كان الموج يصطخب بقوة مرغما القارب على أن يوالي الارتفاع والهبوط وفق إيقاع رهيب. ووجد الماء طريقه عبر مسارب خفية. اندفعت شابة تبلغ من العمر عشرين عاما في صراخ حاد متواصل، وهب الوسيط من موضعه في مقدمة القارب مهتاجا فصفعها ثم انهال عليها بالشتائم النابية مهددا إياها بإلقائها في البحر إن لم تتوقف، ثم التفت إلى شابين وأهاب بهما وهو يشير إلى دلو صغير أن يفرغا القارب من الماء المتسرب. امتدت الأيدي الخائفة إلى الحواف الخشبية الباردة لتمسك بها في تشنج بالغ. كان الوسيط قد أقعى وسط القارب وطفق يحدق في السماء بإمعان، وهبت ريح عاتية فاحتد اهتزاز القارب وتعالت صيحات الفزع من كل جانب. وانتتر الوسيط واقفا وسارع إلى محرك القارب فأوقفه في محاولة للتحكم في الاهتزاز العنيف، لكنه لم يفعل بصنيعه سوى أن زاد في الطين بلة؛ إذ أضحى القارب يتطوح كشخص يتداعى للغرق. ولاحت موجة غير بعيد، وكانت لا ني تعلو وهي تقترب فبدت كمارد خرافي.
كنت جالسا فوق الحافة الخشبية وقبالتي الشابة التي صفعت، وقد انحشر جسدها الضامر بين شابين ذوا بنيتين مدمجتين. وكان القارب قد غص بغيرنا؛ ولذلك، توقعت أن تكون هاته الموجة فاتحة النهاية. وكان أن تزحزحت عن موضعي وانزلقت إلى أسفل القارب، وجلست القرفصاء بعد أن شددت بكلتا يدي على مسند خشبي. وكنت بهذا الصنيع أتصادى مع حركة كنت آتيها في طور الطفولة حين كنت أرافق أبي إلى الساحل الأطلسي؛ إذ كنت أقف مترقبا الموج المصطخب وحين تلوح لي واحدة، أبادر إلى وضع الانحناء وأتبعه بالقبض على الرمل. وغالبا ما تكون النتيجة موافقة لمسعاي؛ إذ أجدني أندفع إلى الوراء والماء يتخللني مشيعا في جسدي ارتعاشات لذيذة. هكذا فعلت دون أن أعير اهتماما إلى الأصوات المزمجرة التي انبعثت تباعا والألم الذي كان يهصر أسفل ظهري والذي أحدثته ركلة سددت إلي من حيث لا أدري. ولم أعرف وأنا في غمرة مما كنت فيه كيف هوت الموجة على القارب كعقاب الموت، وكيف طوحت به بعيدا، وكيف تناثرت الأجساد فوق صفحة الماء محدثة أصوات ارتطام فظيعة. قلت إنني لم أعرف شيئا؛ لأنني كنت مأخوذا بقوة السقطة والماء الذي بدا من فرط برودته أشبه بالنصال التي تخترق اللحم والعصب والكتلة البشرية التي هوت علي دون أن تضطر يدي إلى مفارقة المسند الخشبي. وتناهت إلى أذني أصوات مكتومة وشعرت باختناق فظيع؛ بحيث خيل إلي أن النار قد شبت في صدري وأنه قاب قوسين أو أدنى من الانفجار. وعاينت ظلاما حالكا، فرفعت رأسي واكتشفت أنني موجود تحت القارب. وامتدت يدي لا إراديا إلى جسدي وأخذت تتحسسه لا لكي تطمئن على سلامته من العطب وإنما للتأكد من وجود تلك الحافظة الجلدية. وكان الوسيط قد لاحظ ونحن نتخذ أهبتنا لركوب القارب أنني رفعت قميصي لأعاين التصاقها بجسدي، فكان أن سألني بصوت ينضح بالدهشة والارتياب: ما سر هذا التعلق العجيب وما الذي تحويه هاته الحافظة؟ أجبته وأنا أتحاشى النظر إليه: ليس سوى أوراق شخصية يهمني أن تصل معي أو تغرق صحبتي. وددت حينها لو أنني أجبته قائلا: وما شأنك بما أحمل ما دمت قد قبضت مسبقا الثمن. غير أنني ركنت إلى الصمت وأنا أرتقي القارب وأتخذ مجلسي.
