لم أقل شيئا للمرأة التي عاتبتني بشراسة على تحرشي بردفي ابنتها ذات العشرين ربيعا. كنت أعبر الشارع بعد أن عبت عيناي حتى الثمالة من زرقة البحر من خلف سور الكسالى حين رأيتها تنزل من الزقاق المتفرع عن الشارع وقد تأبطت ذراع أمها. الفتاة مليحة دون شك ولجسدها استدارات تزيد المشية المتأودة من بروزها، والذي حدث أن عيناي أخذتا تجوسان في تفاصيلها بوقاحة لفتت انتباه الأم الشرسة، فكان ما كان.. لم أفعل سوى أن خفضت عيني أو أرغمتهما على ذلك حتى أحسست بابتعادهما فرفعتهما مجددا لأرى رأسيهما وهما يظهران ويختفيان بين حشود البشر. ليست لي وجهة خاصة أتسمتها، كما أنني أعرف عن يقين أنني لن أقتفي أثر الفتاة المليحة. فالكلام القارص الذي أتحفتني به الأم كان كفيلا بأن يجعل من أي إقدام جنونا لا غبار عليه. ثم إنني لم أكن أضمن أن لا تضبطني حكيمة متلبسا بالجرم الفاضح، وإن كنت أعرف أنها موجودة خلف المكتب وهي ترقن رسائل المدير ذي الصلعة العجيبة أو ترد على المكالمات الهاتفية المريبة التي تجود علي ببعض تفاصيلها حين نلتقي. قلت إنني لا أضمن؛ فما أكثر المرات التي هاتفتها فيها تخبرني بأنها غارقة حتى أذنيها في رسائل المدير فإذا بها تنبعث أمامي وسط هذا الشارع أو ذاك. وحين أسألها تجيبني بأن المدير كلفها بمهمة خارجية، فأتظاهر بالتصديق. وعندما يحدث ذلك، فإنها تقترح متوددة أن نتناول الغذاء سوية في المطعم الأنيق الواقع قبالة ثانوية الرحالة. أعترف بأنها هي التي تدفع الثمن دون أن يطرف لها جفن أو أستشعر صهد الخجل على وجهي وأعلى ظهري.
لست أدري لم أهرف بهاته السخافات التي لا طائل من تحتها؟ لعله السأم الذي استيقظت هذا الصباح وأنا أنوء تحت وطأته والذي احترت في رده إلى أسباب معقولة. لم يقل أبي شيئا وهو يضع جراية الأسبوع فوق الطاولة، كما أن حكيمة هاتفتني بالأمس لتؤكد لقاء المساء.. ريح الشرقي العنيفة تهب ماسحة الجدران والأرصفة وواجهات المتاجر والأجساد المحتشدة في فوضى. خرجت متخففا من أثقالي وأولها تلك الحقيبة الجلدية التي حال لونها الأسود من فرط المصاحبة والتي تحوي كما من الأوراق وأقلام الحبر الأسود والرصاص. المقهى التي اكتشفتها اتفاقا وأنا أتسكع على غير هدى عبر الشوارع شبه المقفرة، فدخلتها ثم انقذفت في زاويتها وأنا أعلل النفس بأنني سوف أطرح داخلها أثقال السأم، لكن طاش سهمي؛ إذ ما أن همست للنادل الأنيق الشبيه بممثل هندي بطلبي حتى ندمت في التو واللحظة. أحسست بالسأم وهو يتدافع في صدري كقبضات متوحشة. احتسيت فنجان القهوة بجرعات كبير ة إلى أن أتيت عليها ولما تفارقها سخونتها الكاوية. رحت أتطوح بعد ذلك بين دروب وشوارع المدينة وأتصبب عرقا دون جدوى وأنا أجاهد بذراعي ومنكبي كي أشق لجسدي سبيلا إلى حيث لا أدري إلى أن وقعت عيناي على ذات الردفين المثيرين..
كان علي أن أندفع يسارا داخل زقاق حلزوني الشكل كي أبصر عجوزا أوربيا قصير القامة كان يرتدي بذلة سوداء ويعتمر قبعة ويدب فوق عصا. ما أن رأيته حتى أحسست كما لو أن يدا قوية تجذبني إلى زمن قديم خيل إلي أنه انطوى إلى غير رجعة، فإذا به ينبعث في شخص هذا العجوز الأنيق. الدكتور نافارو ليس سواه. الطبيب الإسباني الذي كان أبي يذهب بي إليه عندما تعصف بي علة فأعود من عنده وقد تحقق نصف الشفاء. كان حينها يهدف إلى الستين، لكنه كان منتصب القامة مفعما بالحيوية والحبور . كانت عيادته تقع في الطابق الأول من بناية إسبانية قديمة، وكنت ما أن أدلف إليها وأنا أمسك بيد أبي حتى يخاطبني بنبرة متوددة وهو يميل ناحيتي مستندا إلى ركبتيه: أية على صفيقة عصفت بجسدك أيها الصغير؟ الصور التي تختزنها ذاكرتي من ذلك الزمن البعيد ثرة ومتنوعة، لكن أكثرها علوقا بقلبي تلك التي أراني فيها ممددا فوق السرير والدكتور نافارو يجس لوزتي أو يضع السماعة فوق صدري فيما عيناي منجذبتان إلى تلك اللوحة التي تعلو مكتبه والتي تمثل طفلا جميلا تتدلى من عنقه قيثارة بيضاء. وما أن ينتهي الدكتور من تحرير الوصفة وتسليمها إلى أبي حتى تمتد يده إلى قارورة بيضاء مكتظة بالحلوى ثم يكمش منها ويحشو بها جيب سروالي..
