لم نكن معنيين سوى بالشجرة الشعرية في تفتقها ويفاعتها وتشكلها واحتدام أغصانها وافتضاضها الهواء النقي، هواء الشعر. لكننا اضطررنا )جمالياً على الأقل، دون سابق حماسة وإعجاب متنطع بمفاهيم ومصطلحات لا تقدم أو تؤخر شيئاً في معدن الشعر وديدنه ومعناه المضيء في ليل الإنسانية البهيم) أن ننحاز إلى شكل بعينه، وأن نتقفى طاقته، ونتلقف حضوره الروحي فينا.
في إغوائنا الجمالي هذا، ومن خلال "قصائد النثر" المـُختارةِ في هذهِ الأنطولوجيا، لشعراء من عـُمان، نقف مع ذلك الاعتقاد والهجس الذي يقول بأن الشعر، الآن وهنا، يتحقق في هذه القصيدة ويتبأر فيها ويتجذر في لغتها وحقول دلالاتها ومستويات خطابها.
وبعد أن عانت الأشكال الشعرية الأخرى ما عانته من صنوف الرضوض والانحطام والتمرغ البراني المجلجل، تعاضَدَ النثر والشعر، في تلاق خلاق، انهمك بنبل في تصعيد الحالات القصية واستكناه الغائر المتشظي والتقاط المُهْمَل والالتحام بجرح الوجود...
وسواء كتب المستقبل لهذه القصيدة أن يبقى زخمها ودفقها وحرارة الالتقاء بها أم لم يفعل ذلك؛ إنصافاً أو تجنياً، تجاوزاً أو تحرراً من الوفاء المكبـِّل، فإنَّ ما يجمعُ هذه النصوص هو شرف الزمان والحضور فيه، والتلاقي في حميمية الأمكنة ورعبها وفخاخها...
لا يزعم هذا التقديم، ولا اختيار كـُتـّاب التجارب التي تضمنها هذا الكتاب، ولا النصوص المختارة، رصانة أكاديمية عصماء، أو انتقاء إزميلياً حاداً؛ إذ لا يعدو الأمر برمته أن يكون، غير احتفاء بالممشى والطريق، واستمراء للتجربة الشعرية المجترحة، في انفتاحها على ضد الموت وضد الصدأ وضد اليباس، واقتراباً حميماً من المُـناخات الشعرية والآفاق المستبصرة المتجاورة...
وببساطة لا تجانب الحقيقة، لقد التقت ثلة من أصدقاء الشعر، في ردهة الاختلاف، ذات مساء لم يكن كئيباً جداً، واحتسوا أنخاب اللقاء، ثم تفرقوا كلّ إلى طريقه، بينما تأبطتُ قصائدهم وضممتها إلى جانب بعضها البعض ليكتمل الديوان، وتبدأ الشرفة الصغيرة...
جمالياً، لم يكن لنا إلا أن ننحاز لهذه القصيدة، وأن نعانق هذا المنعطف الشقي والمارق، هذه العنق الصيفية النهمة، هذه الحدقة المتلصصة الحـُرّة، هذه الشجرة المـُحرّمة التي استحقت ضغائن حـُكماء الكلام وديماغوجيي الكتب الصفراء ومغلقي بوابات السؤال.
الشعراء الذين نلتقيهم هنا، مع اختلافهم وتعددهم الجليين، في الرؤية واللغة والكشف الشعري، خير من يمثل المكان حاراً ونابضاً ومتجذراً في ولعه وأساطيره وشجى براريه وهوائه الحالم، وهم أعوانه الجماليون في أن يمضي حـُرّاً وذا فصول، وهم جلبته المشاغبة وصمته العميق، وهم شعوذته المؤمنة وإيمانه الطريف. شعراء، يدحض ثباتهم وتوطنهم، أنهم منفيون من قـُراهـُم الأولى، ومصابون بألعابهم وترحلهم في الكلمات...
وأياً ما نبهنا النقادُ، أو قادنا قراء التجارب الشعرية في العالم ومؤرخوها، إلى مواضع الافتراق عن مسميات "قصيدة النثر" في مصادرها الأولى وطرائق كتابتها، "كتلة" هي، أو تفشياً في فراغ الصفحات، طولاً أو قـِصـَراً، أقصوصة منحوتة بإزميل الشعر أو قصيدة منشبة أظفارها في ولع السرد، صمتاً هي أو أجراساً محمولة في الغياب، اجتراحاً للكليّ أو افتضاضاً للجزئي، انهماراً في اللعبيّ أو اشتباكاً مع أصلد الأسئلة وأشدها خطورة، فإنّ ما نقترحه هنا، هو التفاتة إلى إضمامة نصوص، لرفقة غير متناسقة وغير منسجمة تماماً – وهذا التعدد والتنوع أدعى للتميز والإعجاب- تمارس شهوتها في خلق فضاء متجدد مشحون بالتطلعات، من خلال كتابة لا تتبجح بالخلاص، ولا تدعي إلا الورطة، في كتابة مفتوحة على العاري والمتحول..
إنّ هذه الأنطولوجيا تكترثُ كثيراً بهذا التآخي الخلاق، المتجذر زمناً ومكاناً مشتركين، في رسمِ هذا اللهبِ الحميم، ووضع اللبنات الأولى في البناء الشعري الحديث في عـُمان، من خلال ذلك الانشداد الروحي والحسي إلى تحولات المكان، والزمن الرحب. تلك الحمولات التي تغدق بأرومتها وأضلاعها الكثير من اللهب في نار الشعر المقدسة، وتفتح بوابات الصداقة على نصوص العالم، وعلى مجد الكتابة في المواسم الزمكانية المختلفة.
يمثل شعراء هذه الأنطولوجيا (مع آخرين لم نأت على ذكرهم هاهنا اضطراراً) المكماد الأول واليقظة الحصيفة في قود عربة الشعر إلى النجمة الشهوية الغريبة، والانشغال بسرّ الحديقة وتخوم السؤال. يتامى إلا من أمومة الصحراء والبحر والريح، ونـُدامى للجنون والنزهات...
وقد نحينا جانباً، في هذا الاختيار العريض، النواحي الشخصية الضيقة، تلك التي قد تذهب جُفاء وزَبـَداً، والتي قد يجففها الزمن في دمدمته المطيرة، ويـُصغـِّرها الليل في مرآته الوقور. شاكرين كل الذين ساهموا في إنجاز هذه الإضمامة من النصوص، التي اعتمدنا في اختيار أصحابها على إصدار مجموعة شعرية مطبوعة واحدة على الأقل لكل شاعر، مسلسلين الأسماء وفق السطوة الأبجدية وحدها، تلك الإمكانية المدهشة للغة، في مادتها الخام الأولى، في حروفها، عندما تعني، بينما تبدو أنها لا تعني. مُنـحّين جانباً ما اعتزمناه من قبل، من خلال تسلسل الأسماء تبعاً لتاريخ إصدار أول مجموعة شعرية لكاتبها، تالياً لغيره أو متقدماً عنه؛ وذلك للإشكاليات التي تحيط بهذا الضرب من التسلسل، فهناك من كتب تجربته ولم يدفع بها إلى المطبعة إلا متأخراً عما افترضه القراء والمتابعون للتجارب الشعرية. تاركين - في ما غضضنا عنه بناء على هذا الترتيب- صداع التأسيس وجدليات الأسبقية لأهلها وشعابها ولدارسي التحقيبات والأجيال وسدنة التقصيات.
نشير أيضاً، إلى أن هناك من لم نضمه إلى قائمة المدرجين في هذه الأنطولوجيا بسبب عدم توفر إصدار مطبوع له، رغم تميز تجربته وحساسيته الشعرية مثل مبارك العامري وأحمد الهاشمي وأحمد الوهيبي وعلي باعوين وسالم السليطني وآخرون، وهو استبعاد جارح، ألجأتـنا إليه الفترة الزمنية المحددة التي لزمت لإنجاز هذه الأنطولوجيا أولاً، واشتراط الإصدار المطبوع ثانياً. والسبب الأول هو ذاته الذي ألجأنا لعدم تضمين إحدى التجارب الشعرية، ضمن التجارب المطروحة هنا، رغم توافر شرط الإصدار، وذلك للصعوبة العملية التي نجمت في التواصل والاتصال بالكاتب.
ومن الملاحظ أنّ الأنطولوجيا لا تشتملُ على قصائد لشاعرات، ملتمسين العذر لهذا النقص؛ لعدم توافر النصوص الشعرية المميزة والملفتة من هذه التجارب لدينا، ولعدم اطلاعنا على التجارب الخصبة والثرية التي لم يتحقق لها النشر والطباعة الورقية. راجين أن يتم سدّ هذا النقص في أنطولوجيات قادمة، للإحاطة بهذا الشغف الكتابي الماسّ والفاعل في التجربة الشعرية بوجه عامّ.
حقاً إنّ "الشعر صعبٌ وطويلٌ سـُلـّمـُه"، لكن من قـَبـِلَ بالمغامرة، عليه أن لا يرتدع، "حتـّى تكبرَ الأرض، أو يصغر هـُوَ". ومـَنْ رضـِيَ بالطريق العاري، عليه أن يشدّه إلى أقصاه، وأن يفتح به سلالم المحو والولادة، سلالم الموت والخلق...
نكون جميلين، حينما نكتبُ شعراً. جميلين، عندما نفعله...
صالح العامري
مسقط
31 أكتوبر 2007
إبراهيم الحجري
- من مواليد مسقط، عام 1975.
صدر له:
- معمار الماء، شعر، دار شرقيات، 2006.
شواهد ُ الألماس
بالقـدرة الفـذة لعابري السـُـبـُـل
أتمكنُ وسأواصلُ تمكـُّـني وتـزمُّـني
خالطا ً بالماءِ رملَ الساعةِ
وغبارَ طلع ِ النخيل
منهمكاً في تمتعي الدائم
مانحاً للرملِ والطلعِ
نفسَ المحبةِ
من خلالِ كلماتي الواضحةِ كشواهد َ من الألماس لا تمـَّـحي
ولا يبدلها الجديدانِ
بل يعطيانها الحسَّ الطازجَ
للطبيعةِ التي في الهواء
في كلِّ مرةٍ تقرأ فيها
لا يتأثرُ مزيجي بالبـِـلى والقدم
بل يعيدُ صياغة مفهومِ التغيُّرِ أبداً.
أنظروا أيها الأصدقاء
إنـه ُيمنحُ شيئاً إستثنائياً هنا
من خلالِ نوافذِ اللغةِ ومآدبِ الكتابة
وسيواصلُ معي دائماً
بفلكٍ جديدٍ
ونجومٍ ولدت حديثاً
وكواكبَ تشكلت للتوّ
وكونٍ زاهٍ
بدأ الآن
في ارتداءِ ثوبهِ الموسيقيِّ والسيرِ بصحبةِ الشعر
أنظروا إذن
أيّ مُناخٍ أتاحهُ للغةِ هنا
وماذا سيكونُ طعمُ ثمرةِ الليمونِ بعد ذلك
تهنأوا إذن
وماؤها يقطرُ على ثيابكم
تاركة ً عطرها على أصابعكم.
لذة ُ الشاعـر
هل يشعرون أيُّ متعةٍ تتعبأ داخلي
أيَّ لذةٍ
أيَّ دخانِ بَخورٍغليظٍ يسكنني وأوزعه
على الأعمدةِ الرخامية
على الأقواس
والبساتين
على الصحاري
على الماء.
هل يتذوقون أيَّ بخورٍ
تتركه أصابعي على يدِ الأحباب
أيَّ دخان ٍ لذيذٍ
أتركُهُ على شفتيْ حبيبتي قبلَ أن تنام
أيَّ سـُـكـْـرٍ في العودِ
ينشرُ رائحتهُ عندما أحترقُ عابقاً الأمكنةَ ببياض دخاني الكثيف
ضعوا
ضعوا جمراً أكـــــثرَ
في طريقي
فقد أدركت لذةَ الشاعرِ
متعتهُ ومهمتهُ
إنني أُبَخـِّـرُ الكونَ كلـَّـه.
الشعرُ فوق الذُرى
وفي الأعالي
والشاعرُ يستطيع دوماً العلوَّ
وهكذا ينتصرُ للشمسِ
بالبهجةِ التي أثملتِ القلبَ نشوةً
وأورثتهُ ارتياحاً
سُـكراً بشنينِ السعادةِ
الذي يغتبقهُ من زِقِّ العِشيِّ
بتلكَ البرودةِ التي تبعثُ العنفوانَ من رمادهِ
ممتطياً خيولَ الرغبةِ في العيشِ
وظهرَ الجنونِ الذي يُضفي على الحياةِ صرخةَ اللون.
أيتها الحيواتُ الساقطةُ
سأقدِّم ُ لكِ بصقاتي مغلـَّـفةً في أكياس
(طربا ًـ بالشعرـ أو مرحاً).
على عاتقي سآخذُ كلَّ ما يؤخذ من جمالٍ لأنشرَهُ بعيداً جداً
قربَ القلبِ النابضِ لكلٍ من البحرِ والرملِ والجبلِ
وسأقيمُ عُودي وأَوَدِي بنخلةٍ باسقةٍ هي امرأة.
لماذا إذن لا أطلقُ نفسي في براريِّ هذهِ الحياةِ ووَحشِها
ما دمت ُ أدَّعي الرملَ والريحَ والماء
ولماذا عليَّ المُكثُ حيثُ لا أحبّ
ولي كلّ هذهِ الأجنحة
وما دمتُ كاسـِـراً بالفطرةِ يعشقُ الموسيقى
فلم َلا أغني:
طليقٌ هو الشعرُ
وجوَّابةٌ رياحُهُ
وفي الغرفةِ قهوةٌ وموسيقى
فمن يتذكرُ الفـقر؟.
خطبةُ الجسد
أيها الجسدُ
ممتَشَقٌ ممتَشِـق
بضَّ الإنحناءةِ في هلالةِ الدائرةِ
كهلالٍ ينهلُ أمامَ ساقيةٍ صغيرةٍ تستمطرُ فلجاً
بينهما خاصرةٌ يرتجفُ أمامها السيفُ
شهوةً وفـَـرَقاً
ويتلوى الشَبقُ في انفراجِ فمٍ للذةٍ
صلابةُ كثيبٍ عندَ نهوض
إنبساطُ كفٍّ والتفافُ ساعد
التحاقُ جذعٍ بقدمٍ تقدمت
والثبات
لحظةً
لتملـِّـي قدمٍ ترتكزُ على مشط إبهامها
أيها الجسدُ أخبرني الزينةَ
عِقدُ ذهبٍ مستلقٍ على صدرٍ صادرٍ بعدَ سِقاء
زنَّارُ فِضةٍ على كشح
تفنن
ظِلّ حلـَـقٍ فوقَ كتف
بل أفحِش
عاضدٌ ملتصقٌ بعَضُـد
بل أرعش عيني بجبهةٍ مُذَّهـَـبةٍ
وتستطيعُ بكاحلٍ يرِنُّ بخلخالٍ
سلبَ ثلاث حواسٍ مني
دُفعةَ تـَنـَـبُّـهٍ
بصراً وسمعاً واشتهاءاً
زدني
أشم ُّ حناءاً
أتزرعُ جنة ً في جسد
/ أمتليءُ فرحاً إذن
من فـُجور ِحلـَمةٍ بينَ شفَتين
ورقصِ خاصرةٍ بينَ كفين
تصعدان ِ
وثنيتان ِ تقرُصانِ بِخفـَّـةٍ باطنَ فخذ
وسطَ معصرةِ ورد
وليُجنَّ جنونكَ في أناملك السكرانة
وتتهدجَ أنفاسك
في
هصرٍ وانزلاق
ورأسٍ جَنَّ برائحةٍ قرُنفلٍ
في جسدٍ مـُـحنَّـاً يرشحُ ماءَ ورد.
المائيُّ
فليُسقِطوا عنِّي مياهي إن كانوا يستطيعون
الياسمينة ُ ترقصُ وهيَ المذبوحة ُ
والشجوُ لا يفتأ ُ يُحرِّكُ الشجيَّ
النُصرةُ تتوالى لمن مثلي
عني لا ينقطعُ المدد
حصني وأنا الوحيد
ولا أستسلم
عبثاً يُحيطون بي
عصيٌّ على اليأس
بل بوسعي أن أرفِدكم مما لديَّ إذا ضعفتم
ولستم أصدقائي
فقد كرستُ عمُري لهذا
ربيتُ فيَّ فرحاً أثيماً
وسعادة ً يقطرُ دمي
ولي نشوة ُ العازفين
وحماسة ُ المغنين لحظة َ الطرب
وعنديَ الشعر
لا لا أُكمِـلُ
أترككم كما من تلقائكم كرهتموني
من تلقائكم تصلون للقفلةِ اللائقة.
صغيراً أخذتُ من الغرقِ حدَّ الترياق
اليحميني كي لا أقفَ معكم
أحاصرُ الأسئلة
السؤال ُ
أنا بحرهُ
وأغنِّي كل َّ يومٍ أسئلةً
ولديَّ ما يكفي
لإشعالِ الحياةِ وترقيصها كنارٍ حقيقيةٍ.
في قبوي ما يكفي المُدَخنين
ليضِنُّوا بالكلام
مكتفين بالصمتِ الذي يُغذِّي الأفئدةَ
ويُضحكُ الأفواه
على فترةٍ من التفكير
حتى يظنوا أنَّ العشاقَ يرغبونَ في لعقهم
فيحمرُّونَ خجلاً وهم يكتمون زهوهم
آه ٍ لكم
صفـِّــفـُـوا البهجةَ تلوَ البهجة
ولمعة َ العينِ واسِـطةَ العقدِ
طبعاً الزمردةُ في الصدور
والعقيقُ في الأكفِّ
منكمُ النُعمى لكم.
يا مُحاصريَّ لا قدرةَ لكم أن تـُسقِـطوا مياهي
المائيُّ يتجاوزُ الفيزياءَ والكيمياء
من أين لكم أن تجعلوني جافاً
هذا يتجاوزُ سلطانكم
المائيُّ لا يُهلك
هل سمعتم هذا
السيلُ يسخرُ منكم يقول:
من تحاصرون؟
وهوَ يطيرُ فوقكم!.
معمارُ الدهشات
من بـُـحيرة ِ النيازك ِالتي أبدَعْـتُ
أسقيتـُـني وعلمتـُـني
في معمارِ الماء أقفُ
أنسجُ منَ الأفقِ والبحرِ وشرارةِ الأجرامِ ولطائفِ الهواءِ النديِّ
مواقف حياة الجمال والبهجة
أزلاً للأبد.
كلما هـَـفـَتْ ورقةٌ وأشمسَ سفحُ جبلٍ أرى
وفي صقيلِ الصخرِ
والجذوعِ الشذيةِ
سبكتُ نحتيَ
ها هو المُضَمَّـخُ بالانحناءاتِ البديعةِ
جئتُ بهِ من التيهِ بينَ مجراتِ الكون
في يدِ الرحمة ِ
بكـَـنـَـفـِـها الممتدّ
جئتُ بهِ من المنير
الذي أُسكنت بهِ أرواحَ الشُعراء والفلاسفة
قابضاً على خيطِ شعاعٍ مما ملأ الكونَ بالنهار الأبديِّ
الذي يتعبدُ فيهِ المُحـِـبُـون
لما أزجي لي من كرمِ الوجودِ
واتساعات اللُبِّ والزخارف.
يا إلهي
جميعنا رُسـُـلٌ
إلينا
في مُـزْجى النـِّـعَـمِ كوكبَ الوجدِ هذا
نتقلبُ فيما نراهُ جنةً
تنـفـَحُـنا حبَّ الجمالِ
وعشقَ الصُـنعِ
المبدع.
نظرتي إلى الأفقِ بعيداً حيثُ مرأى السماءِ والأرضِ
أرفعُ بصري قليلاً
في المحبةِ أحيا
وأستقي من الفيض
في البرقِ البعيد اللامعِ برُواق الروح
وأتعبدُ
مغتسلاً بالشمسِ
ملتذاً بماءِ السماعِ
وهَميِّ أنغام الماء
على العَـتـَـبةِ المبتلةِ لباب الحياة
وهناك َأتدثرُ بالعطفِ
بالعطف
وتـُـغدَقُ عليَّ أنا المتسولُ في البستان
أشهى ثمارِ المعنى
وأصفى عسلِ اللذائذِ
والدنانِ المعتقةِ للمتناجينَ.
يا مُدْخلي عذبَ الروحِ
ومُسْقـِني حلوَ الجسدِ
في غبطةِ الألوان ابْقـَنَّ
في المنتشي حد َّ الرعشةِ القصوى
إلى باردِ الجفنِ
أبلغـْنَ
هناك
هناك
في غنى الروح.
الدهشة سبيلي
فليبتـَـهَـجْ بي
ولأجعلْ في قطرةِ ماءٍ
أَنشرُها رذاذاً
أطهـِّـرُنا به
وفي النعمى نبقى
بالمحبة.
ليُـنـِـر سراجي
في عمرٍ هو
ماءُ الحياة والممات.
عمّن ذهبوا عمّن يذهبون
يصِلونَ إلى قِطاراتِهم في المواعيد
تأتيهم مواعيدُهم
ما بالُ موعِدي لا يأتي ؟
وغـُـبارُ دربي لا ينقشع ؟.
من حولي تتضِحُ رؤيـتـُهم ويرحلون
لكن إلى طريقِ هلاكهم
دونَ أن يشعروا
يبيعونَ أنفـُـسَهم
بالتخلي عن الحلم
يعتقدونـَـها الإشارات وهي السراب
يتخلـَّـونَ لحُلـُمٍ صغيرٍ مؤقت عن الرسوخ الفاعل.
أما أنا فوحيداً / آبدٌ في الحصن
يا رفقاءَ الحِصارِ الذين أستسلمتم
أنا هُنا لابثٌ أعملُ
للأمل
بإيمانٍ آثرتمُ التخلي عنه
والتهافـُتَ إلى مُتعٍ تعلمونَ سُرعةَ زوالها
وأسفارٍ استعجلتموها
وها أنتم لم تـَـعُد ترويكمُ الأسفار
أفسدتمُ المُتعةَ باستعجالِكم
فلأُخبِركُم إذن:
الموتُ لا يأتيكم من خارجٍ حتى تخافونه
موتُكم فيكم
وما عُدتم تستطيعونَ ردعه.
أما أنا فما زِلتُ كلَّ ليلةٍ أثمَلُ مع السخريةِ
وأصدَحُ بالأغاني
دونَ أن أخشى صدى الجُدرانِ
مُشارِكتي خنـَّـةَ الغِناء
فأستأثرت بالمتعةِ
تـَدَبَروا في موائِدكم الباذخةِ
ووجومكم
وحصيرتي القشّ
والنجم الذي يُـعشِي أبصارَكم بقلبي
قريبةٌ أعيادي
وحُلـَّـتي جاهِزةٌ
إيقاعُ خطوي مضبوطٌ دونَ عناء
وأغنيتي تتلألأُ
أما سُخريتي فهيَ في شِقِّ فمي
أُهبـَـتي تامة ٌ
وفرحي صاعِق ومدهش
وقد فاتكم أن تكونوا هذا كُـلَّهُ
وأستهزأ بكمُ العالمُ مرَّتين.
سأوَزِعُ نـُـدَفَ السحابِ
على المساكين والفقراءِ ليُمطروا بها بيوتـَـهم الجافـة
مـُـدوا أيدَيـَكُم أنتم أيضاً
وأُعفيكم من الشـُكر
أعرِفُ أنَّ الجفافَ سكنَ حـُـلوقـَـكم
وذهبت عنها الرُطوبـَـة
وبلغني أنكم صِرتـُـم تكرهون
لكن لا تغضـَـبوا إن لم أعرِفكم
من وجوهِكم
لقد كانَ لعيونِ رُفقائي بريقٌ خالـِـب
وكانت أنفاسُهم متدَاركة
وكانوا
لا
يـَـمُدُّونَ
أيدِيـَـهُـم.
أمانٌ عليك أيها العالم
أستعيدُ حدسيَ الطاهر
وطزاجةَ معرفتي البكر
وأمزجتي التي لا تـُبيحُ نفسها
وركضَ الواثق
لا أكتفي بفعلٍ
عن إغواءِ أمنيةٍ
لا أرتدع
لا أهملُ حُلماً
ليسَ قصدي أن أُربِكَ الزمنَ
لكنهُ يرتبكُ ويتلكأ
أينَ سيفكَ أيها الوقت ؟
أنتَ طولَ الوقتِ بدِرعِك.
