشات الهاذية إلى أسرّتها الهاذية، ويرتّق أسمال الفزاعات بفرو السهر. وهو الأعزل يقود الثعالب الملجومة إلى جحورها بعيداً عن الحظائر.
يكفيه رغيفان كل عشاء، واحد له والآخر لطيور تنتسب إلى فصائل لا يعرفها تأتي وتلتقط شيئاً من الفتات وشيئاً من ثمار حلم عذب رأى نفسه فيه بستانياً يسيّج حديقته بقناديل تبارك اليقظة ولا تسهو عن نبض أو خفق.
ها يمضي في طريق مهّدته الهجرات ومن جانبيه تهبّ ظلال من سافروا بلا متاع، ومن ضلوا وليس في جيوبهم كسرة خبز. والطريق طويل أمام هذا الذاهب بلا معطف ولا رفيق، وكلما بلغ تقاطعاً نزحت عنه الخرائط، أزاح عن كاهله ثقل رؤياه ليستريح قليلاً.

(3)

ها هو، من بين الكائنات التي يغصّ بها الميدان، ينتخب:
بوّاب المبنى المقابل، العاكف على حراسة مدخله ومصعده وسلالمه، الأمين على سلامة مبناه وراحة قاطنيه، والذي بعد قليل سوف يغادر صدَفته التي احتمى بها زمناً حتى تهرّأت ورقّ غلافها دون أن يدري، وسوف يهجر الندماء الممسوسين بالكلام الذين يأتون إليه من المباني المجاورة أو المحلات القريبة ليتباروا في الثرثرة، وسوف يتخلى عن أعوامه الخمسين التي بدّدها بلا طائل وبعثرها عاماً عاماً في ردهات العمر فيما كان يجلس مقرفصاً يرنو إليها في حسرة وندم، سوف يترك كل هذا استجابةً لما همس به وحيٌ أو طيفٌ آمراً منذ برهة: اذهب إلى المغامرة.
لن يتردّد هذه المرّة، لن يتمهّل ريثما يرميه الوقت بوابل من الشكوك ويزجّ به في البلبلة والقنوط، لن يدع الذعر يرجّ شرايينه كلما عنّ له أن يخرج من قوقعته ليتذوّق طعم المجازفة.
ها يتجرّد من حذره المفرط ومن وساوسه، ويتدرّع بسديم السفر. وجسوراً يتبع الدليل الجسور، الطاعن في الخفاء، القابض على أعنّة الجهات مهتدياً بالصهيل الأبكم، والذي سيأخذه إلى المغامرة الكبرى: أن يطأ أرضاً ما وطأها أحد.
يرحل بلا وداع، زاده الشكيمة وبأس لم يعهده من قبل، عارفاً أن رهاناً بين معارفه سوف يندلع في اليوم التالي حول مدة غيابه وأن أغلبهم سيراهنون على عودته سريعاً، ويخمّن أن أحداً لن يفتقده في اليوم الثالث.
وراء الدليل الصامت، الواثق من خطاه وبوصلته، يمضي صامتاً، مكتظاً بالخواطر والهواجس تمتحنه المسافات كلما أمعن في النزوح وازدادت الطرق وعورةً، وعند كل جسر يرمي نواة الهجر أمارةً لانشقاقه وتحسباً لأي تيه محتمل.
إلى التخوم البعيدة، التي نسيتها الخرائط، يمضي وفي عينيه تتلألأ تضاريس مكان غريب لم ينبشه قط جغرافيون مأخوذون بالفتح، ولم يعبث به مؤرخون لهم مآرب خفية. كلما التفت الدليل ليرى إن كان البوّاب يسير خلفه، استجمع هذا شجاعته ومدّ خطواته أكثر.

(4)

وها هو، من بين الكائنات التي يغصّ بها الميدان، ينتخب:
الشحاذة الصغيرة ذات الضفيرتين المحرومتين من ماء الأمومة، الحاملة عذوبة أعوامها السبعة وأشجانها على كتفين من ريش، الحائمة مثل نحلة ترتجل اللهو وتحفّ بها أصداء حكايات قيلت لها في أمسيات شتوية، تلك الراكضة هناك ـ بين دعامة حجرية وأخرى ـ مؤرجحةً ضفيرتيها مثلما يؤرجح النهار أخبار الطقس. مرةً تشاغب الحمام بضحك صاخب، ومرةً تناوش الهواء بحزمة من القش. وآن تتمهل يتمهل نبض الرصيف، يتمهل رفيف المسافة. وآن ترخي أهدابها الشفيفة لتضم في المقلتين ما يتراءى لها وسط الضجيج، ترخي الناصية أبعادها وما انتحلته من أشكال.
عندما تقف الصغيرة أمام من تتوسّم فيه الخير والسخاء فإنها لا تفرض نفسها بإلحاح ولا تمدّ يدها توسلاً وتذللاً بل تقف أمامه وديعة، باسمة، وتظهر له ـ في صمت ـ كم هي جديرة بعطفه وكرمه، ولا تكثر من مكوثها قبالته بل تبتعد بخفّة إن تجاهلها أو شعرت بتردّده. ويلتبس عليها الأمر حين يزجرها أحدهم دون أن يبدر منها ما يزعج أو يضايق، غير أنها تسارع إلى محو الإهانة واستعادة البشاشة التي فارقتها برهة.
فيما تعد نقودها القليلة ـ رزْق نهار شحيح ـ تنفلت قطعة معدنية وتسقط لتصدر ذلك الرنين الذي يشبه رنين الحلم حين ينسل من بوابة النوم، وتعدو وراء المعدن المتدحرج ثم تنحني لتلتقط ما سوف تدّخره ليوم شاقٍ، إذ ذاك تسمع همساً أقرب إلى الوشوشة: "أمك هناك في الجنة، تريد أن تراك".
سريعاً تعتدل في وقفتها متلفتة في دهشة بالغة. لا أحد. غير أنها تبسط الكف الطرية وتدع المعدن يقع ويتبعثر على الإسفلت، تدع الحمائم تنقر التراب وتلتقط ما تناثر من حبوب دونما مشاغبة، تدع الوقت يتباطأ إلى حد الانطفاء، وتمضي إلى أصحاب المحلات والمتسوقين والمارة تسألهم عن الجنة فيقولون لها ما قاله الرب عن الجنة، وتسألهم عن الطريق.. ثمة من يمازحها ويدلّها إلى دروب غير مطروقة، وثمة من يتجاهلها بفظاظة. لكنها صدّقت الذين أشاروا إلى السماء وقالوا: هناك جنّات معلقة ولا نعرف تحت أي شجرة تتفيأ أمك.
لكن كيف سيتسنى لها أن تتعرّف على أمها وهي لا تتذكّر ملامحها، لا تحتفظ برائحتها، لا تميّز صوتها.. فقط تلك اللحظات الأخيرة التي صانتها الذاكرة، عندما انحنت ـ وهي في عامها الثالث ـ على يد أمها الباردة، الهامدة على طرف الفراش، وذرفت على الأصابع النحيلة دموعاً أبت إلا أن تغسل الجلد بماء الثُكْل.
هكذا، وبلا علامة، تشرع في ارتقاء عتبات الفضاء قاصدة ضفاف السماء ولا شفيع لها غير أعوام سبعة ما أرّختها الوثائق لفرط هشاشتها، وغير قرنفلة تحملها بيدٍ لا رعشة فيها.

(5)

في اليوم التالي، جاء الضحى إلى الميدان العام ولم يأت الشاب مع حقيبته الجلدية وبقايا حلم. ثلاثة أيام مرّت ولم يأت.
كان هناك، في غرفته التي ما فارقتها رائحة المرض وأوجاعُ وعكةٍ ما برحت أوصاله إلا لماماً، مستلقياً على سريره في إنهاك ووهن، شاحباً مثل ظل يناوشه الضوء، رهين حمّى ترجّ أعضاءه بين حين وآخر باعثةً في بدنه الرعشة تلو الرعشة، أسير هذيان يبلبل الكلام ويرمي شظايا الصور في بئر نفسٍ استباحتها المحنة.
يسمع رنين باب الشقة، الرنين الذي يشبه رنين عابرٍ جاء يسأل عن جارٍ أو عن طريقٍ ولم يحضر زائراً كصديق.
ينهض متحاملاً على نفسه ويتحرّك ببطء مجرجراً ما علق به من إرهاق له وطأة القيد، وعندما يفتح الباب يجمد في مكانه من شدة المفاجأة، إذ توقع أن يرَ أي كائن إلا أن يقف هكذا وجهاً لوجه أمام بواب وحلاّق وخادمة وشحاذة صغيرة يشغلون الحيّز السديمي بحضور سديمي، موجهين إليه نظرات ودودة مشوبة بشيء من اللوم، مع ابتسامات غير متكلفة بل خجولة وكأنها تعتذر عن تطفلها. بدهشة بالغة يمعن النظر إليهم، إلى هؤلاء الذين انتخبهم في ميدان غاص بالبشر ليرسم لهم أقداراً ما كانت مرسومة لهم، والذين يبزغون أمامه الآن مثل رُسُل رؤيا غامضة جاءوا حاملين رسالة غامضة.
لوهلةٍ لا يصدّق نفسه، يرتاب في ما يرى، ويحسب أنهم ثمرة هذيان أو حيلة حمّى تقذف فكاهاتها في بؤبؤ المحموم من غير توقع. تهيأ له أنه يحلم، لكن الخادمة توقظه بسؤال مهذب: سيدي، نقدر أن ندخل؟
ذاهلاً يتنحى جانباً، مفسحاً لهم الطريق، مفسحاً للغرابة كي تدخل وتشعل في المكان نوى المعجزة، وللّغز أن يفرش طلاسمه في وَضَح الحواس، وللتخمين المقذوف كالنرد أن يستقر على ضفة اليقين.
وعندما يجلسون على الأريكة قبالته في أدب جمّ، تبدأ الخادمة في الإمساك بزمام الحديث وكأن اتفاقا مسبقاً جرى بينهم على تعيينها ناطقةً باسمهم، إذ يلبثون مثله منصتين إلى ما تقوله نيابةً عنهم:
"سيدي، نحن كما ترى أناس بسطاء، نعيش يومنا لحظةً بلحظةٍ، لاهثين خلف رزقٍ يراوغنا ويشيح عنا لكنّا لا نيأس ولا يقهرنا ضيمٌ. ليس لنا مطامع ولا أحلام، راضين بحالنا وبما قُدّر لنا، حتى جئت أنت ورميت في عراء أرواحنا بذور الحلم وأيقظت في عروقنا براعم الرغبة والاشتهاء، وعندك نلنا من الحظوة ما فاق توقعنا. في رؤاك يا سيدي رأينا أنفسنا، نحن الأربعة، أكثر إشراقاً وأكثر حريةً مما كنا في أي وقت مضى، وبفضلك تذوّقنا نعمة السفر وغبطة السهر على ممالك تنادمها الأعياد. لكن عندما تأجّج فينا الشغف، لملمتَ رؤاك وغادرت بلا إشعار. انتظرنا أن تعود لتعود إلينا شهوة المجازفة غير أنك أمعنت في الغياب، وقلنا معاتبين: لا يحقّ له أن يفعل هذا بنا، أن يتركنا معلقين، مشلولي الإرادة. ولما سألنا عنك قالوا: به وعكة، فجئنا لزيارتك، للاطمئنان عليك، ولكي نعرف..."
يطول صمتها قليلاً، فيسألهم في حيرة: تعرفون ماذا؟
يقول الحلاق: هل وصلتُ إلى مشارف حقلي، حقل الحنطة المبلل بحليب الخصوبة؟
يقول البّواب: هل أكملتُ الرحلة، بلا معطف ولا رفيق، مدشناً مع ظلي تلك المغامرة الكبرى؟
تقول الصغيرة: هل بلغتُ الجنة ورأيت أمي؟
تقول الخادمة: كيف كان شكل الأمير الذي تزوجتُه في الحلم؟

*****

بعد أن رافقهم إلى الباب مودعاً، وذهبوا مغمورين بفرح يبلّل الحواس، يكتشف أن الحمّى قد غادرته دون أن يشعر، وأن الغرفة تتطيّب شيئاً فشيئاً بشذا مسك يجهل مصدره، ويهجس أن المساء، خارج النافذة، يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

أفق لا يمسّه جناح

طويل وحر هو الطريق الواهب شغافه للمجازفات كما للمصادفات والذي يمتد مثل لسان من التراب يسيّجه أفق لا تطاله يد ولا يمسّه جناح. حيناً يلتوي في مجون راسماً في الأرض أخاديد كتلك التجاعيد التي يرسمها الزمن على الوجوه آن تشيخ، وحيناً يلتف حول نفسه كأفعى لا تشتهي إلا نفسها.
طريق آخر لكنه وعر وشائك سلكته نهاراً بغالٌ مرهقة تحمل على ظهورها الضباب الكفيف، وليلاً طرقته مصابيح مذعورة تشهق ما إن تتعثر بذيل سنجاب أو نحيب أرامل. وعورته ملغومة بالشراك وبالمزاح أيضاً.. ومن يسمع طريقاً يضحك غير دخان كسيح يعرف كيف يراوغ الفخاخ؟
للرمل سطوة القناع آن يرتاب اليقين في يقينه،
للرماد ـ سليل الأبد ـ حرية أن يسرح في حضور النار كما في غيابها،
للمدى فم مفتوح على النهايات المضاءة بكبريت السهوب،
والمسافات تتناوب على انتحال أشكال باذخة تغري بها الأدلاء أو تموّه أبعادها لئلا تتعرف الهجرات على جهاتها.
طرق ترتعد كلما أصاخت إلى وقع أظلاف تسرف في العنف بحثاً عن ماء أو عشب، كلما حاذتها جلبة حطابين يسعون بفؤوسهم المسنّنة وراء أشجار هاربة، كلما احتكت الأحذية بالأحجار الناتئة وطحنت حشائش يفيض منها دم الجذور، كلما احتدمت الرياح في عراكها مع طواحين الهواء.
طرق ترتعد والهباء الصياد يتربّص بالطرائد الرافعة لهاثها كشظايا جرح، الشاخصة إلى سماء تأخذ شكل مذبح.

*****

هبوطاً يمضي ذاك الشاب العجول بين هضاب توائم تشدّها الخرائط إلى مواقعها بحبال الجغرافيين لئلا تنفلت وتربك التضاريس، أو صعوداً نحو مرتفعات مرشوشة قممها بالثلج ومضاءة بما لا يُحصى من المذنّبات الجوالة.
مهرولاً يمضي كأنه موعود بجنةٍ خلقها الله لمن اصطفاهم عن حكمةٍ لا يرقى إلى فهمها إنس.
متدرّعاً بسديم السفر يمضي، بلا رفيق يؤانس صمته المثقل بالضجيج ولا تجربة يحتذي بها. يحمل سلة مكتظة بالمشمش تتأرجح في فراغ مليء بالمهاوي.
تهبّ عليه ظلال من سافروا، بلا متاع ولا شغف بالسفر، مع بغال التهبت عيونها من شدّة الضجر فتحرن بين بئر وبئر نافضة الأسرجة عن ظهورها الضامرة.. وظلال من ضلوا وليس في جيوبهم كسرة خبز أو حفنة من التمر، المتخمين بالآثام، الضاربين أوتادهم بين تيهٍ وتيه.. وأولئك الذين تكالبت عليهم المحن فلم يحتكموا إلى مشورة البرّ التماسا لهدايةٍ أو نصيحة، ولم يهيبوا بالعراء أن يهادن رغبة النزوح بل جنحوا إلى القنوط وراحوا في السبات حتى غمرهم النسيان وغرقوا في لجّه.

*****

وهناك التخوم البعيدة، التخوم التي تجثو على حواف الأفق حارسةً ـ وقت القيلولة ـ نوم القرى (تلك الخبيرة في تذوق طعم الإشاعات لكن أبداً لا تهجس بالكوارث قبل وقوعها) ساهرةً على طمأنينة القرى بعد أن مسّها الهيجان جرّاء تهدّم أسقف بيوتها بعد تساقط شهب صغيرة ظنوا أنها بَرَد أو حجارة رشقتهم بها قرى مجاورة.
حدث هذا قبل أسابيع ـ كما يقول المزارع الحامل على كتفه فأساً علاها الصدأ ـ وأضاف وهو يحك ذقنه بأظافر تخللها السماد: "منذ ذلك الحين لم يعد أحد من الأهالي يثق بما تبعثه السماء.. حتى المعجزات النادرة. وحس الارتياب شمل حتى المطر الذي يحتاجه المزارعون، إذ لم يعودوا يشاركون في إقامة صلاة الاستسقاء أو يكلموا المطر، حين يهبط، بكلام لطيف وودّي كما كانوا يفعلون في السابق، بل صاروا يتجاهلونه ويشيحون عنه".
يقول المزارع هذا وهو يرنو إلى غيوم كانت تعبر على مهل شديد، فيما يحك ذقنه بأظافر تخللها السماد. تبدو عليه الدهشة، ثم يهمس وهو يشير إلى الســـــماء: "قل لي يا رجل، ألا ترى، مثلي، امرأةً عجوزاً طافية هناك وتراقص السحب في جذل؟"

*****

يمرّ الخريف فتتعرى الأشجار الواقفة صفاً صفاً لا لتستعرض إباحيتها بل تقشفها، منتظرةً رحيل الخريف كي تسترد ما انحسر عنها من عشاق ومن عنادل. أما الرياح فتحتشد قرب الطواحين التي تشتّت كل فوج ترسله نحوها، مصدرةً ـ الطواحين ـ تلك الحشرجات الشبيهة بصيحات لقالق تبحث عن بحر لا يحمي أسماكه.
ثمة نواعير مفتونة بأشكالها تحرّك المياه مثلما تحرّك المراوحُ الهواءَ.. بخفّة ومهارة، فيما ينحني النبات ليحقن نسغه بما يتيسّر من العصارة، والأرض ترفع مهودها لترضع التربة حليب الأزل.
شاحنات خاوية تأتي، من عاصمة تتّكل في غذائها على الريف، وتتوزّع هنا وهناك قرب حقول العنب والشمّام، لتغادر بعد ساعتين مشحونة بأصناف الفواكه والخضار، ومصحوبة بدويّ عجلات تطحن الأحجار الصغيرة المتناثرة في حافتي الطريق.
يصل إلى محطة في الطريق يتوقف عندها المسافرون التماسا للراحة وتناول الطعام أو شرب الشاي في مطعم صغير متواضع يعجّ بالذباب والنمل. وهناك موقف للحافلات لم يستقبل بعد غير حافلة واحدة ينام سائقها بداخلها في وضع لا يبدو مريحاً.
يدخل ويطلب حساءً، ثم صامتاً يوجّه نظرات خاملة، لا فضول فيها، إلى من تصادف وجودهم في المكان من عاملين ومسافرين، بينما في الخارج عاصفة رملية على وشك الاقتراب، قادمةً من شمال يعوي محذراً الجهات.