اطمأن قلبي بعد أن تأكدت من أن الحافظة ما تفتأ ملتصقة بجسدي، ثم إنني أحكمت قبضتي حول المسند الخشبي وتبينت لعظيم دهشتي أن القارب قد انشطر إلى نصفين، وقدرت بتأثير ذلك أن الارتطام كان قويا، وأحسست بالألم وهو يهصر وركي الأيمن، وكان الليل ببرودة ثلجية، وشعرت به وهو يخترقني بشراسة، وبدا لي أنني أقترب من غيبوبة هي والموت سواء. غير أنني تحاملت على نفسي، وبذلت في هذا المسعى ما قدرت أنه خارق من الفعل؛ إذ عمدت إلى ذاكرتي وأخذت أعصرها بضراوة وغاية مرامي أن تسح بصور تحملني على اليقظة. وكان أن رأيت فيضا غزيرا توزع على تواريخ وجغرافيات مختلفة. غير أنني وجدت انشدادا عظيما نحو صورة بعينها كنت فيها طفلا صغيرا يتهيأ للختان. رأيتني وسط جوقة من الأتراب وقد رتبت أمي زينتي بما يليق بالمقام. وجاء أبي فحملني بين ذراعيه متوددا ثم وضعني عند مدخل القاعة بين يدي شخص غابت عني صورته. وهالني حينها أنه أحكم توثيقي من خلفي بذراعين صخريتين قبل أن يدلف بي وسط غمرة من الخلائق إلى أقصى القاعة حيث ارتكن كهل وقور غمرت وجهه لحية عظيمة موخوطة بالشيب. لبثت على حال تراوح بين الخوف والاطمئنان وهو يلاطفني بالكلام، وما أدري إلا وهو يهيب بي بحركة من يده أن أتطلع إلى شيء في السقف. التفتت كالمأخوذ، ولم أفطن إلا ويده ترفع جلبابي الأبيض ثم تمسك بشيئي وتمسده بعناية، وشعرت بحز عميق أعقبه ألم فادح؛ بحيث لم أحط علما بانتهاء الكهل من مهمته الشيطانية إلا بعد أن حملتني الذراعان الصخريتان إلى غرفتي وسط لعلعة الزغاريد.
كانت تلك الصورة قد أعادتني إلى وقائع دخولي إلى تاريخ السلالة عبر طريق بدا لي في مراحل زمنية مفروشا بالورد، لكنني أضحيت بعد أن خبرت البلايا على تفاوت فيما بينها أميل إلى أوصاف أخرى. كنت أدير في رأسي هاته التفاصيل وقد شددت بإصرار على المسند الخشبي، وألحت علي وأنا على تلك الهيئة صورة أخرى كان فيها البحر رحما أسطوريا والقارب المشطور حبلا سريا. وقلت في نفسي: الخروج من السلالة يقفوه هذا المخاض الرهيب؛ فهل أترقب غوصا في الظلام أو وصولا إلى الضفة الأخرى. وصفعتني موجة فتسرب الماء المالح إلى حلقي، وشعرت بالخور وهو يجتاح جسدي، وبدت لي النهاية أقرب من يدي القابضة على المسند. وتحاملت على نفسي فيما يشبه الانتفاض الأخير. وانتبهت على صرخات استغاثة منها الجلي ومنها المكتوم. غالبت إعيائي وأخذت أتلفت من حولي علني أتبين مصدرها، لكن ذلك كان دون طائل؛ إذ كان الليل قد أفرط في حلكته. وصك أذني صوت خبط على الماء، فالتفتت كالمذعور نحو مصدره وأنا أحدق في الظلمة كما لو أنني أخترقها اختراقا. وتبينت رأسا أنثويا يعلو ويهبط، وعرفت أنها الفتاة التي صفعت. وتوالى خبطها على الماء وفق إيقاع وشى بخور لا حدود له. وكان واضحا أنها تقصد نحو القارب المشطور في سعي محموم إلى الإفلات من الغرق. وألحت علي الرغبة وقد عاينت حالها في أن أمد لها يد العون، لكنني أحجمت حين لاح لي الموج المصطخب والعياء الباذخ. ثم إنني أخذت أتطلع إليها وأنا أعلل النفس بوصولها. غير أنني لم ألبث أن رأيتها وهي تبرز رأسها ثم تطلق صرخة خيل إلي أنها عصارة الألم قبل أن تخبط بذراعيها مرتين وتهوي إلى القاع.
أحسست كما لو أن جسدي ينسل مني غصبا وقد عاينت هذا الهول، ووجدتني أردد في داخلي: ها أنت ترى الموت رأي العين. وتذكرت الوسيط المنكود، فاستبعدت أن يكون قد لاقى مصير الفتاة التي صفعها. ارتددت إلى نفسي وأنا أترقب التصريف الأخير. الحق أنني لم أفطن إلى تلك الموجة التي هوت، والذي أذكره جيدا أن قبضتي ارتخت وشعرت بها وهي تفارق المسند الخشبي. ورأيتني أغوص دون هوادة، وغمر الماء عيني وكان بسواد عجيب. وسمعت صوتا غامضا يتردد في داخلي: هذه فاتحة الخروج، فاعتبر. وكان أن شاهدت موتي...
بروكسيل 2004
أقرأ أيضاً: