عبد المنعم الشنتوف
(المغرب)

صباح أزرق..

عبد المنعم الشنتوفالبقعة الزرقاء ذات الشكل المثلث تلوح لناظري مبشرة بالأطلسي ومتعه ومسراته. الحافلة الخضراء تندفع كقذيفة عبر قرية الساحل وموقع ليكسوس الأثري. أتطلع في حذر إلى المقعد المجاور حيث ارتكن والداي وأصغر أشقائي. عما قريب أرى أحواض الملح ومعامل تصبير الطماطم والسردين ومباني المدينة العتيقة. سوف تعبر الحافلة القنطرة الصغيرة وأنا أمتع الطرف برؤية خصاص النوافذ المغلق ذي اللون البحري. أعرف عن يقين وبحكم تواتر العادة أنه ما أن يركن السائق الكهل الذي أمحضه الحب كله الحافلة في مكانها ويوقف المحرك حتى أضرب بوصايا وتعليمات أمي عرض الحائط غير مقدر للعواقب وأهونها صفعة أعرف أيضا أنها سوف تخطئ قفاي أو خدي؛ لأنني سوف أحتمي حتما بظهر جدي أو جدتي. سوف أركض كالمجنون عبر الأزقة المقفرة التي لم تتهيأ بعد للصباح قبل أن أتوقف مبهور الأنفاس قبالة المنزل ذي الطوابق الثلاث. سوف أطرق الباب الأخضر مثنى وثلاث ورباع قبل أن يتناهى إلي صوت أمي فاطمة الرفيع وهي تسأل عن الطارق والصباح في أوله.
الصخب والفرح والأذرع التي تتلقفني تباعا وذقن جدي النابتة وصوته الأجش وهو يسألني بارتياب ساخر: أين تخلف الآخرون أيها العفريت؟ الأسئلة التي تنهال علي من جدتي وخالاتي والإجابات التي تندفع كشلال غير مخطئة شاذة أو فاذة؛ وهو ما يثير دوما حفيظة أمي التي كانت تحرص على التكتم خصوصا فيما له تعلق بصرامة أبي وتبعاتها. هذا ما كان يحدث في الفترة التي تسبق وصول الآخرين. أنسل في غمرة الترحيب والقبل التي تصفق مزورا عن عيني أمي الراشحتين بالوعيد إلى السطح لكي أكتشف ما خلفته ورائي منذ الزيارة الأخيرة. خم الدجاج ما زال على حاله في الزاوي الملاصقة لمنزل السيد يحيى الشيخ السبعيني الذي تروي جدتي أنه حج إلى البيت الحرام مشيا على الأقدام والفضاء الرحب الذي تلوح في نهايته مقبرة علال بن أحمد التي تغري بي الكوابيس المريعة حين يجن الليل. أشرئب من خلل السور المطلي بالجير الأبيض علني أتصيد واحدا من الأتراب، لكن دون جدوى؛ فالصباح ما زال في أوله وشيمة أبي التبكير في كل شيء. أدور في السطح ذاهلا عن كل شيء إلا عن المباهج التي أترقبها بنفاذ صبر. سوف يستيقظ الأتراب وسوف أطرق أبوابهم الواحد تلو الآخر لكي نرتب لما يأتي. أنتبه على صوت أمي فاطمة وهي تدعوني إلى النزول. صباح الخير ليكسوس..