عندما تبدأً الفعلَ العظيمَ تخافُ أن يُدرككَ الوقتُ دون إتمامه
بعدَ ذلكَ بمرأىً أوسع تبدأ الفعل
فترى الوقتَ متخلِّفا وراءك
فتنتشي
يدفعُكَ ذلك لأن تأتي فعلاً أجملَ منه
أسمى وأرفع
مقاساً للعظمةِ جديداً
في العلوِّ
ليزدادَ الفرقُ ويتَّسعَ الخرق
بينَ أغلبيةِ تُثرثر
وأقليةٍ نادرةٍ
تعملُ
لتجدَ الأغلبيةً موضوعاً للثرثرة
يُقصِّرُ عليها العمرَ الضائع .
وأن أكونَ في وطيسِ الحربِ ونارها الداهية:
ماءاً
فذلكَ لي جمالٌ
وأن أكونَ في حياةٍ تُغري أهلها
وتحبِسُهم في البطالةِ والعدميةِ:
عملاً عظيماً
فذلكَ لي فتنةُ رقراقة.
لا حياة َ اللعبِ
بل لعبُ الحياة ذاكَ
فالأعمارُ التي أعرفُ إنما هي الأعمالُ الخالدة
والبطالة الموت.
أعتقِدُني منذ ُ صِغري
أتبعت طريقاً أهلكُ فيها
غيرَ أنني أستلذّ هلاكي هكذا:
على صهوةِ جوادِ شرفِ البناء
المتقن والعمل المجيد
صبابةُ عشقِ امرأةٍ فتانة
وألذ
لا أعيرُ الزمهريرَ إحساساً
دفءُ الفعلِ يغسلني بالعرق
أغني بصوتٍ عالٍ
لأهديءَ النارَ المضطرمة داخلي
والقلقَ النبيل
وأسخر ليهدأ اضطرابُ العالمِ قربي
خوفهُ أن يحترق
جنونَهُ أن يخرجَ من فلكهِ القديم
إهدأ
وشمي على جبهتكَ لتغدو أجملَ بعدَهُ
أأصطفيكَ بأطايبِ أفكاري
وتريدُ اغتيالي ؟
أأطهرُكَ بالماء
وتظنني أغرقُك ؟
أأكحلِكَ
وتشك أقتلعُ عينيك ؟
إهدأ
حبيَ الحسنَ
ضامني
أكرهُ السوءَ
والفعالَ الناقصة المثلومة َالدافع
سُكري بالفن
أمانٌ لكَ
وعليك.
غايتي السموّ
حِرزُ أصابعي
فلا آتي الكريهَ
وردُ الأوردة
أبذلهُ في سعادةٍ لا غير
أصحو باكراً
فقد أذِنتُ لي أن
أشقَّ الطريق
كما أعرفُ الشاعر.
أنا الأعمى
لم تكن الحادثة ُ زيادة ً في القلق
قلقي عاديٌّ كما هو
كما أنها لم تكن نوعاً من التفلسفِ
ولا رسالةً سياسية
يلذّ لي أن أسميَّهُ إغواءً
فقد وجهتُ المسمارين الصقيلين لعينييَّ
أرى ذبابتيهما
قرّبتهما أكثر من عينيّ
لم أكن أخطط ُ لشيء ٍ
حتى رأيتهما هكذا
لم أعد أرى إلا نقطتان
وكان مغرياً أكثرَ فأكثر أن أغطي العالم عني بمسمار.
قربتهما أكثر
عينانِ شديدتا الهشاشة ِ
ومسماران شديدا الصلابة
يلتقيان
دخل المسماران في البؤبؤين
وكأن لم يكن بـُـنـْـصُـرايَ يدفعانهما
فلتبتعد الأصابع لأرى بوضوحٍ
إسطوانتان صغيرتان تمتدانِ من عينيَّ
تنتهيان بدائرتين صغيرتين
ويحيط ُ العالمُ بالمشهدِ
دماغي الكافر لم يرتبك في تركيبِ الصورة أبداً
كمن كان متهيئاً منذ زمن بعيد للذةِ انتصاره
كما أدخلتهما
أخرجتهما
ببطءٍ أتأملُ فيهِ أصابعي تبتعدُ بعيداً أبعدَ من المألوف.
دم ٌ
أي ُّ دم ؟
أنا الأعمى
أرى بأصابعي.
***
إسحاق الهلالي
صدر له:
- سيجارة على سطح البيت، شعر، دار الجديد بيروت، 1998.
الشعراء عاطلون
غبــار
ومصابيح معلقة
على أجنحة الطيور
سالت محبة بين الفجوات.
فراشة الصباح
بخفة الموسيقى
أنـظر
قفـز وعـل
واهتزت الصورة
على الحائط.
أيها الصياد
الق شباكك
أيها الفلاح
اضرب بفأسك
الماء لكما واليابسة.
وحـدهم الشعـراء عاطلون.
وصف المطر
رعشة الروح
انتفاض العصفور في حقل الظلام الشفيف
تماسّ الأرض بالسماء
فضة الرغبات الدفينة
شبق الغيوم
لمعـان ضحك الأطفـال
حجـارة بيـضـاء.
يا غريبة
أعطيتني الصُدفة
وسقيتك الخيال
فاكهتك شهية
وغمرني الربيع
أفقتُ من سكري
وأنا سكران.
صفا ينبوعُكِ الزهري
والخمر مراقة في الأنفاس.
يا غريبـة
لا تمهلي الغريب
فأيامنا غبـار.
على المشارف
منزلي حجـر
والجبال حدائقي
وقتي أقضيه بين المرتفعات.
العزلة سلاحي الأبيض
والأبدية على مشارف حدودي.
اللغة هنا طرية
كالهـواء.
والماضي
ذاك الذي أرى دخانه
يصّـاعـد
هنـاك.
الحجـر
الدم وردة بيضاء
لسان الرضيع
في الأمّ
الحجر أمّ
الحجر إشارة ومجاز.
ما نحن لولاه
الحجر ليس نحن
لا يشبهنا
لأننا لا نشبهه.
لأن البراءة تنسكب من اليد
حين يطير.
الحجر ولادة
فجرٌ تطلقه من قمة الجبل
الحجر أنت
دون كساء.
الحجر حليب رغبتنا المدفونة وخلاصنا.
صوتنا في الخلاء نشدّ عليه ونرى الأعداء أمامنا وجهاً لوجه.
الجواب: الحاكم
أذنـاه طويلتـان
ولا يسمع.
لا يُركب
ويمشي على أربع.
الوادي
ثلاث نخلات
على رأس الوادي
ثلاث نخلات.
الأولى مائلة على
الوسطى
كما في العناق
والثالثة رمح منتصب.
ثلاث
نخلات
صاعدات
فخذ الجبل
يستظل تحتها العابرون
ويثمل السكارى.
ذكاء الفراشة
أجلسي
لن أتكلم عن أول قـُبلة ولن أقول كفى
لن أحملكِ على السرير
عـُنوة
كمن يقذف بجسده
في النار.
أجلسي
وسأجرب قوة ضعفي
سأتعلم من ذكاء الفراشة.
أمهليني
ودعي يديك في سلام
حتماً
سأتبعُ الضوء
حصاد
أنضجتُ ثمارَكِ
سقيتـُها بالعـَرَق
وبحب الفلاح
وتخطفكِ أبناء السبيل.
كلما لمحتُ
عينين
أو شفتين
وجدائل انسكبت
في كأس الليل
تلفتّ:
غرستُ حديقة
أخذها الغـُرباء.
كأس فارغة
إن أترعتـَها
ثملت
وإنْ أبقيتـَها
ظلتْ ترنو إليك
بعين الخـُسران.
قـُبلةُ الخلق
العصافيرُ تستيقظ فوق شجرته
والضوء المنكسر
يحف السطوح.
إنه الصباح
قـُبلة الخلق
سردابٌ لأحلام البارحة
ونقطة فراق.
سماء صفراء
ها صباح
آخر
يشدّك من فضاء مدينة
بعيدة
إلى مقعد الوظيفة.
حطّ طائر
على إفريز النافذة
ونظر إلى الأشجار
خلفه
شاهد وحيد على الحياة.
الكأس المثلوم
زجاجة الخمر الفارغة
الحقيبة في ظلمة الأسى
وقت كاسد
سماء صفراء.
لا
لا صباح الخير
يا مدينة في تابوت.
لا صباح الخير
يا مدينة لا تتنزه الفتياتُ
مع عشاقهن في الشوارع.
لا صباح الخير
يا مدينة ينتظرك فيها شرطي
على ناصية الشارع.
لا صباح الخير
يا حليباً نطعمه أسـْوَد.
يا لعنة
لا تعمّ الأرض.
لا صباح الخير
صيفاً
وشتاء.
كلـّما
كلما قال:
"حانت اللحظة"
حلـّق طائر.
صفق بجناحيه
النافذة
مُـوْدِعاً
بيضه
أمانة.
رفقة وأحلام
وإذا نحن ترافقنا، ومشينا تحت شجرة الكون، هذه التي أرواحنا معلقة في أغصانها. ولم نجعل للأيام سبباً إلا حنـّيناهُ بعيوننا. من ماءِ القداسة خفتنا، وأيدينا لم يجمد طينها. نتجوّل في بستان أحلامنا. الأطفال ذريعتنا، والغيوم البعيدة خيوطنا، نشدّها إلى سـُرّة الأرض.
الصوت
يأتي
على شكل طنين
ومرة واضحاً
كسطح أملس
ما تنتظر؟
لا جواب.
وداع
كلما ودّعتها
عـُدتُ خائباً
بالصورة القاتمة
تغطي الجدار.
الضوء منكسر
على مفرق الزمان.
أحلامي سوداء
وغرستُ وردة
ببابي.
غمرات
قفزة
قفزتان
الصورة واضحة
والمدى واسع.
***
زاهر السالمي
- من مواليد الظاهر ببـِدِيّة، عام 1972.
صدر له:
- عـُبوة ناسفة، شعر، عن دار شرقيات القاهرة 2006.
عَالَم
أنظر إلى العالَم
من كوّة مدفع
الطريقة الوحيدة للرؤية بوضوح
وأنا محاصر في زاوية ضيقة
العالَم الواسع محشور في ماء عينيّ.
عبوة ناسفة
دائماً
تخطيء الثقب
رغم أن المسافة
لا تزيد عن عقلة إصبع.
تلك المسافة
شرك
على الواحد أن يجتازه
في بياض العتمة.
هكذا
أمسرح الأشياء
في المخيلة
وأعد
البيت للحدث
البيت
ذو الغرفة الواحدة
والنافذة الواحدة
مرسلاً أصدقائي
الأشباح
من أجل باقة ورد محنطة
(حيث لا يوجد غيرها).
أنتظر الرغبة
حيلتي الوحيدة
ـ في مدينة مقفرة ـ
تتدلى من حبل السرة
إلى الفراغ
أعلقها مرة إكليلاً للنهار
ومرة مشنقة لليل
ثالثة أرميها جانباً
كطفل ملّ لعبته.
لذلك كررت:
رائعة
…
…
لكن كاهلي لا يحتمل
غراميات كبرى
حتى رأسي
أحمله بإتزان
ـ في مدينة نظيفة حتى اللعنة ـ
لمجرد أنه
عبوة
ناسفة.
هكذا
أجد
أنه لا طائل من التفريط
في لفافة
كل ما يقتنيه الأمليون.
وبالرغم من بقع الرعب
التي تسطو على الوجه
برتوش ليست أخيرة
بالرغم من الهزات
الأرضية
التي تجوب القفص الصدري
ما زلت أنتظر فتاة
وأحلاماً سرّية
أقتات منها كل صباح
رادماً حفر الليلة الفائتة.
ما زلت أحتفظ
بصورة
لأم
تنزوي في قرية
قاحلة
حتى من الذكريات.
الأم
تلك الحافلة
التي حملتني
مع أناس آخرين
لا تربطني بهم صلة
سوى
أنهم كانوا في نفس المكان
لفظتني
دفعة واحدة إلى تقاطع طرق
دون أن تمهلني
حتى أتعرف قسماتها
أو
تتعرف
قسماتي.
إعلان
كنت مقامراً من الدرجة الأولى
ـ ليس بالنرد طبعاً
إنما
بالجماجم العتيقة ـ
عندما استأجرت بيتاً وأثثتُهُ
وجيبي ملغمّ
بعصافير
تزقزق طوالَ الليل
من جرّاءِ المصابيح الكاشفة.
في بساطة فزَّاعَة للبعض
أو بساطة كوخ
معلق بين نهدين
كان
البيت
قبلة تدحرجت من الرأس إلى القدمين.
في بهوه الصغير
سالت كل الرغبات
الجامحة
حتى البكاء.
هكذا
أنتحل روح الغابة
اقتناصاً لي
من شبهة الوطن.
أثثته
نبضة قطعة
قطعة نبضة
كآخر ملجأ لبياتٍ صيفي.
ذلك البيت
أبيعه اليوم
دفعة واحدة
كأول إعلان للهجرة.
الغياب عشبة الروح
المدينة فارعة الطول
...
...
لكنك تعود وحيداً
أيها الرجل الأوحد
لا غرابة !.
لك أن تغني
لك أن ترقص
لك أن تدرك
أنك الزبون الدائم
لبائع الأحزان
ذلك الواقف عند الناصية
يعزف على أوتار صوتك المقطوعة.
حيث الغياب عشبة الروح
لا فرق
حين تقصر المسافة كخنجر
أو تطول
كحبل تتدلى منه في ليلة باردة.
هكذا قررت أن تقضم شوكة السلالة
وتمسح عن حذائك
بقع الدم
وما علق من غبار الأرض.
لكنك كلما تصورت النسيان
حانة
ترتادها متى شئت
إنقلبت الحانة سعار ذكريات
تنشب مخالبها في الرأس.
.
.
.
في الأقاصي
تتذكر
القرى بدخانها عند الغروب
وخبز أم
لم تذقه إلا في المنام.
أيتها الأم
الواقفة تحت سقيفة الشمس
عيناك زوادتا ماء
لراحل
سيلتفت لحظة نحو الجبال
غير عابيء بالتركة.
(أي تركة) ؟
هكذا ستشعل الليالي لفافتها
في رحم حانة لا تجوسها غير الذكريات
سيقف عصفور الصدر
على كتف امرأة
تشبه نيزكاً
إذ
كل ليلة
سقطت من قبضة شهرزاد
تلقفتها يد السياف.
الرعب
وقد أحترق
الرعب
الذي نزل ببطء
يتبوء الآن عرشه
على الأرصفة
والطرقات
في المقاهي
خلف النوافذ
وفي البيوت
.. .. .. ..
مزوداً
بمعدات إرهاب
سماوية
يأتي مرة على هيئة كوبرا
تتسلق الفراش
بينما عيناي
كرتا سنوكر حمراوان
تتابعان المشهد.
مرة على هيئة مخبر
يلاحقني
في زقاق مظلم
وفي يده حقنة إيدز.
مرة على هيئة أنثى
تطل من شرفة ما
ثم
تقفز
إلى حضني
ومن شدة الارتطام
يتحطم الشغف.
وبعد مطاردات طويلة
إختبأَ لي في سيجارة
"آه
لقد أمسكت بك أيها اللعين"
هكذا قررت
أن أحرق الرعب
فأشعلت السيجارة
وبدأت أمتص رحيــــقها الأســـــود.
حانة في مسقط
الحانات هنا
لا تشبه أية حانة في العالم.
بين جدرانها
مخيلة الرواد
ثور في حلبة إسبانية
أما النساء
فطيف نادلة.
لكني تحايلت على إحداها
حانة صغيرة
في فندق لم تتعود عليه الأرجل بعد.
شرفتها تطل على ميناء
سوق
وقلعة.
حينها
كانت شمس تغطس
بائعوا سمك يجمعون بقاياهم
وآسيويون.
طقسٌ هارب عن خناق الصيف
والعائد يحاول اصطياد المكان.
لكن
ما إن أدرك مدير الحانة
ذلك
حتى منع الشراب على الشرفة
لتكبرَ أسوار القلعة
وتـُحتلَّ المدينة من جديد.
كرنفال
أعود للبيت
مكللا بالخيبة.
الكلمات في المهد
الغصة في الروح
أهز المهد
أهز
أنهضي
هيا أنهضي
… … … …
… … … …
لا فائدة ؟
والعالم حولي بيت عنكبوت
لا كائنات
لا هواء
لا حياة
لا موت.
لا شيء
غير الخراب
في كرنفال
الخراب الأجدر دائماً
بأن يكون شاهدة
على قبر.
أيتها الأرض
كما شيعْتكِ
في صرخة الطفل
شيعيني
شيعيني
فما عاد للسماء رأفة
ما عاد للحرف حريق
ما عاد للروح مثوى
ما عاد لي إلاّكِ
أيتها الأرض الضيقة.
شيعيني إلى حَدّ النصل
شيعيني
حيث القطرة تَنُزُّ
ولا تروي
عطش الصحراء.
كل ليلة
أشرب نخبكِ
كل ليلة
بينما الغرباء
يطوفون حول جمرة أوقدناها
في أرض النواقيس.
أشرب نخبك
حتما
سأقلب طاولة الحظ
قبل أن تقفل آخر حانات العالم
سأجد قطع معدن
أبتاع بها بطاطس مقلية
ثم أقود النوم
ذلك العنيد
إلى غرفتي.
أشرب نخبك
أخطو بجناحي طائر.
إخصاب
الدمعة
سلاحها الفتّاك
الحب دفاعي الأوحد
برج الثور موعدنا
تحمل الأرض على قرن
أحمل السماء على قرن
نفترق
ولا نلتقي
إلا في فصل إخصاب.
مطر فوق جسدين
في الشتاء الفائت
الشتاء الماطر
كنت وحيدا أتأرجح
بين سماء وأرض
عبر نافذة
خدشتها امرأة قبل أن ترحل.
هذا الشتاء
يتسلل من ذات النافذة
ليمطر فوق جسدين.
وداع
الوداع
حفلة أنتقينا موعدها
بحدس الطير في فصل هجرة
شمّرنا عن أرواحنا
شحذنا العيون
وأقتربنا
آه
أيها القلب
كلما أقتربنا
أدركت
كم نحن بعيدان.
بلل في الصحراء
الشمس قاسية هنا
وإن بللني حبك
سأجف سريعا.
أفعل ما أشاء
أشحذ خنجرا على نحري
فقط للتأكد من جاهزيته.
أداعب السماء بأناملي
كأنثى لن أفعل معها الكثير.
أنفخ أحلامي
كمنطاد
لأرتفع قليلاً .
أثمل
بأعصاب إذا مسها أحد صُعِق.
النسيان حثالة لا أعترف بها.
صعب أن أعشق
سهل أن أجز وريدي
وألوث العالم بدمي.
الأرض وجهي
عيناي بركانان يذرفان
أنفي بوصلة معطلة
شفتاي نشيد العائدين من الحتف
لساني أفعى بلا مصل مضاد
أذناي طبلان
أقرعهما الآن
إيذانا ببدأ المهزلة.
يوم
روح ثقيلة
تتدبر شأنها اليومي
مثل كهل
يرعبه مأوى العجزة.
طقس رطب
ومضغوط
كمن سلط عليه منفاخ هواء.
أفكار ضجرة
من ملابس ترتق
حتى لا تظهر على الملأ
عارية.
أفكار
تخرج من غرفة النوم
إلى الصالة
ثم من النافذة
لتنتحر.
حياة
بعدما أفرغت فيهم حشدا من رصاصات الرحمة
كومت أجسادهم أكياس رمل تقيني الطلقات
أفرغت جماجمهم
صنعت منها خوذة
ومن قلوبهم مولدات كهرباء
تنير عتمة المشهد.
جمعت دماءهم في برميل تحسبا لنزيف قادم
رفعت على قوائمهم المبتورة راية
أقتلعت عيونهم
رَكَّبتُ منها منظاراً
أراقب به حركة الجبهة
ومن آذانهم
نصبت شبكة رادار.
أخيراً
أقتعدت جثة أحدهم
حشوت نَفَسي بلفافة
وأنتظرت
طيشاً ما.
في الليل
أكتشفت أني غفلت
عن نزع ألسنتهم
وإستعمالها مسحوق بارود.
ألسنتهم التي تسللت
إلى
المعسكر الآخر.
زاهر الغافري
- من مواليد قرية سرور بسمائل، عام 1956.
صدرت له:
- أظلاف بيضاء، شعر، 1984.
- لصمت يأتي للإعتراف، شعر، 1991.
- عزلة تفيض عن الليل، شعر، 1993.
- أزهار في بئر، شعر، 2000.
- ظلال بلون المياه، شعر، 2005.
- كلما ظهر ملاك في القلعة، شعر، دار الإنتشار العربي، 2007.
إذهبْ وقــُلْ وَداعاً
تلكَ البلدةُ
النائمةُ في أحضانِ الجـِبال
تلكَ البلدةُ
ذلكَ الوهمُ الأسيرُ في يـَدِ القـَدَرِ
الحقائقُ التي كانتْ ريحاً مـِنَ الرّمـْلِ
الحجارةُ التي هي أيقونةٌ من الإشارات
تلك الإغفاءةُ الباردةُ فوق سريرِ المجهول
ذلكَ المصيرُ الذي تلاشى خلف ضبابِ العالم.
إذهبْ وقـُلْ وَداعاً لتلكَ البلدةِ
الصغيرة.
ظلالٌ بلونِ المياه
تسحبين النهرَ
أمامَ قارب الموتى.
لوركا
الغصنُ أعلى السحابةِ
مُدّي يدَكِ الى الأرض
ستنزلُ القطرةُ
غَنيمةً لأيامِ الجَفاف.
إننا في يوم الأحد
سيكونُ الصباحُ أجملَ
وأنتِ على السرير.
لقد رمينا حجراً
في بئر الحياةِ.
هذا أقلُّ قسوة
من رسالةٍ محمولةٍ في اليد
قد تصلُ متأخرة.
اللمعةُ على الشرشفِ
هي نفسُها أختُ
شارلوت على الإصبَع.
الحقيقةُ أيضاً طاقةٌ عمياء
تُحرّكُ هواءَ الستارة.
يداكِ مغسولتانِ
بالحجرِ والطين
مغسولتانِ
هناك في الأعلى.
ستنزلُ القطرةُ بطيئةً
وأنا أدخلُ الغابةَ
لأرى الزبدَ مكوّماً على الضفاف.
سيقفزُ قلبُ الماضي إلى الأنهار
وقد نُجذّفُ في شارعِ الغرباء
الخالي تماماً هذه اللحظة.
لتكن الظلالُ مرئيةً عبر الجسور التي نعبر
القاربُ سنتركهُ هناك
مضاءً بنداءِ الزمن.
إنه يوم أبيض بفضل الكلمة
التي لن تُقال
سنكتفي بالأمكنةِ
ومنحدرات الليل الصامتة
بالرخاوةِ
واليُتمْ
ورمادِ الحطب في المدخنة.
ضؤوكِ وحدهُ أيضاً يكفي في شتاء كهذا
إذا لم نرغب في العثور على نجومٍ
كثيرةٍ في الرملِ.
ستكونُ الرحلةُ أخفَّ
وأجملَ
ونحنُ عاريانِ بلونِ المياهِ.
المصيرُ يُعرفُ بلحظةٍ واحدة
كومضةِ السرِّ
في الأبراج العالية.
ومثلما يصمتُ المرءُ
أمامَ النهرِ
سنكتشفُ الصعودَ والنزولَ
أمامَ الجوهرةِ الثمينة للغابة.
أجلْ
أحبُّ أن تستيقظَ الحياةُ
على رقصكِ.
إننا في يوم الأحد
وتحتاجُ الرغبةُ
إلى ذكرى.
خريطة الأوهام
لأنكِ
في هذهِ اللحظة
أجملُ امرأةٍ ميتّةٍ.
فأنكِ لَنْ تلوّحي لي بغصنٍ
ولا بمنديلْ.
أنا في ضفّةٍ
وأنتِ في ضفّةٍ أخرى
على حافة الينبوع.