لم أعد طفلا، ولم أعد أقصد إلى عيادة الدكتور صحبة أبي، كما أن جيوبي خلت من الحلوى ومن غيرها. لم تبق إلا الصورة وتفاصيلها التي تتسلل الآن إلى داخلي. هل كان علي أن أندفع دون قصد في هذا الزقاق الملتوي كي أعثر على الدكتور نافارو بعد انصرام كل هاته السنين؟ كان العجوز يمشي الهوينى إلى حيث لا أدري وعصاه تطرق بانتظام موجع الإسفلت المبلط حين اطرحت ترددي وقصدت إليه حتى حاذيت منكبه ثم ألقيت بالتحية. التفت إلي لتطالعني في عينيه لمعة ذعر خشيت من تبعاتها، فكان أن سألته بنبرة متوددة: الدكتور نافارو. أليس كذلك؟ ظلت نظرة الذعر مستقرة، لكنها اختلطت بدهشة لم تخف علي آثارها. بدا جليا أنه بوغت بالسؤال وأنه كان عاجزا عن أن يحير جوابا. لبثت أحدق فيه بإمعان كما لو أنني أستحثه على الكلام. رأيت شفتيه وهما تفتران عن ابتسامة ثم تناهى إلي صوته وهو يقول: لست أدري من تكون يا ولدي ولا يهمني ذلك. لكنني لست بالدكتور نافارو وإنما شقيقه الأصغر. كنت من الدهشة في غاية وأنا أتلقى جواب العجوز الذي كان يتفرس في باطمئنان. كنت أفكر في هذا الاتفاق العجيب الذي رتب هذا اللقاء وفي ذاكرة الطفل الذي كنته والتي تختزن في طياتها الوجوه القبيحة والجميلة. ذاكرة الطفل صقع سيبيري لا تطول فيه العفونة الصور المقيمة. سألت العجوز وأنا أداري الارتباك الذي كنت أحسه: أعتذر يا سيدي، لكن هل لي أن أسألك عن الدكتور نافارو؟ رأيت يد العجوز النحيلة وهي تشد على أعلى ذراعي قبل أن يخاطبني قائلا: لقد مات الدكتور قبل عشر سنوات إثر حادث سير على مشارف طنجة. كان عائدا من أصيلة في مساء ماطر حين زاغت السيارة بفعل الماء المتخلف لتنقلب وليموت الدكتور في التو. والزوجة التي لم تحتمل وقع الصدمة لم تلبث أن عادت إلى إسبانيا بعد شهور قليلة من مراسيم الدفن في المقبرة الكاثوليكية بطنجة لتبقى العيادة مغلقة منذ ذلك الحين. لكنني أتفقدها بين الحين والآخر إكراما لذكرى أخي. نشبت في ذهني العبارة الأخيرة، فكان أن سألت العجوز: هل تأذن لي يا سيدي في أن أزور العيادة؟ لم يبد عليه أنه فوجئ بهذا الطلب، بل خيل إلي أنه كان يترقبه؛ إذ رأيته وهو يدور على عقبيه مشيرا إلي بأن أتبعه. كان يتقدمني وهو يصعد الأدراج ببطء مستندا بيده اليسرى إلى الدرابزين المطلي بالأخضر حين أحسست بيد قوية ودافئة تمسك بيدي. أبي ليس سواه، ورأيتني أرتد إلى ذلك اليوم البعيد الذي جئت فيه إلى العيادة. كنت قد أصبت بنزلة برد حادة، وأتذكر أنني كنت أرتدي سروالا أسود وصدارا صوفيا من صنع أمي ومعطفا جلديا. فتح العجوز باب العيادة ثم تنحى جانبا ليفسح لي سبيل الدخول. حين توسطت القاعة غمرتني رائحة غريبة كانت مزيجا من زهر الياسمين ومحلول احترت في القبض على نوعه. المكتب الأنيق ما يفتأ على حاله، وكأنني أرى الدكتور وهو يحرر الوصفة وقبالته أبي وقد استند بيديه إلى حافته. القارورة البيضاء الفارغة والمختومة بغطاء أحمر ويد يد الدكتور تمتد إليها لتكمش منها وتحشو جيوبي. السرير الأبيض والطفل الصغير والقيثارة البيضاء...
لم أقل شيئا للعجوز الذي انتبذ جانبا كي أنعم بهذه الخلوة الجميلة. ودعته عند أسفل البناية وأنا أشد على يده بقوة ثم انصرفت كظل هارب. لم أدر إلا وأنا أعود من حيث أتيت إلى سور الكسالى الذي أسندت إليه ظهري وأنا أتطلع بفضول زائد إلى فوضى الأجساد. لمحت الزهرة الحمقاء وهي تحمل سطلها المألوف. بدت لي كما لو أنها تمشي فوق السحاب، فوددت لو أنني استوقفتها لأسألها عن الدكتور نافارو. غادرت وقفتي لأنغمر وسط الفوضى وريح الشرقي في انتظار حكيمة والمساء الذي قد أكون فيه سيدا. سوف أتخلص من حكايات مديرها المكرورة بأن أروي لها تفاصيل اللقاء بالدكتور نافارو . أعرف أنها سوف تتظاهر بالإصغاء وهي تلوي شفتيها امتعاضا، لكنني سوف أمد حبل المماحكة إلى أن تستوفي نشوتي أعلى مراقيها...
بروكسيل 2005