*****

لا، لم يكن جالساً هناك هذا الذي طلب حساءً ورشق الحضور بنظرات خاملة.
كان طوال الوقت في غرفته واقفاً لصق نافذة يطلّ منها، ويتخيّل أنه سافر بين هضاب تشدّها الخرائط، متدرّعاً بسديم السفر، والظلال تهبّ عليه من كل حدب حتى وصل إلى محطة كانت تشهد وقتذاك هبوب عاصفة رملية فيما هو يرتشف الحساء الساخن.
لا، لم يغادر غرفته منذ أسابيع طويلة نسي أن يحصيها بعد أن تواطأ مع عزلته وهادن الصمت الناسك.
والآن، إذ يطلّ من النافذة، متكئاً على حلمٍ انحسرت عنه الصور، يبصر بعينين مغرورقتين بالوحشةِ مدينةً تركض مذعورةً ومن أطرافها يتصاعد اللهب، ومساءً يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

هو والهاوية.. وجهاً لوجه

الطقس في الخارج ينذر بمطر وشيك، فالسماء ملبّدة بغيوم حبلى بالمياه.. غيوم تزداد قتامةً كلما احتكت بالعتمة المخيّمة هناك، بين فراغ يومض بين حين وحين، وفراغ تعبره مذنّبات عجولة لا تهدأ.
ثمة رعد خفيّ يدحرج هديره خلف رياح تعدو مولولةً كأن بها مسّ، وبرق نزق يرمي سهامه النارية في حلبة المدى فلا تطيش بل تصيب بدقة أشجار الصنوبر المتراصة والتي تضيء الأماكن بحرائق فاتنة تخلب البصر. غير أن الغيوم لا تعرف أنها حبلى، لذا يرجئ المطر زخ قطراته حتى وقت آخر.
زخم من الدويّ والشرر يتدافع سرباً سرباً نحو بقاع مغسولة بالطل الحامض، حيث تندلع الأجسام الأثيرية، ويتناثر غبار الطلع حفنةً حفنةً، أما النيازك فتتشظى مثل ألعاب نارية. هنا الطبيعة وحدها لها السطوة، ولا حضور للبشر ولا لهم حظوة.
المشهد الضاج في الخارج، الذي تحتدم فيه عناصر الطقس، ليس كما المشهد الساكن، الفاتر، داخل حجرة نوم كل شيء فيها ثابت وجامد باستثناء الستارة التي تحركها نسائم خفيفة تنسلّ عبر النافذة المفتوحة لتنفخ الستارة قليلاً وتحركها على مهلٍ ثم تنزلق داخلة في أناة لتستقر خاملةً على سرير خامل يترقّب بصبر مجيء الكائن الحي الذي سوف يرتمي في حضنه مثل طفل مسلوب الإرادة، ويراه يتغلغل في نسغ النوم بلا حول حتى يغور في لجّه، وحينذاك يشبّ حلم شفيف في نفس غابت عنها الكوابح وتُركت بلا رقيب. والسرير سوف يشهد اندلاع الصور واحتدامها بشهقة من يرى المعجزة لأول مرة.
من الباب المفتوح المتصل بالحمّام يمكن رؤية ساكن الحجرة الذي ينظف أسنانه بالفرشاة فيما يتطلع إلى المرآة الصغيرة المثبّتة أمامه على الجدار متفحصاً بإمعان قسمات وجهه التي تشفّ عن أربعين عاماً عاش السنتين الأخيرتين منها وحيداً بعد رحيل زوجته. وها يتمعن أكثر ويكتشف وجود شعرة فضية اللون اندست بين الخصلات في غفلة منه. يسارع إلى انتزاعها غير آبه للوخز الخفيف الناجم عن ذلك.
يتمضمض بسائل مطهّر هذا الأرمل الذي سأم من وحدته، والذي بوسع أشياء الحجرة أن تسمع غرغرته. بعد دقائق يخرج من الحمّام ثم يضطجع على السرير مريحاً رأسه على مخدّات بالغة النعومة والمرونة، ويحدّق في السقف مستعيداً، ربما للمرة العشرين في هذا اليوم، الفكرة التي استبدّت به منذ الصباح الباكر: أن يتزوج ثانيةً من امرأة ورثت الخصوبة من نسل يرتجل الولادات كلما هبّت الأنوثة على فحولة تمجّد اللذة.
يريد امرأةً تهبه ما لم تهبه زوجته العاقر: طفل يشمّ في بشرته الطرية رائحة أسلافه الذين نثروا في خلايا كل جيل بذار الخصوبة. طفل اشتاق إليه طويلاً لكنه تظاهر بعدم الاهتمام بل و أراد إقناع زوجته بأنه لا يحب الأطفال كي لا يؤذي مشاعرها، ومراعاةً للحساسية المفرطة الناجمة عن وضعٍ شاذ تعانيه هي بدرجة أكبر. لكن بعد رحيلها الموجع استيقظت فيه تلك الرغبة الدفينة، تلك الحاجة اللحوحة لأن يشمّ في بشرة الطفل رائحة أسلاف لا ريب أنهم ينظرون إليه الآن من وراء الحجاب الضبابي في حسرةٍ، وفي رهبةِ من يتهدّده النسيان.
يستعيد الفكرة، يجترّها، يتفحصها من مختلف جوانبها، ويستعرض وجوه المرشحات لحمل البذرة المباركة، بذرة الخلق. والسرير يزداد ضجراً وإحساساً بالوحدة كلما أمعن هذا الأرمل في تحريك وسبر فكرته، لكن انتظاره لا يطول، إذ تنطفئ الأنوار وتحل العتمة الودودة، والرجل يسترخي مزيحاً الفكرة جانباً، يغمض عينيه مسدلاً أجفانه على يوم آخر شاق ثم ينسل وئيداً تحت غشاء النوم ولا مأرب له غير أن يحلم.
ها هو في حلمه واقف على سطح مبنى شاهق، مواجهاً الفراغ الذي يمتد إلى مــا لا نهاية، وكأن الكون قد خلا إلا منه. لا صوت، لا نأمة، لا رفيف، كأنه الإنسان الأول والأخير في كونٍ خُلق لأجله وحده. لا حضور لأحد، لا سلطة لأحد، والأشياء لم تعد مبثوثة هنا وهناك تزاحم الكائنات في مدى لا شكل له، مدى معلّق على مشجب الفضاء.
في جوٍ صحوٍ كهذا، لا يربكه مجيء غيمة تتهادى لتفتح باب التأويل على مصراعيه، ولا يعكّر صفوه غبار هائج يتكوثر ليطمس الأشكال ويخيف الجماد.. في جوٍ صحوٍ كهذا، يحلو للغواية أن ترفع خمار الحشمة وترخي غلالة الفحش ومن فمها تتذرذر ريحٌ بالغة الخفة، تنساب برشاقة ولها حفيف كحفيف الغصن.
ها واقف في حلمه على حافة سطح شاهق. هو والهاوية وجهاً لوجه، وكل منهما يحدّق في الآخر.. بلا ضغينة.
والغواية تدعوه بأعذب الكلام أن يتحرّر من مخاوفه ويجتاز هذا الحيّز الفاصل بين رهبة السقوط في الهاوية والرغبة الجارفة في عبورها تحليقاً بخفة طائر وبلا أجنحة. يلملم شجاعته، يحشد أنفاسه في زفير مكتوم، يطبق أجفانه، ومع شهقة ـ لا حياء فيهاـ يرمي بنفسه، بثقله، برهانِه مع القدر، فيتلقّفه الفضاء بحنان أبوي، حنان من يسعف عاجزاً دون مكافأة، ويمنحه الأمان فلا يعود خائفاً ولا مشوشاً.
وها يطفو في الهواء، يعوم، يحوم مخفوراً بالرياح الصديقة وقد امتلأت رئته بالغبطة وبالجسارة.
يحلّق الآن برشاقة شاهين، متمرغاً في جوٍ يتخيّله فراشاً مرّةً ونهراً مرّةً، عارفاً ـ كالزاجل ـ موقع مسكنه والمسالك السماوية التي تفضي إلى بيته. غير أنه يهفو لرؤية أماكن أخرى خارج حدود منطقته الآمنة، لمعرفة كيف تبدو المدينة من أعلى، وكيف تنظر الطيور إلى البشر الزاحفين على عجل وهم أكثر ضآلة من النمل.
فيما يطير، بطيش ونزق الآن، نحو تخوم أبعد، مطلقاً الصيحات الزاعقة التي تكاد تشبه صيحات الإوزّ، لا ينتبه إلى تمزق ملابسه خرقةً خرقةً حتى يتجرّد منها تماماً، وفي غضون ذلك يتساقط شعر رأسه تماماً وتحتّ الشعيرات المتناثرة في أنحاء بدنه لينبت عوضاً عنها زغب وريش يكسو كل جسمه، والبشرة تصير أكثر رقة ونعومة، ويبدأ الفم بالتكوّر والتمدد والتقوّس ليتخذ شكل منقار، وفي موضع الذراعين ينبجس جناحان، ومن المؤخرة ينبثق ذيل طويل مريّش، والعينان تضيقان وتصبحان أكثر حدة، والجسم ينكمش والأعضاء تتقلص، وشيئاً فشيئاً يتحول إلى طائر حقيقي صغير التكوين، خفيف الوزن، وبريش زاهي الألوان.
لا يفزعه هذا التحوّل، والذهول الذي اعتراه في اللحظات الأولى التي أدرك عندها أنه يتعرض للتحول الفيزيائي، سرعان ما تبدّد ليحل محله إحساس عارم بالإثارة والانتشاء، إذ ها ينسلخ من كينونته البشرية لينتحل هيئة طائر يسرف في التحليق ويتوغل نحو مناطق أخرى.. حراً وفاتحاً. يعبر سهولاً مفروشة ببُسُط خضراء ناعمة، حقولاً بلون الذهب تغسلها الشمس بأشعة باردة، واحات حباها الله بفيضٍ من النعم، حتى يصل أخيراً إلى مشارف غابة مكتظة بأشجار وارفة متعدّدة الأسماء والأحجام والثمار.
لكن عندما يلمح ظل رجل يتقافز من موقع إلى موقع متوارياً خلف جذع وآخر، وكأنه يرصده ويتربص به، فإن شيئاً من القلق ينتابه. وعندما يتيقّن من وجود بندقية يحملها هذا الرجل الذي يمتهن الصيد، يضرّجه رعب لا حد له، خصوصاً حين يكتشف بأن الفضاء عارٍ ومكشوف تماماً، ولا يوجد فيه متراس يحتمي به، وبإمكان هذا الصياد ـ الذي يصوّب نحوه بندقيته ـ أن يقنصه ويرديه قتيلاً بطلقة واحدة لو أجاد التصويب.
لا يملك إلا أن يراوغه بحركات تبدو له خرقاء وغير ماهرة، ويصْدق حدسه حينما تخترق الرصاصة جناحه ويسمع صوت الانكسار الحاد وآهة الألم التي ندّت من أحشائه. وفيما هو يهوي من الأعالي نحو هاوية تفتح أشداقها التي تتذرذر جمراً، خيّل له أنه يسمع قهقهات فضاء ينحاز إلى العنف أكثر من انحيازه إلى البراءة.
وقبل أن يرتطم بالأرض، يصحو مطلقاً صيحة فزع.
يتنهّد في ارتياح لحظة إدراكه بأن ما حدث ليس إلا محض حلم. وتصدر عنه ضحكة قصيرة ساخرة فيما يتحسس جسمه كما لو يريد الاطمئنان على تكوينه البشري. يتلفت ليزداد يقيناً بمحيطه البشري، بأشيائه المألوفة. غير أنه يشعر بحافز قوي، تتعذّر مقاومته، يحثّه على مغادرة سريره والذهاب إلى السطح. وكالسائر في نومه، يرتقي الأدراج ويصل إلى السطح. ومن حافته يطل على فضاء بالغ الشفافية حيث لا صوت ولا رفيف، لا كائن ولا غبار، وحده والهاوية وجهاً لوجه.. وكل منهما يحدّق في الآخر بلا ضغينة.
وها يطير في فضاء حنون، لكنه يعرف ـ وملء رئته رعب لا حدّ له ـ بأنه سوف يتحوّل قريباً إلى طائر، وأن صياداً يتربّص به بين أشجار الغابة، وأنه سوف يهوي ـ كما يهوي الآن ـ نحو هاوية مفتوحة الأشداق ولن يسمع غير قهقهات فضاء ينحاز إلى العنف لا البراءة، بينما في الأسفل.. المساء يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً

ضغينة الخارج من نومه مكفهراً

فجراً، يخرج من أروقة نومه مكفهراً، عكر المزاج، مغمغماً في تذمّر وسخط بالغين. بعد ساعةٍ استحم خلالها وتناول فطوره وارتدى ثياب الخروج وتعطّر وهدأ باله وزال عنه التوتر، بعد كل هذا يتجه نحو النافذة المفتوحة على فضاءٍ كهلٍ انحسرت عنه الطيور وتلبّد بغيوم حبلى بالمياه، تتمطى في كسل غير عابئة بالرياح الراكضة خلف نهار لم يفصح بعد عن طقسه. قناديل الصباح تتدلى مثل أثداءٍ هرمة.
عندئذ يخطر له أن يقتل أحداً قبل أن تفرش الظهيرة حُصُرها على قارعة الطريق. والخاطرة تتحوّل تدريجياً إلى هاجس، قرار، ضرورة، هوس. لا تهم الهوية، لا يكترث إن كان شيخاً أو امرأة أو حتى طفلاً، إن كان من هذه الطائفة أو تلك، إن كان صديقاً أو عدواً. لا شروط في انتقاء ضحيته، ولا غاية، لا يبحث عن شهرة أو شهادة أو خلاص أو فرض مطلب. دافعه الوحيد هذه الكراهية العارمة التي تحتدم في أحشائه تجاه البشر، الكراهية التي تشبّ فيه كلما رأى شرورهم وغرورهم وغباءهم وادعاءاتهم الزائفة.
يزدري البشر، لا الحياة ولا العالم. مع ذلك يحتقر الإرهابيين والانتحاريين الذين يملأون شاشات التلفزيون بالأشلاء والصراخ وحطام الأشياء بمجانية مقززة. هو لا يريد أن يعبّر عن كراهيته بهذه الطريقة المشينة، بل ينظر إليها كحالة خاصة، قد تكون سريّة، بين شخصه والمصطفى للموت. ينوي الإنفراد بمن يرشّحه ـ عشوائياً أو بعد رصدٍ وانتقاء ـ بلا مواربة ولا جبن، بل يريد أن يقف أمامه وجهاً لوجه ويعلن له عن كراهيته لجنسه حتى يعرف الآخر سبباً لموته، أما أن تتناثر أشلاءه بلا سبب ولا مبرّر فذلك أمر يثير اشمئزازه لأنه يكشف عن مدى عنف ووحشية الإنسان التي تتجاوز ضراوته ضراوة أي وحش.
لكي يقضي على الآخر يحتاج إلى أداة فعالة للقتل. ولأنه لا يمتلك مسدساً، يتجه على عجل نحو المطبخ، وهناك يبحث في الأدراج وعلى الرفوف عن سكين حادة، سهلة الحمل والإخفاء، فلا يعثر على ضالته. يخرج قاصداً السوق، وفي طريقه إلى هناك يبصر العديد من الأشخاص الذين يرشّحون أنفسهم للقتل بل ويحرضونه، من خلال تفاهاتهم وسخافاتهم، على الإسراع في تنفيذ ذلك.
يصل إلى المحل، يحصل على مبتغاه، يخرج وفي جيبه تختبئ مدية مطوية لا تمجّد غير السفك ولا تشتهي إلا الدم.
إلى الميدان العام، الذي يعجّ بأنفاس تهبّ لتتلاطم وتهوي على القرميد، يذهب ويختار المقهى الذي يحتل حيزاً من الرصيف، ويجلس إلى الطاولة المجاورة لطاولة شاب تستقر بين ساقيه حقيبة جلدية وينتخب لكل من يصادفه حلماً أو حكاية.
الآن، وبينما يرسل نحو الحلبة ـ المغزوّة بالصخب، المترعة بالجرائر ـ نظرات عدائية، حادّة كأنياب المحنة، نظرات قناص ـ ملغومة بالفتك، محفوفة بالشراك ـ تتحرّى مكامن فرائس غافلة عن مراوغات الغدْر بعد أن هادنت المباغتات، لم تبطش بها الجريمة بعد ولم ترتجل العويل بعد. فرائس تسرف في البراءة وتنفضّ عن أكتافها هواجس الحيطة والحذر، هي في هذه اللحظة مغلولة إلى حلبة تسوّرها الضغينة، مشدودة إلى حصار يحكم حصاره حتى الشهقة الأخيرة.. وهو في هذه اللحظة يشعر بالسطوة المطلقة التي يتمتع بها الحاكم المطلق.
الآن، وبينما يرسل تلك النظرات، ينتابه رغماً عنه إحساس ـ منفلت من عِقال الإرادة الواعية، والذي لا يعرف مصدره ومبعثه ـ بالتعاطف مع هؤلاء البشر المبثوثين في أنحاء الميدان ووسطه، المهرولين في حالة مثيرة للشفقة لا الحقد. كائنات تبدو له بالغة الضعف والهشاشة، لا تهتدي إلى طريق الخير أو الشر إلا بمشيئة عليا قاهرة، وظهورها تنوء بأحمال لا تُحصى من البلايا والرزايا، وفي كل منعطف تباغتها الأوزار وزْراً وزْراً.
هذا الإحساس بالعطف والشفقة يتنامى ويتصاعد داخل عروقه حتى يفيض من عينيه في شكل دمعتين لا يشعر بانسلالهما خلسةً بل يُخيّل إليه أن النهار يذرف لبن الرحمة وينحني ليزيح عن الكواهل نثار اللعنة،
وأن الحلبة تذوب حناناً كلما مرقت مأساةٌ تولول فتفرش لها شراشف الطمأنينة،
وأن الشرفات ترخي قرميدها وظلال زوارها ليتفيأ تحتها مارةٌ يتلظون من شدة الرذائل،
وأن الوداعة سيدة المكان.
آنذاك يغمد كراهيته، ولا يتبقى من حقده إلا بصيص يدّخره لمن يستحقه، والذي يتجسّد، الآن، في ذاك الكائن المزهو بفحولته، المتباهي بوسامته وعضلاته، الذي خرج تواً من دكان الحلاق (الحالم بحقل حنطة مبلل بحليب الخصوبة) وراح يزيح عن طريقه ـ عنوةً وبازدراء ـ من يصادفه أو يعترض طريقه دون قصد، وسط احتجاج أبكم لا يقو على المواجهة. وراء هذا المفتون بنفسه، السائر بخيلاء وغطرسة، غير الجدير بعالم هادئ يهنأ فيه الجميع، يسير هو متعقباً الخطى الفخورة بنفسها، عاقداً العزم على إنهاء حياة الآخر دونما تردد. يتريث كلما تريّث الآخر، يوسّع الخطوة كلما سارع الآخر في مشيه، وبعد كل مسافة يتحسس مديته المتوارية في جيبه كما لو يطمئن إلى وجودها، كما لو يستمد منها لا العزيمة وحدها لكن الحقد أيضاً، وبها يستعيد ذلك الشعور المتهيج، المدغدغ للحواس، والذي يعتري من يمتلك السلطة المطلقة، من يحسب نفسه إلهاً قادراً على أن يحيي ويميت.
وراء هذا المزهو بعضلاته يمضي، ومعاً يخرجان من الميدان، حتى يصلان إلى زقاق غير آهل، عندئذ يندفع بأقصى سرعته هاجماً على الآخر من الخلف، ودافعاً إياه بقوة نحو الجدار. يطلق الآخر شهقة فزع تليها آهة ألم عندما يرتطم رأسه بالجدار الذي يشجّ جبينه ويجعل الدم يتدفق من الجرح ليسيل على وجهه. وهو لا يتيح للآخر مجالاً كي يستوعب ما يحدث أو يلملم قواه ويقاوم، إنما يعاجله بلكمات قوية على ظهره ومؤخرة رأسه ثم يديره ليواجهه في اللحظة التي يستلّ مديته ويشهرها في وجه الآخر الذي تجحظ عيناه من الرعب وهو الذي لم يتخلص بعد من وطأة المباغتة والهجوم المفاجئ، إذ ها هو يرتجف بعنف من شدّة الهلع وينتحب بينما الدم الفاحش يعيث في وجهٍ ما عاد يتباهى بالوسامة، ويتناثر على جسم ما عاد يزهو بفحولته، بل تجرد من كل جسارة وغطرسة وبان على حقيقته: مجرد طفل خائف يبكي، ويبلل بنطاله بالبول.
كاد أن ينتحب معه، كاد أن يخرّ على ركبتيه أمامه ويطلب الصفح، كاد أن يمدّ يده ويمسح الدم عن وجهه، كاد أن يمسّد شعره ويهدهد وجعه، غير أنه لم يفعل شيئاً من هذا، إنما نهض في هدوء، خبأ مديته في جيبه، وابتعد عنه في تثاقل، مليئاً باليأس والمرارة.
يعود إلى شقته الباردة. على مهل يتحرك نحو النافذة المفتوحة، وقبل أن يغلقها يلمح في الخارج:
غيوماً حبلى بالمياه تتهادى بتوءدة،
مذنّبات صغيرة تتطاير تاركةً خلفها شرارات سرعان ما تتلاشى،
ومساءً ينسل وحيداً ليضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

غريب في الخلاء ذاته

عاد بعد زمن خالَهُ دهراً، غاب خلاله عن الأنظار وطعن في الغياب حتى استباحه النسيان فما عادت الطرقات الحميمة تحتفظ برائحته الحميمة، ولا عادت المنازل تصيخ إلى مواويله التي مسّها المحو، والأمكنة التي ودّعته باكيةً ما عادت تؤرخ حضوره بإيقاع أنفاسه أو لهاثه، بعد أن أمعن في الطواف حول المناهل الناضبة معتصماً بالعراء وحده.
هناك نادم الغربة حتى آخر قطرة، وزجّ بنفسه في متاهة حسبها ـ لأول وهلة ـ جنةً يخلد فيها وينعم إلى الأبد بما لذّ وطاب، وحسَب أن الأنوثة تفتح له مخدعها وتهيئ السرير والسمر واللذّة الخالدة، لكن المتاهة قادته إلى هاوية لا قرار لها، وكلما هوى بلا أمل في الخلاص، داهمته الوحدة والوهن.
ما عاشر غير الخلاء، وكلما توغل في جهة ظن أن لها منفذاً يفضي إلى حقل أو شاطئ، قادته الجهة إلى الخلاء ذاته ليطلق فيه العواء ذاته، والنشيج الذي يشبه نشيج الناسك.
عاد، كما ذهب، غريباً وعلى كتفيه تحط أوراق شجر ميتة، وليس في جيوبه غير نوى مغامرة ما اكتملت فصولها، وحبّات هال لا يتذكر من أودعها هناك، ربما زائر استضافه يوماً أو محسن لم يجد ما يتصدق به غير هذا، أما معطفه القديم فيرشح نهاراً مرهقاً وسحالي صغيرة وبقايا أصداء بعيدة لا تزال عالقة.
دخل البلدة فجراً، لا يرافقه غير ظل شائخ يتوكأ على سديم رائب يكنس ما يتساقط منه بعقارب الوقت، وغير ذاكرة محدودبة لفرط ما ناءت به من أحداث يشوب صورها الكثير من الغموض والكثير من الصدأ.. ولخطاه وقع الوحشة أو وقع سعف يخشخش.
وفي ميدان عام لم يعجّ بعد بأنفاس تهبّ لتتلاطم وتهوي على القرميد أو بمصادفات تعرف كيف تموّه غموضها، ميدان لم يشهد بعد حضور شاب يحمل حقيبة جلدية وينتخب لكل من يصادفه حلماً أو حكايةً، يحلّ الغريب مع ظله الشائخ وذاكرته المحدودبة. وحائراً يوفد نظراته الذاهلة لتجول في أنحاء الميدان وتستكشف زواياه وأعمدته ومبانيه وحوانيته، والحمائم التي حطت لتوها قرب نافورة صغيرة انقطعت عنها المياه، والأرصفة التي بدأت لتوّها تشهد حضوراً بشرياً سرعان ما تغصّ به الأمكنة. يبعث هذه النظرات الذاهلة لعلها تستجلي ما غمض وما استعصى عليه فهمه، غير أنها ترجع مثلما يرجع الرُسُل الخائبون فيلتبس عليه الأمر أكثر. أيعقل هذا؟! أ يغيب هذه السنوات الطوال معتكفاً في غربة هي أشبه بخلوة المعتزل مع عزلته، مهدوراً في منفى الأبد مثل عدمٍ لا يعلم أنه عدمٌ، ليعود ويجد كل شيء على حاله، ولا شيء تغيّر على الإطلاق، فالجغرافيا هي نفسها، والهندسة نفسها، والقرميد نفسه، والأشكال والأرصفة والحمام والمركبات بأنواعها والدكاكين والسلع، كأن الزمن توقف عند تلك الساعة ذاتها من يوم غابر قبل ثلاثين سنة وما تحرك أبداً، كأن الذاكرة ثبتت عند تلك النقطة من ماضٍ لا يريد أن يمضي ويغادر، كما لو أن اليوم الذي من المفترض أن يجيء بعده ما جاء بعدُ، كما لو أن السنوات التي أمضاها بعيداً كانت محض حلم أو كابوس.
والذي هاله أكثر أن البشر الذين يتوافدون الآن هم أنفسهم الذين توافدوا قبل ثلاثين سنة إلى هذا الميدان. الوجوه نفسها، الملابس نفسها، الباعة الجوالون، العاملون في المحلات، الموظفون، الزبائن، المتسكعون.. هم أنفسهم، ما تغيّروا، ما شاخوا، ما حلّ بهم ما يحلّ بمن يداهمه الزمن، لذلك باتوا رهائن وقت ثابت يرفض أن يتزحزح ولا يقدرون الفكاك منه، لا يقدرون الخروج من زمنٍ كفّ عن الحركة، وربما كفّ عن الوجود، وما يحدث ليس سوى انعكاس أو ظل أو صدى لزمن انحدر حثيثاً نحو الأفول.
ينتشله من ذهوله، من رعبه، شخص يدنو منه على مهل وهو يتفحصه في فضول. ينتبه إلى وجوده فيلتفت نحوه ليتفاجأ برؤية رجل نحيل، بالغ الشحوب. الآخر يلاحظ دهشته فيبتسم ويتكلم بصوت خفيض أقرب إلى الهمس:

ـ تبدو مندهشاً، هل بسبب منظري؟
ـ ما قابلت أحداً بمثل هذا الشحوب..