الممشى المسكونُ بخيبة العالم
والسريرُ الذي أضاءَ الغرفةَ
والنافذة.
ثم تلكَ القفزاتُ العالية
في الهواءِ الطلق بين الأشجار
هي أكثرُ مِنْ ذكرى حياةٍ تتدحرجُ
على السَلالم.
إنني أوشكُ أنْ أبصرَ ماضيكِ في
صرختي الأولى
وأجرّبَ أيضاً حرارةَ الليلِ
في جسدٍ ميّت.
ولئِلا أتعب سأضعُ يدَكِ المرميّة
في يدي
لتكونا معاً
ما يشبه كنوزَ
أمكنةٍ ومسراتْ.
هكذا
على الأقل
لَنْ أضيّعَ
صورتَكِ مهما أبتعدتِ كثيراً
عن المرآة.
هكذا أيضاً يُمكنني أن أستقبلَ
صوتَكِ القادمَ من آبارٍ ضائعةٍ
بزهرةٍ أو مَطْلعِ أغنيةٍ
قديمة.
عتمةٌ خفيفةٌ تغطّي فراغاً
ضئيلاً مِنْ وجهكِ
أهذا ما نسميّه
حزناً ؟.
أم ينبغي أن نقول
وليمة لهذا الجمالِ
الراقدِ فوق السرير.
بعينٍ جسورةٍ أتخيّلُكِ أيقونةً
من الرغبات
مِنْ أشرعةٍ تَدفعُها الريحُ
إلى أيامِنا الآتية.
لذلك لن أبكي عليكِ هذا
المساء.
سأنتظرُ أمَلاً
حتى لو كانَ عشبةً
عالقةً في مرساةِ قاربٍ أخير.
ثم ليس كلُّ دمعةٍ تُشيرْ
بالضرورة إلى قبر وتابوتْ.
ولا كلْ خطوةٍ، إلى ما يُظنُّ أنه
وداعٌ مؤلمٌ في الطريق.
أستيقظي أيتها النائمة
الأفقُ
أيضاً
حياةٌ ثانية.
وخلف الستارةِ
تَلمعُ النجومُ
في السماءِ كنقودٍ فضيّةٍ
في ساحةِ الأعياد.
إنني أحبّكِ بقوّةِ الموهبة
بثقل الصدْفةِ الواثقةِ من نفسِها.
إذا رغبتِ في فاكهةٍ
يكفي أن تحرّكي
إصبعاً واحداً
لتحضرَ الشجرةُ الى هنا.
وإنْ رغبتِ أيضاً سأحملُكِ طافيةً
إلى أرضِ المغارة
فلَربما كان الموتُ خريطةً
سرّيةً للأوهام
أو محضَ
فراغٍ خادعٍ
في جوفِ الجبل.
غريبٌ بين نهرين
إلى كمال سبتي
على مَهلِكَ أيها الملاك
هنا الأرضُ رطبةٌ
والهواءُ يتعذبُ
في الرئتين.
2
في كُلّ خطوةٍ يرمي حبيسُ المدن
صرخةً بين الأرصفة
أحياناً هي حياةٌ كاملةٌ تقاسُ بإشارةٍ واحدةٍ
من زهرة الحقل
وأحياناً هي الظِلُّ الذي يصلُ
إلى السلالم الكبيرة ويتكسّرُ مثلَ
أصواتِ هؤلاء القتلى
حقاً
لقد مزجنا دَمَ العصفور بلعاب البحر
تحت العاصفة
مزجنا الغبار بلونِ الخوف
في وجوهٍ معتمةٍ كالليل.
3
لنْ تكونَ المرأةُ الشابّةُ غيرَ
حُلمٍ عابرٍ في نسيم الصيف.
لن تكونَ الصخرةُ منسيةً في الوادي السعيد.
الأسى وحده ينمو على ضفاف الأنهار
في ضوء قنديل.
لن يقولَ أحدٌ سيقفزُ قمرٌ تحت النافذة
وأنت تعبر بلاداً بين نهرين
سيقفزُ الأموات والأحياء من بطون الملائكة
ربما لن يقول أحدٌ سيظهرُ السّمندلُ على عتبة الباب كطائر هولندي
أو ستنبتُ وردةٌ في مرآة البحرِ لكي يكونُ الجرحُ
هذه المرة مَمَراً سرِّياً للطبائع.
4
الموتُ زهرةٌ في حديقة
الموتُ إطلالةٌ من زائر غريب
الموتُ أكثر مما ينبغي ـ ستقول لك تلك التلال.
لذلك لنْ تعودَ إلاّ تائهاً أو منفياً
كأنكَ لم تكن طفلاً تحت تلكَ الشجرة
كأنكَ كبرتَ في غفلةٍ وحملتَ على ظهركَ
بقايا متحف العائلة.
5
ها أنت الآن تمشي بين الأرصفة
بين أزهار الحديقة
تمشي وأنت تصرخُ لتسمع
كيف تتكلمُ الأحجار.
الوشمُ والخرزةُ الزرقاء وشارةُ الموت
علاماتٌ في الطريق.
عينكَ المفتوحة هذه الليلة سرِّيةٌ
مثل فم خاتمٍ مملوءٍ بالهواء.
في مديح المرأة النائمة
تحت أضواء النجوم
في الطريق إلى هناك
بعدَ أنْ تعبرَ حياةً كاملةً.
حياة كأنَها بستانٌ من رمادْ.
وأنتَ تَعبرُ
كأنكَ رسولٌ تائهٌ
والرسالةُ بيضاء.
تماماً في ذاك المنعطف
الذي ولدتَ فيه
تَظهرُ لكَ أرواحُ الزمان.
تظهرُ تلك الكلمةُ المفقودة
كشمسٍ مطفأة
لكنّها معَ ذلك هي الألقُ
الوحيدُ فوقَ أشجارِ الليل.
يتجّمعُ حولكَ المارّةُ، رُبّما
للمرّةِ الأخيرة.
ينظرونَ اليكَ باستغراقٍ كاملٍ
كأنما ينظرونَ إلى الأفق.
مَنْ أنت ؟
النسيمُ يسرّحُ شعرَ الموتى
هذهِ الأيام.
لقدْ جئتَ لأجلِنا متأخراً
على منحدراتِ الليالي
أنتَ ضيفُ الظلالِ الغريب
أنتَ الغائبُ الذي عادَ
بلا حكمةٍ.
وكأنني أكتشفُ للمرةِ الأولى
لؤلؤةَ حياتي.
نَظرتُ أمامَ خَلاء البيت
كانتِ الروحُ تَخفقُ خلفَ الجبالِ
كغيمةٍ مضاءةٍ بابراجِ البحر.
نصفُ سماءٍ على الرأس
نصفُ أرضٍ تحتَ القدمين.
نبيذٌ يَنتظرُ حُرّاسَ القلعةِ
هنا سَترفعُ الزهرةُ فمَها
إلى الينبوع.
الأغنيةُ التي تَسرّبتْ من
بين الأحجار.
الميّتةُ التي أُضيءَ قنديلُ
نومِها.
أختُ الأنشودةِ والمسرات
على ضفافِ العالم
وفوقَ شرشفِ الليّل والطبيعة.
الذنوبُ هذا اليوم
تضيءُ شعرَكِ الأسودَ
البريقُ أقوى من ذهبِ الجبال.
لأنّ حياتَكِ أرجوحةٌ
والموتُ إشارةُ هواءٍ
خفيف.
لكنهم يشربونَ من نبيذِ الجرّةِ
وأنا أجدلُ شعركِ خصلةً
خصلة.
ولا أرى مَنْ يحملُ المرأةَ
ليرى موتَكِ
ناصعاً وأبيضَ
وخفيفاً كالنسيم.
يا ربُّ اسقِها موتَ العافية
على المنحدرِ المظلم
الذي تمشي فيه.
زيّنْها بالحقيقةِ على عتبةِ الباب
وقبلَ أنْ تدخلَ
كنْ لها اليدَ التي تحملُ
القنديلَ
قربَ الأحراش.
يا مهيمنُ
على الحصى والثلج
توّجْها بضفائرِ النعاس
والغلَبة.
لأنها صغيرةٌ وتشبه
باول سيلان.
الأعمى في البرّية
هو أيضاً أنا
أبحثُ عن جذرِ الليل
فوقَ الصخرةِ الميّتة.
لا أملَ للضوءِ هذا النهار
لا أمل للغيوم
على حافةِ نومكِ.
أضطّر أحياناً لتصديق
الكلامَ الذي يلّف ماضيكِ
الكلامَ الذي صار رخواً
كبزّاقاتٍ أُهملتْ في الشمس.
لَنْ يكونَ
النسيانُ
غير هذا
يحسبونَكِ ميتةً وأنتِ في المنام
ترفسينَ الشراشف عن قصد.
ربما كان عليكِ أن تنامي
تحت أضواء النجوم
كي أصدقّ أنا أيضاَ أن قصائدَ
سان جون بيرس التي حفظتِها عن
ظهر قلب
آلمتْكِ كثيراً.
على الأرجح إنكِ نائمةٌ الآنَ
تحتَ برجِ العقرب
في الماءِ العميق
لأن
"الليل في الخارج
أبيضٌ وأسود".
أخاطبُكِ من بلدٍ بعيد
هنا تسقطُ أوراقُ الخريف
حتى في الظلام.
هنا يسقطُ الثلجُ رتيباً
كما لو كانَ يسقطُ مِن سماءِ زنزانة.
لكنَ النومَ هناكَ
بين الجبال
كإستراحةِ النواةِ في قلبِ الثمرة
كسحرِ الحياةِ عندما يُنظر اليها
من فوق سلّم.
أخذتكِ مياهُ الوديانِ الذهب
وطفوتِ مثلما تطفو الأسطورةُ
فوق زبدِ الأنهار.
الصرخةُ وحدها سُمعتْ
سُمعتْ الصرخةُ وحدها
في الذكرى
اليتيمةِ لرجلٍ أعمى.
لكنّ الألم ظل يتدلى من هناك
مِن أعالي الشجرة
تحتَ ضفاف النهر.
لئلا يصبحَ النسيانُ
بيتاً بلا نافذة
ولا أبواب.
لا أقدرُ أن أراكِ بعد الآن
بعينين مفتوحتين
الجسدُ أيضاً
لا يقوى على جذبِ الرائحة.
الماضي كلّه سجينٌ في نافذةٍ
عليها تنعكس هذه الأزهار
التي أحملُها إليكِ
عبر المسافات.
أنتِ
النديّةُ كقوسِ صيادٍ
مبللٍ بالزيت.
لِمَ كلما خطوتُ إلى الأمام
رأيتكِ خلفي تعويذةً
في المرآة.
شعركِ الأسودُ المضفورُ
كما هو
غيمةُ إنتظارٍ على النبعِ.
وأنفاسكِ قادمةٌ من بئرِ الغفران.
ولا أحد على السرير
أيتها الغالية.
كلمّا لمستُ ثوبَكِ لمسةَ العميان
عادتْ اليّ
قوّةُ النيرانِ والحجارة.
كلما مددتُ يدي
ظهرَ دونْ كيشوت
ذو الهيئة الحزينة
يحاربُ مثلي طواحينَ الهواء.
يحسبونَكِ ميّتةً هؤلاء الذين يَرعون
تحت نهديكِ الأعشابَ.
يحسبونَكِ ميّتةً هناك
بين الجذورِ
والطينِ
والفراشاتِ الزرقاء.
وكلما كنتُ مغلوبكِ في الصبا
فُزتِ أنتِ الوحيدة بالساقي
المنحدراتُ كلّها تضيءُ
شعركِ الذي يُزهرُ بينَ
ظلالِ الحجارة.
والليلُ يهرّب الندى
إلى أكتافِ العذراء العارية
والضوءَ إلى حياتي.
لكنني ما زلتُ أتذكرُ
أنكِ في شتاء ما
في فيضاناتِ ما بعد منتصف الليل
تسلّقتِ أنتِ أيضاً
شجرةَ الزيتون.
حـيرةُ الشـّاعر
يستيقظ الشاعرُ وفي رأسـِهِ جـُملةٌ مـُثقلةٌ
بالظلام.
يهذي
يهذي طوالَ الوقتِ دون
أنْ يـُصادِفَ باباً يطيرُ منه الضوء.
علامةُ الحيرةِ في وجهه هي الرِّسالةُ
الأخيرةُ التي لن تصل إلى أحد.
النوافذ مـُغلقةٌ
وعليهِ أنْ يخرُجَ إلى أرضِ أحلامـِهِ
ليقطفَ تلكَ الزهرة المسمومة التي
سمعَ بها دونَ أنْ يراها.
ومثل سجينٍ يـُدَحـْرِجُ صخرةً
يقودُهُ الكلامُ مع نفسـِهِ إلى آبارِ الطفولة
فسـَمـِعَ صوتاً يـُناديهِ من بعيد
لنْ تـُشـْفى أبداً ايها المجنون
لقد جـُنـِنـْتَ.
***
زهران القاسمي
صدر له:
- أمسكنا الوعل من قـُرونه، شعر، دار الإنتشار العربي، 2006.
هناك امرأة
دائماً هناك امرأة
تطعم العصافير
وتوقد النار
وتنسى أنْ تغطي ساقيها من البرد
بعد أنْ تؤمن النوم لقبيلتها.
دائماً هناك
تغني للحزانى
دائماً
تأكل نفسها حية
ولا تموت.
كلنا مضينا
شيعنا ظلالنا الطويلة
لتبقى هناك وحدها
بلا ظل.
دائماً هناك
تلملم سيرتنا
تودعها صندوقا معدنياً قديماً
ثم تسند ظهرها
على محيط الكون النائي
وتوزع أدواراً جديدة.
مرة حفرنا بئراً
أستخرجنا مياهاً قديمة قدم التاريخ
كانت الرائحة تفوح
وكانت جماجمنا تتشظى
ظلت الأرواح التي تسكننا تخرج
شفافةً ورقيقة
عبَّت من الماء
تحولت ديدان وسحالي
ثم دخلت فجأة في الصخر.
هي الأنثى الوحيدة في الكون
رصدت تحركات النجوم
أنسنت البشر
أدخلتهم رياض الأطفال
وعلمتهم الأبجدية.
تركت كل واحد يتنفس رجولته بعمق.
أنثى الحكايات والأساطير
دخلت إلى فلقة الأرض
صارت ماءً.
عندما ولد
وطن الحطابين والرعاة
لفَّته في خرقة بالية
وضمته إلى صدرها
صار الليل بهيجاً
والموال الذي هدرت السنين بوحه
أقترب حتى لامس ركبتيها
فجأة وهو يحدق في الوجه
صاح
فتكسرت أغشية الصمت
ظل الموال حزيناً
ومن حزنه
أكتست السحب المطيرة لونها
بينما تعلم كيف يسافر دائماً بين الأمتعة.
مرّة في المساء
عندما أستطال الظل
وأخذنا قيلولتنا
حلمنا بالنهر ينبع من بين أصابعها
حيث قسَّم العالم إلى نصفين
جاءت الأمم ببدائيتها
ليكون لها
حاضراً وتواريخ خالدة.
رأينا في منامتنا كيف ينزح الظل
شيئاً فشيئا
تحت أقدامها
وكيف أقتربت الشموس وادعة
بينما لعينيها ذلك البريق الذي لا يخفت
وعندما أستفقنا
كنا نلهث من جفاف حلوقنا
بحثنا عن أصابعها
لكن القمم كانت تتغطى بالضباب.
مرَّة توقفنا في سهل ممتد
عزمنا أنْ نقيم لها عيداً
أوقدنا نارنا
غنينا ورقصنا
حتى تشققت الأرض.
قطعنا أرضاً بيضاء
كاد ضوء أبصارنا يذهب
وكلما مرَّت فوق رؤوسنا فراشة
حلمنا بظلها كثيفاً
نسافر بحثاً عن حكاية ترجعنا إليها
ثم نعود مع السيل
نلتصق بزبده على الضفاف القاسية.
كان يا ما كان
كانت الحكاية وحيدة تنام
وعندما قرر صياد أنْ يبتعد قليلاً عن محيطه
لقيها تتعثر في مشيتها
كانت عجوزاً.
تطفح الفضيحة من الوجه
ومن بين الأصابع
يتسلل الأصدقاء بخطاياهم.
لم تكن لنا حكاية
كنا مغيبين عن الألسنة
لم يعترف بنا إلاها
لكنها فقدت لسانها ذات جوع
أكلت نصفه
وأطعمت الباقي للمتسولين.
كدنا نغرق في اللوم
ولكن
لم تزل امرأة تحمل إلينا الزاد
صامتة
لم تكن تبكي في غيبتها
كانت تصلي.
هي زهرة تفتحت
على مصب واد سحيق
زهرة حجرية
تتدلى من أغصانها قلوب صغيرة
لأطفال سوف يجيئون
من الكهوف
يقلبون المكان
مفتشين بين الحصى وأشجار الأثل
هؤلاء الأطفال
كلما قطفوا قلبا
أشرقت نجمة في الأفق.
هي بنكهة القهوة
تسافر كأنها الريح
ولا تسكن إلا على عرق رملي
فإذا صادفت نخلة في طريقها
عقدت جدائلها
وزوجتها لأول مسافر
أهترأ حذاؤه
فيصير أميراً.
كدنا نتقاتل على من سيحمل لها
لحافها
كانت العصافير قد بنت
أعشاشها بين ثناياه
والفراشات مفتونة
صارت ذيلاً آخر
لكنها
تلك المرأة التي كلما توقفت
يتكاثر الضباب بارداً على الوجوه
نحن بلا ملامح
وبلا أغنية واحدة
نحن الفلاحين الَّذين غرسوا فسائلهم
ورحلوا
نبحث عن سارق أصواتنا
ذات ليلة.
قيل أنه يحمل فوق كتفه بوقاً مسحوراً
لم يُسمع شيئاً مما كان ينصت إليه.
ها نحن نبحث عن تلك الزهرة المتوحشة
قطعنا البراري
وأستعنا بالبصارين
مخرنا عباب البحار
سقطنا واحداً تلو آخر
ثم عدنا غباراً لنتكدس
عند ساقها.
تلك هي قبورنا
يعرفها الرعاة
تشبه مشية امرأة عرجاء
قبور بلا شواهد وبلا ملامح
إلا أحجاراً متناثرة
وتلالاً قد شرخها السيل.
وطن من إنتظار
تلك العينين العسليتين
وطن للكناسين والباعة المتجولين
وطن للذين لا وطن لهم
أو الَّذين تركوا أوطانهم
مقتعدين الأرصفة
والأزقة الضيقة.
وطن من قش
كان فيما مضى مسكناً لعصفور
تلك النظرة الدامعة
تتسولنا لكي نسكن قليلاً إليها
لكننا
نحن الدجالون المحترفون
نبحث عن وطن سحري
حتى تساقطت أحلامنا.
كان يا ما كان
كان هناك رجل
وكانت له أربع أرجل
كان يسير في طرقات المكان
لم يكترث به أحد
قطع كل هذا العالم بأقدامه الأربع
وعندما قرر التوقف
تساقطت أطرافه في الجهات.
لقد أتعبني سفر حياتك أيها الينبوع
ها نحن أصدقاء صدفة
فلقد تركني الأعداء
على ضفتك
بعد أن قطّعوا أطرافي.
لا تبك
دع دموعك الآن في جرة وارحل
سوف تغنيك مصبات الأنهار البعيدة
عن عطشك
سوف تبكي ما شئت.
رحل كثيراً
مرَّ على مصبات وديان قاحلة
حلم بجرعة ماء يغتسل بها
وعندما أراد أنْ يبكي
لم يتساقط الثلج
ولم تثمر الأشجار من حوله لؤلؤاً
لكنه تحول إلى حجر صلد.
بيتٌ كقميص طفل
للحبيبة
لطفلةٍ بالغبار تخط مستقبلها
على شفةٍ جافة
للشارع المعفَّر.
يستيقظ بلا أطراف
يكنس عالمه
وكطائر مكسور الجناح
يُحلق بعيداً
حتى ينقر الأفق ويمزقه
وفي الغربة
يبحث عن أقنعةٍ يندس فيها
ربما تصبح كل أمنية شجرة
ربما تورق أصابعه من هرش جسده.
المرايا مُشققةٌ بالخديعة
حيث الحجيج الأبدي والصورة المدى
يُطلان بهواجسه
فيتعلق بها
ومن دموعه يغتسل
لابساً من الغيم
عمامةً داكنة.
إنما
في الصمت
تستيقظ الحقيقة.
يغمض عينيه
ليلعب الغمِّيضةَ مع نفسه.
يمر بخصرهِ في العزلة
مترقباً العواء
يعيد للحنجرة
مواويله المنسية.
إنما
في الصمت
يستيقظ الألم.
يصحو على زعيق أصابعه
مُنزلقاً بين الطين والماء
فيمتلئ بالموت
يغرق فيه.
يحلم بشاحناتٍ من الفراشات والزهور
تندفع مسرعةً إلى صدره
يحلم بظلٍّ لا نهائي
كلما يمشي تحت شمسه
وكلما يلملم تفاصيله
يبعثره الهواء
كأنه في الحلم يلملمه
وكأنه في يقظته
يمتلئ به.
يغرقه التوجس
فينعت الأشياء حوله بغير أسمائها
مثلا:
يسمي الورود كدمات
والضجيج ستارة داكنة
لكنه يصل متأخراً
كرسالةٍ ضائعة.
تخرج منه
تلك الكامنة أبداً
فيهتاج كلما
أجتاحه وجهها.
في العزلة
كما في الموت
تبقى الصحراء
مفتوحة على الأفق
يثقل الكون كاهله وينادي:
يا إلهي
أقف أمامك
كي تهبني بيتاً صغيراً
كقميص طفل
يا إلهي
أمطرني بحبك.
***
سماء عيسى
- من مواليد عُمان، عام 1953.
صدر له:
- امرأة مثل ماء الينابيع، شعر.
- ماء لجسد الخرافة، شعر، 1984.
- نذير بفجيعة ما، شعر، 1987.
- مَناحة على أرواح عابدات الفرفارة، شعر، 1990.
- منفى سُلالات الليل، شعر، الرؤيا للنشر مسقط، 1996.
- دم العاشق، شعر، مطبعة الفيحاء مسقط، 1999.
- درب التبّانة، شعر، مطبعة الفيحاء مسقط، 2001.
- غيوم، شعر، آفاق القاهرة، 2006.
- ولقد نظرتك هالة من نور، شعر، دار الفرقد دمشق، 2007.
- أبواب أغلقتها الريح، شعر، دار الفرقد دمشق، 2007.
رمال الحُوَيّة
أرضٌ سجد على ترابها آباؤنا
أرض المنفيين
المهاجرين
أبناء سلالات الحنين
إلى التراب.
الأرضُ
التي كانت يوماً ما
أماً لنا جميعاً
قبل ألف عام حين نزحنا
من الجبالِ
من البحار
إلى الرمال.
أخذتنا الرمالُ إلى هجيرها
حضنتنا كأم ترتعش
ضمّتنا عن الغزاة
الذين جاؤوا من وراء البحر.
تركنا أبواب منازلنا مفتوحة على الرمالِ
وأطفالنا أختفوا بها وهم يلهون
أخذتهم كائنات الصحراء
وما عادوا إلينا
المهاجرُ وهو يغني للريح وهي تشيخ
وتغترب
يُبصرُ قوافلَ ترحلُ في الرمل:
لا وطنَ لكم يا أمراء المنفى
يا من رضعتكم نوّاحات الليل دمها
وجرفكم الحنين
من
المجهول
إلى
المجهول
(أبواب مفتوحة على الرمال
أبواب مفتوحة على المنفى).
صحراء
الصحراء جثة النبي
سوسةُ الوقت
تلتهم المكامن
تفترس الفضاء
الصحراء
الجذر
الألم
القِدم
إبحار الغبش
نثار الندامى.
الصحراء جذور تتتالى
تتناهى.
الزمنُ مهزوماً يتفجر كنبع
الزمن كرماد حبيبتي
الجوهرُ المقدس
الشيء داخل الشيء
السلام على ما مضى
آخر عشاء بين عشيقين
باب يغلق أمام النهر.
الزمن أيها البحار العجوز
أن أرفع المرساةَ
فقد آن رحيلي
وآذنت نجمةُ الله بالأفول.