العودة

رائحة الياسمين القوية التي تفغم أنفاسي وأنا أذرع الشارع الطويل المغمور بالأنوار. ألتقي بعض الوجوه الأليفة التي أعرفها، فنتبادل التحية بهزة رأس. ضقت ذرعا بطنجة، فغادرتها والمساء في أوله. المنزل ذو الطوابق الثلاث ما يفتأ مقيما في الزقاق الذي كان يحمل اسم الشاعر بن زيدون. وقد مات جدي بعد أن أقعده مرض الفالج سنين عدة. وقد رأيت جثمانه المسجى فوق السرير، فلم أستطع أن أكبت رغبة محمومة في أن أزيح اللحاف لتطالعني تلك الزرقة المريعة ولأتأمل أثر ذلك الجرح الغائر الذي كان يخترق أعلى ذراعه الأيسر والذي أحدثته رصاصة مجنونة أصيب بها في جنوب إسبانيا أيام كان جنديا في جيش فرانكو. انطوى جدي ومعه تلك الحكايات الرهيبة التي كان يفضي ببعضها إلى أبي حين يجمعهما الوقت. وقد خلا المنزل إلا من جدتي وأكبر أخوالي الذي عاد حاوي الوفاض من اغتراب فاشل ليمنحها شيخوخة قلقة.
لم أغير عاداتي رغم هاته السنين الطويلة التي كرت كحلم صيف. فما زلت أصعد إلى السطح غب الوصول لكي أتفقد صورا قديمة. لم يعد لخم الدجاج أثر، أما الشيخ يحيى الذي نيف على المائة، فقد ماتت زوجته، وتفرق أبناؤه، لكنه لم يلبث أن تزوج من امرأة تصغره بأربعين سنة واستولدها ثلاثا من العفاريت، أو هذا ما تقوله جدتي ضاحكة. ولم أعد أتصيد أترابي بعد أن حاق بهم التشوه. عبد الله أصبح تاجر مخدرات وزائرا وفيا للسجن المطل على البحر. وقد التقيته مرة، فراعني ندب عميق فوق حاجبه الأيمن. وددت حينها لو أن بحوزتي ماء سحريا أمسح به وجهه لتعاوده نضارته أيام كنا نقفز فوق شواهد القبور أو نتسلق أشجار الصنوبر في الغابة الأولمبية أو نسبح في شاطئ القوس الصخري. عمر أصبح مالك زورق ينقل المصطافين إلى شاطئ رأس الرمل. عمل موسمي لم يعد يدر عليه إلا القليل، فكان أن ثبت لزورقه محركا وطفق ينقل الشباب والكهول إلى إسبانيا. . أما علي، فقد أدمن الكحول والحشيش، ولم يكن يرى إلا في مدخل هذا الزقاق أو ذلك أو في المقهى المشبوهة لواقعة قبالة سوق السمك وهو يحدق في الفراغ ويحلم بالرحيل.
المدينة رتبت حياتها على هذا الإيقاع والحفر التي تتناسل بضراوة يقابلها نزيف مهول في الأجساد والأرواح. والحكايات العجيبة التي ترد عن الذين وصلوا ثم عادوا بالسيارات الفارهة والأموال التي لا حصر لها تفاقم جنون الناس فيتحولون إلى كتل مسعورة. لا أحد يتذكر الحكايات المفجعة والميتات المخزية في عرض البحر أو غب الوصول. الجثث التي يقذفها البحر كالنفايات على سواحل الجنة أو الشابان اللذان لاذا ليلا بضيعة فنهشت جسديهما كلاب حراسة جاوزت شراستها كل حد. ليس سوى تلكم الحكايات الوردية التي تحث على الجنون. وفي غمرة الصخب واللهاث المحموم خلف الوسطاء والتأشيرة السحرية ، تموت المدينة ببطء. العارفون بتواريخها القريبة والبعيدة يرددون بحسرة إنها في النزع الأخير وأنها سوف تلفظ آخر أنفاسها قبل أن تسوخ في الأرض. الشرفة الأطلسية البهية عمرتها الشقوق وتداعت بعض أركانها بفعل انهيار التربة. كانت في الزمن الجميل مرتعا للحب والفرح، أما الآن، فلا يزور ما تبقى منها إلا الحمقى والحالمون بالرحيل.
بيني وبين هاته المدينة حبل سري لا يريد أن ينقطع، ولي فيها ألبوم صور أخفيته في مكان لا يدري به أحد سواي، وفي كل مرة أعود فيها إلى المدينة، أقصد إليه بمنأى عن الرقباء لكي أرى صور المقيمين رغم التشوه والموت الزاحف. الكنفاوي الجميل الذي تخيل الرجل ذا اللحية الزرقاء والذي طوف في الآفاق قبل أن يعود ليموت. المختار الحداد الشاعر الضرير الذي ما أن يعبر بي اسم أندري جيد إلا تذكرته. جان جيني الأسير العاشق كانت له أسبابه عندما ابتهج بسقوط فرنسا في قبضة النازي، وقبره الذي اندس ضدا على إرادته وسط المقبرة الغاصة بالجثث الفرنكوية بسيط وبائس كسيرته في الأرض. والطفل المغربي الذي عمده بالماء الفلسطيني ماذا فعل الزمان به. للأسير العاشق في هذا الألبوم أكثر من صورة. إنني أراه وقد تربع وسط جمع من الفهود السود وها هو يطالعني في قلب مخيمات بيروت زمن الحصار. الفينيقية ذات الملاحة الآسرة، وقد التقطت لها عيني الممعنة في الغور صورا في حالات عدة. إنني أراها وهي تصعد الربوة المطلة على الوادي الأسطوري في اتجاه المعبد أو تضع السمك في الحوض الغاص بالملح. وها هي ذي صورة أخرى تبرزها وقد تهيأت للاحتفال بطقوس الخصب وسط أهلها وصديقاتها. الجديلتان اللتان تتراقصان والجسد الذي يوشك على الاشتعال. سوف أزورها غدا لأرى إن كانت ما تفتأ جالسة تحت الزيتونة العتيقة. المطر الوبيل لم يفلح في وقف الحريق المجرم الذي أتى على المدينة ولم يبق إلا على بعض الأعمدة والسواري والأحواض. الفينيقية البهية: ما أجمل صورها!