بالنبرة ذاتها يقول الآخر:

ـ إن ما تراه الآن ليس حقيقياً، وليس وهماً أيضاً. أنت ترى الآن ما تركته قبل رحيلك بساعات.. بالأحرى، أنت ترى اليوم الأخير من حياتك..
ـ من حياتي؟
ـ قبل سنوات طويلة.. ومنذ ذلك الحين، تشهد كل يوم الأحداث نفسها، الأماكن نفسها، الأشخاص أنفسهم..
ـ كل يوم؟!
ـ لكنك لا تتذكّر.. هكذا تعود في اليوم التالي لترَ ما رأيت ولتنس ما رأيت..
ـ لا أفهمك..
ـ تعال معي.
يأخذه من يده ويقوده إلى أقرب واجهة زجاجية لمطعم (لم تنجح عمليات الترميم المتكررة في استعادة فخامته الأولى، والذي سوف يتلطخ ذات ضحى بدم صبي ينتضي جوعاً ويتضور يأساً) وأمام الحاجز الزجاجي الصقيل يتوقفان..
ـ أنظر ..
ينظر إلى انعكاسه فيبصر كائناً بالغ الشحوب والوهن، نزحت عن مداه ينابيع الحياة وما عاد يقطن إلا في إقليم الموت.
هكذا يبتعد مجرجراً ساقيه، مغتمّاً وليس في جيبه غير حبات هال لا يعرف من أودعها هناك، يرافقه ظل شائخ وذاكرة محدودبة لا تكفّ عن خيانته.
هكذا يمضي ولا يعبأ بمساء يمرّ أمامه ويضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

نزيل العزلة

اعتاد الرجل الأعمى أن يخرج من بيته كل صباح مستعيناً بحواسه الأخرى، بغرائزه التي تؤازره أحياناً وتخذله أحياناً، بالحدس الشفيف، بما وهبته له التجربة من خبرة ومكر وفراسة يعلقها على زنده كالتمائم، وما اكتسبه من عادات وطباع كالحذر والصبر والتروي وعدم التهور ومهادنة الأشكال التي تعترض سبيله والتواطوء مع العتمة عوضاً عن الخوف منها أو الارتياب فيها.
هكذا، من نفق مظلم يخرج ليدلف نفقاً مظلماً آخر، وحيداً ومستباحاً، بلا شمس تنير مواطئه ولا دليل يجتاز بوثبةٍ وعورة الأمكنة، محاذراً أن يرتطم بمتاريس الواقع أو ستائر الطبيعة.
بعكازه ـ العين الخشبية، كما يسميها ـ يطرق درع الفراغ معلناً عن حضوره، به يقرأ الأشكال ويحدّد التخوم، به يتقرّى ندوب الأرض ليتجنّب التعثر بحصاة ناتئة أو الانزلاق في حفرة. بعكازه يؤطر الحيّز الذي يقتحمه دونما ترحيب، وبه يضلّل الكمائن.
بيده الأخرى يتحسس غشاء الخواء المحيط به كمن يجسّ خصومةً كامنةً، ويشتّت ما يتكثّف وما يتخثر من تحالفات هشّة مع حاضر رجراج لا يؤتمن. أو يتكئ بيده على ترس غيب يرميه بوابل من الألغاز، مستميلاً المبهم والشائك لئلا تغدر به المصادفات أو ظنون المارين من حوله. على كل طرف إصبع ينحت عيناً يريد لها أن تضئ المسالك وترى ما يتخندق في شروخ اليوم. بهذه اليد يحاور الجدران ويراوغ الطعنة المحتملة.
منذ أن انطفأ البؤبؤ وغاب البصر، منذ أن تبدّد الضوء ـ الذي يحدّد شكل وطبيعة الكائنات والأشياء ـ وانتصرت الظلمة، صار هذا الرجل مغلولاً بأسلاك الغُبْشةِ، مشدوداً إلى غُبِّ النفس حيث انحسار النور واختلاط ما هو كائن بما هو عدَم وتشابك المحسوس بالخفيّ. الأبواب تنفتح لكن إلى الداخل. الفراغ يفتح هاويته التي يهوي فيها كل دقيقة وضبابه الذي فيه يضيع كل دقيقة. يخوض في اللايقين، يتخبط في شباك الالتباس، ضحية استبدادية الأشياء والأمكنة. فخاخ حقيقية وأخرى وهمية عليه أن يتفاداها برشاقة ودهاء وخبث طريدة علّمها القنص الأزلي كيف تستشعر الخطر وتتخطى المكامن.
كان الأعمى يتحرك في عالم خاص، محكم البنى، متين الوشائج، اخترعه لنفسه، شيّده من عناصر المخيلة وما تمليه الحواس من إشارات وعلامات ورموز، دافعه أن يحصّن نفسه من رتابة الواقع وابتذال الحاضر وعادية الأماكن. لقد انفصل عن العالم الواقعي بصرياً لكن اتصل به غريزياً ومن خلال بوابة الخيال. أضحى يعيش في عالمين في وقت واحد: احدهما يراه عبر مخيلته والآخر يدركه عبر الحواس. هكذا تحتل الأشجار جانبي الطريق، الغابة تجاور الميدان، الأرصفة ناصعة وبالغة النظافة، الشرفات مزدانة بالأزهار والبالونات، الألعاب النارية لا تكفّ عن إضاءة أمسيات المتنزهين، والطيور بمختلف أجناسها تملأ سماء المدينة. وهو لا يرغب أن يكون جاحداً تجاه من يعينه ويساعده في العبور أو يرشده إلى مبتغاه، لذلك يخترع له شكلاً وسيماَ ويرتجل له دوراً بطولياً، أما من يزجره أو يتأفف منه فهو الشرير الذي يلقى مصرعه في النهاية.
قبل أن تجتاحه الظهيرة مع حممها، يعود إلى بيته الدامس حيث لن تؤويه غير الوحشة الحالكة وصمتٍ لا يضاهيه صمت.. يعود إلى كهفه المحفوف بشعائر الحِداد حيث عقارب الوقت تحلج عزلته ثانيةً ثانيةً وعلى مهل.
في قيلولته يرى نفسه طائفاً حول آبارٍ نضبَ ماؤها وهجرها الطير، وكل دلوٍ يخرج وفي قعره الناشف جنين ميت، فيغادر قيلولته قانطاً ومغتمّاً ولا يهنأ إلا حين يطلق سراح خيالاته الجامحة.
بعد أيام، أجريت له عملية جراحية ناجحة استعاد على إثرها بصره، واعترته رعشات الغبطة الأولى كأنه يشهد ميلاداً جديداً، انبعاثاً ما حلم أنه يتحقق يوماً. إنها المعجزة في أصفى تجلياتها.. هكذا اعتبرها.
ولم تسعه الفرحة عندما خطا خارج بيته بلا عكاز يطرق به درع الفراغ ولا أغلال تشدّه إلى منابت الخوف والريبة، والظلمة التي كانت تستبدّ بنهاراته وتطغى انقشعت بلا وعدٍ بالرجوع. وها هو يغتسل بضوء الصباح ويدور حول نفسه مطلقاً ضحكات يحسبها المارون بادرة جنون ولا يعلمون أنها ضحكات أسير تحرّر أخيراً من سجن طويل في قبو مظلم، وها يستحم منتشياً تحت شلال من الضياء الهادر، مفعماً بالحبور والبراءة.
لكن عندما انحسر قليلاً ذلك الشعور الآسر الذي غمر حواسه ساعةً أو ساعتين خلالها بدا في غاية الثمالة من فرط ما تعاطى من انبهار وفضول، وبعد أن نفض عن قسماته أمارات الفرح والانتشاء، بانت له حقيقة أخرى ما أحس بوطأتها إلا بعد وقتٍ من انقلاب الحال.
لقد استعاد بصره حقاً لكنه بدّد، أو بالأحرى خان، مخيلته، فالصور التي خلقتها مخيلته للطرقات والأرصفة والشرفات المأهولة بطيور ملونة والفضاءات القرمزية، كل هذه الصور وغيرها تلاشت كالومض ما إن آثر ملامسة اليقين ورؤية ما كان محروماً من رؤيته.
الآن يبصر كل شيء، كل كائن، كما هو وعلى حقيقته، بلا زينة، بلا سحر يكتنف كينونته ولا فتنة تجمّـل وجوده. يرى الواقع في رتابته والحاضر في ابتذاله والأماكن بكل جمودها وعاديتها. أما البشر فأضحوا أكثر فظاظة معه وتجاهلاً له منذ أن علموا بزوال عاهته وما عادوا مجبرين على التظاهر بالكياسة واللياقة في التعامل معه وإفساح الطريق له بأدب مفتعل، بل أنه أصبح عرضة للارتطام بالآخرين أو التعثر أو الارتباك على نحو لم يختبره من قبل إلا في أحوال نادرة.. حتى أنه أصبح أكثر توجساً وقلقاً كلما أراد أن يعبر شارعاً أو يتحرى زقاقاً.
صار مستباحاً ومهتوكاً مثل الفضيحة المعلنة، ولم يعد يحتمي بما يورثه العمى من مكر ودهاء أو يتذرّع بالعاهة في اعتناقه الحذر والارتياب.
مخذولاً ومهموماً يعود إلى بيته المضاء كله والذي لا يعود يشعر بتآلف معه، أو لعله يحتاج إلى وقت ليتعود على هندسته وتضاريسه، حاله كحال ساكن جديد لم يمض عليه وقت حتى ينسجم مع ممراته وغرفه.
مرهقاً يستريح على الكرسي ويجيل بصره في أنحاء مكان يتخذ بدوره موقف الحياد التام الذي يصل إلى حد اللامبالاة. بالأمس كان هذا المكان ينحاز إليه أو ينحاز ضده: يلاعبه أو يشاغبه، يحاوره أو يناكفه، ينبسط كالسُنْدس أو يتوعّر مثل درب مهمَل.. أما الآن فقد أمسى فاتراً، عديم النكهة، وربما عدائياً.. تماماً مثل الخارج.. ذاك الذي كان بالأمس ينقّحه ويصوغه حسب هواه، يتحكم في عناصره وهندسته وجغرافيته، يراه كل يوم في هيئة مختلفة، ما عاد الآن يذعن للمخيلة وينصاع لحيلها بعد أن أصبح مرئياً وانتزع السيادة ليخضع الآخر، كما يخضع سائر الناس، لمشيئته ويجبره على التكيّف مع محيطه وتخومه.
مخذولاً وخائباً ينهض ويخطو بتثاقل نحو النافذة، يفتحها مثلما يفتح القدر كتاب المصائر، ويطل على العتمة التي بدأت تهبط رويداً رويداً على فضاءٍ عارٍ إلا من بضع غيمات حبلى بالمياه تتهادى من بعيد.
بعد دقائق من الصمت الثقيل اللانهائي، الذي يبدو كالأزل ذاته، يرتج المدى بفعل صرخة مدويّة صادرة من جوف رجل فقأ عينيه منذ لحظةٍ، وبدأت الظلمة تجتاحه من جديد، بينما المساء ـ الذي لم تجفله الصرخة ـ كان يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

باب مفتوح على الخاتمة

ينظر إلى صغاره الأربعة ـ ولدين وبنتين ـ يخرجون من البيت فرادى حاملين مع حقائبهم المدرسية أحلاماً تحوم قليلاً قبل أن تنزلق نحو رحى النسيان، حاملين رائحة غدٍ غامض يحرّك مجدافيه في مياه غامضة، حاملين أيضاً من الطين ما يكفي لتشييد الألعاب والأعياد بمهارة خزّافين لا يسهون عن الطين ولا عن اللهب، وفي الظهيرة يعودون وقد كبروا واستطالوا ونمت فيهم عضل الذكورة وبراعم الأنوثة بعد أن أودعوا سروج الطفولة عند عتبات زمن لا يكفّ برهة عن رمي شباكه في مجالس الريح. يعودون وعلى راحاتهم حاضر لا يقدر هو، الأب، أن يروّضه أو يستوعب ـ على الأقل ـ مداراته وما يكتنز في النفس من رغائب ومطامح. هكذا يبددون بعض الوقت معه ومع أمهم متبادلين لغة المجاملة وأنخاب العادة وجدالاً متقطعاً يصعب هضمه. بعد ساعتين يغادرون ويذهب كل منهم إلى بيته أو طريقه دون أن يلتفت إلى الوراء.
ينظر إلى زوجته الشابة ـ درة الكون، يسميها ـ ذات الوجه الجميل المضاء بشعاع الأنوثة الغضة، والجسد الضالع في الغواية بلا فحش، والشَعر المنثور خصلةً خصلةً على وسائد كأنها شغاف أفق لا يفتحه إلا الحلم. النائمة في وداعة على سرير ليّن تحلج حلماً ليناً.
كم ناضل حتى يتقرّب إليها ويلفت نظرها، كم ناضل حتى يزيح كل غريم عن دربه ويتزوجها، كم أسهب في ولعه بها وتجرّع معها العشق حتى الثمالة.. وكان الزمن المنحاز إليهما يهبهما عطايا الحب بسخاء يثير الحسد.
خريفاً بعد خريف يقف هكذا قرب السرير يرنو إليها وهي تتخبّط بين براثن زمن ما عاد منحازاً إليها ولا رحيماً بها، بينما التجاعيد تحتل شيئاً فشيئاً الحيّز الذي كان ناصعاً وبلا شائبة.
يرنو إلى الثمرة الساطعة وقد نال منها العطب وتفشت فيها الكهولة. وكلما جاء غدٌ جاء رافعاً ممحاة يزيل بها بعضاً من النضارة حتى خلَت من النضارة. والوقت لا يمهلها ريثما تتحصن بعمر تعرف أنه من الهشاشة بحيث يتفتت ما إن يمسّه الحاضر بأزميله، مع ذلك تتحصن بالعمر الهش وتذبل خريفاً بعد خريف. وكلما شحّ الحسن وامتنع البهاء عن وهب شيء من بهائه، ازدادت هي فظاظة وإمعانا في التذمر والنكد، وتقتنص أي هفوة أو زلة لتسلط عليها مجهر العناية والمبالغة، ولتعكر صفو اليوم كله. وهو يجابه كل هذا بالصمت، بالتجاهل، برتق الأعذار لها بعد أن صار من المتعذر عليه أن يشكم مزاجها الحاد.
وما عاد يرنو إليها في ولهٍ، في اشتهاء، في إعجاب، بل كما يرنو الغريب إلى الغريب، أو كما يرنو الكائن إلى معضلة مستعصية.
ينظر إلى وجهه في المرآة فلا يبصر تلك الوسامة التي كان يتباهى بها ويتغطرس. صار الوقت يأتي صباحاً، كل يوم، ليسرق شيئاً من فتوته، شيئاً من بشاشته، شيئاً من شبابه، حتى وجد نفسه بغتةً يذرع إقليم الكهولة بلا مباهاة بل بانكسار وخيبة رجل خانته الأيام ولم يستمتع كثيراً بهبات ما اقتنع أنها هبات إلا بعد فوات الأوان.
يحدّق الآن فلا يبصر غير تجاعيد محفورة بأظافر زمن لا ينقطع عن الحركة، وبشرة متغضنة، ولثة سريعة الالتهاب، وعينين هرمتين تتكئان على نظارة طبية. يتحسس رأساً اجتاحه الصلع إلا في بقع اكتست بشيبٍ يفشي العمر جهراً. يحدّق ويسأل، كما يفعل كل صباح: هل للغدِ غدٌ؟
ينظر إلى بيته الذي شاخ معه عاماً بعد عام، جدرانه التي حتّ عنها الطلاء وبانت الشقوق والندوب فبدت أشبه بأسمال لم يحسنوا رتقها وأضحت مهدورة للهباء. ينظر إلى بابه الذي اصطفق فصلاً بعد فصل حتى احتل الصدأ مفاصله فصارت تطلق صريراً حاداً كأنها في النزع الأخير، أما مزلاجه ـ الذي استضاف وودّع ما لا يحصى من الأنفاس والروائح والأطياف ـ فقد وافاه السبات وما عاد الفضول دأبه بعد أن حلّت الوحشة واستوطنت الباحة والحوش. باب موصد لكنه مفتوح على الخاتمة الفاغرة فمها كالهاوية.
ينظر إلى شبابيكه التي آخت يوماً بين خارجٍ تلهو فيه السحب الجذلى وتتقاذف بالبرَد، وداخلٍ مسقوف بهدايا الأعياد، غير أنها شهدت ما تشهده الخصومة من انشقاق فنأى الخارج بغمامه وبرَده، وتقهقر الداخل عاكفاً على غزل عزلته بنوْل الوقت.
ينظر إلى شرفته التي كانت الرياح تهزهزها كالمهد وتهدهد أطرافها إذا روّعها الهزيم، وأصبحت لا تأنس إلى الزيارات العابرة منذ أن باتت نهباً لجوارح تنقر قرميدها نتفةً نتفةً.
يمضي إلى المقهى الكائن في الميدان العام، وهناك يجلس ويحدّق في قعر فنجانه ليلمح فلول عمره تتخثر دون أن تصون دقائقه ذاكرة أمينة يعوّل عليها، أما حاضره المتسكع على مرمى ذراع في رحاب البطالـة ـ بعد إحالته على التقاعد ـ فيهرق ما يذوب من ساعاته في هامش الغياب.
لغط في المقهى، لغط في الشارع، لغط في الميدان الذي يتجاهله الآن فيما يقف بلا غاية قرب نافورته الصغيرة التي نضب ماؤها منذ زمن.
تندفع صوبه الشحاذة الصغيرة ـ ذات الضفيرتين المحرومتين من ماء الأمومة، الحاملة عذوبة أعوامها السبعة وأشجانها على كتفين من ريش ـ وبصوت طافح بالوداعة تسأله: أمي في الجنة.. أين أجد الجنة؟
ينظر إليها بعينين مغرورقتين بالأسى ويرد عليها في إشفاق: لا أعرف.
تبتعد راكضة نحو آخر، تظن أنه يمتلك المعرفة، لتسأله السؤال ذاته. أما هو فيطرق مغتماً.
ـ يوم جميل، ألا تظن؟
مثخناً بالضجر، مترعاً بالخواء، يرفع رأسه ويوجّه بصره نحو من تكلم لتوه، فيتفاجأ بوجود رجل يشبهه إلى حد كبير واقف على مقربة يرمي فتات الخبز وسط جمع من الحمام يلتقط ما يتناثر بمناقير نهمة. الوجه ذاته، القامة ذاتها، الصوت ذاته.. أشبه بشقيق توأم. لم يجفله الأمر بل أربكه وحيّره. وطفق يرمق شبيهه الذي كان يتفرّس فيه مبتسماً تلك الابتسامة المبهمة التي لا تشفّ عن شعور أو عاطفة أو تعبير. محض إيماءة لا يعرف كنهها وباعثها.
ـ يوم جميل، ألا تظن؟
يكرّر السؤال الذي ينتشله قليلاً من دوار الحيرة، فيجيب بلا حماسة بل بشيء من الشرود..
ـ نعم، جميل.
يرمي الشبيه كل ما لديه من فتات وينفض عن يديه النثار فيما يدنو منه قائلاً:
ـ ينبغي على المرء أن يحتفي بيوم كهذا..
وعندما يتوقف قبالته يضيف:
ـ لو كنت مكانك لاحتفيت هكذا..
إزاء دهشته وذهوله، يشرع الشبيه في خلع ملابسه على مهل وبلا خجل وعيناه مشدودتان إلى عينيّ الآخر في تحدٍ صارخ، غير آبه لأحد، كما لو أن المكان قد خلا إلا منهما، كما لو أن الميدان قد تجرّد من هندسته واستحال مخدعاً. والشبيه يفرط في التهور والرعونة ويتعرّى تماماً، ثم يبدأ في الرقص على نحو أخرق، بلا إيقاع يحفظ لحركاته التناغم والتوازن. والعري، لا الرقص، هو ما يشدّ أنظار وفضول المحيطين بهما والذين يقتربون فاردين الضحك والحيرة والاستنكار والحياء والنفور. الدائرة تكبر والحشود تتزايد وهو وسط كل هذا يكاد يذوب خجلاً وارتباكاً إذ يشعر بأن النظرات مصوّبة نحوه وأن المشاعر المتداخلة والمتعارضة موجهة إليه وحده. لا يحتمل البقاء في البؤرة وقتاً أطول، لذا يندفع راكضاً مخترقاً الصفوف محاولاً الابتعاد عن الناس، عن الميدان، عن الشبيه الذي لضحكه أصداء مخيفة.
في الحافلة يستقر ويسترخي محاولاً أن يستجمع شتات لهاثه وأفكاره. ليست له وجهة محددة بل اختار الحافلة ليهرب من وضع شاذ ومربك، من مكان شهد فجأة حالة من الجنون المباغت.
في المحطة التالية ينزل ليجد نفسه قرب منتزه تكثر فيه أشجار الرمان. لكن الذي لم يتوقعه ـ هذا الجوّال بلا شغف، المتدثر بالرصانة، والذي لا يعرف كيف يفاوض حاضره ـ أن يصادف شبيهه هنا، في هذا المنتزه العامر بالهدوء والطمأنينة، واقفاً أمامه كلغز ساخر لا يعلن من أين جاء ولا كيف يملي على الصدفة أهواءه بل يمتحن فطنته واتزانه.. هكذا يعترض سبيله مثل كمين سافر، متأبطاً المعضل والمشكل، ولا يتيح له أن يسأل أو يتذمر، بل يمنحه تلك الابتسامة المبهمة التي تمعن في إذكاء المعضلة، ويهمس قائلاً في مرح شيطاني:
ـ أنظر إلى ما سأفعل..
ويمضي مندفعاً ليشقّ عباب السكينة بشفرة الفوضى، ويشيع الالتباس في رحاب اليقين، ويذرذر ملح العصيان هنا وهناك، فلا تعود الطمأنينة قائمة بعد أن يعصف بالمكان جنون فلت من عقاله واجتاح المنتزه. وها هو الشبيه ينهال ضرباً بالعصا على كلب وديع، يقطع بالمقص خيوط البالونات لتفلت من الأيدي الصغيرة غير عابئ بصيحات الأطفال وبكائهم، يدفع المسنّين بقوة فيطيح بهم أرضاً ليضحك على عجزهم ورعبهم، ويرشق بالحجارة البط العائم في البحيرة الصغيرة فيما يطلق العويل الوحشي الأشبه بعويل كائن بدائي.
أما هو فيعود سريعاً إلى بيته مضرجاً بالغضب، ويزداد امتقاعاً كلما استعاد ما فعله ذاك الشبيه من حماقات وأفعال مشينة. ينادي زوجته فلا تجيب. يدخل حجرة النوم غير أنه يتوقف فجأة فاغر الفم، مصعوقاً، عندما يرى زوجته على السرير غارقة في نوم عميق وعلى مقربة يقف الشبيه متفرساً فيه بوقاحة، راسماً بشفتيه تلك الابتسامة المبهمة.
لوهلة يشعر بانحباس صوته في حلقه، وحين تنحسر قليلاً الفجاءة، يخرج صوته مرتعشاً، متشنجاً:
ـ ماذا تفعل هنا؟ ماذا تريد؟
ـ أنظر إليّ، وستعرف.
يقول ذلك بنبرة مرحة لكن شيطانية. ثم بلا تردد ودونما تباطوء، يرفع الوسادة ويضعها على وجه المرأة ضاغطاً بقوة كي يحبس أنفاسها ويخنقها.
في حين يظل هو في مكانه بلا حراك، يراقب في ذهول كما لو أن الحدث قد شلّ أعضاءه وحواسه.. حتى أن أحداً لم يسمع صرخته، باستثناء ذلك المساء الذي التفت برهة ثم مضى يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