فـِنـْس
كل فجر يلقي مالك الحزين نظرته الأولى
على قبور المجهولين الغرقى
النسورُ تنهش في الصحراء جثث القتلى
أسمع الموجة تبكي كأرامل الليل
أسمعهن
ومن طفولتي يتسلل
كفنُ أمي إليّ مِزقاً
مثلما يُمزق الخريف قلبي ويمضي.
تعويبة
البوحُ ذهب بنا إلى الطفولة
النساءُ دلفن في الظلمات
كأنهنّ أقمارُ المنفى.
حطّاباتُ الليل
أسمع نواحهنّ
بقربي تنامُ فجائع الحنين
ويغتسلُ بدمي رماد الموتى.
مثلما تبعث المياه الحنين
كنواح العذراء
كنا نسمع نداء الحطّابات
وأجراس الموتى.
مغاصيب
وارينا التراب
صغارنا
بكينا في العتمة
حتى لا تبصرنا
القناديل
ولا تسمعنا الرياح
فتحمل نواحنا
إلى الجبال.
من الجبّانةِ حملنا
قليلاً من ترابهم
حتى لا نعود
إلى الصحراء
ونهيم في العطش.
وحتى
لا يستيقظ الصغار
من طلل الذاكرة
أحتفظنا منهم
بقليل من الرماد.
رأيت السحرةَ
يهبطون من الجبال
وهم يجرّون الجثث
إلى الصحراء.
الطيرُ
سكب قطرات الماء
على الجثث
حتى دخلت
فيض الله
وسكينة الأشياء.
غيوم
وكان قد ألتفت قَبلَ رحيله
عن الأرض إلى السماء
فرأى أن سحباً سوداء كثيفة
غطتها
وعندها ذهب إلى ربوة عالية
ووقف يراقب من هناك الأرضَ
وهي تندثرُ وبنيها وهم
يغرقون.
وعندما تسيل سيولُ السماء
وتنزح على الأودية مياهُ الجبال
جارفةً العشب والحجر والشجر وعظام حيواناتٍ
وطيور موتى
يستيقظ إذ ذاكَ فرح عميق في الأرض
يهرع الرعاةُ
والحطابون والفلاحون إلى منابع الحياة الأولى
كمن هرع إلى طفولة مفقودة وبحث عن أم أخذها الموت
إلى غياب أبدي.
وأنتِ
يا غمامة مطرنا الأولى
أيتها الرسولة
إلى جفاف الضرع
ومنفى الشعر
أيتها العذراءُ
المرسلةُ لأرض عذراء
أيتها المفتقدةُ
كروح الطفل
وقمر الرعاةِ
أيتها الخضراء
كشجر الحطابين.
ولكن
فقط حين تعود
أيام الصيف
ويخرج القمر من عزلتهِ
أعود أنا إلى ذكراكِ.
متى عدتُ
وكان كل شيء في غياب
وماء الغيم هو ما سنعجنه
بالتربة ثم نشعل بالفرح
النهد الصامت الحزين.
ولكنك تصغين إلينا
أيتها الغيوم
إلى نداء الطفلةِ العذب
وإلى صراخ الشجرة
الصراخ الذى تحمله ريحُ
القيظ الهادئة وهي
تتهيأ أخيراً
لذاتها لذات الحب
والحياة.
وعندما تولدين وتتشكلين أيتها الغيوم
ثم تلتحمين غيمة وأخرى في سماءٍ لا متناهية
ندرك إذ ذاك طعم الماءِ
الذى سترسلينه إلينا
ونقف لكِ خاشعين كعباد أمام الله
وكعشاق أمام جمالكِ المطلق.
وحتى الجبال تحاول ضمكِ إليها
كي تسكني قممها
الجبالُ في أبديتها
الجبالُ العاشقةُ
سحباً تضيء ظلام أرض من العراء والخفاء.
ولقد عرفت أيتها الغيوم
ولادة الطفل بعد الألم
كما هو هطول الودق
بعد جفاف طويل
كما هو الجمال
في رحيله إلى الموت
والورد
في رحيله إلى الرماد.
ترحلين
كزورق الشمس
في رحيله المجهول
وتذوبين
كنار هادئة
في السماء.
كان الماءُ
ونحن نغسل به
جسد الميتِ
يسيلُ
كرماد غيم راحل
عدا غموض الروح
وغموضكِ
أيتها العمياءُ في الحبَّ
وفي الهجير.
الأم وهي تغسل بالماء جسد الطفل الميت
وهي تغمس ساقيه ويديه وتغمض عينيهِ
بماء النبع
ثم تقطف من أقرب سماء
غيمةً بحجم جسده الغض
وتحفر لها بيتاً
بجوار لحده الصغير.
الغيومُ
وهي تسير هادئةً من سماء لأخرى
كالعشاق وهم يبحثون في سيرهم
عن ضوءٍ بعيد كسراب
لا يصلون إليه
ولربما دفنتهم في الطريق
الرمالُ وتناثرت أبدانهم العليلة في الصحراء
والغيومُ ربما هطلت عليهم
وروتهم بالمياهِ ومضت تغمرهم بها
حتى فاض بهم الوجد
وأنتشر العشق.
متى عاد العاشق إلى منزله
ووجد البابَ مغلقاً
فتحت له الغيوم
أبوابَ منازلنا
وقلوبنا.
وصغيرة المنزل التي حلمت أن تكون غيمةً
تهطل ذات مساءٍ على عريش القرية
وستبكي أمهاتنا
لأن الغيوم هطلت ورحلت
وستبكي الصبايا
لأن العشاق كانوا غيوماً وهطلوا.
متى أشتعلت النار في الزمنِ
متى أشتعلت النار في الجسدِ
وأضاءت الأرضُ ضياءها الأخير
قبل الموت.
وأنتِ ماذا ستعطين دمي أيتها الغيوم
أيتها المرأة ذات الفم الشبق إلى الحب
ماذا ستعطين دمي ؟
فرحٌ لا أنتظره حتى
والأرضُ تحتفل بطفولتها
فرح كمثل النار وهي تغني
لعشاق الأرض وكمثل البحر عندما تسكنه
وردةٌ في الفجر.
ليلٌ سيأتي مع الغيم
ونار ستضيء الكون وهو يظلم
أيها الضوء
يا ضوء الشبق
ويا جماله الحميم
أعني أمام هذا الجمال الراحل
إلى المجهول.
ولقد سمعنا منكِ أيتها الغيوم سمعنا خبر عالم مخلص
أو عالم يبنى على أنقاض عالم قديم
ولقد سمعنا منك الملاك وهو يوقظ الموتى إلى الحياة
والودق ليوقظ العشب ويشعل النار
ثم متى نضج الثمر
ومتى قطف الطفل الحلم
ومتى بكت امرأةٌ في العتمةِ
تذكرت الغيمَ
وتذكرت قبلة امرأة
والغيم يمطر ذات شتاءٍ بعيد.
هاهي الغيوم تحملُ إلى الأطفال الفرح بالمكانِ
والزهو بالزمن
هاهي الغيوم تحملُ المعنى إلى العدم
وتحملُ الرياح إلى ضياعها الأزلي
ليتحد البحر بالمطر
ويقف الغريب أمام الأفق
والشراع أمام المجهول والغياب.
وسنفتح نوافذنا المغلقة
وأبوابنا المهجورةَ
للصغار الفارين المختبئين من ودقك الثقيل
أيتها الغيوم
وأنتِ ترحلين بعيداً
أنظري إلينا وأرحمينا.
وحتى أولئك المرضى في غرفهم المغلقةِ ينتظرونكِ
أيتها الغيوم
الغيوم وهي تحمل إليهم زهور
الموتِ وفراشاته الخضراء على القبور.
ولكنكِ أيتها الغيوم تهبين العشب للحياةِ
والأرض كأنها أنثاك لترتعش
كأنها الجنون وهي تستقبل عشاقاً من الريح
ورجالاً يحملون معهم البذور إلى نساءٍ موتى.
أفيقي معنا إذن
وأرحمينا
ونحن نسير إلى الموتِ
نود لو شربنا منكِ
بعضاً من الروحِ
وبكينا
والطير الناريُّ
طير الغابةِ
وابن الصحراء
أخذنا بعيداً إلى كهف جبلي عندما رآكِ
وأنت مثقلةٌ بالرغبة والحبِ
تحملين إلى الأرض خلودها
وإلى الزمن وردة الملاكِ
ورماده الجميل.
ونحن نرسلُ نشيد مجد لكِ أيتها الغيوم
نرفع سارية المجد لكِ من العابرين
الذين رحلوا دون أن يروك
من الذين ناموا في التراب
وهم يحلمون بظلالكِ ومياهك
من سر الحياةِ المختبيء في بذرة الموت
وهو يتجه
إليكِ كنبع طفولةٍ خالد.
هل تنهين ترحالكِ إلينا
إلى ألمنا
أوراق عشبنا الجافة
أمهاتنا الراحلات
أطلال حياتنا المنهارةِ بحثاً عنك وشغفاً
بجمالكِ أيتها الغيوم ؟.
ونحن نسير في الأرض متجهينَ إلى شاطيء آخر ثم إلى جبل آخر
ثم إلى صحراء أخرى
بحثاً عن ألوانكِ الدافئة
وما تعطيه للقلب من ثمار غضة كنهود الصبايا
عن قطرات نداكِ الصغيرة
كدموع الصبايا عن فرح غامر سيغمر التربة
حين تنهل من عشقكِ اللانهائي.
وإلى الأبد سيمضي الكائن بين الأحجار وتحت الرمالِ
لكنه سيظل ينتظر دوماً أن تبعثه الغيوم
بالمطر وترويه فتخضر من حوله الأرض بالعشبِ
وعلى قبره تحلق الطيور ويبتسم العشاق.
العاشق وهو يحلم ببناء بيت من الغيم
الميت وهو يحلم بأن يروي الغيم عظامه في التراب
هكذا نحلم جميعاً بجمال تشكله الغيوم
وبماء نشربه من التصاق ثدييها بجفاف القلب.
ولكن غضبكِ دائماً يأتي
بعد جفاف طويل
وبعد غياب
إذ هو ذا
نبي
أتت به الغيوم
وسكبته الأمطار.
وكان ما تبقى هو الحب
بعد أن غمرتنا السماء
بمياهِ ندم بعيد.
نداء طفلة بعيد كان يقترب منّا
1
شمسٌ صغيرة
سقطت على المائدة
رنت إليّ
وقبلتني.
2
هل كان من الممكن
أن ننتقل بأرواحنا
من غصن إلى آخر
ونحن نبحث عن شجرة التفاح
التي أضعنا الطريق إليها
مذ خرجنا من حديقة الأسرار
ونحن صغار.
3
الطفلةُ
وهى تخاطب الطير:
أن خذني
خارج الموتِ
وهو يلتقطنا
واحداً واحداً
كثمار البرقوق.
4
السعادةُ
هيَ ما يتواطأ معكَ
ضد الروح
فأهرب عنها
إلى جبّانة الأطفال.
5
لم يعد لدينا بيتٌ نأوي إليه
بعد أن أوصد آباؤنا أبوابَ قبورهم
ورمتنا أمهاتنا للريحِ
للريح الصفراء شقيقة الموتى.
6
أمين صالح
(أ)
كل فجر
تنفض الشجرةُ ثدييها
لتسقط من جسدها العصافيرُ
موتى.
(ب)
قالت الشجرة:
عندما قذفتكَ إلى الأرض
كنتُ أعلم أنك عائدٌ إليّ
فأنا رحمك وقبرك الأزلي.
(ج)
خالقة العدم
مرضعة قلوبنا
الموت والفناء
الموتُ وهو يتجدد
كورقة شجر أصفر.
7
(أ)
أيُّ امرأة تلكَ
أيُّ دمعة تلكَ
قادتكَ إلى فراشكَ
قادتكَ إلى فراشِ موتكَ
ثم رحلتَ
إلى حنينٍ
يتدفقُ
كماءٍ عذب.
(ب)
لم أرها
منذ تلك الليلة
لاحقاً
أبصرتها
ميتة في المنام.
(ج)
أبتسمي
وأنتِ تذرفينَ
دمعك الأخير
على الأرض.
8
بالأسى الذى تركته وفاةُ شقيقة صغيره قبل ثلاثين عاماً
بأسى الساقيات الحاضنات جرار الماء من النبع
بأسى الغافة وهي تحن علينا بظلالها في يوم قيظ
بأسى الشياه الصغيرة وهي تنظر إلى السمر يجف في ألم كحرقة الأكباد
بالأسى كآخر وطن للنجم وآخر خيمة لليل.
9
إلى بيان الحضرمي
عندما فاضت المياهُ وعادت الريح حاملةً العشب والغيم
جاءت قطة تموء على باب بيتنا المهجور
فأدركت أيضاً أن طفلتي عادت بها الريح من الموت
وأنها ستنام بحضني الليلة
لكنها في الفجر تسللت ثانيةً إلى قبرها الصغير.
10
راقصات النيروز
بيد كلِّ امرأة ريحانةٌ
وهن يتجهن إلى البحر
يغرسن به الجمال
ثم يقذفن بأجسادهن
بحثا عن ضوء الشهوةِ المضاع.
11
امرأةٌ ترافقها شجرة
الشجرة دليلها إلى
البحيرة المقدسة
الشجرة حارسها
حارس العتمةِ
عندما الأرضُ
تنجرف بنا
إلى العدم
نتدحرج في سديمها
وكغيمة تندثر
في سماء معتمة
دون أن تمطر
كنا نسيرُ
بحثا عن منازلنا
الأولى.
12
عندما المياه جرفته
إلى زهرة في البراري
عندما امرأة تلتقيه وتبكي
عندما الموت وهو يتسع كمدى مطلق
يلتقيه كنجم بعيد مضيء.
13
وقبلَ أن تصلَ الضواري
يكون رعاة الفجر
والحطابون
قد حفروا ليَ قبراً صغيراً
على التلال
وتحدثوا إلى العابرين
عن مجهول
فاض بقلبه الحبُ
ذات مساءٍ
وألقى بجثته وحيداً
في ذلك الوادى المهجور.
14
إلى بودلير
أرقد الآن تحت شجرة فيفاي ميتة
أنا وقط عجوز أبى أن يفارق الشجرة، التى كان تحت ظلالها ينمو
وهى بعد تثمر وتكبر أمام
عينيه السحريتين
ساعة الحائط
شجرة الفيفاي الميتة
القطة
عندما نظرت إلى عينيها وهي مستلقية كأنثى، كان بياض عينيها الأبدية
وكان البؤبؤ الأخضر اللامع يسبح في ذلك السديم الغامض
بعد أن تسللت إليه في هدوء عميق روح تلك الشجرة الميتة:
شجرة الفيفاي الصغيرة
التى لم تعد تنشر ظلالها الهادئة لقطط الظهيرة
ولريح الغريب الناعسة.
15
ثمة ما يحترقُ
ليضيء لنا
عتمة الكائن المفقود
في الليل وهو يتفجر بالألمِ
بالأسى وهو يلتصق بنا
كموت.
16
سوف تأتي كما الطفولةِ
تفترس الحلمَ
ثم تظلم الأرضُ
وتنثر بقايا الوحشةِ
ودمارها.
17
نداء طفلة بعيد كان يقترب منا
وكانت نار تضيء كوخاً
عندما أبصرتُ رسولاً أتى من الشرقِ
ثم قبل موته رمى بردائه إليّ
ورنا مشيراً إلى بئر ماء
وإلى جسده
كان الألم يزحف هادئاً
مثل نار.
18
أوقفي النسل أيتها الأرضُ
أوقفي التراشق بالدم
والحجر
هاهم يغادرونكِ واحداً واحداً
صباياكِ يحملن إليهم وروداً
وبهجة من الحب والألم
دون أن يوقفن سيل
هجرتهم وانتحارهم
في الأودية.
19
زهرة الخلود
أبواب المقبرة مغلقةٌ
وزهرة الخلود آوتنا
إلى الحديقة
أشجارها تذبلُ
عصافيرها مخنوقة
وتحت الشجرة
نصل حاد
تركه آخر قرصان
مرَّ قبيل الفجر.
لكن الأيام
كانت تتوقف
كلما نظرتُ إلى جمالها
وهو يهرب مني
باتجاه الزمن
المفضي إلى أبواب موتٍ
صغير وبطيء.
بقيَ أثرها الصامتُ
على الأبواب
دمها على الأشجار
وأشارت قبل رحيلها
إلى المنازل البعيدة
التي حلمنا بالرحيل
إليها ذات يوم.
20
أذى
كان العالم مليئاً بالسقم
مليئاً بالدم
مليئاً بالغبار
وبالكائنات وهي تسير من عدم إلى عدم
كأنها الليل لا ينفض ديامسه
إلاّ على نهار ميت.
البلاد
وقد تركنا لها
كل هذا الأذى
تركناها تحترق في الشمس
تحت سماء من العدم
خلقنا لها الأذى
كشمعة في الفجر
لا تدفنها ريح
ولا يضمها ظلام.
هكذا
سارت
أيها الأذى
فرسُكَ بثقةٍ
على قبورنا
هكذا
صاحبكَ الدمعُ
مبتسماً
فأنفتحتْ
صنابير دمك
في الحدائق
حتى جف عشبها
وسقطت ثمارها.
ولكن
ربما تكون قد ألتفتّ
إلى الطلل
وهو يحتفظ للطفولةِ
بوردة من صفاء الليالي
ولربما رفعت رأسك
إلى السماء وهي تنشق
لتشرق على الأرضِ
طفولةٌ أخرى.
***
سيف الرحبي
- من مواليد قرية سرور سمائل، عام 1956.
صدر له:
- نورسة الجنون، شعر، 1980.
- الجبل الأخضر، شعر، 1981.
- أجراس القطيعة، شعر، 1984.
- رأس المسافر، شعر، 1986.
- مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور، شعر، 1988.
- رجل من الربع الخالي، شعر، 1994.
- منازل الخطوة الأولى، نثر وشعر، 1996.
- معجم الجحيم، مختارات شعرية، 1996.
- يد في آخر العالم، شعر، 1998.
- الجندي الذي رأى الطائر في نومه، شعر، 2000.
- مقبرة السلالة، شعر، 2003.
- حوار الأمكنة والوجوه، مقالات، 1999
- قوس قزح الصحراء، تأملات في الجفاف واللاجدوى، 2003
- أرق الصحراء، يوميات، 2005.
- قطارات بولاق الدكرور، 2007.
- سألقي التحية على قراصنة ينتظرون الإعصار، 2007.
عـُواء الذئب
إلى
م لطفي اليوسفي
الذئب يعضُّ نواجذه
الذئب الراكض على سفوح الجبل الأخضر
أو في ذرى الهملايا
وعلى ضفاف البحيرات الكبرى
الذئب
صرخةُ الذئب التي صُنعتْ من صدقٍ ومحبّة
كامرأةٍ جَرَفها جنون الحبِّ
فتاهتْ في مهاويه السحيقة
الذئب الناعسُ على السفوح الملتهبة
يفتح عيناً كي يرى العالم الدامي
فيغلقها ليدخل فردوس أحلامه وبهاء رؤاه.
في الظلام الغزير يستقصي الأماكن والبلاد
الأماكن التي عَبرتها قدماه
يشتمّ الرائحة
يرى عائلةَ الذئاب
والحليبَ المدلوقَ على مواقد الشتاء
يتذكرّ أنثاه الأولى
هي التي سكَبتْ الحليب على الموقد
هي التي رفستْه قبل أن تذهب في غياهب الجنس
هي التي قادته إلى حتفه
ليُبعثَ من نظرة ذئبة عاشقة.
الذئب الراكض قرب أنهار الأمازون
في سهوب سيبيريا
أو القرى الغائرة في كهوف الجبال
حين نسمع غناءه يهدهد أحلامنا
في المنام
القمر الساطع على شرفة الطين
الأطفال على أسرّتهم
الذئاب تتجوّل سعيدةً في الردهات
أطيافها تصل القرية
في نفحة من عواء عميق
غناء أطفال مرحين فوق ضفاف
بحيرة مسحورة .
السحَرة ينظرون من نوافذهم
إلى هذه البّريّة الشاسعة من الأقمار
ورعاة النجوم لم يعودوا من أسفارهم
مسرّحين النظر إلى آخرِهِ
نحو سماواتٍ لا سقف لها
ولا ضفاف
بين الفينة والأخرى
يستمعون إلى عواء الذئب
فيستبشرون بدنــوِّ نجمة الصباح
الرعود تخلع أبواب السماء
النجمة تضيع في عُباب السحاب
ولا شيء يضيء هذا الفضاء الفاحِمَ
عدا تلويحة ضوءٍ
من موقد عواء بعيد.
على رِسْلك أيها النحيب
أيتها الذئاب
الذكور والإناث الفارهاتُ
فوق مصاطب الأبد
أيها الغيبُ المطْلق غناءه على الذُرى
والقِباب
بإمكاني الآن من مكاني المضجِر
أن أرى القِممَ المتآخية
كعائلةٍ وسط الطوفان
وأرى الذئاب تنحدر جماعاتٍ
نحو البسيطة المأهولة بالمسوخ
لكن قبل ذلك
عليّ أن أتخيّل الذئب الوحيد
هناك فوق التلّة البعيدة
مصروعاً بالغياب
يدور في غضبٍ وشكيمةٍ متْعَبة
لقد هلك الحرثُ والنسْلُ
وبقي هكذا
شجرةً يتيمة تنتظر اقتلاع العاصفة.
ذئبُ الفلاة
بمنحنيات أضلاعه الناحلة
ضمور امرأةٍ ربّتْ جسدها في لهبِ الرغبة
ميراث شبقٍ وهيام
المرأة تنظر في المرايا
تتنزه في حديقة البحر
الذئب في الفلاة ينظر إلى نفسه
كاسراً طوق بشر ومفازات
بخَطْمهِ الأشهب
وعينيه اللامعتين في الظلام
يحدّق في مرآة الصحراء
حيث تسكن المرأة
ويقيم البحر .
ذئابٌ نائمة
كأنما في وليمة خدرٍ ونعاس
حتى توقظها نسمة من جهة الشرق
فتمضي
راكضةً وراء طريدةٍ لا مرئيّة.
ذئابٌ هانئةٌ
بين النوم واليقظة
تحضن جراءها وتحلم
وحين تفاجئها الأصوات الغريبة
تنتشرُ
كخليّة نحلٍ بعثرتها أيادٍ بشرية.
خلية النحل تُستفز من مَقيلها
العواء يحتل الأفق
يندفع نحو القرى المجاورة للمغيب
وبصلابة القَدَر واندفاعة الموت
تضيء الأنيابُ ليلَ الضحيّة
وتسكت الأصوات.
عشيرة الذئاب المترحلّة
في ضوء الفجر
بين الكثبان والأزمنة
وبذلك الحنين الذي يسرجُ الصحراءَ
بدماء شعوبها البائدة.
* * *
سحُبٌ هذه
أم بخار كوكب يتلاشى
مياهٌ سوداء يشربها الذئب
السواقي جفّت
النخيل جماعات تفنى
أسماك القرش تبتكر طُرقا للإنتحار
يشاهدها الصيادون
أسراباً تقذف
زفرتها الأخيرة، ويتساءلون :
كيف برحتْ مرابعها البعيدة
لماذا أختارت ذئاب البحر، اليابسةَ لتموت ؟
كل شيء يتداعى
ويزهر الجحيم
والرغبة التي لا حدود لظمئها
تضمحل كذئبٍ على حافة الإنقراض.
في ضياء قمر تشريني
ثمة ذئبٌ يعوي
ثعلب الجبال يزحف في الضياء والرمل
نحو الأحواض الملآى بالسائحين
ليموت
بحثاً عن مياهٍ مستحيلة .
على رِسْلِك يا ذئب أعماقي
يا تيه القطا
ويا جناح المسافة
شقيق أحشاءٍ بعثرتها الريحُ
فالتأمتْ في صرخة وديانك الحصينة
في نحيبك الليلي المنتشر
فوق ذؤابات النخل
وعلى شجر الأراك
مخدّة نومك الأثيرة
لم تكن جباناً
لكن روحك الكسلى
تنتظر هاتف الإفتراس .
منذ بدء الخليقة
وأنت تتجوّل فوق صحراء الجليد
في العصور الطباشيريّة
الأبعد من عمر الآلهة
كان الجليدُ وطيور قليلة ترفرف
فوق الغَمْر
كان الكون المولود من دموعك الثكلى
وقلبكَ الجريح .
الخليل بن أحمد الأزدي
في ذلك الصباح الذي تمتطيه رطوبةٌ خانقة، وهواءُ بحر كفيف، غادرت، ميّمما شطر (البصرة) حين كانت موئلاً للنسّاك وضواري المعرفة. لم توّدع البحر والسهول والوجوه ألقيتَ نظرةً أخيرةً أغزر تعبيراً واحتداماً من نحيب. أكثر احتشادا من الدمع المتحجّر في المآقي.
أدارتْ الناقةُ ظهرها للرَبْع، فكان رغاء الحنين، حتى اختفى، وبقي القلبُ يخفق طوال الطريق الذي قصرّته أحلامُك الأكثر جمالاً من وميض برق في ليلةٍ ظلماء، أو فتنة امرأة فارهة.
في البصرة أنتبذتَ ركنا قصياً على شط العرب وعشتَ عزلة الزهّاد الذين صيّرهم الإيمان أشبه (بخيالات من فرط التوحّد والتسبيح). كان لك إيمان المعرفة واستبطان الأقاصي التي لم يرتدْ مناجمها الوعرةَ، أحدٌ قبلك.
العزلة الموصولةُ بروح أسلافك بتلك القفار التي تضيعُ في فجاجها العميقة، صرخةُ الرعيان والجوارح: حيث القسوةُ إكليلُ الوجودِ المثمر وشرطه.
كانت اللغة علامتُك لفهم الوجود، وهذا ما عرفتْه البشريّة بعد قرون. قرأت تراث (الإغريق) لكن كان تماهيك مع كشوفك وحدوسك.
بحثتَ في أنساق الكلِم وتشعّباتها وطرائقها وكأنك في غابة، أشباحُها الحروف والكلمات المستعصية: فكان لك سبْق الترويض واتساق المعنى.
وكان الشيخ محيي الدين ابن عربي، هو الآخر يحلم بقرانه من نجوم السماء وحروف الهجاء ـ كان ضجيج الحروف ونَغَمُها يضيء ليلك الموحش، فكان (كتاب العين) العين وليست الألف أو الهمزة لأنهما ناقصان، وسُلّم إلى الأعلى في هَرَم الحروف وبنيان اللغة.
العين الأكثر صفاء ونصاعةً من نبع جبليّ تذكرتَه ذات مرة، فراودك الحنين إلى مرابعك الأولى. بعد كتابك المعجز، قامت قيامة الخصوم الذين أنكروكَ، وأداروا دوائر المكر، وأنت في صمتك بين الظلام والضفاف.
لقد شاهد (الأزهري) و(السجستانيّ) وغيرهما، شاهدوا عجزهم في مرآةِ خلودك: وفي ظل حقدهم المتطاول، كانوا ينهبون إنجازاتك، ويغطّون نهبَهم بغبار الإشاعات.
لكن (سيبوبه) النبيل في (الكتاب) و(ابن دريد) حفيد السلالة والمعرفة في (الجمهرة)، نهلا بامتنان وحب من معينك، كما نهلت الأجيال اللاحقة.
أسلمَتْك الرياضيّاتُ، مكنون سَّرها وصرامتها، وأسلمتك النيازكُ ضوءها الغامض قبل أن تنطفيء في دروب المجرّات.
لم تُغرِكَ نداءات أولي الأمر والشهرةُ والمال، ولا بطش الخلافة الآفلة.
"أنستُ بوحدتي ولزمتُ بيتي
فطاب الأنسُ لي ونما السرورُ
ولست بسائل يوماً أناساً
أسار الجندُ أم ركب الأميرُ".
كنتَ المنارة التي يهتدي بها العلماء والإلتباس الدائم للأدعياء الذين لم يفهموك فكان تقديرهم لك أكثر فتكاً وإساءةً من الأعداء.
أيها السلفُ الكبير
لك التبجيل والتعظيم
لك الغيمُ والسلام
لك الورد والصباحاتُ الهاذية في الحقل
لك الأحلام النافرة كعنق الحصان
لك الغيث ينهمرعلى قبرِك الوضيء
عشتَ وحيداً
منذوراً للمعرفة والجمال
ومتَّ
على منعطف النهر والزمن والعالم
الذي أعتزلتَه بإحتقار.
لحظة احتضارك في ذلك (الخُص)
وسط نقيق الضفادع وألق الوحدة والليل
كيف صَعدَ سهم الروح إلى بارئه
وتسلّقت سلالم الحضور الكليّ ؟.
موسيقى الأفلاك
مستحمّا بهواء البحر
أجلس محدّقا في (الطريفة) و(إشبيليا)
كان عصفور ينقر على الخشب بقايا طعام
كان رذاذٌ خفيف
كانتْ الرأفةُ تلامسُ
روحَ الطائر
وهو يتلاشى في المغيب.
مستحمّا بهواء البحر
مصغياً لموسيقى أفلاكٍ
ومحيطات
تتقاطع أمام ناظري
بغضب ومحبّة
وأفكر:
أن الأرضَ ستغمرها المياه قريباً
ونعود إلى البدء
إنها النهاية الرحيمةُ
أمام صنيع العقل البشريّ
للقيامة.
الديك الشركسي
بالدار البيضاء
في نادي الكرةِ الحديديّة
أطعمتُ ديكاً محمّر العينين من الصياح
أطعمته من كفي مباشرةً
وكانت الموجةُ القريبة تغمرُ
صباحنا المشترك
وسَط ضجيج السكارى واللاعبين
وتلك الكراسي الرثّة
لمكان كان يغص بذكريات المستعمرين
الديك الشركسيّ الحالم
الذي بدا عليه التعبُ
بعرفه الرهيف
منحنياً قليلاً وناحلاً
كقوس قزح يعانقُ
أرضاً مقفرة.
أرق
آه من ليالي الأرق الطويلة
من حلكتها تنفجر أشباح كثيرة
حبْكة السنوات الآفلة
شبحُ الأصدقاء الذين أصبحوا أعداء
مأخوذين بالثروة والحضيض
لقد جفّت أرواحهم
نسوا هواء القمم الصافي
صاروا كوابيس
أعوادَ ثقابٍ تحرق الغابات
القتلَة الجبناء
لماذا أتذكرهم هذه الليلة
أما زالوا موجودين ؟!
إنها علامة شؤم بليدة
عليّ أن أقلب الصفحةَ
وأتوارى خلف أكمة خضراء
ضفّة نهر
أو في قلبِ موجةٍ عاصفة.
السراب
بم التعلل أيها المسافر
(لا أهل ولا سكن)
كل شيء تطاير من يدك العزلاء
عبثاً تحاول ترميم ما تبقى
لكن السرابَ الذي لاحَ لك منذ البداية فسكنتَه
نصبت خيمتَكَ في أرجائه الشاسعة
صار موئلك الأثير
مُستقـرّ إقامتِك ورؤياك.
لكنّ الملاك
الذي بلمسته الحانية
أبدع الوجودَ الأثيريّ للروح
تحطّم تحت العجلات الثقيلة للعربات
وبقيتْ نظرتُه الحزينةُ
مترحّلة تحرس المسافرَ الحائرَ
في خضمّ الصحراء.
قُبلة طويلة
في الحديقة نفسها
رجل وامرأة على مشارف العقد الأخير
لأعمار البشر
في الثمانين
حيثُ لا ضوء
إلا ضوءُ الفناء الباهر
جلسا على حدّ البحيرة
وكأنما في رحاب الفردوس
مغموريْن في قُبلة طويلة
طويلة
حتى الإندحار الكامل للزمن
قُبلة حرّكت المياه بقطوف دانية
جعلت الهواءَ أكثر شفافية
والبجع يعوم في أحلامه الوارفة.
قسْورة
الأسدُ
الذي ورد اسمه
في القرآن الكريم (قسْورة)
وقد تناثرت تحت سطوته
الحُمُر الوحشيّة وتشظّتْ
ـ وله عشرات الأسماء كالسيف
وكلها رديفة البأس والمجد والإفتراس ـ
أراه الآن يفترشُ نعامةً تحت
قدميه الضاريتين
ويستعدُ لإنقضاض آخر.
سربُ يمامٍ حطّ على مقرُبة
وعصافيرُ غنّتْ رشيقةً على عنق التمثال
هل سيكتفي بطريدته
وتهدأ روحه الغاضبة ؟.
صورة الوجه
كان وجهُها المنعكس على زجاج النافذة
وهي تتحدّثُ إلى رفيقٍ مجهول.
نظرةٌ على الكتاب وأخرى إلى الخارج
حيث الشجرة المبتهجة بفنائها القادم.
ركّزتُ النظر على الزجاج
كي لا أزعجها
كي لا تشعر بتطفلي على مسرحها الخاص
رغم سطو قَتَلةٍ لا مرئيـّيـن عليه.
تجيلُ النظرَ في الجهات كلها
لكن مركز الجذْب الداخليّ
هو فضاء هذا الجولان حصْراً
وما تبقى
ليس إلا يباس حطبٍ
لإشعال مواقدِها.
لم تكن اللجاجة ديدنها
كانت هادئةً وجميلة
كمنْ حدّد مصيرَه على نحوٍ حاسم
كانت المرأةُ
وكان الزجاج الذي علِق به ناظري إلى الأبدْ
وكانت الشجرة في الخارج.
بجماليون المتشرّد
ضربة جناحٍ موغلٍ في الشباك
أم ريشة تنفصل عن جسد الطائر
لتضيع في الفضاء المدلهّم.
هكذا كان يذرع المدينة جيئة وذهاباً، بالنظر الزائغ، والرغبة المخنوقة في عنق النبع ينظر إلى البشرية المتدفقة من المقاهي والمطاعم والحانات، زاحفةً نحو البيوت والأسّرة الدافئة، ليبدأ الوجه الآخر للنشاط البشريّ البائس، في مواجهة البرد والعواصف والليل.
إنه يوم عطلة
كان في الزاوية، لقد تعب من العز ف على الكمان، وعليه أن يتسلّق تلال عتمتِه، وحيدا ويحلم بحلمٍ يغذّي رغبة بقائه، إلى صباح آخر، صباح مليء بالظلال والخيالات والأنغام ليواصل عزفه وتحديقه الباردَ، تحديق التمثال الذي صنعتْه يد الفنّان المتشرّدة في طرقٍ وأقاصٍ مأهولة بالأشباح.
ومن فرط ما حلم الفنان بتمثاله والتمثال بصانعه
أصبحا كائناً واحداً يشع جمال العزلة والمغيب.
ويواصل التحديق على نحو ساخر إلى البشريّة الزاحفة إلى مخادعها متصنعة البهجة والحبور.
وهو منتصبٌ في العراء كعلامة على التجرّد والخلود.
محاولة رسم لوحة
أحاول أن أرسم لوحةً لفجر عسير الولادة:
جثة تطفو على صفحة النهر
فيلسوف يرتجف هلعاً من فيض رؤياه
تحية الوداع التي تتحجّر في الشفاه
أو القُبلة التي تنطفيء لحظة الشروع إليها
سيّارات الإسعاف التي يحتجزها القَتَلة
في شارع يغصُّ بالجرحى
زهرة تحلم بالتفتح فتكسرها الريح
قميص يتدلى من حبل الغسيل
وحذاء مقلوب
طفلٌ عالقٌ في مضيق الرحم
نور يختنقُ بحنينه إلى السطوح
سفينة تترنح وسط الإعصار
وفجر يحلم بنقيضه
ولا تكتمل العبارةُ التي فرّت من مخيّلة
الشاعر لتحط في بحار بعيدة.
الجنازة
كان ينظر من النافذة
إلى البشر السارحين في القُبل والإبتسامات
لم تكن له نافذة
كان ثقباً في الجدار
نَسيه السجّانون في عهودٍ غابرة
قرّب النظر أكثر
إنه يوم آخر
في مسيرة الأيام التي لا تصدأ
رأى الشارع يمتدُ إلى ما خلف الرؤية
وما وراء السحُب السوداء
البشر يتدافعون من الجهات الأربع
سائرين في صمت
على رؤوسهم تحلق طيورٌ هائجةٌ
ملائكة الرحمن التي تحرس الموكب
من غير أن تلمس الرؤوس المحنيّة إلى الأقدام
حاول أن يسجّل التفاتة أو همسةَ جارٍ إلى جاره
كما أعتاد في مراقبة الأوّلين.
لكن الجنازة تمضي هذه المرة في صمت أبدي
من غير غشّ
وحدَه نباح الكلب
يأتي من جهة البحر
إشارة الوداع الأخير.
على مشارف الفجر
الساعة الرابعة
الأجراس تدق من جديد
الليل قصير وعار من غير سندٍ
يتيه في الأزقة والغابات
لا نباحَ كلب
ولا صوت يبزغ من جهةٍ ما
عدا الصحراء التي تهتز
وتتهاوى في أعماقي كشجرة ميّتة.
الساعة الرابعة
نحن على مشارف الفجر
صوت بَّط يختلط بأصوات طيور أخرى
ويتصاعد بشدّة
صيادون يرمون شباكاً في الحلم
نسمة ربيع لا يأتي
لقد جادت بها الذاكر،
وفارس من العصر الجاهليّ
ينتحب على ظهر حصان.
طائر العقعق
طائر العقعق، بذيله الطويل، الذي لا يشبه عقاعقَ طفولتنا المكسوّة بالألوان، والتي كنا نصطادها من رؤوس الأشجار والتلال والنخيل وتسقط كقطعة موجٍ حالمة.
كانت تأتي إلى القرية بشكل موسمي، وكنا نراها أشبه برسُل أو رمزٍ لطيور الجنّة:
هذه الرسوليّة المتخيّلة لا تعفِها من الذبح والإفتراس.
طائر العقعق حين أراه كل صباح ينقر العشب على أديم الأرض برفق ورهافة، ربما كي لا يزعج الموتى في مساكنهم ـ خلاصة ما أكتسبتْه السُلالة من لطف في تعاملها مع الأرض والأشياء، يمدُّ عنقه إلى أعلى من غير التفاتة خوفٍ، يصدح كأنما يتضرّع إلى الربّ بمزيدٍ من الجمال والخضرة التي يغطسُ في لُجينها بعذوبة وحياء.
لا تكاد تراه إلا زوجين اثنين نزلا للتو من سفينةٍ دمّرها الطوفانُ وها هما يحتفلان بعيد ميلاد جديد.
حين أرى طائر العقعق كل صباح، أعرف أن يومي سيكون جميلاً، ثمة وعْدٌ بالحياة.
الفاتحون الأوائل
هذا المحيط الهادر على فراشي
طوالَ ليالٍ ونهارات
لا يهدأ أواره ولا ينام
محيطُ الظلماتِ والأنوار
تجمّع أنهارِ لأزمنةٍ فلكيّة
غادرتْ مواقعها وأستقرتْ في أحواضه الكبيرة.
جابه الفاتحون العربُ الأوائل
جابه قراصنة من مختلف الأجناس.
أستطيع أن أتبيّن بعضهم الآن
ينطلق من مدينة (سَلا)
في الضياء الغامر للفجر.
***
صالح العامري
- من مواليد شناص، عام 1965.
صدر له:
- مُراودات، شعر، الرؤيا للنشر مسقط، 1994.
- خطّاط السهو، شعر، دار ميريت القاهرة، 2001.
- ظلٌ يهوي معبـّأ بالضحك، يليه: وجه القـُبلة، شعر.
تقاسُـم
أتقاسم وإياكم
الأذنَ المرهفة للبيادر
الخلاخيلَ التي تزنرت بها الجبال العتيقة
الحربَ التي ستدوم في عيون الأطفال.
أتقاسم معكم الغيب الحرون
الصدفة التي تقيّد الملوك على العروش
الكآبة المفيدة لقراءة التاريخ
الأشجار الحارة التي تعرف الطريق.
أتقاسم وإياكم الموت لقمة لقمة
متورداً وضحّاكاً
برائحة النعناع
الموت المكنوز بالسفر والنوافذ
الموت الواقف قبالة الباب
الموت الأبيض الذي يستقطر العطر.
أتقاسم معكم الغبار والنثار
الحرير الذي أومأت به الجهات
الفراغ المدمن على اليوجا
النمر الذي مرّ في الحلم
الكنز المشرد في الحانات والمرافيء.
صحيفة جسد مسجى
أظنني بالكاد ذاهباً للريف ثملاً
أسكروا عني
سأنام وحيداً هذا المساء.
ها أنذا
أرفع الكؤوس إلى شفاهكم
حاملاً وردتكم إلى الحبيبة
ولهفاتكم المصابة باللازورد إلى القُبلات.
لكنكم عندما تصادفونني
أحملوني إليكم بالنسيان والكتفين
أحملوني نعشاً
إلى الرقص
كي أخرج من خيمتي التي في الأعالي
وأنخلع في العري والحنان.
أنا الميت ـ فحسب ـ من الضحك
أقرؤوا عليّ كثيراً من السكْر
وأشمخوا في الألعاب.
بعيدةٌ أيتها الحياة
أيتها الحياة
لا أعرفكِ
من أنتِ ؟.
طرقتِ عليّ البابَ
وغيلة دلفتِ.
طوفانك أخذني من قميصي
كحدّ النصل
غارقاً في قلبي.
ودواليبك التي روضتُها عربة لي
أسكنتني الحفرة الغريبة.
هكذا يقولون عني الآن:
"إنه هناك
هناك "
لكي تكوني عارفة
أنكِ بعيدةٌ
وأنكِ عنوةً
فتحتِ الباب.
نشيد
كلما أرجأتني المصائرُ يوماً آخر
قلتُ سأقنص غزالي هذا الفجر
سأقبض على الطير
حارّاً
مباركاً بالدير القديم
عندها
يطلع من جبيني قردٌ سكران
يقف في منتصف الطريق
فلا يعبُرُ أحد.
أجرّ خيوطاً كالتي
رطّبَتْها أمي العنكبوت بلسانها
أفلِتها في الريح
فينهار العالم
وتشرق الألعاب.
موتوا أيها الأحبة.
قـُـبلة
هكذا تطعم الأرضُ الغرباء
هكذا تغني لهم
قُبلة طويلة أخف من دبيب النمل
تأخذهم / تأخذني
إلى كنزها الملثم بالقرب
تسمعني الشهوة
المسمومة للشعراء
تختفي في حدقتيّ
تكنزني بالطيور والجزر
ترص سمّاعتها في أذنيّ
لتشمخ الموسيقا في الوديان.
أنا قريبٌ جداً
أنا في السرير الأرضيّ
أُحْــبـِلُ الرملَ
بطفل الأبد.
خلاص
أتوق إلى مناولة أشواقي للمقصلة
أن تزدرد الريح ستارتي بضراوة
أن يبتلع البحر رأسي
بخبثٍ ضروس
أن يشكّ السهم أعماي
أن أتحدر إلى الهاوية
التي لها صحصحان
أن يُسلمني الشلالُ إلى النوم
أن تتناوب المدن
جثماناتي السعيدة.
أتوق إلى نهبكم جميعاً
وأن يخرج الموت من بنصري
يضّاحك
يتناول فطور الصباح
ويغني للزهرة الدموية.
أتوق أن أرمي ببضاعتي للنار
أنا التاجر الخاسر ذو الكنز
أتوق أن تقلني المراكب بعيداً
بعيداً عن رأسي المثقل
بنقيع أشجار فاسدة.
سيرة كلب
بعد سبعين عاماً
من النُـبَـاحِ
على اليابسة
هو ذا الكلبُ الحزين
يدخلُ الماءَ
سبّاحاً
يحمل على كتفيه
جريرةَ الماضي
وعدميةَ الزمانِ القديم.
لن ينبحَ الكلبُ بعد الآن
بل سيرتعش في جوهرته
التي أكتشفها للتوّ
حتى أنه لن يفرّقَ بين الحياة والموت
بين الطيران في الهواء
أو الغرقِ في المجرة الحُـلُـمية.
سيرة نخلتين
كرّت السنواتُ
سنةً إثر أخرى
الأسلاف يتحادثون في التراب
والماء يعانق الماء
وحدهما نخلتان فارعتان
بأجنحة سعفية غُـبْر
تنحنيان على بعضهما البعض
صداقتان في المطلق
زواجان في الريح
وحيث أرخبيلات الخليج
تسقيهما بشرف الملح
كلّ نخلةٍ اسمها سُـهى
مشدودة إلى شِـعر الموتى
كلّ نخلةٍ اسمها سُـهاد
في هواءِ
الذين يولدون الآن.
رأس الشاعر
لا محالة أنني أتيت إلى هنا
هكذا ألتفتُ إلى ورائي
إلى ضحكتي المعقوفة
تجمع رمّانتها وتبكي
جافة وغبراء
في بلاد لم أكن فيها
في طرقات تهابها الأشباح
في مياه لا يدسّها المجانين.
لكنّ المجانين إخوتي من
الدم المظفر بالسكْر
بعد آخر شجة للرأس المقدس
لذلك سأترك تلك الضحكة وحيدة
تلعب بأخلاقها الدموية
مسلولة من
الغريب الميت في العيد.
سأترك الضحكة
تجلجل في العصافير الراعفة بالنشيد
ملثمة كالبرق
الذي يحمل عروسه إلى الفردوس
وعندما يغدقها بالحب
ترتعش الغيوم
كالأجراس.
لا محالة أنني ظلّ يهوي
معبأ بالضحك
والأعمدة
مديداً يشهق بالحجارة المسننة
التي لا تخطيء رأس الشاعر.
سارق التوت
هكذا أقطع الحياة
من دغل إلى دغل
من برية إلى برية
من بحر
إلى بحار مديدة لا تنتهي.
لكنني توقفتُ هنا
في هذي الحديقة
ألقمونني فيها توتاً
يعرّش كأنه الملائكة
والأشعة الخضراء.
تناولونني بحبّ
أنا سارق التوت قبل الآن
تركوا لي أيديهم الرهيفة
منها يدُ عاشقة حارّة
غطوني بغلالة الحصاد.
أومأوا لي
أنِ أذهبِ الآن إلى الموت
لكَ طائرٌ خلفكَ
لكَ ضحكةٌ لن تنفجر إلا في المحشر
سيلتفت الله لها
وستكرّ المخلوقات عائدة إلى مهدها.
سأم
عبثاً أعدّ أعمدة النور
المصابيحَ التي في عيون العابرين
الشهواتِ التي أسلمتني إلى نفسها
الشهواتِ التي لا أعرف بعد
الرقعَ الشطرنجية التي سأتنزل فيها.
عبثاً ألتحف بمساءٍ مقصوص الصدر
وهواءٍ أفسدته السنون
وكبرياءٍ مُرِّ المزاج.
عبثاً أغني هنا
وسحابتي بعيدة
وطيوري مهدّدة.
عبثاً في هذا العُلُوّ
أن لا أسقط بين يديّ
وأن لا يقع كتابي
على كتفِ عابر
في طريقه
نحو الحقيقة المخاتلة.
الدراجة الهوائية
من شرفة البيت البعيد
كانت الأرملة تطلّ من علٍ
على صبيّ وصبية
يترنحّان على خيلهما الجوفاء
يلهوان مثل نورسين مبقعّين بالغرام
رَمَقـَتْهُما بحسرة منقوعة
في الذكرى القديمة
وأنفطرتْ لساعتها المخجلة
أوانَ تتيبّس الأجساد الثكلى.
سرعان ما أختفى الصبيّان عن الأنظار
ذهبا للحقل
فوق دراجة يسعفها الهواء
ليلعبا سوياً لعبة (الطبيب والمريض)
كي لا يشفى أحدٌ من الحبّ الأوّل.
وتتكاثرين كالسمسم من فرط الأشواق
عندما أوقظُ
منحوتاتِكِ النائمةَ.
عندما أرنّحُكِ
في المداعبات
التي تسترقُ السمعَ
إلى لوحةٍ منسية.
عندما تتناثرين
كالمسكِ من اللذة
وتتكاثرين
كالسمسم من فرط الأشواق.
عندما أحرّضُ أرخبيلاتِكِ
ـ الواقفةَ على الأصابع ـ
على الإبحارِ في سرِّ المياه.
عندما أطْلِقُ ألعابَ النارِ
من بين لساني
على مخابيءِ سمائِكِ اللازوردية.
عندما أتلصصُ على
ثمرتِكِ الحلال.
عندما أسحبُ أنهارَكِ إلى محيطي.