الوتد القديم..

لم تقل جدتي شيئا حين عودتي والمساء في آخره. وقد توقعت ونحن نتناول طعام العشاء أن تجود علي بأخبار الذي ماتوا أو عركتهم الحياة؛ فهذا شأنها معي كلما جئتها زائرا، لكنها لم تفعل. رحت أتأمل وجهها الذي فعلت به الشيخوخة الأفاعيل وأتذكر صورته في الزمن الجميل. أنا أزحف بدوري وئيدا ودون هوادة نحو الجدار السامق إياه، وقد بدأ الشيب ينقر فودي، وسوف أتهاوى حتما في يوم ما وفي ساعة من ساعات الليل والنهار لكي أتوارى كالآخرين. وألبوم صوري قد تعثر عليه يد حاقدة فتمزقه شر ممزق. ولم أدر إلا وجدتي ترفع رأسها ثم تسألني وهي تحدجني بغرابة: وأنت متى ترحل؟ كنت أتوقع كل شيء إلا هذا السؤال، ولذلك، وجدتني نهبا لدهشة عظيمة وأنا ذاهل عن الجواب. ويبدو أنها عاينت في صمتي جوابا كافيا؛ إذ أردفت قائلة: لا تنس إن فعلتها أن تأتي لتودعني؛ فقد لا تراك عيني أبدا. تطلعت إلى وجهها الذي ناء تحت وطأة حزن ثقيل كالمرض، فهممت بأن أقول لها إنني لم أفكر قط في ذلك؛ آية ذلك أنني ما زلت لابدا كالقراضة في جلد الأرض. وقد أفعلها إذا أتلفت اليد الحاقدة ألبوم صوري، وحينها، سوف آتي لأعانقك وأقبل ظاهر يدك وباطنها.
قلت لجدتي في الصباح إنني عائد، فلم تعلق بشيء.. من عادتها أن لا تلح علي كي أبقى؛ فكان أن عانقتها ثم غادرتها وهي تشيعني بفيض من الدعوات. كنت كاذبا، لأنني كنت أعرف أنني لن أعود إلى طنجة إلا والمساء في آخره. وقد انطويت بالأمس وأنا أتهيأ للنوم على رغبة في زيارة الفينيقية التي لم أبح لأحد بأنني استأمنتها على ألبوم صوري. دلفت عبر الأحواض المحطمة قبل أن أصعد المرتفع الذي تحف به أشجار الزيتون. وعندما وصلت إلى الربوة، اكتشفت إنني كنت أتصبب عرقا. مسحت بعيني الفضاء الممتد إلى ما لا نهاية. الوادي ما يفتأ متعرجا وذا بياض مثير، وفي البعيد يطل برج كوماندارسيا بحكاياته العجيبة. قصدت الزيتونة، وعندما حاذيتها، أخذت أحدق أسفلها إلى أن تبينتها. بدت لي الفينيقية متعبة وواهنة كما لو أنها أفاقت لتوها من بيات مزمن. لم نتبادل كلمة واحدة، وإنما اكتفيت بأن مددت يدي إلى الألبوم وأخذت أتفقده بشوق ومحبة. الصور ما تفتأ يانعة ومزهرة كما لو أنها التقطت بالأمس. الكنفاوي يضحك بصخب والأسير العاشق يداعب شعر الطفل المغربي الذي تخيله فلسطينيا، أما الفينيقية المليحة، فأطوارها مبهجة للروح أو هذا ما أراه رأي العين. سوف أعود بعد أيام لأقول لجدتي إنني لن أرحل وإنني مقيم كالوتد القديم..

بروكسيل 2005.