1ـ ضوء الشاعر..
الليل يهمي من عيون خفية، يشيع في القلوب ألفة غامضة. هو قابع في غرفته يقرأ ديوانا شعريا. يتأمل في الأبيات المشحونة بالحكمة والوجع. يعيد قراءتها مرات عدة كأنه يدخلها عنوة إلى دمه. يصغي إلى الشاعر بجسده الضامر وهو يلقي على نجيب سرور قصيدة تفتقت لتوها في قلبه الكبير. قد تكون الوصايا العشر أو مراثي اليمامة. يراه مستلقيا على سريره الأبيض في الغرفة رقم 8 بين إغماءة وإفاقة؛ وهو كزرقاء اليمامة ينفذ إلى تفاصيل الأشياء ليرى ما انحجب عنا. عقاب الموت يحوم في الغرفة المجللة بالبياض، يسأله إن كان قد رأى موت أبيه. تتوق روحه المتوقدة إلى الشغب الجميل، لكنه يكتشف أنه قد أصبح والسرير واحدا. يصغي إلى الزهرات الجميلة المكومة في زاوية الغرفة وهي تحدثه عن لحظة القطف. يأسى لحالها، لكنه يمني النفس بأن روحه سوف تنسل عما قريب لتعانق أشياء الكون العتيق. يفكر بأنه قد يصبح زهرة بيضاء أو حمراء تقطفها يد رعناء مع إشراقة الصباح.
موال صاخب يعربد في داخله. الساعة تقترب من الثانية عشرة والنصف ليلا. يتطلع من خلل النافذة. لا شيء سوى بعض السيارات التي تعيد أصحابها إلى أسرتهم أو تقذف بهم إلى تخوم التلف. يشعر بأن الغرفة تضيق وأن جدرانها سوف تطبق عليه عما قريب. الكل نيام في انتظار الشمس أو الغيم. أبواه المريضان وأشقاؤه المقيمون في شمال الأرض والأصدقاء. المرأة الأبنوسية التي غادرها آخر مرة قرب مقهى فان غوخ يتذكر أنها كانت تحب وتحلم بجنون لكنها تنام كطفلة هدها اللعب. عيناه مفتوحتان كبومة هرمة تتصيدان الزوايا المعتمة وتفرقان من الضوء. الليل حليفه وكاتم أسراره. مرت سنون عديدة منذ أن توثقت الأسباب بينهما وهما ينسجان المؤامرات الخطيرة. لا يتذكر تواريخ قريبة أو بعيدة لهذه المودة العجيبة، وكل ما يعرفه تلك التفاصيل التي تعلق بقلبه غب كل مؤامرة. في الليل تتعرى مدينته التي يحبها. تسلس له قيادها، فيسرح بين دروبها وشوارعها كالريح الخفيفة. يلتقي السهل بالبحر وتدنو السماء. من قال إن الليل قرين للظلام فهو أخ للجهالة. لليل ضوء خاص تصفو به الرؤية وينكشف جليل الأسرار. لقد خبر ذلك بأكثر من قرينة؛ فما من مرة غاص فيه إلا وعاد بحكايات وطرف يرحب بها قلبه ويتخصب. الليل في الخارج يغريه ويستحثه ، وثمة صوت يتردد في داخله: لقد هيأت لك مؤامرة لن نخطر لك في بال. سوف نذهب إلى حيث يهجع شاعرك الجميل. سوف نوقظه لنسأله عن دمه المستباح. كل الغرف تتشابه يا عزيزي وإن غمرتها الأنوار الفاقعة؛ فتعال إلى حيث الحرية والصخب. أعدك بليل نادر..
2ـ ضوء الليل أو كيف تسري عاريا..
الذي حدث أنني استجبت دون تردد للنداء إياه. غادرت وقفتي المعتوهة قرب النافذة وارتديت ثيابي بسرعة قياسية. تجنبت بطبيعة الحال أن أتطلع إلى صورتي في المرآة التي يعود تاريخ وجودها إلى إقامة خالتي بيننا، وتحديدا إلى عشرين سنة خلت. كانت حينها شابة مفرطة في أنوثتها وغنجها. لم أكن في حاجة إلى ذلك ما دمت سأتسمت مقام التجلي بالغياب. ثم إنني كنت أحاذر من إيقاظ أبي خصوصا، أما أمي، فأعرف بحكم التجربة أنها سوف تفطن إلى تسللي،وأنها سوف تتظاهر بالاستغراق في النوم، لكنها لن تبخل علي بالعتب الحاد حين أوبتي في الصباح الصغير. مشيت على أطراف بناني لصق الجدار الأملس البارد، ثم فتحت الباب لأنسل كفأر مختلس قبل أن أردفه من خلفي. تنفست الصعداء حين اكتشفت انغماري. عما قريب تسلمني مدينتي مفاتيحها. سوف أخترقها مهتديا بما سوف يتيحه لي الليل من ضوء. عما قريب ينفلت مني زمام جسدي ليسرح على غير هدى. من عوائدي حين أسري ليلا أن أجعله سيدا. وحينها يتطوح كالممسوس قاذفا بي إلى مجاهل أراها غالبا لأول مرة. والذي حدث اليوم أنه اقتادني عبر الشارع الذي تقع في نهايته الكنيسة الفرنسيسكانية قبل أن يعرج بي يسارا وفيما يشبه الصفعة المباغتة إلى قلب المدينة. كنت أتوقع كل شيء إلا أن يتسمت وجهة هذا القلب الذي تهرأت وتعفنت صماماته وشرايينه. كنت أردد في داخلي وأنا أراه ينقذف في الطريق المنحدرة بمحاذاة المقبرة الإنجليزية: لقد وعدني الهاتف بلقاء الشاعر الجميل وبليل نادر، وقلما أخلف وعده؛ فلأنتظر. رغم السكون العميق المطبق، فإنني كنت أحس بصخب ثقيل وأصغي إلى أصوات تقبل من غور الزمن؛ لعلها تلك الأرواح التي عبرت بخفة وثقل قبل أن تتوارى هنا وهناك. لعل صوت شاعري واحد منها وإن كنت أعرف عن يقين لا يخالطه الوهم أنه لم يعبر بهذا المكان. أتذكر أنني عثرت على قصيدة له في مطبوعة قادمة من بلد الأرز، وعندما أعدت قراءتها في الديوان راعني تغيير زوبعني. لا أتذكر أية قصيدة كانت وكل ما أعرفه أن المعنى أصبح حريفا وأشبه بالنبوءة. كان أبي قارئا نهما قبل أن يتزوج وينجبنا الواحد تلو الآخر، أو هذا ما ترويه والدتي ضاحكة، وفي مكتبته عثرت على طبعة ألف ليلة وليلة الحجرية، ولعل أخوتي مع الليل تعود إلى قراءتي لأجزائها السبعة خلسة وخوفا من وخيم العواقب.
يتجمع الضوء في لألاء مثير عند مدخل السوق الداخلي. أتمنى لو ينثني جسدي نحوه، لكنه يحرن ويواصل سيره عبر سوق السمك قبل أن يندفع يسارا بجوار المقبرة اليهودية الذي تعالى سورها وفق هيئة توحي بالوحشة. لو واصل جسدي انحداره نحو الميناء، فلن يكون لهاته الجولة طعم المؤامرة. وما أكثر المرات التي وجدتني فيها منقادا نحوه؛ بحيث أصبحت التفاصيل المؤثثة له باهتة. وفي آخر مرة، عاينت شرطيين بقسمات جهمة يخرجان شابا من حاوية شاحنة ألمانية وينهالان عليه بالصفع والركل، فأقسمت ـ إن طاوعني جسدي ـ أن لا أعود. أما إن صعد الدرج الحجري الحلزوني لتبتلعه متاهة حومة بني إيدر، فهذا يعني أنني سوف أنعم بالمؤامرة وما تعد به من مسرات وأسرار. من عادة جسدي أن لا يستجيب لما أرغب فيه، لكنه يفعلها الآن، وها هو يسلس ويصعد الأدراج كريح خفيفة ثم ينساب عبر الأزقة المتشعبة والمعتمة مهتديا بضوئه الفريد. البيوت المتراصة والمغلقة تتوالى أمامي والكل نيام في انتظار ضوء النهار الذي قد يعد بالامتلاء أو الخواء. صمت كثيف ترشح به الجدران وخصاص النوافذ المغلق. جسدي يتعرى آنا بعد آن وهو يتوغل في الأزقة التي لا تني تتفرع بشكل مدوخ، فأشعر به وهو يرتد إلى حالته يوم الصرخة الأولى. وما أكثر المرات التي سألت فيها أمي عن شكلها وإيقاعها، فيكون جوابها أنها كانت حادة ومتقطعة، ثم تعيد على مسامعي ما قالته المولدة الإسبانية: سوف يكون هذا الولد عاشقا للحياة وسوف يعاركها بالظفر والناب. هذا ما قالته المولدة في ذلك الفجر البعيد. تنجلي العتمة وتكف الأزقة عن التفرع، وثمة ضوء يلوح لناظري في نهاية هذا الدرب الطويل. ساحة أعرفها تتفرع عنها أزقة ودروب بعضها معتم وشديد الانحدار، وثمة على اليسار مقهى ارتكن على بابها نادل ذو قسمات حادة ومدببة. جسدي يسرح في الساحة، يذرعها طولا وعرضا كما لو أنه يراها لأول مرة، ثم لا يلبث أن يتوسطها في جمود أزعجني. لم أستطع أن أحدس إن كان سيلج إلى المقهى أم يصعد هذه الطريق المنذرة بالعودة الخائبة..