عندما أورّط أرضَكِ المثابرةَ
على القفزِ من نافذة الآهات.
عندما ألحسُ صحوَكِ الدفينَ
فينتشر شراعُ الغرام.
عندما أضرمُ النارَ في غيمتِكِ
فتنهمر أمطارُ العسل.
عندما أجوبُ براريكِ الشاسعةَ
بمجساتِ زماني الذي يحاذيه القمر.
عندما أمَسُّكِ
كما آخذ الوثنَ القديمَ في أصابعي
وبؤبؤِ عينيّ.
عندما أدورُ وإيّاكِ
في اللؤلؤة.
عندما أطيرُ وإياكِ
في سورة العود.
عندما لا نلتحفُ
إلا بشرشفِ أبيضٍ
يتطاير في السماء البعيدة.
عندما ينفجرُ الحنينُ
في الجسدينِ الضالعينِ
في أمرِ الرّعدِ المغمضِ العينين.
عندما نُـعَـلـّـقُ العالَمَ
على حائطِ العشق.
عندما نكون قد فعلنا ذلك
يا حبيبتي
نكون قد أكملنا
يومَنا السابعَ الجليل
وأقمنا عامود الكون.
الراقص
أيها الأحمق المراوغ
يا دليلي إلى المواسم.
أيها الأهوج
الذي يبذر حقول
الأزهار المتهتكة في القيامة.
أيها العاصي
المتفلّتُ عن أمر الوسن.
أيها المرقّشُ
المتلوّن بالكهرمان
المدهون بكبرياء البرونز.
أيها الراقص
بمظلته المقدسة
وعموده النهم.
أيها المبحلق جهة الطيور
المتشرد في هواء الحالمين
المستيقظ قبل غبش النهر.
أيها المتلفت
جهة الأناشيد
المنصاع
لأمر المزارع المجهولة.
أيها الفقيه
العارف بخمر الزمان.
أيها الراعي أسراب العصافير
في نشوة الذرى
أيها الجالس على عرش الدوخة.
أيها المتربّص
بحنان الأعياد.
أيها النـَهـِمُ في شـَيـْـلِ العذوبة.
أيها الضارب في سرّ الخلق.
أيها المناضل في ثكنة العُري.
أيها الدون
أيها السيد
أيها الجنتلمان
أيها العبيط
أيها السادر
في الشهوات الألف
أيها المشرئب
في طلع الليمون
في دمع الحياة السعيدة.
أحيّي ضميرك الهائل
المنشب أشواقه
بقوة القافز وراء الأسوار.
حياً في بدن الأرض
بقبة مازحة
وكتاب مُحْكَم.
شارحاً نمر المياه
بخزّانِكَ الثمين.
مجلّلاً بقبعةِ العافية
متوَّجاً بالعطشِ المشاغب
في
رقصة
الدبّ الوسيم.
أيـّها النديم.. أيـّـها الموت
سيـّـدَ العسجد
الذي رِقـّـتـُـهُ لا تغامر
الذي رِقـَّـتـُـهُ
تنسربُ كالسهمِ في القلب
الذي رصاصتـُه
حزينة ٌ تضـّـاحك
الذي يحملُ الينبوعَ
على كتفيه
والشموعَ
في خاصرته
والأكفانَ
في أياديه البيضاء
والأقلامَ
في ربيعـِهِ المبتسم.
سيـّدَ النواة
لستَ النهرَ
فنقدِّمُ لكَ عرائسنا
وبناتـنا الحـُـلوات
لستَ الله
فنضحـّـي بأرواحنا
على مذبحك
لستَ الشمسَ
فنحترقُ في عـُـيونـِها
لستَ القمرَ
فنجولُ الليلَ
في شـِـعرِك الناعس
لستَ النجمةَ
فنرتكبُ خطاياها الذهبية.
محرومٌ
لذلك لا تعضـّـنا
إلا ونحنُ في أوجِ الصلاة
لا هواءَ في خـُنـْصرك
لذلك تشيرُ إلى أكبادنا
لا أخضرَ لكَ ولا يابسَ
لذلك تقيمُ قلعتكَ
على لحمنا المـُـرّ.
أن نثأرَ لأنفسنا منك
هو أن نبتسمَ فيك
نحنُ الذين كدنا أن
نرفعَ مكائدنا إلى حلقومك
أن نسرقَ عـُـشبتك
المتزلفة للحيّـات
أن نخطف نيرانك
السمجة الهوجاء
أن نشربـَـكَ
ونرقـُـصـَكَ
ونغـنِّـيك.
نحنُ الذين كـِدنا أن
نذوبَ في أعيننا من الجمال
نحنُ الذينَ كدنا
أن نـُـهرِّبـَكَ على أحصنة أخيلتنا
لكي نغسلَ قلبـَـكَ من الدم
نحنُ الذين أوقعناكَ
على فرسخ أو فرسخين
بعيداً عن حاناتنا
بعيداً عن بيادرنا
بعيداً عن ألعابنا
المرقطة بالرغبات
والمستحيل.
هل علينا أن نغنـّـي أحياناً:
أنتَ الأنيقُ الأليقُ بـدُوارنا
الخطّ السريعُ إلى الوردة
الجوادُ المحمحمُ نحو الريح
الحديقة التي لا تشيخ.
هل علينا أن نلثغ أحياناً:
عسلـُـكَ أبقى من مـَدَرِهم
طينتـُكَ أبقى من
أزمانهم السائبة
قدمـُـكَ أعلى من جباههم
فـطنتـُـكَ أفتنُ
من نيـّـاتـِهـِم.
هل علينا أن نقول:
أنتَ اللصّ الأوحدُ
فعـلـِّـمنا يا صاح
أكثر مما نشتهي
أنتَ اللصّ الأكبرُ
فعلــِّـمنا أن نكونَ
قـُـطـّـاعَ طريـِـقِـك
أنتَ الأعظمُ
فعـلـِّـمنا
كيف نـُـزهـِـقُ روحـَـكَ
وكيفَ نـُـبقيها لكَ
كي لا تفقدَك
عــلــِّمنا كيف نسبحُ فيكَ
ونسحبـُـكَ فينا
علــِّـمنا كيف؟ ومتى؟ ولماذا ؟
عــلـِّـمنا مزحـتـَـكَ
التي طرأتْ في حلقـِـكَ
علــِّمنا أن نتغضـّنَ قبلـَـكَ
علــِّـمنا أن نشربَ السـُـمَّ
فتتدحرجَ مسموماً فينا.
وُلدناكَ وحبلتَ بنا
أهديناكَ الزهرة
ومنحتنا
النيرانَ اللازوردية
رفعتَ لنا الفنارَ
وأتينا لك بالسفينة
أقمتَ لنا الماءَ
فزرعنا لك الموج والملح
أيها الصديق
أيها المـُـعلــّـم
أيها الديجور
أيها الخراب
أيها المنجلُ الخائن
أيها البهاء الذي
نتشمـّـسُ تحتَ أخلاقه
وقـُـبـّتـه الملكية.
النشيدُ العـَدَميّ
أفتحُ نافذتي
فأرى وِدياناً مـُغبـّرة ً
لكنْ لا أعرِفُ ما إذا كانتْ
ماءً أو مـَرْمـَرَ أو شاشة سينما
أو طوفاناً حالماً لا يـُضمـِرُ حمامة
لا أعرفُ أية وثارةٍ هذه !
أيّ تـَـرَفٍ قد شـُـدّ هـُنا !
أيّ مجرّةٍ تخبط ُ بأجنحتها
في عظامي !
أيّ عيدٍ أرى
قـُـدّ مـِنْ قهقهةٍ منحطةٍ
متزوبعة !
أيّ سوق ٍ ليس فيه أحد
وفيه كلّ النمائم والبضائع !
أيّ عينين ِ تركضان ِ
في الشجرِ اللامرئيّ
في الشجرِ الممحـُوّ
في اللا ـ أشجار .!
يتفرّسني العدمُ
أتفرّسُ في
خصلاتـِهِ المهدورةِ في النسائم
تتفرّسني كيمياؤه
فألمسُ إنبيقه الطويل
يدمدمُ سطراً ضدّ الموت
فأمسـِّدُ جيدَهُ النهم
يتفرسني قلبـُـهُ
فأدعُ إلى جانبه أرجوحة
وأركضُ عن عينيه
يتفرسني تمثاله
فأدخل هذي الحانة
* * * * *
العدمُ لا الموتُ
العدمُ الشاسـِعُ
لا الموتُ القزم
العدمُ الرُخّ الناصـِعُ البياض
حتـّـى لا يـُـرى لهُ جبهة ٌ
ولا موجة
العدمُ الصعلوكُ المـَلـِك
الهفهافُ النحيلُ
المـُكتنزُ كروح ِ السِيفِ
الرشيقُ مثلَ لا ـ كـُرةٍ
مثلَ لا ـ قــبـّعةٍ تطيرُ
مثلَ حنان ٍ يضرِبُ للدّهـمةِ / للدّهسة / للسـّحمة
يتلوّنُ في الخشبِ والمكائد
في اللا ـ لون الأسمر.
العدمُ القـفــّازُ
في نشوةِ الإسفنج
مثلَ فكٍّ يتعفـّـفُ عن اللوكِ والمضغ
العدمُ
لا الموتُ الذي يـُرَمـْنـِسُ الكائناتِ
في التوابيتِ والدّمع ِوالحـِداد
العدمُ السيـّـِدُ
الذي لا تـَمْكـُنُ رؤيتـُـه
وبالكادِ عند الغروبِ
يـُجدِّفُ جندوله الجافل
مـُـختفياً مثلَ أرض ٍ
تدورُ في فرجار.
العدمُ المـُـتلفـِّـعُ بالحنان
فلا تـُجـَـنَّ الهيولى
ولا تكتئبُ المسامير
العدمُ الطـِّفلُ الذي ما كدتُ أناغيهِ
وأدسّ له شوق الأرض
في مبسمهِ الحـُـلوِ الغـِـرِّيد
حتى أرتفعَ
أنفرط َ
أرتكبَ وضعَ الهيكل
فجـُـزتُ تحتَ أعمدتـِهِ
ومَـشيتُ
وكانتْ تلفحني نـَسـَماتٌ
تثقبُ روحي بلذاذة
مثلَ إبـَـرٍ لا مولودة
ينهمرُ منهاالسـُـمّ ُ/ الترياق
بينما كنتُ أغنـِّـي
مثل جدار لا يوجد.
العدمُ الذي كـُـلّ ُ خـِصيةٍ ينبوعـُهُ
العدمُ الذي
لا يكترثُ بالجماجم
في مـُـتحفِ الموتى
العدمُ الذي لا يـُـسرِعُ
لا يـُـغـِـذ السـَّـيرَ
لأنـّـهُ يعرف.
العدمُ
لا الموتُ الذي تجحظ ُ عيناه
ويسيلُ لـُـعابـُهُ
العدمُ الذي كـُلــّـما أخرجَ مـن قـُمـْْقـُمـِهِ
طفلاً أو حسناءَ
أو تجشـّـأ شيخاً أو شبحاً
تهافتَ على بابـِهِ الغندورُ الضِلـِّـيلُ الموت
العدمُ الذي كـُـلـّـما تبوّلَ
عتـّـقــَـها (هاديس) في القبوِ الأزليّ
العدمُ الذي لا يفركُ كفيه
لأنّ الأنفاس تتطاير.
العدمُ الصـّـقيلُ
المـُـهيمـِنُ على سـِـرِّ الأشياء
الرُمـّـانة ُ وهي تلقط عينَ الدِّيكِ
حبـّـة ً إثرَ حبـّـة
السفينة ُ التي
يترنـّـحُ فيها البحرُ
النجمة ُ
المحطوطة ُ في طبق ِ الجائع ِ الأبديّ
العسلُ
الذي يـُصـْبـَـغُ بهِ المعمارُ المـُـندكّ.
ألعاب
يا ذرور الأشواق
اسّاقطي على صفحة وجهي
غائمة هي الروائح
فريد هو الزمان.
يا بذور السُّكْرِ
العبي كالفراشات
في حدقتيّ
المغمورتين بالفراغ الأبيض
بالنشوة الأمينة.
أصعدي بي إلى السماء
أيتها العذوبة
وأنا جالس لِصق نخلة
تفرط في حنانها للبحر.
قرد سكران
كلما أرجأتني المصائرُ يوماً آخر
قلتُ سأقنص غزالي هذا الفجر
سأقبض على الطير
حارّاً
مباركاً بالدَّيرِ القديم.
عندها
يطلع من جبيني قردٌ سكران
يقف في منتصف الطريق
فلا يعبُرُ أحد.
أجرّ خيوطاً كالتي
رطّبَتْها أمي العنكبوت بلسانها
أفلِتها في الريح
فينهار العالم
وتشرق الألعاب
موتوا أيها الأحبة.
معجزة
أفيض من الشِعر
الذي ليس لي
أرقص هنا
وروحي طاعنة
في الينبوع.
***
طالب المعمري
- من مواليد حفيت، عام 1962.
صدر له:
- منْ يأمن اليابسة، شعر، 1996.
- جبل شمس ـ حضور ماثل للغياب، شعر، 2005.
- القـِفارُ.. سرداً، نصوص سردية، 2006.
أطفو بكِ أو أغرق
أستعيدكِ
وأستعذبكِ
وهل لي غيركِ
أستعيد
أنتِ (بالنسبة لي)
الواحدة
الجمع
قلبكِ مرآتي
سرابي
حين تكون الصحراء
مليئة صحراء
والمدن قلبها
"ربع خالٍ"
ماذا لو كانت لنا
شمس لا نقطف
جحيمها بأيدينا
أن تذهب في دعوة
إلى الذين يحبونها
وتتركنا نبحث
عن دفئها
بين أرواح وأجساد
من نحبهم.
من لي سواكِ
أنتِ
قشتي
من الغرق (ومنهم)
هذا إن
نجوتُ
وإن لم
تذكّري
(أو انسي)
أني كنت
أطفو
بكِ
كلما غَرِقتُ.
فرق الأمكنة
ماذا، ستقول
والجمع حولك
هل، أنت وحيد
والجمع حولك
عبارتك، عبارتك
لا حول ولا قوة
أنا والجمع
خطان مستويان
لا يلتقيان
بأيّ أمر.
تلك مسافة
لولا
الدمعة الخائنة
يلتقيان.
كيف رمّمت الوقتَ
ويدُك مؤجلة
بالحنين
دُلّني.
لا بيدك
سيف وخنجر
قامتك وحيدة
تحت سماء متفرقة
وأرض يُعاد
ترتيبها.
أنت الضال (بهم)
بيدك طريق
إن حللت
ورحلت
يصطادك الغياب
كما تصطاد العزلة
كتاب.
لن نلتفت إلى الخلف
ماذا
لو تركنا
النهارات كلها
على السرير
نرقب ذبولها بصمت.
نهاراتنا
بين الضحى والضحية
كأن الأمر
لا يعنينا
بين العشية وضحاها.
نهاراتنا
تلك التي أعتدنا
أن نمرغها الوحل
تلك التي تمرغت
أوحالها
وليس أمامها
إلا السوق
والطريق
ومن فم الهواء
الشمس والغبار
أخذنا ما يطفيء
البطون
بقليل من المعنى
وإذ لم نجد
القواميس
القواميس
بثمن بخس
تملأ فمنا بالكلمات
سواء بالتي
تعلَّقنا بها
عُلِّقنا
وعُلِّقَتْ
المساميرُ نفسُها
البابُ والجدرانُ
الوزنُ نفسُهُ
النضدُ والرنين
حتى مع ذلك
لم يلتفت
الحائط إلينا
الذي استقامت عليه
والباب.
لن نصل بالكلمات
أعلى من ريش
عصفور
ولا أمل لنا
أكثر.
السماوات
حوض سباحة
لمن يعوم
ولا..
والأرض جافة وماكرة
لهذا
كلما أبصرنا ريشة
لطائر
تذكرنا النسر.
من قال
أن ثمة أملاً لغريق
من سيمنحه قشة
فليُنْجِ نفسَه
سنتركه يتشرّب
الغرق
بحقائق الماء
لأننا نعرف
أن ثمة طيناً
وناراً
رفقة أعداء.
لن نضيء
شمعة
حتى لا تكشف
سرنا الفراشات
لن نطلق آهة
أو زفرة
ليس هدفنا
أن نقول شيئاً
يعلق على الحيطان
أو
تقرأه بحرص شديد
العيون والمنابر
لن تدمع
عيوننا لوداع
تلويحة
منا ولغيرنا
سنمشي
بخطى المهزومين
ولن نلتفت
إلى الخلف.
أصابع
عالية هي الأصابع
كلما تسلقت
جداراً أو شجرة
رفعت كأساً
أو جثماناً
كلما رسمت
بالطباشير سحابة
بيضاء ناعمة
في
وجه السواد
كلما همت
بتلويحة وإشارة
عين المقص
على العشب
سواسية بالقطع.
عالية هي الأصابع
حين
تكتب الوعود
لتأخذنا إلى
جسر
بين أرضين
بأصابع اليمين
أم الشمال نسير
أي يدٍ
تلك التي نتبع
أصابعها
في العتم
عالية هي الأصابع
كلما قُلِمتْ
استطالت
كالظفر
كشوك الورد
عالية هي الأصابع
أصابعنا.
وداع
لا تفِ الكلماتُ
نطقـها
الشفاه دمعة وداع أزلية
كل وداعٍ
بصيرة بعد بصر
لو أنكم نظرتم
شمس قمته
وروح عصافيره العالية
لشممتم رائحة الطرق
أحذية مبللة
بالحنين
وداع برموشٍ
غير مغمضة
كل تلك المسافة
الضالة
التي تحدّرت من
"سيوح" الروح
مدن
دون أغصان
شجرة أسفارٍ
في حقيبة
كلما أتسع الكلام
ضاقت
الدماء في الشرايين
كل وداعٍ
تفاحة
بيد امرأة
كل قلب سكين
أي وداعٍ هذا
لقصيدة أكتملت
على مشرحة البياض
والقراءة
الوداع حتف
والقصيدة
الخنجرُ المسمومة
بكلمات الإكتمال.
مسقط
هكذا خلقتِ
وجهك أزرق بحري
نافذة للماء ونافذة للشمس
الجبالُ هـبة
وهَيْبَةٌ
بيتُ العقابِ
النسرِ الرماديِّ
وبناتِ آوى.
البروجُ عيونـُكِ العاليةُ
لإستدراج المدى
والقلاع بيت الكلام المباح
قامتك الجبلية
صنعة بركان
ويداك البازلتيتان
مشرب حساء أسماك وماء
للنوارس والطيور المهاجرة
بين وطنين
حين سقطت مرساة
عمّدوك اسما.
الطامحون مجداً والغزاة
وجدوك بيتاً منيعاً
فتلك التي سبقتك
ذهبت سنابك
وغبارا .
أنت صخرة النجاة والغرق
المدينة السرطان
ومداره
قناصل ومغامرون
سفحتهم شمسك
شربة صيفية
الطامعون إلى لؤلؤتك
غمت الدروب بهم
فتاهوا في لجة
ومساقط جبال.
سيوحك
تجففت فوق حصواتها
الدماء
وقرئت آيات
الرحيل والغياب
أمام بحرك والميناء
كلما أتسعت الأشرعة
يأتون رأسك
الرسمي والوظيفي
جواز سفر
للمهام والحاجة
مرسى العابرين
سوق للهجات واللغات
والبضائع
الجبل والبحر
الحلم وما وراءهما
الشراع الكبير
لريح الإتجاهات.
كل رأسٍ بكأس
أربعة كؤوس زجاجيةٍ
ذخيرةُ البيت
كلّ كأسٍ محبةٌ.
كؤوسٌ بقبضة الشفاه
كلما حانت
ذكرى
مع أن صفير العدم
يندلق من فمها
بإغراء
فكرنا ذات لحظةٍ
أن تكون
وطناً حميماً
بعيداً عن مرايا
الجنرالات
كنا نُبصرُ أشباحهم
المطرزة
بالأوسمة والنياشين
من
مسكنهم
في المخيّلة
كل رأسٍ
بكأس
كُلّ عينٍ
شجرةٌ
لهذا شحذنا حَناجِرنا
نشيداً لوطنٍ
يُضيء بالكلمات
بعيداً عن
فتنةِ الجنرال والوظيفة.
وحيث
أنه ليست لدينا
حيلةُ المحْتالِ
ظللّنا معلَّقين
على أرض الخسارات
والإنتظار
نُجدِّف في يابسةٍ
وبحارٍ
بحثاً عن
أقمار الفضيلة
التي
خيَّبْنا آمالهم
على الأعناق
قارعين
أجراس الوليمة
بأنّ
النجوم ليست
دليلَ الوصولِ
دوماً.
إليكِ
ليس لدي
ما أكتبه اليوم
لقد ضيعت كل شيء
هناك في برزخ الفراغ
المليء بالعقبان
حتى جرس القلب
الذي عتقه الإشتياق إليك
الآن
فارغ في شساعة الصحراء
والجوع الظاميء يلتهم لساني
في جمرة الوصول
إليك
أرى القرى التي
تكحلت عيوننا بنسماتها
يصغر قلبها
يصغر قلبها إلى درجة
أنني
أحتاج إلى ميتة صغيرة
كي أحظى بعشبة الإستذكار
البلوري لروحك
في تقلبها العميق
في بئر الماء
ورغم كل ذلك
أجد الوصول
شاقاً إليك
إلى درجة الغياب المزدهر
في وردة على الطريق.
عامر الرحبي
- من مواليد مطرح عام، 1967.
صدر له:
- سحب تمر ببطأ، شعر، دار الإنتشار العربي بيروت، 2001.
- قمرٌ يضيء النهار، دار شرقيات القاهرة، 2005.
امراة واحدة فقط
إلى رندا
عيناك هذه أم ملاك
سكن روحي
يبغي الخلاص
من عالم أكتنفته
في داخلي ورحلت
أبحث عنك
بين الزوايا والطرقات
ومدن ممزقة
تركتها ورائي
أفتش عن صورتك
بين الركام
لماذا أتيت مسرعة
نحوي لأضمكِ
رُبما
وأهربَ إلى عالم
كله جنون وعذابات.
حبيبتي أنت
خذي كل ما لدي
فأنا مجرد ورقة
خبأتها بين ضلوعي
فهل ستأتين لتودعيني
كسائر النساء
أم أنك ستظلين
تتلمسين الطريق
لتصلي إليَّ
في آخر المطاف ؟!.
بـَـوْح
أنا كما كنت
آخذ من الآخر
وأعبر في صمت
مجبر على المكوث
خلف الجنادر
المعتقة
والمصطبة تتحرك بي
دونما هوادة
هي النذر تتعقبني
وتأخذني إلى عوالم
ليس لها قرار
بيد واحدة
كنت أصطفق العمر
وأنزوي بعيداً
عن المارة
كما كنت
أحمل عروشاً
وتقاسيم لجلاد فتح بابي
ليريني بأن الضحية
ما زالت غافية.
حنـــــين
شيئا لم أكن أتصوره
أن أولد وفي رأسي
مطرقة
وورقة قديمة
كانت تدلني
على ممرات وأزقة
تبحث عن صورتي
ووجهي الذي بعته
بلا ذنب.
كان الطقس حاراً
حينما ودعت
نسمات الهواء
الملطخة بالدم
أهي كانت مفارقة
وحسب
أم أن البيوت لم تعد آمنة
كما عهدتها أول مرة ؟!.
خبايا الروح
في ليلنا المفعم بالخطايا
حملنا أشياءنا
وأرتحلنا
إلى عالم المهزومين
كل منا يحتضر
يتباكى على خسارته
وأحلامه
حبه المدفون
في خبايا الروح
ننادي على الغائبين
وننتظر بولع
مجيء العواصف
وهي تأخذ أرواحنا
إلى عوالم مجهولة
لم يلمسها الغبار بعد
نتمسك بخيط واحد
ينجينا من عذاباتنا
دون أن نكترث للموت
الغائبون نحن فقط
من ندع
البرق يفلت منا
رغم حساباتنا
التي سبقت
عبورنا نحو المضيق
منسيين وضائعين
بمنجاة ليس لها آخر.