ندف ظهيرة باردة

- 1 -

في الثلاثين من عمره تقريباً، بقامةٍ مديدة لا يبدو من مشيته أنه يزهو بها عمداً، ووجهٍ يفصح عن نبل وعن براءة لا تقدر المحن أن تحجبهما عن العين الفاحصة. لا حياد في نظراته التي يتركها تحوم حول هبات الطبيعة، إذ تترقرق في مقلتيه حباب شكر وعرفان كلما تمسحت أجفانه بحفيف شجر أو رفيف نهر. من أطراف أصابعه يترذرذ رماد تجارب عاشها في عاصمة أساءت إليه أكثر مما أحسنت، وهو الغريب الهابط من قرية اجتاحتها المجاعة فشرعت أبوابها الثكلى لنزوح مغبرّ نحو المناطق القريبة والبعيدة، وانحدر هو وحيداً وفقيراً إلا من صرّة تكدّست فيها الثياب مع فتات أحلام وذكريات أثيرة لا يريد للريح أن تذرها في مهب مأساة تبعثر المراثي هنا وهناك، وحثيثاً يمضي نحو مدينة حسب أنها سوف تستضيف يُتمه وعريه، وستكون مرتعاً لأهوائه الحرة من أي لجام، وما علم أنها تدّخر له الخيانة تحت نهار له ملمس المخمل.
هكذا رمته بالارتياب مرةً والخديعة مرةً، وما منحته رزقاً شريفاً منه يقتات ومنه يبني مسكناً يصون سرائره، ولا امرأة يستكين إلى خاصرتها ليلاً ما إن تحكم الوحشة أصفادها على روحه، ولا صديقاً يتكئ على رهافته إذا اشتهى أن يبكي. لذا جهر بالانشقاق وجنح إلى المعصية.
هكذا انجرف ثملاً نحو جرائر نزقة لها طعم الغبار ومذاق العرق، وهو الغرّ الذاهب إلى الجناية كمن يذهب إلى ملعب الطفولة، فامتهن السرقات الصغيرة بجسارة لكن بلا خبرة أو حكمة، وعاشر المومسات داخل بيوت تعتكف فيها العتمة وإليها يلتجئ السل والزهري.
هكذا رمته المدينة بالوشاية مرةً والنصالِ مرةً، وعندما يسند صدغه إلى وسادة اخشوشنت من فرط الشجن، يذرف ممالك رخوة لا يستوطنها إلا من أنكرته الرفاهة وشقّ قلبه عشق لا يهتدي إليه أحد.
ذات ليلة حالكة، خرج من بيت مومس ليتعثر في الزقاق بجسم رجل ممدّد على الأرض ظن أنه مخمور, فتّش جيوبه وعثر على محفظة تكدّست فيها البطاقات والأوراق النقدية، أخذها وتابع طريقه ولم يدر أن المحفظة المستقرة في جيبه ستكون دليل إدانة على جريمة قتل لم يرتكبها.

- 2 -

في الخمسين من عمره تقريباً.. هكذا يوحي الشيب الذي يخالط السواد في شعره. قصير وسمين، خفيف الحركة رغم بدانته. يمشي بلا غطرسة عارفاً أنه وسط طبيعة لا تبالي ولا تكترث. من الحماقة أن يتعجرف، هو الذي يدرك مدى ضآلته حتى بين نظرائه الذين يبزّونه مكانةً ومنزلة.
انحدر من طبقة موشومة بالفقر، مغسولة بالحيلة، ومثل غيره من أبناء طبقته عرف كيف يوظف عضلاته في مهن وضيعة يكسب منها قوت يومه، حتى استقر في مهنة يخشى الكثيرون من ممارستها: جلاد.
ما كان يخاف من الموت، فالموت حق. والذين يرميهم القدر في طريقه لينفّذ فيهم القصاص هم أفراد عصوا الشرائع السماوية وخرجوا على القوانين فحكم عليهم بالموت. هكذا يفهم الأمر ببساطة، ولا يعطي أحداً الحق في مساءلته أو يشبع فضوله بتفاصيل مثيرة. لكن عندما ينفث دخان سيجارته يبدو كمن ينفث عمراً بدّده في مهنة لا تروق له أو ـ على الأقل ـ لا يؤديها في شغف.
تزوج امرأة بسيطة وقنوعة أنجبت له خمسة عيال ملأوا الدار زعيقاً وشقاوة، غير أنه كان رحيماً بهم وودوداً معهم رغم صرامة قسماته وجهامة وجهه. كثيراً تمنى أن يتمرد على رصانته ويتصرف بطيش ومجون لكنه في كل مرة يكبح نفسه ويشكم أهواءه.

- 3 -

معاً يسيران في حقل الحنطة المبلل بحليب الخصوبة، الحقل الأشبه ببحيرة من ذهب آن تميس وتتموج في انتشاء فاحش ـ مع حركة الرياح الثملة ـ السنابلُ المضاءة بنثار بروق عابرة. ومن يراهما هكذا، يسيران متجاورين في ألفة وعلى أكتافهما تتناثر ندف ظهيرة باردة يناوشها النعاس، لا يشك للحظة أنهما صديقان يسافران معاً ويفتحان التخوم بخطى خاضت في المغامرة زمناً.
وحدها الأرانب، وربما السنابل المضاءة بنثار بروق عابرة، تصيخ إلى حديثهما الهادئ، الأقرب إلى الهمس، فتسمع الجلاد يقول:
ـ منذ سنوات طويلة لم أحلم. بودي أن أرى حلماً رائقاً وعذباً أكون فيه شخصاُ آخر، مختلفاً، يستوطن عالماً لا خوف فيه..
ـ مم تخاف؟
ـ من كل شيء..
ـ البارحة حلمت أني وحدي في جزيرة صغيرة لا ماء فيها ولا شجر. كنت انتظر عبور سفينة لتنتشلني من هذا المكان القاحل، المهجور، لكن ما لاحت سفينة في مدى البصر. مشيت مسافةً فرأيت قارباً راسياً على مقربة ولا أحد فيه. على عجل اندفعت نحو المياه أخوض فيها حتى وصلت إلى القارب. وجدت بداخله مجدافاً، فشرعت بالتجديف غير أن المياه عجزت عن تحريك القارب الذي بدا ثقيلاً ويرفض أن يتزحزح شبراً. بعد يأسٍ، نزلت من القارب وعدت خائضاً المياه. عندئذ تحرك القارب بخفة ورشاقة ومضى يشق المياه كشفرة حادة.
ـ وماذا يعني حلمك هذا؟
ـ الأحلام لا تعني شيئاً، لهذا السبب نراها عندما نغمض أعيننا.. لو كانت واضحة ومفهومة لرأيناها في اليقظة.

- 4 -

عندما يتوقفان تحت شجرة تفاح كانت وقتذاك تهزّ ثمارها مثلما تهزّ الأمومة مهودها أثناء قيلولة العالم، يلتفت الجلاد ويطرح السؤال المحيّر الذي أرجـأه طويلاً: لماذا اخترت أن تموت هنا؟
ومليّاً ينظر إليه المحكوم بالموت، وبينهما يتأرجح صمت من رصاص. أما على مقربة، فقد كان المساء يركض ويضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

عن مصائر تهرول نحو ضفاف سماوية

- 1 -

المياه التي كانت تشهق آن يمسّها عضل الكائن أضحت تعدو محمومةً في المسرح المائي حيث يتبعثر حطام قارب كان بالأمس يرسو كسرير جذل أو يتهادى قرب شبكةٍ تستدرج الأسماك إلى الكمين.
ثمة أسماك تلهو
ثمة أفق مرشوش بالأرق يغيّر ألوانه ويتثاءب
ثمة صباح يأتي مغمغماً فيما يؤرجح مصباحه الفضي
ثمة بحر يتأمل نفسه في مرآة الأزل.
هكذا وجدوه: جثة طافية على وجهها، مفرودة الذراعين، والمياه تهدهد الجسم العائم وتؤانس وحدته بخرير يشبه التهويدة. كان كالنائم على فراش وثير، أسير راحةٍ أبدية.
وفي البعيد، تجاه أفق يرخي أطرافه في كسل، كانت العاصفة تمشي وئيداً خلف سفن تشق اللجّ وتحرث الجهات غير عابئة بالأمواج التي تتراكض من حولها في جلبة.. سفن تشفّ عن ربابنة وملاحين لا يكفّون عن السفر، وعندما تشاطئ أحداقهم المرافئ الأليفة يراودهم ثانيةً الشغف بالسفر، كأنهم أسرى رحلة أبدية لا تنتهي عند شاطئ أو ميناء.

- 2 -

الغزال الذي تلطخ عنقه بطلاء أحمر يشبه دم طفل، يتنزه الآن مع عجوز ـ سوف تموت في يوم غائم ـ ويرنو بين الحين والحين إلى حلبات مسيّجة هنا وهناك تأخذ شكل زنازن فتعتريه الرعدة ويجفل لكنه يتابع في حذر مختلساً النظر إلى الحلبات التي ترمقه شَزْراً وتمعن في إرعابه. وعندما ترتقي العجوز عتبات الفراغ لتلهو مع غيوم تتقاذف بالأنداء، يراوده إحساس مقلق بأنه ليس في مأمن، وأن الأحداق التي تحاصره الآن هي شراك فاغرة، وأنه وحيد في مكـان يرجمـه بالعداوة.. لذا يستل ظله مثلما يستل البرق وميضه وينسل عدْواً، صاعداً بشهيقه وعزلته نحو غابة لم يطرقها أحد. وهناك يصطفي عشباً وجدولاً وماءً رقراقاً، ويشحذ أظلافه عارفاً أن الدويّ قادم وأن الفجاءة سوف تغدر به لا محالة وأن الطلقة لن تمهله حتى يغفو.

- 3 -

في غرفة عارية، خاوية تماماً إلا من مرآة محفورة في الحائط، ونافذة مفتوحة مثل أرق أزلي على مدى فسيح تتراكض فيه الرياح، وبضع أزهار من الشوكران انبثقت من شق في الجدار،
تدخل امرأة متوشحة بالحيرة، ملتفعة بالارتياب، وهي تجهل من جاء بها إلى هنا،
وكيف وصلت إلى هنا،
تدنو من المرآة كما لو تدنو من ثمرة محرمة لكن مغوية، غير أنها لا ترى نفسها فتظن أن المرآة منزوعة الزجاج. تمد يدها فترتطم أطراف الأصابع بالزجاج الصقيل، وعندئذ يعكس لا ما يوجد أمامه بل ما يوجد ربما خلفه أو في أحشائه، كأنه صار شاشة عرض أو باباً مفتوحاً على زمن آخر، وإذ تمعن النظر في دهشة بالغة، تدرك أن ما تراه ليس سوى تاريخها الخاص المختزل في صور متلاحقة تظهرها طفلةً ثم صبيةً فمراهقة لتتوقف عند مرحلة الشباب.. وكأن المرآة محض ذاكرة شخصية تستدعي ما اختزنته لسنوات في بئرٍ ما اجتاحها نسيان. وما إن تتلاشى الصور حتى تبدأ المرآة في إصدار صوت خافت أشبه بالشهيق والزفير.. كأنها تتنفس ببطء. براحة يدها تتحسس السطح الذي تحوّل بغتة إلى غشاء من الجلد يخفق وينبض مثل كائن حي. وبعد دقيقة، ينشق الغشاء طولياً كما لو بمشرط خفي، وتنتابها رغبة عارمة، لا يمكن التحكم بها أو السيطرة عليها، في الدخول. وكالمنوّمة تدلف الكينونة النابضة، شاعرةً بنفحة لها عبق غريب، لكن منعش ومريح، تهبّ عليها هبوب النسيم على وجه بلّله الندى. وعندما تختفي تماماً، يلتئم الغشاء ثانيةً ليتحوّل من جديد إلى سطح زجاجي مصقول يعكس أشياء الغرفة.. في حياد.

- 4 -

في الطريق الواهب شغافه للمجازفات كما للمصادفات، الذي سلكته نهاراً بغالٌ مرهقة تحمل على ظهورها الضباب الكفيف، يمضي ذاك الشاب العجول متدرّعاً بسديم السفر، بلا رفيق يؤانس صمته ولا تجربة يحتذي بها، حيناً تهبّ عليه ظلال من سافروا بلا متاع ولا شغف بالسفر، وحيناً تهبّ عليه ظلال من ضلوا وليس في جيوبهم كسرة خبز أو حفنة من التمر، شاخصاً إلى شمال يعوي محذّراً الجهات من خسوف وشيك.
عند نبعٍ ينتحل ماؤه لون عينيّ من ينظر إليه، وتضيئه فراشات مكسوّة باللهب، يتوقف المسافر الشاب ليستريح ساعةً، ولربما يغفو ساعةً. وتحت شجرة لم تثمر بعد، يضع صرّته جانباً ويجلس مسنداً ظهره إلى الجذع، واهباً حواسه لترف اليقظة في رحاب طبيعة لا تحقد.
وإلى هذا المكان يأتي الرعاة مع أغنامهم وكلابهم ومزاميرهم وضوضائهم. يسرّحون حيواناتهم جانباً وينتخبون أرضاً معشوشبة يجلسون عليها، يفرشون الأرغفة والجبن والبصل، ثم يبدأون في حلج الثرثرة ونثر الدعابات.
لكن ما أثار استغراب المسافر الشاب أن هؤلاء الرعاة لم يلتفتوا إليه، لم يعيروه اهتماماً، لم يكترثوا به على الإطلاق. حتى كلابهم لم تقترب منه لتنبح أو تتشمّم، كأنه صار خفيّاً، كأن حضوره حضور هباء يسرف في التخفي.
يغادر مكانه ويدنو منهم، لا ليتعرّف إنما ليبدّد ظنونه ويتيقّن من أمر حيّره للتو.
يتوقف على مقربة، غير أن أحداً منهم لا يلتفت صوبه. يتنحنح ويلقي تحيةً مهذبة، لكنهم يتجاهلونه ولا يكترثون به أو ربما لا يسمعونه. عندئذ فقط يدرك بأنهم مجرد وهْم أو محض أشباح جاءوا من بعيد ليرتادوا أماكن لا يقدرون على نسيانها.
عندما يستأنف الرحلة يلاحظ أن أحداً لا يوجّه إليه التفاتة أو كلمة أو حتى يعترف بوجوده.. لا الذين يمرّ بهم، لا الشاحنات، لا الحيوانات، ولا حتى العصافير التي لا تهرب حين يحاذيها، فيزداد يقينه بأن الأشباح يملأون الأرض.
يواصل سيره في طريق لا ينتهي بل يمتدّ أمامه مثل متاهة لا منافذ لها، ولا تحتكم إليها المسافة، كأنه في سفر أبدي لا نهاية له، والذي حزّ في نفسه وملأ قلبه بالأسى أنه وعد أمه وأخته، قبل انطلاقه منذ عشرة شهور، بأنه سوف يعود قريباً ليحكي لهم عن السفر.

أفق لا يمسّه جناح

طويل وحر هو الطريق الواهب شغافه للمجازفات كما للمصادفات والذي يمتد مثل لسان من التراب يسيّجه أفق لا تطاله يد ولا يمسّه جناح. حيناً يلتوي في مجون راسماً في الأرض أخاديد كتلك التجاعيد التي يرسمها الزمن على الوجوه آن تشيخ، وحيناً يلتف حول نفسه كأفعى لا تشتهي إلا نفسها.
طريق آخر لكنه وعر وشائك سلكته نهاراً بغالٌ مرهقة تحمل على ظهورها الضباب الكفيف، وليلاً طرقته مصابيح مذعورة تشهق ما إن تتعثر بذيل سنجاب أو نحيب أرامل. وعورته ملغومة بالشراك وبالمزاح أيضاً.. ومن يسمع طريقاً يضحك غير دخان كسيح يعرف كيف يراوغ الفخاخ؟
للرمل سطوة القناع آن يرتاب اليقين في يقينه،
للرماد ـ سليل الأبد ـ حرية أن يسرح في حضور النار كما في غيابها،
للمدى فم مفتوح على النهايات المضاءة بكبريت السهوب،
والمسافات تتناوب على انتحال أشكال باذخة تغري بها الأدلاء أو تموّه أبعادها لئلا تتعرف الهجرات على جهاتها.
طرق ترتعد كلما أصاخت إلى وقع أظلاف تسرف في العنف بحثاً عن ماء أو عشب، كلما حاذتها جلبة حطابين يسعون بفؤوسهم المسنّنة وراء أشجار هاربة، كلما احتكت الأحذية بالأحجار الناتئة وطحنت حشائش يفيض منها دم الجذور، كلما احتدمت الرياح في عراكها مع طواحين الهواء.
طرق ترتعد والهباء الصياد يتربّص بالطرائد الرافعة لهاثها كشظايا جرح، الشاخصة إلى سماء تأخذ شكل مذبح.

*****

هبوطاً يمضي ذاك الشاب العجول بين هضاب توائم تشدّها الخرائط إلى مواقعها بحبال الجغرافيين لئلا تنفلت وتربك التضاريس، أو صعوداً نحو مرتفعات مرشوشة قممها بالثلج ومضاءة بما لا يُحصى من المذنّبات الجوالة.
مهرولاً يمضي كأنه موعود بجنةٍ خلقها الله لمن اصطفاهم عن حكمةٍ لا يرقى إلى فهمها إنس.
متدرّعاً بسديم السفر يمضي، بلا رفيق يؤانس صمته المثقل بالضجيج ولا تجربة يحتذي بها. يحمل سلة مكتظة بالمشمش تتأرجح في فراغ مليء بالمهاوي.
تهبّ عليه ظلال من سافروا، بلا متاع ولا شغف بالسفر، مع بغال التهبت عيونها من شدّة الضجر فتحرن بين بئر وبئر نافضة الأسرجة عن ظهورها الضامرة.. وظلال من ضلوا وليس في جيوبهم كسرة خبز أو حفنة من التمر، المتخمين بالآثام، الضاربين أوتادهم بين تيهٍ وتيه.. وأولئك الذين تكالبت عليهم المحن فلم يحتكموا إلى مشورة البرّ التماسا لهدايةٍ أو نصيحة، ولم يهيبوا بالعراء أن يهادن رغبة النزوح بل جنحوا إلى القنوط وراحوا في السبات حتى غمرهم النسيان وغرقوا في لجّه.

*****

وهناك التخوم البعيدة، التخوم التي تجثو على حواف الأفق حارسةً ـ وقت القيلولة ـ نوم القرى (تلك الخبيرة في تذوق طعم الإشاعات لكن أبداً لا تهجس بالكوارث قبل وقوعها) ساهرةً على طمأنينة القرى بعد أن مسّها الهيجان جرّاء تهدّم أسقف بيوتها بعد تساقط شهب صغيرة ظنوا أنها بَرَد أو حجارة رشقتهم بها قرى مجاورة.
حدث هذا قبل أسابيع ـ كما يقول المزارع الحامل على كتفه فأساً علاها الصدأ ـ وأضاف وهو يحك ذقنه بأظافر تخللها السماد: "منذ ذلك الحين لم يعد أحد من الأهالي يثق بما تبعثه السماء.. حتى المعجزات النادرة. وحس الارتياب شمل حتى المطر الذي يحتاجه المزارعون، إذ لم يعودوا يشاركون في إقامة صلاة الاستسقاء أو يكلموا المطر، حين يهبط، بكلام لطيف وودّي كما كانوا يفعلون في السابق، بل صاروا يتجاهلونه ويشيحون عنه".
يقول المزارع هذا وهو يرنو إلى غيوم كانت تعبر على مهل شديد، فيما يحك ذقنه بأظافر تخللها السماد. تبدو عليه الدهشة، ثم يهمس وهو يشير إلى الســـــماء: "قل لي يا رجل، ألا ترى، مثلي، امرأةً عجوزاً طافية هناك وتراقص السحب في جذل؟"

*****

يمرّ الخريف فتتعرى الأشجار الواقفة صفاً صفاً لا لتستعرض إباحيتها بل تقشفها، منتظرةً رحيل الخريف كي تسترد ما انحسر عنها من عشاق ومن عنادل. أما الرياح فتحتشد قرب الطواحين التي تشتّت كل فوج ترسله نحوها، مصدرةً ـ الطواحين ـ تلك الحشرجات الشبيهة بصيحات لقالق تبحث عن بحر لا يحمي أسماكه.
ثمة نواعير مفتونة بأشكالها تحرّك المياه مثلما تحرّك المراوحُ الهواءَ.. بخفّة ومهارة، فيما ينحني النبات ليحقن نسغه بما يتيسّر من العصارة، والأرض ترفع مهودها لترضع التربة حليب الأزل.
شاحنات خاوية تأتي، من عاصمة تتّكل في غذائها على الريف، وتتوزّع هنا وهناك قرب حقول العنب والشمّام، لتغادر بعد ساعتين مشحونة بأصناف الفواكه والخضار، ومصحوبة بدويّ عجلات تطحن الأحجار الصغيرة المتناثرة في حافتي الطريق.
يصل إلى محطة في الطريق يتوقف عندها المسافرون التماسا للراحة وتناول الطعام أو شرب الشاي في مطعم صغير متواضع يعجّ بالذباب والنمل. وهناك موقف للحافلات لم يستقبل بعد غير حافلة واحدة ينام سائقها بداخلها في وضع لا يبدو مريحاً.
يدخل ويطلب حساءً، ثم صامتاً يوجّه نظرات خاملة، لا فضول فيها، إلى من تصادف وجودهم في المكان من عاملين ومسافرين، بينما في الخارج عاصفة رملية على وشك الاقتراب، قادمةً من شمال يعوي محذراً الجهات.

*****

لا، لم يكن جالساً هناك هذا الذي طلب حساءً ورشق الحضور بنظرات خاملة.
كان طوال الوقت في غرفته واقفاً لصق نافذة يطلّ منها، ويتخيّل أنه سافر بين هضاب تشدّها الخرائط، متدرّعاً بسديم السفر، والظلال تهبّ عليه من كل حدب حتى وصل إلى محطة كانت تشهد وقتذاك هبوب عاصفة رملية فيما هو يرتشف الحساء الساخن.
لا، لم يغادر غرفته منذ أسابيع طويلة نسي أن يحصيها بعد أن تواطأ مع عزلته وهادن الصمت الناسك.
والآن، إذ يطلّ من النافذة، متكئاً على حلمٍ انحسرت عنه الصور، يبصر بعينين مغرورقتين بالوحشةِ مدينةً تركض مذعورةً ومن أطرافها يتصاعد اللهب، ومساءً يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

هو والهاوية.. وجهاً لوجه

الطقس في الخارج ينذر بمطر وشيك، فالسماء ملبّدة بغيوم حبلى بالمياه.. غيوم تزداد قتامةً كلما احتكت بالعتمة المخيّمة هناك، بين فراغ يومض بين حين وحين، وفراغ تعبره مذنّبات عجولة لا تهدأ.
ثمة رعد خفيّ يدحرج هديره خلف رياح تعدو مولولةً كأن بها مسّ، وبرق نزق يرمي سهامه النارية في حلبة المدى فلا تطيش بل تصيب بدقة أشجار الصنوبر المتراصة والتي تضيء الأماكن بحرائق فاتنة تخلب البصر. غير أن الغيوم لا تعرف أنها حبلى، لذا يرجئ المطر زخ قطراته حتى وقت آخر.
زخم من الدويّ والشرر يتدافع سرباً سرباً نحو بقاع مغسولة بالطل الحامض، حيث تندلع الأجسام الأثيرية، ويتناثر غبار الطلع حفنةً حفنةً، أما النيازك فتتشظى مثل ألعاب نارية. هنا الطبيعة وحدها لها السطوة، ولا حضور للبشر ولا لهم حظوة.
المشهد الضاج في الخارج، الذي تحتدم فيه عناصر الطقس، ليس كما المشهد الساكن، الفاتر، داخل حجرة نوم كل شيء فيها ثابت وجامد باستثناء الستارة التي تحركها نسائم خفيفة تنسلّ عبر النافذة المفتوحة لتنفخ الستارة قليلاً وتحركها على مهلٍ ثم تنزلق داخلة في أناة لتستقر خاملةً على سرير خامل يترقّب بصبر مجيء الكائن الحي الذي سوف يرتمي في حضنه مثل طفل مسلوب الإرادة، ويراه يتغلغل في نسغ النوم بلا حول حتى يغور في لجّه، وحينذاك يشبّ حلم شفيف في نفس غابت عنها الكوابح وتُركت بلا رقيب. والسرير سوف يشهد اندلاع الصور واحتدامها بشهقة من يرى المعجزة لأول مرة.
من الباب المفتوح المتصل بالحمّام يمكن رؤية ساكن الحجرة الذي ينظف أسنانه بالفرشاة فيما يتطلع إلى المرآة الصغيرة المثبّتة أمامه على الجدار متفحصاً بإمعان قسمات وجهه التي تشفّ عن أربعين عاماً عاش السنتين الأخيرتين منها وحيداً بعد رحيل زوجته. وها يتمعن أكثر ويكتشف وجود شعرة فضية اللون اندست بين الخصلات في غفلة منه. يسارع إلى انتزاعها غير آبه للوخز الخفيف الناجم عن ذلك.
يتمضمض بسائل مطهّر هذا الأرمل الذي سأم من وحدته، والذي بوسع أشياء الحجرة أن تسمع غرغرته. بعد دقائق يخرج من الحمّام ثم يضطجع على السرير مريحاً رأسه على مخدّات بالغة النعومة والمرونة، ويحدّق في السقف مستعيداً، ربما للمرة العشرين في هذا اليوم، الفكرة التي استبدّت به منذ الصباح الباكر: أن يتزوج ثانيةً من امرأة ورثت الخصوبة من نسل يرتجل الولادات كلما هبّت الأنوثة على فحولة تمجّد اللذة.
يريد امرأةً تهبه ما لم تهبه زوجته العاقر: طفل يشمّ في بشرته الطرية رائحة أسلافه الذين نثروا في خلايا كل جيل بذار الخصوبة. طفل اشتاق إليه طويلاً لكنه تظاهر بعدم الاهتمام بل و أراد إقناع زوجته بأنه لا يحب الأطفال كي لا يؤذي مشاعرها، ومراعاةً للحساسية المفرطة الناجمة عن وضعٍ شاذ تعانيه هي بدرجة أكبر. لكن بعد رحيلها الموجع استيقظت فيه تلك الرغبة الدفينة، تلك الحاجة اللحوحة لأن يشمّ في بشرة الطفل رائحة أسلاف لا ريب أنهم ينظرون إليه الآن من وراء الحجاب الضبابي في حسرةٍ، وفي رهبةِ من يتهدّده النسيان.
يستعيد الفكرة، يجترّها، يتفحصها من مختلف جوانبها، ويستعرض وجوه المرشحات لحمل البذرة المباركة، بذرة الخلق. والسرير يزداد ضجراً وإحساساً بالوحدة كلما أمعن هذا الأرمل في تحريك وسبر فكرته، لكن انتظاره لا يطول، إذ تنطفئ الأنوار وتحل العتمة الودودة، والرجل يسترخي مزيحاً الفكرة جانباً، يغمض عينيه مسدلاً أجفانه على يوم آخر شاق ثم ينسل وئيداً تحت غشاء النوم ولا مأرب له غير أن يحلم.
ها هو في حلمه واقف على سطح مبنى شاهق، مواجهاً الفراغ الذي يمتد إلى مــا لا نهاية، وكأن الكون قد خلا إلا منه. لا صوت، لا نأمة، لا رفيف، كأنه الإنسان الأول والأخير في كونٍ خُلق لأجله وحده. لا حضور لأحد، لا سلطة لأحد، والأشياء لم تعد مبثوثة هنا وهناك تزاحم الكائنات في مدى لا شكل له، مدى معلّق على مشجب الفضاء.
في جوٍ صحوٍ كهذا، لا يربكه مجيء غيمة تتهادى لتفتح باب التأويل على مصراعيه، ولا يعكّر صفوه غبار هائج يتكوثر ليطمس الأشكال ويخيف الجماد.. في جوٍ صحوٍ كهذا، يحلو للغواية أن ترفع خمار الحشمة وترخي غلالة الفحش ومن فمها تتذرذر ريحٌ بالغة الخفة، تنساب برشاقة ولها حفيف كحفيف الغصن.
ها واقف في حلمه على حافة سطح شاهق. هو والهاوية وجهاً لوجه، وكل منهما يحدّق في الآخر.. بلا ضغينة.
والغواية تدعوه بأعذب الكلام أن يتحرّر من مخاوفه ويجتاز هذا الحيّز الفاصل بين رهبة السقوط في الهاوية والرغبة الجارفة في عبورها تحليقاً بخفة طائر وبلا أجنحة. يلملم شجاعته، يحشد أنفاسه في زفير مكتوم، يطبق أجفانه، ومع شهقة ـ لا حياء فيهاـ يرمي بنفسه، بثقله، برهانِه مع القدر، فيتلقّفه الفضاء بحنان أبوي، حنان من يسعف عاجزاً دون مكافأة، ويمنحه الأمان فلا يعود خائفاً ولا مشوشاً.
وها يطفو في الهواء، يعوم، يحوم مخفوراً بالرياح الصديقة وقد امتلأت رئته بالغبطة وبالجسارة.
يحلّق الآن برشاقة شاهين، متمرغاً في جوٍ يتخيّله فراشاً مرّةً ونهراً مرّةً، عارفاً ـ كالزاجل ـ موقع مسكنه والمسالك السماوية التي تفضي إلى بيته. غير أنه يهفو لرؤية أماكن أخرى خارج حدود منطقته الآمنة، لمعرفة كيف تبدو المدينة من أعلى، وكيف تنظر الطيور إلى البشر الزاحفين على عجل وهم أكثر ضآلة من النمل.
فيما يطير، بطيش ونزق الآن، نحو تخوم أبعد، مطلقاً الصيحات الزاعقة التي تكاد تشبه صيحات الإوزّ، لا ينتبه إلى تمزق ملابسه خرقةً خرقةً حتى يتجرّد منها تماماً، وفي غضون ذلك يتساقط شعر رأسه تماماً وتحتّ الشعيرات المتناثرة في أنحاء بدنه لينبت عوضاً عنها زغب وريش يكسو كل جسمه، والبشرة تصير أكثر رقة ونعومة، ويبدأ الفم بالتكوّر والتمدد والتقوّس ليتخذ شكل منقار، وفي موضع الذراعين ينبجس جناحان، ومن المؤخرة ينبثق ذيل طويل مريّش، والعينان تضيقان وتصبحان أكثر حدة، والجسم ينكمش والأعضاء تتقلص، وشيئاً فشيئاً يتحول إلى طائر حقيقي صغير التكوين، خفيف الوزن، وبريش زاهي الألوان.
لا يفزعه هذا التحوّل، والذهول الذي اعتراه في اللحظات الأولى التي أدرك عندها أنه يتعرض للتحول الفيزيائي، سرعان ما تبدّد ليحل محله إحساس عارم بالإثارة والانتشاء، إذ ها ينسلخ من كينونته البشرية لينتحل هيئة طائر يسرف في التحليق ويتوغل نحو مناطق أخرى.. حراً وفاتحاً. يعبر سهولاً مفروشة ببُسُط خضراء ناعمة، حقولاً بلون الذهب تغسلها الشمس بأشعة باردة، واحات حباها الله بفيضٍ من النعم، حتى يصل أخيراً إلى مشارف غابة مكتظة بأشجار وارفة متعدّدة الأسماء والأحجام والثمار.
لكن عندما يلمح ظل رجل يتقافز من موقع إلى موقع متوارياً خلف جذع وآخر، وكأنه يرصده ويتربص به، فإن شيئاً من القلق ينتابه. وعندما يتيقّن من وجود بندقية يحملها هذا الرجل الذي يمتهن الصيد، يضرّجه رعب لا حد له، خصوصاً حين يكتشف بأن الفضاء عارٍ ومكشوف تماماً، ولا يوجد فيه متراس يحتمي به، وبإمكان هذا الصياد ـ الذي يصوّب نحوه بندقيته ـ أن يقنصه ويرديه قتيلاً بطلقة واحدة لو أجاد التصويب.
لا يملك إلا أن يراوغه بحركات تبدو له خرقاء وغير ماهرة، ويصْدق حدسه حينما تخترق الرصاصة جناحه ويسمع صوت الانكسار الحاد وآهة الألم التي ندّت من أحشائه. وفيما هو يهوي من الأعالي نحو هاوية تفتح أشداقها التي تتذرذر جمراً، خيّل له أنه يسمع قهقهات فضاء ينحاز إلى العنف أكثر من انحيازه إلى البراءة.
وقبل أن يرتطم بالأرض، يصحو مطلقاً صيحة فزع.
يتنهّد في ارتياح لحظة إدراكه بأن ما حدث ليس إلا محض حلم. وتصدر عنه ضحكة قصيرة ساخرة فيما يتحسس جسمه كما لو يريد الاطمئنان على تكوينه البشري. يتلفت ليزداد يقيناً بمحيطه البشري، بأشيائه المألوفة. غير أنه يشعر بحافز قوي، تتعذّر مقاومته، يحثّه على مغادرة سريره والذهاب إلى السطح. وكالسائر في نومه، يرتقي الأدراج ويصل إلى السطح. ومن حافته يطل على فضاء بالغ الشفافية حيث لا صوت ولا رفيف، لا كائن ولا غبار، وحده والهاوية وجهاً لوجه.. وكل منهما يحدّق في الآخر بلا ضغينة.
وها يطير في فضاء حنون، لكنه يعرف ـ وملء رئته رعب لا حدّ له ـ بأنه سوف يتحوّل قريباً إلى طائر، وأن صياداً يتربّص به بين أشجار الغابة، وأنه سوف يهوي ـ كما يهوي الآن ـ نحو هاوية مفتوحة الأشداق ولن يسمع غير قهقهات فضاء ينحاز إلى العنف لا البراءة، بينما في الأسفل.. المساء يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً

ضغينة الخارج من نومه مكفهراً

فجراً، يخرج من أروقة نومه مكفهراً، عكر المزاج، مغمغماً في تذمّر وسخط بالغين. بعد ساعةٍ استحم خلالها وتناول فطوره وارتدى ثياب الخروج وتعطّر وهدأ باله وزال عنه التوتر، بعد كل هذا يتجه نحو النافذة المفتوحة على فضاءٍ كهلٍ انحسرت عنه الطيور وتلبّد بغيوم حبلى بالمياه، تتمطى في كسل غير عابئة بالرياح الراكضة خلف نهار لم يفصح بعد عن طقسه. قناديل الصباح تتدلى مثل أثداءٍ هرمة.
عندئذ يخطر له أن يقتل أحداً قبل أن تفرش الظهيرة حُصُرها على قارعة الطريق. والخاطرة تتحوّل تدريجياً إلى هاجس، قرار، ضرورة، هوس. لا تهم الهوية، لا يكترث إن كان شيخاً أو امرأة أو حتى طفلاً، إن كان من هذه الطائفة أو تلك، إن كان صديقاً أو عدواً. لا شروط في انتقاء ضحيته، ولا غاية، لا يبحث عن شهرة أو شهادة أو خلاص أو فرض مطلب. دافعه الوحيد هذه الكراهية العارمة التي تحتدم في أحشائه تجاه البشر، الكراهية التي تشبّ فيه كلما رأى شرورهم وغرورهم وغباءهم وادعاءاتهم الزائفة.
يزدري البشر، لا الحياة ولا العالم. مع ذلك يحتقر الإرهابيين والانتحاريين الذين يملأون شاشات التلفزيون بالأشلاء والصراخ وحطام الأشياء بمجانية مقززة. هو لا يريد أن يعبّر عن كراهيته بهذه الطريقة المشينة، بل ينظر إليها كحالة خاصة، قد تكون سريّة، بين شخصه والمصطفى للموت. ينوي الإنفراد بمن يرشّحه ـ عشوائياً أو بعد رصدٍ وانتقاء ـ بلا مواربة ولا جبن، بل يريد أن يقف أمامه وجهاً لوجه ويعلن له عن كراهيته لجنسه حتى يعرف الآخر سبباً لموته، أما أن تتناثر أشلاءه بلا سبب ولا مبرّر فذلك أمر يثير اشمئزازه لأنه يكشف عن مدى عنف ووحشية الإنسان التي تتجاوز ضراوته ضراوة أي وحش.
لكي يقضي على الآخر يحتاج إلى أداة فعالة للقتل. ولأنه لا يمتلك مسدساً، يتجه على عجل نحو المطبخ، وهناك يبحث في الأدراج وعلى الرفوف عن سكين حادة، سهلة الحمل والإخفاء، فلا يعثر على ضالته. يخرج قاصداً السوق، وفي طريقه إلى هناك يبصر العديد من الأشخاص الذين يرشّحون أنفسهم للقتل بل ويحرضونه، من خلال تفاهاتهم وسخافاتهم، على الإسراع في تنفيذ ذلك.
يصل إلى المحل، يحصل على مبتغاه، يخرج وفي جيبه تختبئ مدية مطوية لا تمجّد غير السفك ولا تشتهي إلا الدم.
إلى الميدان العام، الذي يعجّ بأنفاس تهبّ لتتلاطم وتهوي على القرميد، يذهب ويختار المقهى الذي يحتل حيزاً من الرصيف، ويجلس إلى الطاولة المجاورة لطاولة شاب تستقر بين ساقيه حقيبة جلدية وينتخب لكل من يصادفه حلماً أو حكاية.
الآن، وبينما يرسل نحو الحلبة ـ المغزوّة بالصخب، المترعة بالجرائر ـ نظرات عدائية، حادّة كأنياب المحنة، نظرات قناص ـ ملغومة بالفتك، محفوفة بالشراك ـ تتحرّى مكامن فرائس غافلة عن مراوغات الغدْر بعد أن هادنت المباغتات، لم تبطش بها الجريمة بعد ولم ترتجل العويل بعد. فرائس تسرف في البراءة وتنفضّ عن أكتافها هواجس الحيطة والحذر، هي في هذه اللحظة مغلولة إلى حلبة تسوّرها الضغينة، مشدودة إلى حصار يحكم حصاره حتى الشهقة الأخيرة.. وهو في هذه اللحظة يشعر بالسطوة المطلقة التي يتمتع بها الحاكم المطلق.
الآن، وبينما يرسل تلك النظرات، ينتابه رغماً عنه إحساس ـ منفلت من عِقال الإرادة الواعية، والذي لا يعرف مصدره ومبعثه ـ بالتعاطف مع هؤلاء البشر المبثوثين في أنحاء الميدان ووسطه، المهرولين في حالة مثيرة للشفقة لا الحقد. كائنات تبدو له بالغة الضعف والهشاشة، لا تهتدي إلى طريق الخير أو الشر إلا بمشيئة عليا قاهرة، وظهورها تنوء بأحمال لا تُحصى من البلايا والرزايا، وفي كل منعطف تباغتها الأوزار وزْراً وزْراً.
هذا الإحساس بالعطف والشفقة يتنامى ويتصاعد داخل عروقه حتى يفيض من عينيه في شكل دمعتين لا يشعر بانسلالهما خلسةً بل يُخيّل إليه أن النهار يذرف لبن الرحمة وينحني ليزيح عن الكواهل نثار اللعنة،
وأن الحلبة تذوب حناناً كلما مرقت مأساةٌ تولول فتفرش لها شراشف الطمأنينة،
وأن الشرفات ترخي قرميدها وظلال زوارها ليتفيأ تحتها مارةٌ يتلظون من شدة الرذائل،
وأن الوداعة سيدة المكان.
آنذاك يغمد كراهيته، ولا يتبقى من حقده إلا بصيص يدّخره لمن يستحقه، والذي يتجسّد، الآن، في ذاك الكائن المزهو بفحولته، المتباهي بوسامته وعضلاته، الذي خرج تواً من دكان الحلاق (الحالم بحقل حنطة مبلل بحليب الخصوبة) وراح يزيح عن طريقه ـ عنوةً وبازدراء ـ من يصادفه أو يعترض طريقه دون قصد، وسط احتجاج أبكم لا يقو على المواجهة. وراء هذا المفتون بنفسه، السائر بخيلاء وغطرسة، غير الجدير بعالم هادئ يهنأ فيه الجميع، يسير هو متعقباً الخطى الفخورة بنفسها، عاقداً العزم على إنهاء حياة الآخر دونما تردد. يتريث كلما تريّث الآخر، يوسّع الخطوة كلما سارع الآخر في مشيه، وبعد كل مسافة يتحسس مديته المتوارية في جيبه كما لو يطمئن إلى وجودها، كما لو يستمد منها لا العزيمة وحدها لكن الحقد أيضاً، وبها يستعيد ذلك الشعور المتهيج، المدغدغ للحواس، والذي يعتري من يمتلك السلطة المطلقة، من يحسب نفسه إلهاً قادراً على أن يحيي ويميت.
وراء هذا المزهو بعضلاته يمضي، ومعاً يخرجان من الميدان، حتى يصلان إلى زقاق غير آهل، عندئذ يندفع بأقصى سرعته هاجماً على الآخر من الخلف، ودافعاً إياه بقوة نحو الجدار. يطلق الآخر شهقة فزع تليها آهة ألم عندما يرتطم رأسه بالجدار الذي يشجّ جبينه ويجعل الدم يتدفق من الجرح ليسيل على وجهه. وهو لا يتيح للآخر مجالاً كي يستوعب ما يحدث أو يلملم قواه ويقاوم، إنما يعاجله بلكمات قوية على ظهره ومؤخرة رأسه ثم يديره ليواجهه في اللحظة التي يستلّ مديته ويشهرها في وجه الآخر الذي تجحظ عيناه من الرعب وهو الذي لم يتخلص بعد من وطأة المباغتة والهجوم المفاجئ، إذ ها هو يرتجف بعنف من شدّة الهلع وينتحب بينما الدم الفاحش يعيث في وجهٍ ما عاد يتباهى بالوسامة، ويتناثر على جسم ما عاد يزهو بفحولته، بل تجرد من كل جسارة وغطرسة وبان على حقيقته: مجرد طفل خائف يبكي، ويبلل بنطاله بالبول.
كاد أن ينتحب معه، كاد أن يخرّ على ركبتيه أمامه ويطلب الصفح، كاد أن يمدّ يده ويمسح الدم عن وجهه، كاد أن يمسّد شعره ويهدهد وجعه، غير أنه لم يفعل شيئاً من هذا، إنما نهض في هدوء، خبأ مديته في جيبه، وابتعد عنه في تثاقل، مليئاً باليأس والمرارة.
يعود إلى شقته الباردة. على مهل يتحرك نحو النافذة المفتوحة، وقبل أن يغلقها يلمح في الخارج:
غيوماً حبلى بالمياه تتهادى بتوءدة،
مذنّبات صغيرة تتطاير تاركةً خلفها شرارات سرعان ما تتلاشى،
ومساءً ينسل وحيداً ليضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

غريب في الخلاء ذاته

عاد بعد زمن خالَهُ دهراً، غاب خلاله عن الأنظار وطعن في الغياب حتى استباحه النسيان فما عادت الطرقات الحميمة تحتفظ برائحته الحميمة، ولا عادت المنازل تصيخ إلى مواويله التي مسّها المحو، والأمكنة التي ودّعته باكيةً ما عادت تؤرخ حضوره بإيقاع أنفاسه أو لهاثه، بعد أن أمعن في الطواف حول المناهل الناضبة معتصماً بالعراء وحده.
هناك نادم الغربة حتى آخر قطرة، وزجّ بنفسه في متاهة حسبها ـ لأول وهلة ـ جنةً يخلد فيها وينعم إلى الأبد بما لذّ وطاب، وحسَب أن الأنوثة تفتح له مخدعها وتهيئ السرير والسمر واللذّة الخالدة، لكن المتاهة قادته إلى هاوية لا قرار لها، وكلما هوى بلا أمل في الخلاص، داهمته الوحدة والوهن.
ما عاشر غير الخلاء، وكلما توغل في جهة ظن أن لها منفذاً يفضي إلى حقل أو شاطئ، قادته الجهة إلى الخلاء ذاته ليطلق فيه العواء ذاته، والنشيج الذي يشبه نشيج الناسك.
عاد، كما ذهب، غريباً وعلى كتفيه تحط أوراق شجر ميتة، وليس في جيوبه غير نوى مغامرة ما اكتملت فصولها، وحبّات هال لا يتذكر من أودعها هناك، ربما زائر استضافه يوماً أو محسن لم يجد ما يتصدق به غير هذا، أما معطفه القديم فيرشح نهاراً مرهقاً وسحالي صغيرة وبقايا أصداء بعيدة لا تزال عالقة.
دخل البلدة فجراً، لا يرافقه غير ظل شائخ يتوكأ على سديم رائب يكنس ما يتساقط منه بعقارب الوقت، وغير ذاكرة محدودبة لفرط ما ناءت به من أحداث يشوب صورها الكثير من الغموض والكثير من الصدأ.. ولخطاه وقع الوحشة أو وقع سعف يخشخش.
وفي ميدان عام لم يعجّ بعد بأنفاس تهبّ لتتلاطم وتهوي على القرميد أو بمصادفات تعرف كيف تموّه غموضها، ميدان لم يشهد بعد حضور شاب يحمل حقيبة جلدية وينتخب لكل من يصادفه حلماً أو حكايةً، يحلّ الغريب مع ظله الشائخ وذاكرته المحدودبة. وحائراً يوفد نظراته الذاهلة لتجول في أنحاء الميدان وتستكشف زواياه وأعمدته ومبانيه وحوانيته، والحمائم التي حطت لتوها قرب نافورة صغيرة انقطعت عنها المياه، والأرصفة التي بدأت لتوّها تشهد حضوراً بشرياً سرعان ما تغصّ به الأمكنة. يبعث هذه النظرات الذاهلة لعلها تستجلي ما غمض وما استعصى عليه فهمه، غير أنها ترجع مثلما يرجع الرُسُل الخائبون فيلتبس عليه الأمر أكثر. أيعقل هذا؟! أ يغيب هذه السنوات الطوال معتكفاً في غربة هي أشبه بخلوة المعتزل مع عزلته، مهدوراً في منفى الأبد مثل عدمٍ لا يعلم أنه عدمٌ، ليعود ويجد كل شيء على حاله، ولا شيء تغيّر على الإطلاق، فالجغرافيا هي نفسها، والهندسة نفسها، والقرميد نفسه، والأشكال والأرصفة والحمام والمركبات بأنواعها والدكاكين والسلع، كأن الزمن توقف عند تلك الساعة ذاتها من يوم غابر قبل ثلاثين سنة وما تحرك أبداً، كأن الذاكرة ثبتت عند تلك النقطة من ماضٍ لا يريد أن يمضي ويغادر، كما لو أن اليوم الذي من المفترض أن يجيء بعده ما جاء بعدُ، كما لو أن السنوات التي أمضاها بعيداً كانت محض حلم أو كابوس.
والذي هاله أكثر أن البشر الذين يتوافدون الآن هم أنفسهم الذين توافدوا قبل ثلاثين سنة إلى هذا الميدان. الوجوه نفسها، الملابس نفسها، الباعة الجوالون، العاملون في المحلات، الموظفون، الزبائن، المتسكعون.. هم أنفسهم، ما تغيّروا، ما شاخوا، ما حلّ بهم ما يحلّ بمن يداهمه الزمن، لذلك باتوا رهائن وقت ثابت يرفض أن يتزحزح ولا يقدرون الفكاك منه، لا يقدرون الخروج من زمنٍ كفّ عن الحركة، وربما كفّ عن الوجود، وما يحدث ليس سوى انعكاس أو ظل أو صدى لزمن انحدر حثيثاً نحو الأفول.
ينتشله من ذهوله، من رعبه، شخص يدنو منه على مهل وهو يتفحصه في فضول. ينتبه إلى وجوده فيلتفت نحوه ليتفاجأ برؤية رجل نحيل، بالغ الشحوب. الآخر يلاحظ دهشته فيبتسم ويتكلم بصوت خفيض أقرب إلى الهمس:

ـ تبدو مندهشاً، هل بسبب منظري؟
ـ ما قابلت أحداً بمثل هذا الشحوب..

بالنبرة ذاتها يقول الآخر:

ـ إن ما تراه الآن ليس حقيقياً، وليس وهماً أيضاً. أنت ترى الآن ما تركته قبل رحيلك بساعات.. بالأحرى، أنت ترى اليوم الأخير من حياتك..
ـ من حياتي؟
ـ قبل سنوات طويلة.. ومنذ ذلك الحين، تشهد كل يوم الأحداث نفسها، الأماكن نفسها، الأشخاص أنفسهم..
ـ كل يوم؟!
ـ لكنك لا تتذكّر.. هكذا تعود في اليوم التالي لترَ ما رأيت ولتنس ما رأيت..
ـ لا أفهمك..
ـ تعال معي.
يأخذه من يده ويقوده إلى أقرب واجهة زجاجية لمطعم (لم تنجح عمليات الترميم المتكررة في استعادة فخامته الأولى، والذي سوف يتلطخ ذات ضحى بدم صبي ينتضي جوعاً ويتضور يأساً) وأمام الحاجز الزجاجي الصقيل يتوقفان..
ـ أنظر ..
ينظر إلى انعكاسه فيبصر كائناً بالغ الشحوب والوهن، نزحت عن مداه ينابيع الحياة وما عاد يقطن إلا في إقليم الموت.
هكذا يبتعد مجرجراً ساقيه، مغتمّاً وليس في جيبه غير حبات هال لا يعرف من أودعها هناك، يرافقه ظل شائخ وذاكرة محدودبة لا تكفّ عن خيانته.
هكذا يمضي ولا يعبأ بمساء يمرّ أمامه ويضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

نزيل العزلة

اعتاد الرجل الأعمى أن يخرج من بيته كل صباح مستعيناً بحواسه الأخرى، بغرائزه التي تؤازره أحياناً وتخذله أحياناً، بالحدس الشفيف، بما وهبته له التجربة من خبرة ومكر وفراسة يعلقها على زنده كالتمائم، وما اكتسبه من عادات وطباع كالحذر والصبر والتروي وعدم التهور ومهادنة الأشكال التي تعترض سبيله والتواطوء مع العتمة عوضاً عن الخوف منها أو الارتياب فيها.
هكذا، من نفق مظلم يخرج ليدلف نفقاً مظلماً آخر، وحيداً ومستباحاً، بلا شمس تنير مواطئه ولا دليل يجتاز بوثبةٍ وعورة الأمكنة، محاذراً أن يرتطم بمتاريس الواقع أو ستائر الطبيعة.
بعكازه ـ العين الخشبية، كما يسميها ـ يطرق درع الفراغ معلناً عن حضوره، به يقرأ الأشكال ويحدّد التخوم، به يتقرّى ندوب الأرض ليتجنّب التعثر بحصاة ناتئة أو الانزلاق في حفرة. بعكازه يؤطر الحيّز الذي يقتحمه دونما ترحيب، وبه يضلّل الكمائن.
بيده الأخرى يتحسس غشاء الخواء المحيط به كمن يجسّ خصومةً كامنةً، ويشتّت ما يتكثّف وما يتخثر من تحالفات هشّة مع حاضر رجراج لا يؤتمن. أو يتكئ بيده على ترس غيب يرميه بوابل من الألغاز، مستميلاً المبهم والشائك لئلا تغدر به المصادفات أو ظنون المارين من حوله. على كل طرف إصبع ينحت عيناً يريد لها أن تضئ المسالك وترى ما يتخندق في شروخ اليوم. بهذه اليد يحاور الجدران ويراوغ الطعنة المحتملة.
منذ أن انطفأ البؤبؤ وغاب البصر، منذ أن تبدّد الضوء ـ الذي يحدّد شكل وطبيعة الكائنات والأشياء ـ وانتصرت الظلمة، صار هذا الرجل مغلولاً بأسلاك الغُبْشةِ، مشدوداً إلى غُبِّ النفس حيث انحسار النور واختلاط ما هو كائن بما هو عدَم وتشابك المحسوس بالخفيّ. الأبواب تنفتح لكن إلى الداخل. الفراغ يفتح هاويته التي يهوي فيها كل دقيقة وضبابه الذي فيه يضيع كل دقيقة. يخوض في اللايقين، يتخبط في شباك الالتباس، ضحية استبدادية الأشياء والأمكنة. فخاخ حقيقية وأخرى وهمية عليه أن يتفاداها برشاقة ودهاء وخبث طريدة علّمها القنص الأزلي كيف تستشعر الخطر وتتخطى المكامن.
كان الأعمى يتحرك في عالم خاص، محكم البنى، متين الوشائج، اخترعه لنفسه، شيّده من عناصر المخيلة وما تمليه الحواس من إشارات وعلامات ورموز، دافعه أن يحصّن نفسه من رتابة الواقع وابتذال الحاضر وعادية الأماكن. لقد انفصل عن العالم الواقعي بصرياً لكن اتصل به غريزياً ومن خلال بوابة الخيال. أضحى يعيش في عالمين في وقت واحد: احدهما يراه عبر مخيلته والآخر يدركه عبر الحواس. هكذا تحتل الأشجار جانبي الطريق، الغابة تجاور الميدان، الأرصفة ناصعة وبالغة النظافة، الشرفات مزدانة بالأزهار والبالونات، الألعاب النارية لا تكفّ عن إضاءة أمسيات المتنزهين، والطيور بمختلف أجناسها تملأ سماء المدينة. وهو لا يرغب أن يكون جاحداً تجاه من يعينه ويساعده في العبور أو يرشده إلى مبتغاه، لذلك يخترع له شكلاً وسيماَ ويرتجل له دوراً بطولياً، أما من يزجره أو يتأفف منه فهو الشرير الذي يلقى مصرعه في النهاية.
قبل أن تجتاحه الظهيرة مع حممها، يعود إلى بيته الدامس حيث لن تؤويه غير الوحشة الحالكة وصمتٍ لا يضاهيه صمت.. يعود إلى كهفه المحفوف بشعائر الحِداد حيث عقارب الوقت تحلج عزلته ثانيةً ثانيةً وعلى مهل.
في قيلولته يرى نفسه طائفاً حول آبارٍ نضبَ ماؤها وهجرها الطير، وكل دلوٍ يخرج وفي قعره الناشف جنين ميت، فيغادر قيلولته قانطاً ومغتمّاً ولا يهنأ إلا حين يطلق سراح خيالاته الجامحة.
بعد أيام، أجريت له عملية جراحية ناجحة استعاد على إثرها بصره، واعترته رعشات الغبطة الأولى كأنه يشهد ميلاداً جديداً، انبعاثاً ما حلم أنه يتحقق يوماً. إنها المعجزة في أصفى تجلياتها.. هكذا اعتبرها.
ولم تسعه الفرحة عندما خطا خارج بيته بلا عكاز يطرق به درع الفراغ ولا أغلال تشدّه إلى منابت الخوف والريبة، والظلمة التي كانت تستبدّ بنهاراته وتطغى انقشعت بلا وعدٍ بالرجوع. وها هو يغتسل بضوء الصباح ويدور حول نفسه مطلقاً ضحكات يحسبها المارون بادرة جنون ولا يعلمون أنها ضحكات أسير تحرّر أخيراً من سجن طويل في قبو مظلم، وها يستحم منتشياً تحت شلال من الضياء الهادر، مفعماً بالحبور والبراءة.
لكن عندما انحسر قليلاً ذلك الشعور الآسر الذي غمر حواسه ساعةً أو ساعتين خلالها بدا في غاية الثمالة من فرط ما تعاطى من انبهار وفضول، وبعد أن نفض عن قسماته أمارات الفرح والانتشاء، بانت له حقيقة أخرى ما أحس بوطأتها إلا بعد وقتٍ من انقلاب الحال.
لقد استعاد بصره حقاً لكنه بدّد، أو بالأحرى خان، مخيلته، فالصور التي خلقتها مخيلته للطرقات والأرصفة والشرفات المأهولة بطيور ملونة والفضاءات القرمزية، كل هذه الصور وغيرها تلاشت كالومض ما إن آثر ملامسة اليقين ورؤية ما كان محروماً من رؤيته.
الآن يبصر كل شيء، كل كائن، كما هو وعلى حقيقته، بلا زينة، بلا سحر يكتنف كينونته ولا فتنة تجمّـل وجوده. يرى الواقع في رتابته والحاضر في ابتذاله والأماكن بكل جمودها وعاديتها. أما البشر فأضحوا أكثر فظاظة معه وتجاهلاً له منذ أن علموا بزوال عاهته وما عادوا مجبرين على التظاهر بالكياسة واللياقة في التعامل معه وإفساح الطريق له بأدب مفتعل، بل أنه أصبح عرضة للارتطام بالآخرين أو التعثر أو الارتباك على نحو لم يختبره من قبل إلا في أحوال نادرة.. حتى أنه أصبح أكثر توجساً وقلقاً كلما أراد أن يعبر شارعاً أو يتحرى زقاقاً.
صار مستباحاً ومهتوكاً مثل الفضيحة المعلنة، ولم يعد يحتمي بما يورثه العمى من مكر ودهاء أو يتذرّع بالعاهة في اعتناقه الحذر والارتياب.
مخذولاً ومهموماً يعود إلى بيته المضاء كله والذي لا يعود يشعر بتآلف معه، أو لعله يحتاج إلى وقت ليتعود على هندسته وتضاريسه، حاله كحال ساكن جديد لم يمض عليه وقت حتى ينسجم مع ممراته وغرفه.
مرهقاً يستريح على الكرسي ويجيل بصره في أنحاء مكان يتخذ بدوره موقف الحياد التام الذي يصل إلى حد اللامبالاة. بالأمس كان هذا المكان ينحاز إليه أو ينحاز ضده: يلاعبه أو يشاغبه، يحاوره أو يناكفه، ينبسط كالسُنْدس أو يتوعّر مثل درب مهمَل.. أما الآن فقد أمسى فاتراً، عديم النكهة، وربما عدائياً.. تماماً مثل الخارج.. ذاك الذي كان بالأمس ينقّحه ويصوغه حسب هواه، يتحكم في عناصره وهندسته وجغرافيته، يراه كل يوم في هيئة مختلفة، ما عاد الآن يذعن للمخيلة وينصاع لحيلها بعد أن أصبح مرئياً وانتزع السيادة ليخضع الآخر، كما يخضع سائر الناس، لمشيئته ويجبره على التكيّف مع محيطه وتخومه.
مخذولاً وخائباً ينهض ويخطو بتثاقل نحو النافذة، يفتحها مثلما يفتح القدر كتاب المصائر، ويطل على العتمة التي بدأت تهبط رويداً رويداً على فضاءٍ عارٍ إلا من بضع غيمات حبلى بالمياه تتهادى من بعيد.
بعد دقائق من الصمت الثقيل اللانهائي، الذي يبدو كالأزل ذاته، يرتج المدى بفعل صرخة مدويّة صادرة من جوف رجل فقأ عينيه منذ لحظةٍ، وبدأت الظلمة تجتاحه من جديد، بينما المساء ـ الذي لم تجفله الصرخة ـ كان يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

باب مفتوح على الخاتمة

ينظر إلى صغاره الأربعة ـ ولدين وبنتين ـ يخرجون من البيت فرادى حاملين مع حقائبهم المدرسية أحلاماً تحوم قليلاً قبل أن تنزلق نحو رحى النسيان، حاملين رائحة غدٍ غامض يحرّك مجدافيه في مياه غامضة، حاملين أيضاً من الطين ما يكفي لتشييد الألعاب والأعياد بمهارة خزّافين لا يسهون عن الطين ولا عن اللهب، وفي الظهيرة يعودون وقد كبروا واستطالوا ونمت فيهم عضل الذكورة وبراعم الأنوثة بعد أن أودعوا سروج الطفولة عند عتبات زمن لا يكفّ برهة عن رمي شباكه في مجالس الريح. يعودون وعلى راحاتهم حاضر لا يقدر هو، الأب، أن يروّضه أو يستوعب ـ على الأقل ـ مداراته وما يكتنز في النفس من رغائب ومطامح. هكذا يبددون بعض الوقت معه ومع أمهم متبادلين لغة المجاملة وأنخاب العادة وجدالاً متقطعاً يصعب هضمه. بعد ساعتين يغادرون ويذهب كل منهم إلى بيته أو طريقه دون أن يلتفت إلى الوراء.
ينظر إلى زوجته الشابة ـ درة الكون، يسميها ـ ذات الوجه الجميل المضاء بشعاع الأنوثة الغضة، والجسد الضالع في الغواية بلا فحش، والشَعر المنثور خصلةً خصلةً على وسائد كأنها شغاف أفق لا يفتحه إلا الحلم. النائمة في وداعة على سرير ليّن تحلج حلماً ليناً.
كم ناضل حتى يتقرّب إليها ويلفت نظرها، كم ناضل حتى يزيح كل غريم عن دربه ويتزوجها، كم أسهب في ولعه بها وتجرّع معها العشق حتى الثمالة.. وكان الزمن المنحاز إليهما يهبهما عطايا الحب بسخاء يثير الحسد.
خريفاً بعد خريف يقف هكذا قرب السرير يرنو إليها وهي تتخبّط بين براثن زمن ما عاد منحازاً إليها ولا رحيماً بها، بينما التجاعيد تحتل شيئاً فشيئاً الحيّز الذي كان ناصعاً وبلا شائبة.
يرنو إلى الثمرة الساطعة وقد نال منها العطب وتفشت فيها الكهولة. وكلما جاء غدٌ جاء رافعاً ممحاة يزيل بها بعضاً من النضارة حتى خلَت من النضارة. والوقت لا يمهلها ريثما تتحصن بعمر تعرف أنه من الهشاشة بحيث يتفتت ما إن يمسّه الحاضر بأزميله، مع ذلك تتحصن بالعمر الهش وتذبل خريفاً بعد خريف. وكلما شحّ الحسن وامتنع البهاء عن وهب شيء من بهائه، ازدادت هي فظاظة وإمعانا في التذمر والنكد، وتقتنص أي هفوة أو زلة لتسلط عليها مجهر العناية والمبالغة، ولتعكر صفو اليوم كله. وهو يجابه كل هذا بالصمت، بالتجاهل، برتق الأعذار لها بعد أن صار من المتعذر عليه أن يشكم مزاجها الحاد.
وما عاد يرنو إليها في ولهٍ، في اشتهاء، في إعجاب، بل كما يرنو الغريب إلى الغريب، أو كما يرنو الكائن إلى معضلة مستعصية.
ينظر إلى وجهه في المرآة فلا يبصر تلك الوسامة التي كان يتباهى بها ويتغطرس. صار الوقت يأتي صباحاً، كل يوم، ليسرق شيئاً من فتوته، شيئاً من بشاشته، شيئاً من شبابه، حتى وجد نفسه بغتةً يذرع إقليم الكهولة بلا مباهاة بل بانكسار وخيبة رجل خانته الأيام ولم يستمتع كثيراً بهبات ما اقتنع أنها هبات إلا بعد فوات الأوان.
يحدّق الآن فلا يبصر غير تجاعيد محفورة بأظافر زمن لا ينقطع عن الحركة، وبشرة متغضنة، ولثة سريعة الالتهاب، وعينين هرمتين تتكئان على نظارة طبية. يتحسس رأساً اجتاحه الصلع إلا في بقع اكتست بشيبٍ يفشي العمر جهراً. يحدّق ويسأل، كما يفعل كل صباح: هل للغدِ غدٌ؟
ينظر إلى بيته الذي شاخ معه عاماً بعد عام، جدرانه التي حتّ عنها الطلاء وبانت الشقوق والندوب فبدت أشبه بأسمال لم يحسنوا رتقها وأضحت مهدورة للهباء. ينظر إلى بابه الذي اصطفق فصلاً بعد فصل حتى احتل الصدأ مفاصله فصارت تطلق صريراً حاداً كأنها في النزع الأخير، أما مزلاجه ـ الذي استضاف وودّع ما لا يحصى من الأنفاس والروائح والأطياف ـ فقد وافاه السبات وما عاد الفضول دأبه بعد أن حلّت الوحشة واستوطنت الباحة والحوش. باب موصد لكنه مفتوح على الخاتمة الفاغرة فمها كالهاوية.
ينظر إلى شبابيكه التي آخت يوماً بين خارجٍ تلهو فيه السحب الجذلى وتتقاذف بالبرَد، وداخلٍ مسقوف بهدايا الأعياد، غير أنها شهدت ما تشهده الخصومة من انشقاق فنأى الخارج بغمامه وبرَده، وتقهقر الداخل عاكفاً على غزل عزلته بنوْل الوقت.
ينظر إلى شرفته التي كانت الرياح تهزهزها كالمهد وتهدهد أطرافها إذا روّعها الهزيم، وأصبحت لا تأنس إلى الزيارات العابرة منذ أن باتت نهباً لجوارح تنقر قرميدها نتفةً نتفةً.
يمضي إلى المقهى الكائن في الميدان العام، وهناك يجلس ويحدّق في قعر فنجانه ليلمح فلول عمره تتخثر دون أن تصون دقائقه ذاكرة أمينة يعوّل عليها، أما حاضره المتسكع على مرمى ذراع في رحاب البطالـة ـ بعد إحالته على التقاعد ـ فيهرق ما يذوب من ساعاته في هامش الغياب.
لغط في المقهى، لغط في الشارع، لغط في الميدان الذي يتجاهله الآن فيما يقف بلا غاية قرب نافورته الصغيرة التي نضب ماؤها منذ زمن.
تندفع صوبه الشحاذة الصغيرة ـ ذات الضفيرتين المحرومتين من ماء الأمومة، الحاملة عذوبة أعوامها السبعة وأشجانها على كتفين من ريش ـ وبصوت طافح بالوداعة تسأله: أمي في الجنة.. أين أجد الجنة؟
ينظر إليها بعينين مغرورقتين بالأسى ويرد عليها في إشفاق: لا أعرف.
تبتعد راكضة نحو آخر، تظن أنه يمتلك المعرفة، لتسأله السؤال ذاته. أما هو فيطرق مغتماً.
ـ يوم جميل، ألا تظن؟
مثخناً بالضجر، مترعاً بالخواء، يرفع رأسه ويوجّه بصره نحو من تكلم لتوه، فيتفاجأ بوجود رجل يشبهه إلى حد كبير واقف على مقربة يرمي فتات الخبز وسط جمع من الحمام يلتقط ما يتناثر بمناقير نهمة. الوجه ذاته، القامة ذاتها، الصوت ذاته.. أشبه بشقيق توأم. لم يجفله الأمر بل أربكه وحيّره. وطفق يرمق شبيهه الذي كان يتفرّس فيه مبتسماً تلك الابتسامة المبهمة التي لا تشفّ عن شعور أو عاطفة أو تعبير. محض إيماءة لا يعرف كنهها وباعثها.
ـ يوم جميل، ألا تظن؟
يكرّر السؤال الذي ينتشله قليلاً من دوار الحيرة، فيجيب بلا حماسة بل بشيء من الشرود..
ـ نعم، جميل.
يرمي الشبيه كل ما لديه من فتات وينفض عن يديه النثار فيما يدنو منه قائلاً:
ـ ينبغي على المرء أن يحتفي بيوم كهذا..
وعندما يتوقف قبالته يضيف:
ـ لو كنت مكانك لاحتفيت هكذا..
إزاء دهشته وذهوله، يشرع الشبيه في خلع ملابسه على مهل وبلا خجل وعيناه مشدودتان إلى عينيّ الآخر في تحدٍ صارخ، غير آبه لأحد، كما لو أن المكان قد خلا إلا منهما، كما لو أن الميدان قد تجرّد من هندسته واستحال مخدعاً. والشبيه يفرط في التهور والرعونة ويتعرّى تماماً، ثم يبدأ في الرقص على نحو أخرق، بلا إيقاع يحفظ لحركاته التناغم والتوازن. والعري، لا الرقص، هو ما يشدّ أنظار وفضول المحيطين بهما والذين يقتربون فاردين الضحك والحيرة والاستنكار والحياء والنفور. الدائرة تكبر والحشود تتزايد وهو وسط كل هذا يكاد يذوب خجلاً وارتباكاً إذ يشعر بأن النظرات مصوّبة نحوه وأن المشاعر المتداخلة والمتعارضة موجهة إليه وحده. لا يحتمل البقاء في البؤرة وقتاً أطول، لذا يندفع راكضاً مخترقاً الصفوف محاولاً الابتعاد عن الناس، عن الميدان، عن الشبيه الذي لضحكه أصداء مخيفة.
في الحافلة يستقر ويسترخي محاولاً أن يستجمع شتات لهاثه وأفكاره. ليست له وجهة محددة بل اختار الحافلة ليهرب من وضع شاذ ومربك، من مكان شهد فجأة حالة من الجنون المباغت.
في المحطة التالية ينزل ليجد نفسه قرب منتزه تكثر فيه أشجار الرمان. لكن الذي لم يتوقعه ـ هذا الجوّال بلا شغف، المتدثر بالرصانة، والذي لا يعرف كيف يفاوض حاضره ـ أن يصادف شبيهه هنا، في هذا المنتزه العامر بالهدوء والطمأنينة، واقفاً أمامه كلغز ساخر لا يعلن من أين جاء ولا كيف يملي على الصدفة أهواءه بل يمتحن فطنته واتزانه.. هكذا يعترض سبيله مثل كمين سافر، متأبطاً المعضل والمشكل، ولا يتيح له أن يسأل أو يتذمر، بل يمنحه تلك الابتسامة المبهمة التي تمعن في إذكاء المعضلة، ويهمس قائلاً في مرح شيطاني:
ـ أنظر إلى ما سأفعل..
ويمضي مندفعاً ليشقّ عباب السكينة بشفرة الفوضى، ويشيع الالتباس في رحاب اليقين، ويذرذر ملح العصيان هنا وهناك، فلا تعود الطمأنينة قائمة بعد أن يعصف بالمكان جنون فلت من عقاله واجتاح المنتزه. وها هو الشبيه ينهال ضرباً بالعصا على كلب وديع، يقطع بالمقص خيوط البالونات لتفلت من الأيدي الصغيرة غير عابئ بصيحات الأطفال وبكائهم، يدفع المسنّين بقوة فيطيح بهم أرضاً ليضحك على عجزهم ورعبهم، ويرشق بالحجارة البط العائم في البحيرة الصغيرة فيما يطلق العويل الوحشي الأشبه بعويل كائن بدائي.
أما هو فيعود سريعاً إلى بيته مضرجاً بالغضب، ويزداد امتقاعاً كلما استعاد ما فعله ذاك الشبيه من حماقات وأفعال مشينة. ينادي زوجته فلا تجيب. يدخل حجرة النوم غير أنه يتوقف فجأة فاغر الفم، مصعوقاً، عندما يرى زوجته على السرير غارقة في نوم عميق وعلى مقربة يقف الشبيه متفرساً فيه بوقاحة، راسماً بشفتيه تلك الابتسامة المبهمة.
لوهلة يشعر بانحباس صوته في حلقه، وحين تنحسر قليلاً الفجاءة، يخرج صوته مرتعشاً، متشنجاً:
ـ ماذا تفعل هنا؟ ماذا تريد؟
ـ أنظر إليّ، وستعرف.
يقول ذلك بنبرة مرحة لكن شيطانية. ثم بلا تردد ودونما تباطوء، يرفع الوسادة ويضعها على وجه المرأة ضاغطاً بقوة كي يحبس أنفاسها ويخنقها.
في حين يظل هو في مكانه بلا حراك، يراقب في ذهول كما لو أن الحدث قد شلّ أعضاءه وحواسه.. حتى أن أحداً لم يسمع صرخته، باستثناء ذلك المساء الذي التفت برهة ثم مضى يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

ندف ظهيرة باردة

- 1 -

في الثلاثين من عمره تقريباً، بقامةٍ مديدة لا يبدو من مشيته أنه يزهو بها عمداً، ووجهٍ يفصح عن نبل وعن براءة لا تقدر المحن أن تحجبهما عن العين الفاحصة. لا حياد في نظراته التي يتركها تحوم حول هبات الطبيعة، إذ تترقرق في مقلتيه حباب شكر وعرفان كلما تمسحت أجفانه بحفيف شجر أو رفيف نهر. من أطراف أصابعه يترذرذ رماد تجارب عاشها في عاصمة أساءت إليه أكثر مما أحسنت، وهو الغريب الهابط من قرية اجتاحتها المجاعة فشرعت أبوابها الثكلى لنزوح مغبرّ نحو المناطق القريبة والبعيدة، وانحدر هو وحيداً وفقيراً إلا من صرّة تكدّست فيها الثياب مع فتات أحلام وذكريات أثيرة لا يريد للريح أن تذرها في مهب مأساة تبعثر المراثي هنا وهناك، وحثيثاً يمضي نحو مدينة حسب أنها سوف تستضيف يُتمه وعريه، وستكون مرتعاً لأهوائه الحرة من أي لجام، وما علم أنها تدّخر له الخيانة تحت نهار له ملمس المخمل.
هكذا رمته بالارتياب مرةً والخديعة مرةً، وما منحته رزقاً شريفاً منه يقتات ومنه يبني مسكناً يصون سرائره، ولا امرأة يستكين إلى خاصرتها ليلاً ما إن تحكم الوحشة أصفادها على روحه، ولا صديقاً يتكئ على رهافته إذا اشتهى أن يبكي. لذا جهر بالانشقاق وجنح إلى المعصية.
هكذا انجرف ثملاً نحو جرائر نزقة لها طعم الغبار ومذاق العرق، وهو الغرّ الذاهب إلى الجناية كمن يذهب إلى ملعب الطفولة، فامتهن السرقات الصغيرة بجسارة لكن بلا خبرة أو حكمة، وعاشر المومسات داخل بيوت تعتكف فيها العتمة وإليها يلتجئ السل والزهري.
هكذا رمته المدينة بالوشاية مرةً والنصالِ مرةً، وعندما يسند صدغه إلى وسادة اخشوشنت من فرط الشجن، يذرف ممالك رخوة لا يستوطنها إلا من أنكرته الرفاهة وشقّ قلبه عشق لا يهتدي إليه أحد.
ذات ليلة حالكة، خرج من بيت مومس ليتعثر في الزقاق بجسم رجل ممدّد على الأرض ظن أنه مخمور, فتّش جيوبه وعثر على محفظة تكدّست فيها البطاقات والأوراق النقدية، أخذها وتابع طريقه ولم يدر أن المحفظة المستقرة في جيبه ستكون دليل إدانة على جريمة قتل لم يرتكبها.

- 2 -

في الخمسين من عمره تقريباً.. هكذا يوحي الشيب الذي يخالط السواد في شعره. قصير وسمين، خفيف الحركة رغم بدانته. يمشي بلا غطرسة عارفاً أنه وسط طبيعة لا تبالي ولا تكترث. من الحماقة أن يتعجرف، هو الذي يدرك مدى ضآلته حتى بين نظرائه الذين يبزّونه مكانةً ومنزلة.
انحدر من طبقة موشومة بالفقر، مغسولة بالحيلة، ومثل غيره من أبناء طبقته عرف كيف يوظف عضلاته في مهن وضيعة يكسب منها قوت يومه، حتى استقر في مهنة يخشى الكثيرون من ممارستها: جلاد.
ما كان يخاف من الموت، فالموت حق. والذين يرميهم القدر في طريقه لينفّذ فيهم القصاص هم أفراد عصوا الشرائع السماوية وخرجوا على القوانين فحكم عليهم بالموت. هكذا يفهم الأمر ببساطة، ولا يعطي أحداً الحق في مساءلته أو يشبع فضوله بتفاصيل مثيرة. لكن عندما ينفث دخان سيجارته يبدو كمن ينفث عمراً بدّده في مهنة لا تروق له أو ـ على الأقل ـ لا يؤديها في شغف.
تزوج امرأة بسيطة وقنوعة أنجبت له خمسة عيال ملأوا الدار زعيقاً وشقاوة، غير أنه كان رحيماً بهم وودوداً معهم رغم صرامة قسماته وجهامة وجهه. كثيراً تمنى أن يتمرد على رصانته ويتصرف بطيش ومجون لكنه في كل مرة يكبح نفسه ويشكم أهواءه.

- 3 -

معاً يسيران في حقل الحنطة المبلل بحليب الخصوبة، الحقل الأشبه ببحيرة من ذهب آن تميس وتتموج في انتشاء فاحش ـ مع حركة الرياح الثملة ـ السنابلُ المضاءة بنثار بروق عابرة. ومن يراهما هكذا، يسيران متجاورين في ألفة وعلى أكتافهما تتناثر ندف ظهيرة باردة يناوشها النعاس، لا يشك للحظة أنهما صديقان يسافران معاً ويفتحان التخوم بخطى خاضت في المغامرة زمناً.
وحدها الأرانب، وربما السنابل المضاءة بنثار بروق عابرة، تصيخ إلى حديثهما الهادئ، الأقرب إلى الهمس، فتسمع الجلاد يقول:
ـ منذ سنوات طويلة لم أحلم. بودي أن أرى حلماً رائقاً وعذباً أكون فيه شخصاُ آخر، مختلفاً، يستوطن عالماً لا خوف فيه..
ـ مم تخاف؟
ـ من كل شيء..
ـ البارحة حلمت أني وحدي في جزيرة صغيرة لا ماء فيها ولا شجر. كنت انتظر عبور سفينة لتنتشلني من هذا المكان القاحل، المهجور، لكن ما لاحت سفينة في مدى البصر. مشيت مسافةً فرأيت قارباً راسياً على مقربة ولا أحد فيه. على عجل اندفعت نحو المياه أخوض فيها حتى وصلت إلى القارب. وجدت بداخله مجدافاً، فشرعت بالتجديف غير أن المياه عجزت عن تحريك القارب الذي بدا ثقيلاً ويرفض أن يتزحزح شبراً. بعد يأسٍ، نزلت من القارب وعدت خائضاً المياه. عندئذ تحرك القارب بخفة ورشاقة ومضى يشق المياه كشفرة حادة.
ـ وماذا يعني حلمك هذا؟
ـ الأحلام لا تعني شيئاً، لهذا السبب نراها عندما نغمض أعيننا.. لو كانت واضحة ومفهومة لرأيناها في اليقظة.

- 4 -

عندما يتوقفان تحت شجرة تفاح كانت وقتذاك تهزّ ثمارها مثلما تهزّ الأمومة مهودها أثناء قيلولة العالم، يلتفت الجلاد ويطرح السؤال المحيّر الذي أرجـأه طويلاً: لماذا اخترت أن تموت هنا؟
ومليّاً ينظر إليه المحكوم بالموت، وبينهما يتأرجح صمت من رصاص. أما على مقربة، فقد كان المساء يركض ويضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيداً كيداً.

عن مصائر تهرول نحو ضفاف سماوية

- 1 -

المياه التي كانت تشهق آن يمسّها عضل الكائن أضحت تعدو محمومةً في المسرح المائي حيث يتبعثر حطام قارب كان بالأمس يرسو كسرير جذل أو يتهادى قرب شبكةٍ تستدرج الأسماك إلى الكمين.
ثمة أسماك تلهو
ثمة أفق مرشوش بالأرق يغيّر ألوانه ويتثاءب
ثمة صباح يأتي مغمغماً فيما يؤرجح مصباحه الفضي
ثمة بحر يتأمل نفسه في مرآة الأزل.
هكذا وجدوه: جثة طافية على وجهها، مفرودة الذراعين، والمياه تهدهد الجسم العائم وتؤانس وحدته بخرير يشبه التهويدة. كان كالنائم على فراش وثير، أسير راحةٍ أبدية.
وفي البعيد، تجاه أفق يرخي أطرافه في كسل، كانت العاصفة تمشي وئيداً خلف سفن تشق اللجّ وتحرث الجهات غير عابئة بالأمواج التي تتراكض من حولها في جلبة.. سفن تشفّ عن ربابنة وملاحين لا يكفّون عن السفر، وعندما تشاطئ أحداقهم المرافئ الأليفة يراودهم ثانيةً الشغف بالسفر، كأنهم أسرى رحلة أبدية لا تنتهي عند شاطئ أو ميناء.

- 2 -

الغزال الذي تلطخ عنقه بطلاء أحمر يشبه دم طفل، يتنزه الآن مع عجوز ـ سوف تموت في يوم غائم ـ ويرنو بين الحين والحين إلى حلبات مسيّجة هنا وهناك تأخذ شكل زنازن فتعتريه الرعدة ويجفل لكنه يتابع في حذر مختلساً النظر إلى الحلبات التي ترمقه شَزْراً وتمعن في إرعابه. وعندما ترتقي العجوز عتبات الفراغ لتلهو مع غيوم تتقاذف بالأنداء، يراوده إحساس مقلق بأنه ليس في مأمن، وأن الأحداق التي تحاصره الآن هي شراك فاغرة، وأنه وحيد في مكـان يرجمـه بالعداوة.. لذا يستل ظله مثلما يستل البرق وميضه وينسل عدْواً، صاعداً بشهيقه وعزلته نحو غابة لم يطرقها أحد. وهناك يصطفي عشباً وجدولاً وماءً رقراقاً، ويشحذ أظلافه عارفاً أن الدويّ قادم وأن الفجاءة سوف تغدر به لا محالة وأن الطلقة لن تمهله حتى يغفو.

- 3 -

في غرفة عارية، خاوية تماماً إلا من مرآة محفورة في الحائط، ونافذة مفتوحة مثل أرق أزلي على مدى فسيح تتراكض فيه الرياح، وبضع أزهار من الشوكران انبثقت من شق في الجدار،
تدخل امرأة متوشحة بالحيرة، ملتفعة بالارتياب، وهي تجهل من جاء بها إلى هنا،
وكيف وصلت إلى هنا،
تدنو من المرآة كما لو تدنو من ثمرة محرمة لكن مغوية، غير أنها لا ترى نفسها فتظن أن المرآة منزوعة الزجاج. تمد يدها فترتطم أطراف الأصابع بالزجاج الصقيل، وعندئذ يعكس لا ما يوجد أمامه بل ما يوجد ربما خلفه أو في أحشائه، كأنه صار شاشة عرض أو باباً مفتوحاً على زمن آخر، وإذ تمعن النظر في دهشة بالغة، تدرك أن ما تراه ليس سوى تاريخها الخاص المختزل في صور متلاحقة تظهرها طفلةً ثم صبيةً فمراهقة لتتوقف عند مرحلة الشباب.. وكأن المرآة محض ذاكرة شخصية تستدعي ما اختزنته لسنوات في بئرٍ ما اجتاحها نسيان. وما إن تتلاشى الصور حتى تبدأ المرآة في إصدار صوت خافت أشبه بالشهيق والزفير.. كأنها تتنفس ببطء. براحة يدها تتحسس السطح الذي تحوّل بغتة إلى غشاء من الجلد يخفق وينبض مثل كائن حي. وبعد دقيقة، ينشق الغشاء طولياً كما لو بمشرط خفي، وتنتابها رغبة عارمة، لا يمكن التحكم بها أو السيطرة عليها، في الدخول. وكالمنوّمة تدلف الكينونة النابضة، شاعرةً بنفحة لها عبق غريب، لكن منعش ومريح، تهبّ عليها هبوب النسيم على وجه بلّله الندى. وعندما تختفي تماماً، يلتئم الغشاء ثانيةً ليتحوّل من جديد إلى سطح زجاجي مصقول يعكس أشياء الغرفة.. في حياد.

- 4 -

في الطريق الواهب شغافه للمجازفات كما للمصادفات، الذي سلكته نهاراً بغالٌ مرهقة تحمل على ظهورها الضباب الكفيف، يمضي ذاك الشاب العجول متدرّعاً بسديم السفر، بلا رفيق يؤانس صمته ولا تجربة يحتذي بها، حيناً تهبّ عليه ظلال من سافروا بلا متاع ولا شغف بالسفر، وحيناً تهبّ عليه ظلال من ضلوا وليس في جيوبهم كسرة خبز أو حفنة من التمر، شاخصاً إلى شمال يعوي محذّراً الجهات من خسوف وشيك.
عند نبعٍ ينتحل ماؤه لون عينيّ من ينظر إليه، وتضيئه فراشات مكسوّة باللهب، يتوقف المسافر الشاب ليستريح ساعةً، ولربما يغفو ساعةً. وتحت شجرة لم تثمر بعد، يضع صرّته جانباً ويجلس مسنداً ظهره إلى الجذع، واهباً حواسه لترف اليقظة في رحاب طبيعة لا تحقد.
وإلى هذا المكان يأتي الرعاة مع أغنامهم وكلابهم ومزاميرهم وضوضائهم. يسرّحون حيواناتهم جانباً وينتخبون أرضاً معشوشبة يجلسون عليها، يفرشون الأرغفة والجبن والبصل، ثم يبدأون في حلج الثرثرة ونثر الدعابات.
لكن ما أثار استغراب المسافر الشاب أن هؤلاء الرعاة لم يلتفتوا إليه، لم يعيروه اهتماماً، لم يكترثوا به على الإطلاق. حتى كلابهم لم تقترب منه لتنبح أو تتشمّم، كأنه صار خفيّاً، كأن حضوره حضور هباء يسرف في التخفي.
يغادر مكانه ويدنو منهم، لا ليتعرّف إنما ليبدّد ظنونه ويتيقّن من أمر حيّره للتو.
يتوقف على مقربة، غير أن أحداً منهم لا يلتفت صوبه. يتنحنح ويلقي تحيةً مهذبة، لكنهم يتجاهلونه ولا يكترثون به أو ربما لا يسمعونه. عندئذ فقط يدرك بأنهم مجرد وهْم أو محض أشباح جاءوا من بعيد ليرتادوا أماكن لا يقدرون على نسيانها.
عندما يستأنف الرحلة يلاحظ أن أحداً لا يوجّه إليه التفاتة أو كلمة أو حتى يعترف بوجوده.. لا الذين يمرّ بهم، لا الشاحنات، لا الحيوانات، ولا حتى العصافير التي لا تهرب حين يحاذيها، فيزداد يقينه بأن الأشباح يملأون الأرض.
يواصل سيره في طريق لا ينتهي بل يمتدّ أمامه مثل متاهة لا منافذ لها، ولا تحتكم إليها المسافة، كأنه في سفر أبدي لا نهاية له، والذي حزّ في نفسه وملأ قلبه بالأسى أنه وعد أمه وأخته، قبل انطلاقه منذ عشرة شهور، بأنه سوف يعود قريباً ليحكي لهم عن السفر.

صور شخصية لعائلةٍ في سفر

1 ـ الخرائط والحقائب والطريق

يتأهب السفر للسفر
تتأهب الخرائط لتدلّ الزوّار إلى جهاتهم أو متاهاتهم، ولتقود الرفقة إلى مجهول المصادفات وسديم المجازفات.
تتأهب التذاكر
تتأهب الحقائب للحضور ثانيةً بعد إهمال، للحظوة التي تحرزها عند الانتقال لا الاستقرار، وتجثم في الزوايا منفوخةً بفراغٍ له نكهة الفراغ، وقريباً سوف يُنفض عن جلودها غبار الهجر وسوف تمتلئ حتى الاكتظاظ.
تتأهب الثياب المعلّقة على مشاجب سوف تفتقد الملمس والرائحة
تتأهب الأمشاط وأدوات الزينة والأدوية
تتأهب الأحذية التي رافقت الخطى في الدروب المضيئة والمعتمة معاً
يتأهب الطريق للانحدار نحو الغرب حيث تباشر ندف الثلج في الهبوط وئيداً من سماء باردة تمرح فيها الغيوم، حيث التخوم تدحرج الرياح في ردهات المدى كلما عنّ للرياح أن تغوي النازحين بريشٍ أو برَد، وحيث الحقول تعدو كالخيول كلما حاذتها عربات تعدو نحو أفق يستحم في الضباب
يتأهب الحب.

2 ـ ياقوتة السفر

على سريرٍ عاشرته الحمّى والغيبوبة والغفوة والأحلام الواهنة، الذي تفوح من ملاءاته رائحة المراهم والأعشاب، وتندلق من مخدّاته بقايا أنين ليلي كان طاغياً وقتها..
على سرير يشبه الآن الحضن الرحيم ـ بعد أن كان في الفجر ينتحل شكل زورق يرسو في بحيرة من النيلوفر ـ ترقد العذوبة ذاتها، الرهافة ذاتها.. وهي تنفث وجعاً تارةً، ومدّاً من الضوء تارةً، هذه الموهوبة باجتراح الحب في كل حين، الناثرة أعمارها الغضّة على مخمل كل نهار.
هذه التي كلما ألمّت بها الوعكة، تحفّ بها لوعة الأحباء، ومن كل حدب تأتي العناية حتى تحلّ العافية. عندها تشفّ ابتسامتها الآسرة عن امتنان بالغ.
حتى في شحوبها هي الأجمل.. صديقة الدعابة.
آن تمشي خفافاً على ضفة النوم، يمشي الأفق خفافاً على بلّور الغسق، وإذ تمسُّ الشغافَ بريشٍ من نسجِ حلمٍ، يخوض النهر فينا.. يخوض ولا يغرق.
وديعةً ترجو المرض أن يتنحى جانباً ويدعها تمر،
نبيلةً ترجو الألم أن يرجئ أنينه حتى تمرح قليلاً،
ومطأطئاً يرجئ الألم أنينه لأنها ياقوتة السفر.. قنديله وفاكهته.
طفلة في الثلاثين تدحرج دُماها، ألعابها، دفاترها، ثم تعدو ضاحكةً مع أعراسٍ ضاحكةٍ نحو أمومة لا تنحسر عنها الهبات ويباركها إله رحيم. بيمينها تهزّ مهداً تتزاحم فوقه الفراشات، وبيسارها تؤرجح بيتاً تطفر من نوافذه عصافيرٌ بلّلها المطر القاطن في الغرف.
بعد العشاء، في هدأة حاضر متخم، تبسط الخرائط على منضدة السفر وتطرق أهداب الممالك البعيدة كي تفتح لنا ثلجها وحدائقها.
أما في الغسق، بعد أن تهجع أوجاعها وتهجع المدينة الغريبة، تطل من الشرفة وترسم بإصبعها قوساً قزحياً تسهر معه حتى مطلع الهرج، حينذاك تهيب بالأحلام النضرة أن تهلّ دفعة واحدة لتدخل في نومها.

3 ـ جسوراً كالوَلَه يتقدم

في السفر لا يهدأ زوجها ولا يستقر:
قدم في ردهة الصحبة، قدم في مشاغل الرحلة. يتنقل بين هذا وذاك ولا يلهث تعباً بل لهفةً.
كلما اعترى أحدنا جوع، هيأ المائدة. أما الشرفات فيهيئ لها ما تيسّر من سهر ومنادمة.
وإذا هدأ، فمن أجل أن يحلب الغيوم المتبعثرة في الغرف، ويجلب لنا دلواً من المطر ودلواً من الزغب.
اختارته حبيباً وزوجاً من بين عشرات طرقوا قلبها قبل أن يطرقوا بابها. ولم تفتح لأحد.. لا القلب ولا الباب. وحده جاء.. فقيراً ومتواضعاً، لكن بضمير دافئ وإيماءات خجولة وفؤاد مترع بالهيام. تقدّم مثلما يتقدّم الولَه، فانفتح القلب على مصراعيه حتى قبل أن يرفع كفّه ليطرق.
وهبها وردةً، فوهبته طفلةً ما كفّت يوماً عن زرع الفكاهة في البيوت.
ها هو ثانيةً يشعل الحركة في ذيل نهار بزغ لتوّه، موكلاً إلى نفسه مهمات جديدة، كأنه لا يريد للصباح أن يتباطأ، كأنه يرشد الرحلة إلى أتونها كي تنضج فينا المغامرة، كأنه يخشى أن يغوينا التيه فيضيع يومنا سدى.
في خاتمة كل جولة، نتوسّد الأفق ونتبادل الضفاف.

4 ـ شتاء داخل حقيبة

ابنتها التي ما كفّت يوماً عن زرع الفكاهة في الوجوه..
طريةٌ كالدهشة، مشعةٌ كالغبطة
تخرج مع أعوامها الخمسة لتنزّه حيوانات من قش أو قطن، وكل نزهة تحسبها سفراً. غير أنها للسفر الحقيقي تحشد الحقيبة الصغيرة والألعاب والشرائط والثياب الملونة والأناشيد.
طفلة ورثت من أمها الألق والروح الآسرة وهواية السهر في الشرفات القزحية، ومن أبيها ورثت الدفء والقلب النديّ وهواية البوح للنوم بأسرار اليوم، ومن جدّتها عادة فك أسر الحكاية وإطلاقها في فضـاء المخيلة بلا أجنحة، ومن جدّها عادة تنقية المساء من الشوائب والتقاط ما علق في شباك اللغة من بلاغة.
في كل منعطف غريب، من المدائن الغريبة، تترك ضحكةً صاخبةً وعبثاً شيطانياً وفوجاً من الومض، وترشق المارة المهرولين بحفنةٍ من الموج وباقةٍ من العشب. كل نهار تنتحل اسماً جديداً وتتقمّص دوراً جديداً، ونحن في الحيرة مغمورين حتى الانبهار.
بنبرتها الحلوة تقول للمحطات التي نتوقف فيها يوماً أو يومين:
من بحرين جئتُ، بحرٌ في القلب وبحرٌ في الكف، جئت لأن الكون ملعب، وبلادي صغيرة بحجم البندق. جئت ومعي شصوص أصطاد بها بعض القرى وبعض الأشجار ونجمتين. معي حقيبة وردية أطوي بداخلها البحيرة والشتاء وحديقة الحيوان. ومعي سرير كالنهر أنام عليه وأحلم بالهدايا.

5 ـ مباخر من أجل نهار هادئ

هذه أمها التي تشهق كلما مسّت ابنتها الحمّى،
وفي شهقتها المترعة بالحنان شفاء يهزم الحمىّ،
تنحدر نحو المياه، تنحني انحناءة أمومة على مياهٍ رضيعةٍ، وبراحتيها المضمومتين ترفع الزبَد عالياً وبه ترطب وجه الوحشة.
كلما حطّت قدماها في مرْج عاصمةٍ اعتراها الفضول واغرورقت عيناها دهشةً.
كل فجر تغسل أدراج المدى بماء الورد، وترشو الطقس بالمباخر والزنابق كي يكون النهار هادئاً ورائقاً.
كل عصرٍ تبقّع باحات العصر بالحناء، تنشر ملاءات المودة على حواف الشرفة محتفيةً بالطائرات الورقية.
تطهو ما يطيب لنا من طعام، تطهو الرزّ والخضار والمرق، تطهو النوادر والأناشيد وما حلمت به ليلاً، ولا تسهو عن ذرف دمعتين كلما ناوشها حنين إلى أهل أو وطن.
مع ابنتها تطوف ميادين المدينة وشوارعها، تتسوّقان دائختين بين الأقمشة والتحف، تنتقيان الهدايا. وعندما يحين أوان الراحة، تتكئان على الينابيع وتتقاذفان الضحك.
قبل أن يحين النوم، تنزوي مع حفيدتها في ركنٍ ومعها تنسج من نول الذاكرة حكايةً عامرة بالمفاجآت، تطرزها بالحكمة تارةً وبالتشويق تارةً، ثم ترشّ حلم الحفيدة ـ آن تنام ـ بأنداء الطمأنينة.

6 ـ المتجانس مع اللهب

هذا أبوها الذي يجلب للعائلة كفاف يومها، معها يتقاسم الخبز والورد، ومع الأصحاب يتقاسم الموج واللهب. لا يعرف أن ينسجم مع عراء الناس وضوضاء الرياء والنميمة، لا يعرف أن يتجانس إلا مع من يشعله ثلج الحرف. يلمّ باليد الحانية أوجاع من مسّهم الفقد بسهامه، يلملم ما يتناثر من نعناع جيل يبالغ في اليأس، ومن أطرافه يشمّ البعيدُ أريج الحب، أما القريب فيحظى بمصاهرة القلب.
في أحداقه تتلألأ المدن البعيدة، تلك التي زارها وتلك التي اخترعها. وحسبه ـ هذا الشغوف بالسفر ـ أن يرفع حقيبته حتى تهرول إليه المطارات، تهرول إليه المرافئ، وتهرول إليه التخوم.
هناك، قرب المحطات أو قرب المقاهي، لا يغفل عن نفسه ولا عن أحد من أفراد أسرته. يستر مخاوفه ووساوسه خلف حجاب من الاستهانة ومن الدعابة، لكنه في السرّ يقتفي رائحتهم واحداً واحداً، ولا ينام قبل أن يتقرّى أنفاسهم واحداً واحداً، وبأحلامه الشفيفة يهدهد قلقهم إن طاشوا وإن ضاعوا.
يهندس للرحلة، يخطّط لها المواعيد والزيارات، يرسم الفئ والمدّ، ويسرّجها بالشهد والصهيل. لكن قبل أن تكتمل الرحلة وتبلغ ذروتها، يحمل القنديل ويذهب إلى النوم كمن يذهب إلى سفر أجمل.

7 ـ على هواه يضيع

هذا شقيقها. شقيق العذوبة والنضارة،
هذا الذي يدوزن الأمكنة ويقسّم الحاضر مرتجلاً تقاسيم الهوى، وكلما أطلق نغمةً أحاطت به سلالات الوجْد تحبو عامرةً باليقظة، وجاءت إليه غزالات الوحي تعدو حافلةً بالغبطة، فينتخب إيقاعاً لكل حيّ ولكل حركة ولكل سماء.
للعب إيقاع، للحب إيقاع، للدهشة إيقاع، وللسفر إيقاع.
بالعود أو البيانو ينسّق الكون على هواه، ويناغي المدى كي يفرش أفقه سريراً لأي عاشق منهك.
أنيس الجلسات والسمر، نديم المساءات والسفر، وأينما يحلّ يرفع الفكاهة مثل كلمة السر، محيياً ومعرّفاً بنفسه، فتعرفه البيوت ويعرفه النهار ويعرفه الناس. لكن عندما يعتكف مع نوتاته، ويدير أقفال اللغة الغامضة بمفاتيح الموهبة، ويشدّ الأوتار حتى مداها، تطفر الجديّة من جبينه مع عرقٍ غضٍ، وتطفر العاطفة، يطفر ما يجيش وما يحتدم، ولا يقدر أن يحبس دمعةً إن فاضتْ. وتشفّ روحه عن روحٍ ولهى مترعةٍ بالالتياع والهذيان.
هناك، في بلاد لا تفشي سرها لغريب،
متهوّراً يجوس في ماضي المتاحف والكاتدرائيات
ذاهلاً يجسّ الأرصفة بقدمٍ مفتونةٍ بتأويل المسافات
وإن تاه عنا، علمنا أنه في ركن محلٍ أو حفلٍ
جالس في أدب يصغي إلى كونشرتو الخفاء وسوناتا التجلي.

8 ـ رفيق القمر

شقيقها الأصغر، شقيق العذوبة ورفيق القمر
مهر لا يحدّ جموحه حدّ
كل فضاء قميص يضيق عليه
كل أفق سور يهدمه بإغماضة عين
ولا يحتمل أن تسيّجه الجهات برياح لا تعصف.
يقنّع وسامته لئلا تتناهبه الغوايات لكن يشرع غضاضته كلما عنّ له أن يمسك الحاضر من كوْثله ليطوّح به أمام غدٍ لا يكترث لعله يكترث، مع ذلك يتوق أن يدخل مجال اللقطة من بوابة الفيزياء.
هناك، إلى حيث يسافر مرتين في آن.. مرةً وهو مرئي، مرةً وهو خفيّ، يحلو له أن يغسل شرفات المدينة بعينين ينهض فيهما الولع
ويرتاد الحدائق مقتفياً رائحة الحشود
أو يتتبع حركة القطارات الهاربة من بلدة إلى بلدة.
يلذّ له أن يتسلق لبلاب رؤاه ليضمّ كل ساحات المدينة في حدقتيه، ويلتذ بالسهر.
لو كان مجنّحاً لأمضى يومه حائماً فوق الأسواق، ناثراً الريش على المنتزهات.
وفي الأمسيات الرائقة يحلو له أن يجلس على ضفة البحيرة محادثاً القمر ويرخي أهدابه على حلم.
غِـرّ لكن تتباهى به التجربة.

9 ـ الذي يروي كل هذا

أما أنا،
فحسبي أن أشهد ما يشهده القدر من سيرة المصائر وأسرد كل هذا،
أن أروي بعطر الكتابة أبجدية السفر وامتدح الصحبة المباركة،
أن أنظر عبر بلّور الصداقة إلى نبض العاطفة ووهجها،
أن أضمّ بين كفيّ هذه الأرواح الشفيفة مثلما تضم المياه ثمار المحيط،
أن أحنو على مواطئ وَشَموا بها الأرض وأجمع ما تساقط من أكمامهم،
وبمقلتين يترقرق فيهما الحب
أرنو إليهم، ومعهم أتبادل صدى العواصم.

من أبريل 2005
إلى أغسطس 2005


إقرأ أيضاً:-