كلام فاقع..
الذي حدث أنه وجد نفسه داخل المقهى بعد أن بارح جسده ذلك الجمود الذي أزعجه. تهالك خلف طاولة قبالة الباب وهو يتفحص النادل الذي بدا متشبثا بوقفته. تسمرت عيناه فوق العمود الفقري الذي شف عنه القميص ذو اللون الأخضر الباهت واليد الناحلة المعروقة المتدلية لصق الورك. قال لنفسه إن هذا الرجل يشبه جثة ماتت منذ زمن بعيد ونسي الناس دفنها. ولم يدر إلا والرجل الجثة يغادر موضعه ثم يتجه صوبه بخطو متعجل. تطلع إليه فرأى عينين كابيتين تحدقان في الفراغ. هم بأن ينهض ليعود وقد لاحت له فجاجة الجلسة، لكنه لم يستطع؛ إذ كان جسده متسمرا كما لو أنه ملزوق إلى المقعد بالغراء. انطوى على غضب كان يشتعل في داخله وهو يجيل بصره في المكان كما لو انه يبحث عن شبيه له، لكنه لم يكن يرى غير جثث منسية. لم تكن ثمة رائحة مغثية، وإنما غياب وعيون تنظر إلى الداخل وتحلم بممالك وهمية. كان النادل قد وضع فنجان القهوة فوق الطاولة دون أن يفطن إليه ثم لم يلبث أن عاود وقفته لصق الباب، وكان بعموده الفقري الناتئ ميل خفيف. انتبه على سعال مخنوق، فالتفت ليرى في زاوية المقهى قرب دورة المياه عجوزا كان الرعاش يهز جسده النحيل فيما أخذ يحرك رأسه يمنة وشمالا. خيل إليه حين رؤيته أن رأسه هاته قمقم يحوي جنيا يبغي الانعتاق. وكانت يد العجوز تمتد إلى الكأس التي أشرف محتواها على الفراغ، فيحتسيها بجرعات متتالية ومتسارعة وهو لا يكف عن تحريك رأسه. جنب العجوز جلست شابة هرمة تقنع وجهها بطبقات من الأصباغ المتنافرة، وكانت عيناها تمسحان بحركة بندولية مدخل المقهى والرواد المتفرقين في جنباتها. التقت عيناهما فابتسمت عن أسنان معوجة ومصفرة ثم لم تلبث أن أشعلت سيجارة وطفقت تدخنها بنشوة وهي تحدق فيه بإمعان. أشاح بوجهه عنها وهو يردد في داخله: لا شك أنها لم تر وجهها في المرآة منذ زمن بعيد، ولا يبدو عليها أنها سوف تهيئ لساكن غرفتها حمامه اليومي. آه! وجه الشاعر يطل كوردة تنفتح أوراقها في الصباح الصغير، والمؤامرة التي وعد بها تتخلق وتتخصب. وهاته الوجوه المكدودة التي تتلفع بالليل كي تخفي قبحها وبؤسها لم يعرف الشاعر غيرها. الأرواح تموت قبل الأجساد. لعلها حكمة الشاعر التي لم يبح بها إلا لمن كان يقاسمهم نصف الرغيف واللفافة، ولعلها مفتاح المؤامرة. غادر فجأة مجلسه وهو يمسك بفنجان القهوة التي كانت ما تفتأ ساخنة ثم قصد إلى حيث كان يجلس العجوز ثم وضعه فوق الطاولة. طفق يتأمله وهو يمسك بيده المرتعشة الفنجان ثم يفرغ محتواه في كأسه الفارغة قبل أن يأخذ في احتسائه بالإيقاع السريع ذاته وهو لا يكف عن تحريك رأسه. كان سؤال ثقيل يمور في صدره: هل كان العجوز طفلا أم أن الذي كان طفلا سواه؟ حانت منه التفاتة إلى الشابة الهرمة، فرآها وهي تميل ناحيته ثم تسكب في أذنه كلاما لم يتبين منه شيئا. ابتسم لها قبل أن يقصد إلى النادل الذي انتصبت قامته وهو يحدق في الورقة النقدية..
يعرف جيدا أنه سيدير المفتاح في الثقب بحذر بالغ قبل أن ينسل إلى سريره ويدس رأسه تحت الوسادة. ويعرف أيضا أنه سوف يصغي إلى خطو أمه وهي تدلف إلى الغرفة وتجلس على حافة السرير لتجود عليه بالعتاب الحاد. من عادتها أن لا ترجئ ذلك إلى حين يقظته. سوف يعتذر لها كالعادة قبل أن تبتلعه الصور المترسبة وينام على إيقاعها في انتظار ليل آخر..
mounem68@yahoo.fr