هل هذا العالم
سوى غلطة
أرتكبناها
لنحاول اللحاق
بحتفنا المنزوع
خارج هذا السرب
بآلامنا المتراكمة
هنا وهناك
بخوفنا
الذي نزعناه
من صدورنا
بعالم أتى إلينا عنوة
هكذا تركنا كل شيء
وأنصرفنا إلى مصيرنا
المُحَدِّق بنا.
صفر اليدين
ماذا لو نظرتُ إليك
صفر اليدين
مٌعلْق على باب
من الطين
سر الوجود
هذا ما تَّبقى
مسافات طوال
داخلة في رأسي
وفي رأسي آلافُ
الخطايا
مُذنب أنا بقهر الليالي
التي دستها مقابرُ العُمْرِ
هكذا يظْلَ النسَّيان
مرآة الَطْقَوس
زمن يمرُ بهدوء
طرقات ملأى بالسكارى
بالمقتولين
وهم خلف الباب
ماذا لو نظرتُ إليك
أتحسبني بحاراً قديماً
مسافراً خلف البواخر
خلف الأبواب المشتعلة
حنينا وحباً
أنا من ترك البارحة
وعاد على صهوة جواده
راحلاً يبحث
عن مفاتيح للكلمات.
عيد ميلاد
نشتهي أن نروح
ونغدو
كالعصافير
كالروح
كزنبق
يرقص في الماء
كعصفورة
تطير لتهبط في مدرجاتها
بسلام
أو كمائدة مليئة بالضيوف
أعتادوا
على السهرة
في صمت.
صراحة
لم يكن هناك حـُرّاسٌ
أمام بيتي
كانت هـُناك
شواهد حركات
تنبيء بالصاعقة
الكارثة قرأتها
قبل أن تحدث
لم يجدوا
هذه الليلة
سوى الغابة
التي دخلوا فيها
وأختفوا.
فعل ناقص
ليلنا الذي
ذوبناه يوماً
بخاصرتنا
ها هو الآن
يصبّ لنا الملح
نرشـّه فيفضحنا
ذلك الصباح
لأنه أناني
ويحب أن يكون
وحيداً
مثل امرأة قرّرت
في اللحظةِ
الأخيرة
أن تتنحى
عن المـُلك.
مغمض العينين
لماذا أعود إليك
أيها الصمت
في هذه الليلة الباردة
ذنوباً تلاحقني
فأدخل في الظلام
أنا من سولت
له نفسه
أن يبقى وحيداً
خلف القضبان
بين لحظة وأُخرى
أصرخ
حلقي مر
وحذائي مزقه الطوفان
أين أولئك النائمون
أما زالوا يحلمون
بفم وملعقة
من ذهب
أين هي الخطوات
التي وهبتها ذات مساء
للعائدين
إلى بيوتهم
وهو يتلصصون
من خلف النوافذ
نظرات واحدة
تكفي
لحمل هذا العالم
الذي قذفني
ذات يوم
إلى الجحيم
لأبني كوخاً
دونما حركة
أُوَلِّي هربا
واقفاً على رجلي
أتناول حبة منوم
وأنام بهدوء
لأتجرع مرارتي
وأنتشل جُرحي
مغمض العينين.
***
عبد الله البلوشي
- من مواليد قريـّات، عام 1967.
صدر له:
- برزخ العـُزلة، شعر، 1994.
- فصول الأبدية، شعر، 1996.
- معبر الدّمع، شعر،2007.
حواصل الطير
1
على يدي أحمل الطير
على كتفي أحمل التابوت
متعب جسدي
ومتعبة هذه الروح
حين يضمها الليل
كحوصلة نورس
يبحث عن عتمة مجهول.
2
المناحة
معبر
إلى الدمع
ولا شيء.
3
أربع جماجم
تتحلق حول جسدي
دفنتُها ذات ليل
فوق كثبان
تعانق أشجار البحر
تلك هي طفولتي
لها أن تـُنـْبـِتَ
في الظل أزهاراً
برائحة المياه
لها زمن آخر
يولد في صمت.
4
في السماء
تنشد الروح
مرثية القديسين
أرض الجسد دائماً
لا تقبل الصمت
ولأنني
يتيم يلفظني الفناء
سأنتزع الحراب
المنغرسة في دمي
وعلى رفة جناح
أغادر العالم.
قلهات قمر ونهر
1
حَلـَّقَ في فضائك طائرٌ مهيب
يجر خلفه قرابين العطايا
لِيَحُفـَّكِ الليل
أنت ترنيمة الصحراء.
2
لقد أبصرتُهُنّ
مثلما يبصر النائم
أمهاتٍ وحيداتٍ
على هيئة حلقة تشبه شعاع قمر مكسور
يهتفن للراحلين
حيث هم أرواحٌ تهيم في الغياب الأبدي
هناك
حيث للكائن دمعته الزاهية.
3
لقد آلمتني نظرة الكائنات
ودمعة في طرفِ راكعِ خفيٍّ
تحت القبة المتعاظمة للشمس
أو في الدائرة المعتمة لقمر شفيف
حين كان يظهر في سمائك القدسي
أو حين ظهر في الأبدية بعيداً
على هيئة زهرة يتيمة بجوار معبد سماوي
هو نديم البحر.
4
وحيداً
واجهتـْني بصمتها العميق
لقد أيقنتُ أن ثمة سماءً لا تُحَدُّ
وأن القـُبّرَة التي أودعتـْني مضغة من عظامها
أضحت شعاعاً
يسطع في غياهب الليل.
5
هناك
حيث الأزمنة المتوارية في العدم
حيث تتهافت في أضلعي الكلمات
والموت كائن يسكنني
إذ أبصرتـُـني ملقىً بين أحضان وادٍ سحيق
بينما يُمَسِّدُ طائرٌ كسيرٌ على جسدي.
6
تحت ظل الشمس
فتحتُ قلبي قبالة شعاع ضئيل
كانت تجاورني الأنهار
ملتوية
كأثر طائر خرافي.
فتحتُ قلبي أمام الريح
قلتُ حدثني عن الموت
عن الراحلين بعيون مضيئة
ومنصوبة نحو القبة السماوية الأقرب
حدثني عن انحناءة أمٍّ على طفلها المنسيِّ
حين يطفيءُ الليلُ قناديله المنسابة على الجدران
حدثني عن شجرة وحيدة سكنت في حدقتي
حدثني عن مجرة كيف هوت عند أقدام البحر
عن البيوت التي تعانق صفحة السماء
عن أسنان ساكنيها اللامعة بالمحبة
هكذا لكل شي عُلُوٌّ وسماءٌ
وسماؤكِ أنت السماءُ
فليبقَ مصباحُكِ مضيئاً كما كان
حين عبر الراحلون
في نهرِكِ الكونيِّ
هم الذين لم يلتفتوا إلا لقمرك اللامع
لأجل ذلك نصبتُ دمعتي لتهجع في زرقة الينابيع.
7
نمسح عن أحجارك الساطعة
دمعة الأمهات
حين تتجلى
على هيكل حجري يشي
بأمومته للكون.
هكذا أنتِ
الحانيةُ على طفلٍ بهيٍّ
تعانقُ ضحكته جذور زهرة يتيمة
هكذا أنتِ
مباركة بقـُبَلِ الواقفين
عند أعتابك الكبرى
تلك التي تخاطبُ بصمتها العميق
هسهسة ملاك عابر
هكذا أنت
ملاذُ العابرين إلى أفق حميم
هكذا أنت
ضجة العابد حين
يغتنم الخلاصَ بجوار نهر صغير
لتحفظـْكِ السماءُ في قلبها الواسع.
الغيمُ في جبل الزعتر
الغيمة الأولى
وحدي على عتبة الباب
أبعثُ للأسماءِ تذكاراتها
لمْ يزلْ صوتُ دمي ملاذَكِ أيـّها العابر
عندما مـَنـَحـْتَ جسدي مقداراً مـِنَ الخوف
وفي الليل
حين تغرق الكائناتُ مع نـُدَمائـِها
أخرُجُ إلى العراءِ المـُطلق
حيث الشجرةُ المـُحْنـِيـّةُ على جسدِها
ساكنة ً
كوجهِ أمـِّي
ذلكَ الصمتُ المنتشي أعلى المقبرة.
الغيمة الثانية
في المساء
تحت أشجارٍ تجتثـّها الرّيح
تبعثـُني الموجةُ وحيداً
إذ يخرُجُ مـِنْ هـُناك وجهُ الشمس
منسكباً على سـُلـّم الكون.
الغيمة الثالثة
بخيوطِ ذهبِ الرّوح كانوا ينسجون الحـُبّ
شرايينـُهم ترانيمُ السـّماوات
أياديهم أعمقُ من ندى العتمة
أولئك هم شمسي وقمري.
الغيمة الرابعة
أحلـِّقُ في سمائكِ الأولى
شوكة تنهشُ قلبي العاثرَ
أندُبُ في الفـَناءِ جسدَ الليل
الشجرة تورقُ هناك
بعيدة عن بصري
وعن يدي المبللةِ بنداوة الفجر
أحمـِني أيـّها الليل
أذكـُريني يا خرائبَ أحبـّتي.
الجبل
1
يـُوَشـِّحـُكِ في المساء بياضٌ سماويّ
وفي الليل
أغنياتُ رُعاةٍ تـُظـَلـِّلـُهـُمْ كآبة الكون
بينما أناجيكَ أنا باللغةِ الجارحة للروح
ومـِنْ هـُناك
مـِنَ القمةِ المجللةِ بعرشِ النـّسرِ
ورائحةِ المنسيين
اتأمـّلُ غيمة الظهرِ سابحة
في عـُلـُوِّكِ المـُثقل
كبحـّارٍ احتضنته أذرعُ الشمس.
2
"لائذاً بنظراتي" قـُبالة وجهـِكَ
المنسيّ بين الشجيراتِ وقـُبـّةِ البحر
أتأمـّلُ وِديانـَكِ الصافية مرتعَ الرِّيح
وثـُكنة عصافيرها العذراء.
رداؤكَ لمْ يزلْ جـِلباباً لي
عند الظهيرةِ حيث قسوةُ الوَجـْدِ
تمتليءُ في عميمِ الرّوح
الرّوحُ بياضُ وجهِكَ السـّماويّ.
3
لقد هاجر الرّعيانُ
ورحلتْ سلالهم المملوءة بأعشابِكَ البهيجة
بينما عـُروق فرحـِكَ لمْ تزلْ بعدُ
ساكنة
في المستقرِّ الأبديِّ لهذه الروح.
أتذكـّرُ أعراسَ المساء
وصورة الخلقِ العابثين بصمتِكِ المقدّس
أتذكـّرُ
صورة القمر الأبهى
إذ يـُطـِلُّ من قممكَ العاليةِ كملاكِ الليل
وإذ يـُهدهدني النومُ كطفل يتيم
تأخذني من هناك نجمة صغيرة
لتودِعني قلبـَها اللامعَ
وظـِلـّـَكَ
والسـّماء.
***
عبد الله حبيب
- من مواليد مجز الصغرى، عام 1964.
صدرت له:
- ليلميات، شعر، دار الجديد بيروت، 1994. فراق بعده حـُتوف، شعر وقصة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عـَمـّان 2004
- قشة البحر، قصص، 1994.
- صورة معلقة على الليل، محاولات في السينما والشعر والسرد، المجمع الثقافي أبوظبي، 1993.
- ملاحظات في السينماتوغرافيا، ترجمة، المؤسسة العامة للسينما، دمشق 1998.
الجمعة
20/9/1991
سان دييغو
تَتَفَدَّح السماء بالماء
تهطل الجبال على البحيرات
فترتطم الشمس بأعمدة الفضاء
وتنبت على جلدي أعشاب الموت
تلفظ الأسماك أمواجاً صدئة
بينما تهاجر الطيور البيضاء إلى غابات الجنوب
هناك يختبىء صيادو المواسم في أعشاشٍ من سُحُب
يطلقون الرصاص وترانيم الأبدية.
هذا ما باحت به أمطار الظهيرة
وهي تلفظ الروح إلى ورقتي.
الخميس
3/10/1991
سان دييغو
أيَّة سفينة ستهرِّب البحر إلى قلبي
حين تودِّع قريتها العاصفة
أية مناديل ستعطيني الدموع
عندما يقضي النسيان نحبه
وتترمَّل الذاكرة
جزيرةً جزيرةً يُريق مجاذيفَهُ دمي
فأيَّة خفقة ستومض للفنار
وأيُّ تيه ستسلك البوصلة
الموج توأم الموت
الموت صِنْوُ اليتم
والأشرعة وصايا الغرقى
تلفظهم صدورهم إلى صدري
ففي أي من رئتيَّ ستتنادم البروق
وما دام الليل في أوَّله سأسأل:
هل هذه المرة أيضاً
أتدبر أمري حتى الصباح
برئة واحدة ؟.
الأربعاء
23/10/1991
سان دييغو
كأعرج يحمل قرية على رأسه
أتقدَّم إلى الليل
أطوِّحُ بالولع الذي جمعتُه من رحلتي حول العالم
على أوّل شارع
وعلى هُدى الأحياء التي تحترق
أحبو مثل البكاء نحو قدميك
قدميك الصغيرتين اللتين اقتفتا أثر عيوني
فأهتدتا إلى عظامي
لترتقيا بها ألسنة الكارثة.
السبت
2/11/1991
سان دييغو
لن أُحِبَّكِ الليلة
فالأقمار كفَّت عن المساء
وألتجأت إلى ركبتيكِ
ولأني بعد كل ليلة
أكتشف مجدداً فقدان بعض أحشائي على سجادتك
وأن ما تبقى منها الليلة
بالكاد يكفي لإشعال فانوسي الصغير
حين أغادر عينيك إلى العالم.
الأحد
3/11/1991
سان دييغو
َجُلٌ وامرأة
أقتعدا زاويتين متقابلتين في حانة المحطَّة
خَلَعَ كل منهما معطفه المبلل بالإنتظار
أحتسيا قليلاً من المخاوف
وتلصَّصا منفردين على عري الوقت على الحائط
كذلك تبادلا ابتسامة المساء
ونظرات قصيرة أثناء قراءة صحيفة اليوم
امرأة ورَجُلٌ
كيف يتَّسع لهما الكلام
حين يُطْلِقُ القطار صيحته ؟.
السبت
9/11/1991
سان دييغو
إذ أعودُ مُضَرَّجَاً بالحنان القديم
وبسيطاً كالذي ما كان
لا تدفنوا قلبي
أتركوه ريحاً تخفق على قبري
وتضيء الغياب.
الجمعة
22/11/1991
سان دييغو
هذا المساء أيضاً
وقد فاض البحر بلؤلؤتها
وفي عينيها دَفَنَ الوقت السُّحب
هذا المساء
وقد أغرقت الصحراء رمالها في النجوم
ونبتت في الهواء الحرائق
سيرحل الليل إلى قبرها
إلى غفوتها النرجسيَّة
تاركاَ ظِلَّهُ للمدينة
حيث صدى خطواتها دليل الطرقات.
الخميس
4/2/1993
مسقط
الطَّلقة التي تبحث عن الكلب الضَّال
تسمع النُّباح
وتهلع.
الأحد
14/3/1993
مسقط
الفَقْدٌ بابٌ عتيقٌ
يَطْرُقُه القلب
وليس ينخلع.
الخميس
7/10/1993
العين
عباءتكِ
عباءتكِ التي تَنْشُجُ فيها البرازخ
عباءتكِ المنسوجة من شرايين الكواكب
عباءتكِ التي تَعبُّ بصيرة الأفلاك
وعُرْي النيازك
عباءتكِ التي تفترش المجرَّات
ويلتحف بها القمر إذ يقابل الليل خلسةً
عباءتكِ تلك
يَتَرَمَّشُ بها النهار
وتضيء الحِداد
الحِداد يضيء.
طَرْقٌ
تَاكْ تَاكْ تَاكْ تَاكْ
تَاكْ تَاكْ تَاكْ تَاكْ
تَاكْ تَاكْ تَاكْ تَاكْ
تَاكْ تَاكْ تَاكْ
تـَ
ا
كْ.
ظهيرة
قَدَمُكِ التي وطأتْ عنقودَ العنب
عند قائمةِ الحنين.
الظِّلُّ أحرق المخدَّة
وأنتِ تقضمين كفِّي.
حين السَّرْمَدُ يسيل على نهديكِ
وردفيكِ.
دَمْعَةُ الأرضِ ألتصقتْ بِسُرَّتِكِ
والحمامةُ أطلقتْ ريشَها على الفضاء.
السِّتارةُ
تتهاوى
في
الغيوم
إذ
تغرزين
أَظَافِرَكِ
في
الغيبوبة.
خُصْلاتُكِ الرَّاعِشَاتُ على نَحْرِ الزَّمن
يُشْعِلْنَهُ
وتلمع النَّجْمَةُ السَّوداءُ في السَّديم.
ما الجَسَدُ إلا ملاكُ الرُّوح
حين نعانا الحَتْفُ
في شهقاتِ السَّرير.
الوردُ والنَّبيذُ والقتلى في الجَبَلِ
يَهِمُّون.
أزل
سيمضي العمر
لوعةً إِثْرَ حسرة.
لن يبقى سوى الرِّيح
تُلاحِقُ منديلَكِ
ورائحتَكِ الليليَّة.
لن يبقى سوى "الشريشة" المُوْرِقَةِ بالدُّموع
عند مَدْخَلِ البيت
وَظِلِّ كَفِّكِ على الفصول
فوق غمامة
تمسح الطَّريق
منذ
الأزل.
رَمَادُ الحُبّ
رَمَادُ الحُبِّ ما الذي يطفئه ؟.
بُعَيْدَ القيامة
وَحْدَهَا
ما تبقَّى من العالم
تَرِكَةُ الأزمان
وإرثُ الدينونة.
وَحْدَهَا
يُدَحْرِجُهَا هواءٌ يغلي
على الأرضِ المحروقة
مثل عَصْفَةٍ هَوَتْ
من فم إسرافيل
وهو يَهِمُّ بنفخِ الصُّوْر.
قديمةٌ لم تَبْرُدْ
بنسيجِها الأبيضِ
الأزرقِ
الرماديِّ
الأسودِ
الأحمرِ
ونشيجٍ آخرَ.
الملاءةُ التي ضَمَّتْنَا
ليلةَ الفِرَاقِ
في
الدُّنيا
التي
كانت.
ليلةٌ أخرى
العَالَمُ مهجورٌ
مهجورٌ العَالَمُ
مثل مِدْفَأَةٍ معطوبة
على حَافَّةِ الشِّتاء.
حُجْرَتي الرَّاسِيَةُ في القيامة
إِذْ تَرَقْرَقَتِ الوِسَادَةُ بالحنين
وَتَرَنَّحَتْ نَجْمَةٌ
في
البلاد
البعيدة.
نجوم
ستطلع الشَّمْسُ على المدينة
وأنا لا أزال أجمع النُّجوم
من الشَّارع
وأخبِّئها في جيوبِ معطفي
كي لا تدهسها السَّيَّارات
يحدث هذا
لأنَّ المرأةَ الأكثرَ شجناً من القطارات
في أفلامِ يازاجيرو أوزو
المرأةَ التي سأبكيها حتَّى ما قبل طُلُوْعِ المجرَّات
وما بعد النشور.
ركضتْ
على رصيفِ الشَّارِعِ ذاتِه
تَحْتَ اللَّيل
بلا
مِظَلَّة
قبل
سنوات.
صوت
صَوْتُكِ البعيد
عُشْبٌ على جَرَسِ الكنيسة
إِذْ أَطلَّتِ الصَّلاةُ على الجليد
وَحَبْلِ الحطَّاب
وهو يَتَقَدَّمُ بفأسِه نحو المدينة ذات فجر.
لَثْغَةُ السَّديم
يومَ غفوتِ
وَتَدَلَّتِ الكلماتُ في الظلّ.
و
م
ا
ن
س
ي
تُ
صَوْتُكِ
ا
ل
ب
ع
ي
د.
مَشْهَدٌ مِنْ لَيْلَةٍ صيفيَّة
طيورٌ مضيئةٌ
تَعْبُرُ لَيْلَ المدينة.
شَجْرَاءُ سوداء
تَزْدَادُ ألواناً في العتمة.
فراشاتٌ تُدَخِّنُ ما تَبَقَّى من لفافتي
ثُمَّ تَقْفِزُ إلى قُعْرِ كَأْسِ الجُعَةِ الفاترة
كي تموت.
سَمَاءٌ مُفَكَّكَةُ البراغي
تَحْمِلُهَا عَرَبَاتُ قِطَارِ بَضَائِعَ
يُرْعِدُ خَلْفَ الطَّريقِ السَّريعة
كُلَّ لَيْلَةٍ في مِثْلِ هذا الوقت.
وَقَلْبٌ يَخْفُقُ
مِثْلُ أَسِرَّةِ أندريه تاركوفسكي
وهي
إلى
الأعلى
تصعد.
مشابك
مَشَابِكُ شَعْرِكِ السَّوْدَاءُ، التي كُنْتِ تُخَصِّلينَ بها السَّمَاوَاتِ، أَعْثُرُ عليها، تائهةً مختبئةً في سنتيمترات مِنَ الحنين، في جَرَّارَاتِ المَطْبَخِ وَالحَمَّامِ وَخِزَانَةِ الثِّيَابِ (أحياناً، في الثِّيَابِ نَفْسِهَا)، في أُصَصِ النَّبَاتَاتِ التي مَاتَتْ وَتَخَلَّصَتُ منها أمس أو في الغُبَارِ المُتَرَاكِمِ تَحْتَ طَقْمِ الجلوسِ حين نَظَّفْتُ الشقَّةَ اليوم، وفي صندوقِ الأشرطةِ في السَّيَّارَةِ (والتي لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَسْتَمِعَ إلى أَيٍّ منها مُذْ رحيلِك ـ لا فيروز، ولا عبَّادي الجوهر، ولا سوزانا مكوركيل، ولا سواهم).. مَشَابِكُ شَعْرِكِ السَّوْدَاءُ أَعْثُرُ عليها في شيءٍ مِنْ جيوبِ حَقِيْبَةِ الملابسِ التي كَنَزْنَا فيها المُدُنَ والمَطَارَاتِ، أو بين صفحتين في كتابٍ تَرَكْتِهِ على الرُّفوفِ التي أَفْسَدَتْ حَيَاتَنَا، في وَشْوَشَةِ الزَّوايَا وَذَاكِرَةِ الشَّرَاشِفِ، حين تُبْطِىء الأرضُ دَوَرَانَهَا، وحين تُمَسِّدُ أَنَامِلُ الفَجْرِ رِدْفَي عَذْرَاءَ أَرِقَةٍ، أو حين أُغْمِضُ عينيَّ فأراكِ تَرْقُصِيْنَ وَالفَرَاشَاتُ تَهْطُلُ مِنْ خَاصِرَةِ الأرضِ، وفي المَعَادِنِ إِذْ تُمَشِّطِيْنَ اليَنَابِيْعَ، وحين أَلْقَتِ الهيلوكپتراتُ بالأسرى مُقَيَّدِيْنَ إلى البَحْرِ، وَأَضَاءَت الأصْدَافُ اللَّيْلَ، أو إِذْ يَنْتَحِبُ البَشَرُ وَالنَّخْلُ وَالتَّمَاثيلُ والمخطوطاتُ في العراق، قِطَطَاً في شِتَاءٍ بلا حَطَبٍ وَحُبٍّ وَحَسَاءٍ وَحَانَاتٍ، قَطَرَاتِ مَطَرٍ على حَافَّةِ تابوتِ الطَّيْرِ، أو نجوماً في عدم.
مَشَابِكُ شَعْرِكِ السَّوْدَاءُ، تَائِهَةٌ، أَعْثُرُ عليها حين أَبْحَثُ عَمَّا رُبَّمَا يكون قَدْ تَبَقَّى منِّي، مُصَادَفَةً.
الصُّورةُ الأخيرة
هُوَ "سيلولويد" الذَّاكِرَةِ، أنتِ وَاقِفَةً هُنَاكَ، يَدُكِ اليُسْرَى، شِبْهُ مُغْلَقَةٍ في قَبْضَةٍ رَخْوَةٍ، تَحْتَ ذَقْنِكِ، تُسْنِدُ رَأْسَكِ المُتْعَبِ بِالقَارَّاتِ وَالدُّموعِ وَالنُّصوصِ وَالأقْمَارِ بينما أنْبَثَقَتْ خصيلةٌ مِنْ ضوءٍ (كَانَ قَوْسُ قُزَحٍ، الذي كثيراً ما يَظْهَرُ في هذه المدينةِ، حَنَّاهَا قَبْلَ سَاعَات)، وَقَدْ غَطَّى النُّوْرُ مُنْتَصَفَ عَيْنِكِ اليُمْنَى قَبْلَ أَنْ يَلْتَفَّ على أَسْفَلِ الأنفِ، واصلاً إلى الرُّسْغِ، حيث زُنَّارُ سَاعَتِكِ، وَعَبْرَ عَيْنَيْكِ المَغْنَاطيسيَّتين يَغِيْبُ الدَّغْلُ الدَّاكِنُ في نَظْرَتِكِ القديمةِ نحو اللاشيء.
وَجْهُكِ يضيء الوَجَلَ بُعَيْدَ قليلٍ مِنْ مَطَرٍ رَشَّ غروباً ضَبَابيَّاً، وَالسَّفينةُ البيضاءُ تُشْعِلُ أضواءها، في القشعريرةِ، وتبدأ في مُغَادَرَةِ المرفأ في العتمة. أتذكرين:
السَّفينةَ البيضاءَ التي تَوَجَّسْتِ منها كثيراً، وَكَانَتْ حديثَنا في بَقِيَّةِ اللَّيل.
وحيداً أعودُ، بَعْدَ عَامٍ، إلى "دنيدن" التي تَتَسَاقَطُ الثُّلوجُ على هِضَابِهَا في يوليو وأغسطس، فَأَهْرَعُ إلى المرفأ، وأرى السَّفينةَ البيضاءَ ذَاتَهَا وَأَسْمَعُ صَافِرَتِهَا الوَدَاعِيَّةِ ـ أفْتَرَقْنَا، وَغَابَ إدوارد سعيد، وَلَمْ تَزْدَدْ محفوظة ولطيفة، وزاهر وسعود إلا حَتْفَاً، وقضى كثيرون نَحْبَهُم في فلسطينَ وَالعِرَاقِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ هذا الكَوْكَبِ الجائر.
لَكِنِّي، قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَ صَافِرَةَ السَّفينةِ البيضاءَ في قِيَامَةٍ أخرى، هَرَعْتُ إلى حَانَةِ "يوريكا" التي وعدني سُقَاتُهَا الطَّيبون، في العَامِ الفائتِ، أَنْ يحجزوا لي المِنْضَدَةَ الأثيرةَ في الزَّاويةِ حين أعودُ إلى المدينةِ في هذا العام.
كَانَتْ الحَانَةُ مُقْفَلَةً، ولا أَحَدَ في اللَّيل، لَكِنِّي أَلْصَقْتُ وجهي بِجِدَارِهَا الزُّجَاجِيِّ الذي تكسوه طَبَقَةٌ مِنَ الصَّقيعِ، وَعَبْرَ الضَّوْءِ الشَّحيحِ القَادِمِ مِنَ الدِّنَانِ رَأَيْتُ مِنْضَدَتِي الصَّغيرةِ مَهْجُوْرَةً وَمُهَشَّمَةً في الغبار، تبكي "مِنْ ذكرى حبيبٍ ومنزلِ، بِسَقْطِ اللِّوى، "بين الدَّخولِ فحومل
***
عبدالله الريامي
- من مواليد القاهرة، عام 1965.
صدر له:
- فرْق الهواء، شعر، 1992.
- حُراً كالخطأ، شعر، نشر إلكتروني، 1998.
- غرام، شعر، نشر إلكتروني، 1999.
عبور
العاصفة التي لا تصادف في طريقها شيئاً
تنفق
والجمل القصيرة
أجمل وسيلة لعبور المحيطات.
حياة
أتـأرجحُ لأن قدميّ ريحٌ
وأمشي حافياً
لأنني صيّـاد غاباتٍ
الشِّعـرُ حياةُ الوحوش.
حطَّــاب
بِـتُّ أحتـطبُ الليالي
حتى أنه لم تبق شجرةٌ ببـابي
صباحاتي إن استوتْ
سـكّينٌ
إن تقوّسـتْ
منجلٌ
مع هذا لم يشهرني أحدٌ
ولن تحصدني ريح.
رجـاءً لا تَلِـدي
لم يكن بالحسبان
يوم مولدي
والنهدُ الذي أرضعني
جـرّة نسيانٍ
أراقها الغُـزاة.
أرتمـي على ظلِّـي
أفديه من عجلات القطـار
أسـتدير أمام الحِـراب
كتـروس أجدادي.
أتنـزَّه على القِـمم
حـافٍ على ساحل
الجبـال بحاري
والمغـاراتُ محـاراتي
وأيامي.
الآن كل شجرة تخفي
تحت لحائها حائطاً
ما أن ألمس شجرةً
حتى أصبح
فجأةً في أمـلاك الآخـرين
وإذا جلستُ على صخرة
ينمو جناحان وتـطير.
أين أذهبُ
أين أترنحُ
أنا المعلق مثل ظفيرةٍ
تقسمُ ظهر حبيبتي.
إلى أين
وخلفي الإلهُ على المآذن
كالسوط على كفل الفرس.
لم يكن بالحسبـان
يوم مولدي
والنهر الذي حملني
دفنوه أرضاً تتثائبُ
كأنها الأبديةُ
أجْـريها بلا أجنحة
مثل مـاء
إن تبخرتُ أطير
إن انحـدرتُ من شاهقٍ
وتكسرتُ
صفوتُ
كلما داعبتُ اليابسة
أنتفخ بطـنُـها
رجاءً لا تلدي هذه المرّةَ
عُمـانياً
يسـألني
كم عاماً دام هذا القرن
ويدعوني إلى أعياده
أشربُ الطاعة في فنجان
وفوقي
منـطادٌ
علامة تعجبٍ
تـملأ الســمـاء.
سرطان
حيوانٌ ضال
مصاب بالماء
تحركني حصاةٌ تسقط
في أحضاني
أنا السرطان
أمشي على قدمين
غريقاً يقرأ وصيته في القاع
وزناً ثقيلا في حلَبة خفيفة .
ذكرتُ الشجر والبرْدَ والآتي
أحمرّت المرآة
السرطان في قلب العالم إذن
ذكرتُ الصحف والمقاهي وسيارات الإسعاف
فبدوت كمن يأكل قشر التفاحة
ويرمي روحها لنمل الغابة.
قطفتُ ثماري من جذور الهواء
أسودّت في رئتي
التفتُ فغيّرتْ جلدها الأفكارُ
وفكرتُ ماذا سيحصد العمانيون
إذا أندلقت أحشائي
وأنا بين جبلين
غمامةٌ تحفر نهراً
وإذا كنتُ أسّاقطُ
ذرةً ذرةً
كتراب المنحدر
فأي لعبةٍ ستبقى
وفكرتُ في القصد أمامي
يعترض خيالي
فأسعفني جرّاح أسمر
نقل قلبَ عدّاء منسي
إلى جذع شجرة
وإذا كنت جذع شجرة
فأين الظل
ولماذا لم يسترح بقربي أحد
لولا الخريطة المعقوفة خنجراً
في خصر شعبي
لما نمت واقفاً أخاصِرُ ساعات الفجر
على أقواس المُدن
وحتى لو لم تكن هناك
سماء ونجوم
فالليلُ غمد
لمن كان مثلي نهاراً يقطر دماً.
أنا السرطان
حيوانٌ ضالّ
ما بقيت هناك أوطان.
فكرة السفينة
لن يحتاج خزانُ الفصول
قطرةً مبللة
فلا تعودي بجسدي من شتائك
لا تعودي بالماضي حارساً
فلن يتكحل غيري بظلالك
في مرآة ذراعيك
حبيبتي
الحليبُ قَـوّادُ الحياة الأول
فلا تحرقي نملةً تضيء لك
رائحة الإنسان
الدرسُ أول من ينام
والمساء آخر من يعلّقُ منشفته
على شجرة
حبيبتي لم يكن الشِّعرُ خراباً
لأنك تجلسين
تحت الأنقاض
تمُدين لي نَفَساً
أشعل به أعواداً لأحرق
بيوت من لم يروكِ
سيذهب الجميع إلى الموت
في سيارة إسعاف
دون زرٍّ واحد من خصرك
سيسقطون من جسر رأسي
سُكارى كشاحنات ثقيلة
حبيبتي لم أر من قبلُ
ضمادةً تلحسُ جرحين
ولا كلمةً تتدلى من آخرها
مرساة
رأيتُ كل ما تكتبينه
تزوره الغابات
ورقةً ورقة
وكل مصباح في الأنفاق
عَمّر لأجل أن يلمحك
ذات قطار
رأيت السهر
أرجوحة شلال مقلوب
تحت جفنيكِ
يا للسهر أطاعك
فازرقّ
أطاعك لأن ما من أعمى
يلوحُ بعد كل لقاء
ظاناً أنك تغادرين
حبيبتي
لن ترسلينني على كتفيك
لأقلِّب دفاتر ظَهرك
فأنا ببساطة لن أُسمم حياتي
بين ضفتين
كنهر في الجغرافيا
لم يكن هناك شراعٌ
قبل أن يسمع الهواءُ
رَفَرفةَ عُنقك
لم يكن غيركِ
نجوتِ على ألواح ظهري
فابتدأتْ فكرة السفينة
سأمسك بين أسناني دبوساً
حتى لا
تشربَ عصابةُ دمي
من دم شفتيكِ
حبيبتي كنتُ أحسب أني
أعتِّقُ دمي
لكن السماء تفوح من ركبتيك
كالشمس أنتِ
لا تكبرين ولا تكتملين
فقط تَطلعين.
فِراشُنا القديم
أنتظركِ في ظلِّ أبيض
مضـاء بكبريت أعواد الشجرة
التـحتـها افترقنا
حين تأتين
ينبتُ الماءُ في عروقي
كما السحاب من البحر
وأسير بين فخذيكِ مُترنحاً
نحو ضمادة جرحي النازف دائماً
فراشُـنا الرملُ ساكنُ الأعماق القديم
غير مُحدد كإشـاعة
معاً على هذا الحرير
تملأ الرغبةُ أصواتنا طيوراً
كما تملأ اللياليَ صداقةٌ جديدة
أنتِ وأنا حوارُ ساعةٍ متأخرة
تحت ثدي الأفق
في حانةٍ بحرية
نرضعُ الإنتظار
نأتي إلى هذا الشاطئ
لنعلّـمَ الفـجرَ الوقوف على قدم واحدة
ونذهبَ إلى الغابة
لنحتطبَ أشجار الإحتمال
الحجرُ يلد الحجر
وأنا دائماً أنتظركِ
خلف لا شيء
يوقف كُرة الأرض
المتدحرجة من جبل الكون.
قبرٌ مفتوح
الإنتظارُ مِقعَدٌ بلا ظهْر
الطعناتُ طيّعة
كإبزيم حِزَام
الرسائلُ بُرج حَمام
كتابةٌ بالأسود عن كل الألوان
اعتذارٌ بنبيذ العروق عن القتلة
احمرارٌ في رماد الإخضرار
عناقيدُ في ميزان
أَشُمُّ النخيلَ حريقاً مطفأً
أرى
أسمع
أصمت
أنتظر
أخجلُ مثل ريْحان على قبر.
خراطيم مقطوعة
الجفافُ أنيابُ أفيالٍ
أنتزِعت توّاً
الضباب المعصور فودكا
في كأس مثقوبة
مجدٌ لا تنقصه الثرثرة
الخيبةُ لا أحد يُثير الغضب
الأسرى في الحرب والذكريات
يؤرجحون سيقانهم
يضمّدون الدوائر
بقطن السحاب
الإستدارة أُمنية الجائع
الصرخةُ إلى أعلى
خرطوم فيل في الغضب.
على الحواف
التمثالُ في خطر
الصديق على الباب
أتذاهبُ ولا أَقطعُ شبراً
في شرفة غرقى بالصبّار
بالنغمات
بالتواريخ رسائل قصيرة
في هاتف الجيب
على حافة الشارع
في الظل المسمى ليلاً
السدرة آخر غجرية من بلادي
كم تبدو أصغر سناً في حضني
عناقها أشباح جدران بيضاء
عارية كممرات المصحات
كل نهار تدفعهُ بالكتف
يسألُكَ مَنْ أوقعكَ أرضاً
لا أحد
لا أحد
الكبد رسامة والمرارة ألوان
أتذاهبُ ولا أقطع شبراً
في شرفة على شارع وحيد
مشذب أكثر من لِحية
الحاكم الوحيد.
شعْبٌ بالأبيض والأسود
الأفقُ الثدْيُ الذي يحلبُهُ الجميع
هؤلاء البدُون ثِدِيٍّ
أيّ أفق سيدرُّون
الأطفالُ زنازين المستقبل
المساجد غربان بيض
وهذا القتلُ عميقٌ في كأس كلّ يوم
نسكرُ في الشمس
ونمُز الظلّ
عُراة كدُود أبيض
ببزات مُوحَّدةٍ
وطيورٍ مختلفة الأعناق
عبيدٌ لعبيدٍ
الرّصاصُ في دمنا نائمٌ
الرصاصُ فيه صريعٌ
ككلِّ النجوم التي هَوت في مصيري.
خطوات الظلامِ في مسقطْ
قلبُها أظلمُ من مسقطٍ
ظلُّها مصباحٌ
إلى الخلف مرّةً
مرّةً إلى الأمام
خطوات الألمِ الأخرَسَ كلَّ عين
عَلِق بشاحنةٍ سَحَلتهُ
رماداً في قارورة
سيّان إن وضعْتها على الرّف
أو ذروْتها كالأيام
سيّان إن كنتَ في مسقطٍ
أو كنت في مسقطْ.
قليلٌ من التراب يصنعُ جَرّةً
وقليلٌ منهُ يُضيِّعُ بلاداً
بلادٌ واسعة
فقحَة مُنطرّةٌ
إن أعطتْ شاعراً
أطلقتْ خلفه ألفَ واشٍ
إن أنارت شارعاً
استولى الظلامُ على العراق
بلادي جدارٌ أبيضُ
أم طائرٌ ينتظرُ الرسّامَ ليُطلِقه.
الساعة الناطقة
هنا
صورتكِ
ترفرفُ كقميصٍ مسروق
وأنا بين يديكِ
لوحةٌ لم تكتمل
مات الرسامُ في الطريق إليّ
وراء كل هذه السنوات
أنبتُ كما العشب بعد عاصفة
أنا عناقيدُ أخطاء
وأنتِ شجرةُ العنب
لم نعصُر لليالي كفايةً
نسيتْ جفونَـها الليالي
تدلّت المصابيح مشانق للظلام
والرِّبـاط بيننا شجرةٌ مُسـنّـة
نتدفـأ بخشبها الذي لا يكفي
جسدين
أنا عناقيد أخطاء
وأنتِ تملئـينـني كما يملأ الدمُ
الجرح الجديد
المرآةُ خلفكِ
وأنتِ تمشطين شعركِ
في بياض عينـيّ
فأرى على ظهركِ نَمَـش نداءاتي
والظلامُ حولنا نسرٌ أبيض
نسي بيضهُ على إفريز نافذتي
مثل ساعةٍ معلقةٍ في الأفق
حين نظرتُ إليكِ
عرفتُ كم تأخرت
وحين ابتلّ إصبعي أول مرةٍ
في سُـرَّتك
دارَ رأسـي دورةً كاملة
فلم ينفصل
كنتِ عُنـقي
شكّلـتُ أصابعي طائراتٍ ورقية
نفختُ في يدي
فهبت ريحٌ
أنا صائد الفلين
في بحر الليالي
شربتُ طويلاً
فلم يرجع أحدٌ بعدي
إلا طافياً
اختاري الشتاء
وعليّ المطر
صُـبّـي لي كـأساً
وضُمي شفتيكِ
كِـدنا نسكر
أمامنا ليلٌ
وكثيرون يرسمون الصباح
على ظهورنا
***
عبد يغوث
من مواليد مِسـْكٍ بعبري، عام 1971.
صدر له:
- طفل يتنزه في مقبرة، شعر، 2003.
زهرة زوريكا
تنقصني الدراية والفن المنظور(ي)
كتاب أكلته الرمة في عامي الخامس.
سمعت الريح تقول روَح الشتاء
فتأملت زهرة تصلي
أمام ملائكة الغروب.
شوّقت بإتجاه الشوق ولم أصل.
وما يضيرني أن الله أبتلاني
لا غفران لك
ولا شكور
يا صاحب
"لا غفران لك ولا شكور"
هذا شعر ردده نيتشه في صباه
لشاعر مجهول.
أصمت
القدر فلذة
والشعر أقبح من الجمال.
أكلما نحتّ سرابا
بان من تحته سرابا
كالإنسان حين يتوفى
أولها ظلمة
وآخرها دنيا الله الواسعة.
شوًقت بإتجاه الشوق ولم أصل.
قصائد تسكنني
لأنني سأنام يوما طريح الفراش
مثل شادن دامع أمام أم شادن.
لماذا يا زوريكا ؟
فحلقتين من فضة تكفيني
لأنام مثلما تنامين
وستصفر الريح ثانية
أمامها في الشتاء
يا رائحة ثياب مكنونة.
عجبا زوريكا
القصائد رماد
رماد
اللغة جدري
فلماذا تمحين مثل التلاميذ أخطاء اللغة
وكأن اللغة نفسها ليست خطيئة ؟.
من جاء قبل ؟
الشعر
الفلسفة
أم الأطفال
فلاسفة الشعر.
شوّقت بإتجاه الشوق ولم أصل.
ما لي والشعر
زهرة مسمومة
سقم
سقم.
شفتك رحم شعري
أعتق من النبيذ
أغرورق من الدمع
أغوى من الغواية
أزكى من الحلمة
ألعن من القدر
موقد دفء وشرفة نعيم
بلاد على مد الأسى
أيتها الجمال الأعمى.
ناوليني يديك زوريكا
لنرقص رقص صفين
كما في العهد القديم
لنرقص رقصة أشد عوداً من الشعر
أعلى
أعلى
أعلى
أعلى
حتى منبع العطر والمطر
حتى حية تلدغ زهرة.
شوًقت بإتجاه الشوق ولم أصل.
زوريكا
زوريكا
نسيت الزهرة
أين ذهبتْ ؟.
أحزان في الغابة
عويل وبكاء في الغابة
المياه تضطرب على الحجارة
قهقهة عالية تصم الآذان
طائر رخ يحتطب شجرة معمرة
الإنسان يمر كما الزمن بساق أبتر.
أرجم اللحظة بالكلمات
فيخرج تمساح أعور
وتنوح الريح كما في مأتم طفل
جفلا أتمشى كما زعقة الطين.
يا الغابة المسكونة
جئت إليك لأنسى
لا
لأتذكر
قطرة من ماء السكينة
فلماذا تلتفين حولي كأفعى
وتنادين"أطفال الغابة"
أن هلموا
فهذه وليمة الساحر
الذي أراد أن يصلي صلاة المغيب
فارتطم بجذع التراب.
يا الغابة
الغابة
أناديك بصوت أرجف
أمي ذهبت إلى الجبال لتحتطب
وما رجعت
أبي ينتظر فتنة الموت
إخوتي وسموني بالضرير
ومن حسبتهم أصدقائي
دسوا لي السم في الطعام والكلمات
فأرتبت من مجيئي
وخروجي.
يا الغابة
الغابة.
المغارة الغربية
كالجالس خلف النهر
الأعمى الذي يشير بعصاه إلى المستحيل
الطيور سود وبيض
القوارب غارقة كالملح
ريشةُ قلبهِ تطفو على حبر الزرقة
وكمن به مس يرتعش.
الأعداد وعدّها
إلا الصفر فكان غائبا عند أول قبلة
حين يتساوى العدم بالخلود
والمرآة بالماضي.
إشراقة الصفر
أول صباح المكتبة
تفيض المسترسلة في الغُسل
على حواف الكرسي
ألمها بخوف العارف
ميدوزا
برق أعلى الجبل.
يا لأظافري
أظفاري
مالها تنهش كبد الحلم.
خلف النهر
أفكر في حانة الغد
سؤالي كسؤال الفلسفة
الحكمة ليست من أقراني
ولا صبية البوم.
حياتي هناك
خلف النهر
عروسا تسبح بذيل السخرية
على ضفتي جفن أرمد.
أرتعد أكثر رضّا من جنبيّ
لأنني جد أسيان
على طبيعة الإنسان.
من هناك
هاملت
هاملت في ماخور الموتى
مرحى
مرحى
"ولد للتو طفل يحتضر".
خلف النهر
خلف الحانة
خلف ريح تكلم جمجمة الجبل
هناك أقعي
أتأمل القارب يعبر بالمليكة
في رحلة كلها أبد.
طفل يتنزه في مقبرة
كابوس شعري
تنهض قصائد في نومي
بعيون محمرة وشعر مغبر
وحافية القدمين
كما طفل يخرج فجأة
من زقاق قرية بأسمال رثة
قصائد متطيرة كأرض تتطاير
تحت سنابك خيل تعدو
فيفرغها النوم في أحشائي
بوهن رافعة
تفرغ جثث متراكمة
في هوة سحيقة.
طائر المحبة
طائر المحبة
الذي رشف من ريقي ذات يوم
خطى بعيدا بخطى ودان
هارب من خطيئة
وخلفني وحيدا
مثل نائحة تنكش شعرها
على طفل ممراض
وتتمسح به كما تتمسح
بريش طاؤوس
يا للطاؤوس الذي كنته.
ها أنذا الآن محني الهامة
كعائد من جنازة
بهتت الألوان
كما تبهت ريشة في مصحف.
كوشاح على زهرة
ولكن ماذا
لقد تأملت صبية مسجاة
فُطم نهداها
ولما تجسهما أنامل بعد
وعبر حلمتين مفزعتين
أنحنت وتأملتني
بسكينة ذابلة
كوردة متيبسة
غطتهما بالسؤال الكبير
.............................
.............................
كوشاح على زهرة.
هيئة الـموت
الله يهبط من الأعالي
ويسأل عني عبر الجبال
فأفرُ
لأنه يشبه شبح الموت
وبين الأشجار الصغيرة المتناثرة
أنطوي على فكرة وأتقلب
كأن حية لدغتني
وحين أصحو مخمورا
وقد غدا شعري على كتفي
كمسيح عاشق
أجد بقع أثر لإله
مر من هنا وسأل عني
فأغيم في فضاء من الترنح
وأحاول أن أقبض بتلك
الفكرة التي تعذبني
هل الموت إله
على هيئة راعي.
***
علي المخمري
- من مواليد شناص، عام 1971.
صدر له:
- الخطوة الأولى لإجتياز قماطي، شعر، دار الجديد بيروت، 1998.
- غيابات الجب، شعر، دار المدى دمشق، 2000.
- تعريفات رجل لا يفرقُ بين السكين والوردة، شعر، دار شرقيات القاهرة، 2002.
تبرّؤ
إقْبَليني أيَّتها السّماءُ
عارياً
كما كُنتُ في عَهدِ البشريّةِ الأولى
خارجاً
على ما نَسَجَتْه يَدي.
أغان ضائعة
للعمر الضّائع
للبَخور أُغنيةٌ
للنُّتونةِ أُغنية
للمَساء أُغنيةٌ
وللفَجْر أُغنية.
للطُّيور أُغنية
للغَجَرِ أُغنية
ولي أُغنيةٌ ضائعة.
لا مساءَ
ولا رصيفَ هذا المساء
ما عُدتُ أذكُرُ آخرَ مساءٍ عانَقْتُه بحرّيّة.
ما عُدتُ أذكُرُ الطحالبَ المزروعةَ في جسدي
ما عُدتُ أذكُرُ المراجِلَ والنُّسور المهمهمةَ في طَوْقي.
الريحُ تتمدَّدُ إلى الزَّلَق
وذاكِرَتي مُنزلقةٌ في الرّيح .
بَغايا النارِ أكَلْنَ حَواجِبي
وقُمصاني وهَراواتي
لمْ أعدْ قادراً على الدِّفاع
حتّى عن مَغْفِرَتي
باعَني القلمُ للحِبْر
باعَني الحِبْرُ للوَرقة
... ... ...
... ... ...
باعَتْني الورَقةُ
إلى فَمِ جهولْ.
سرقة
بعد منتصف الليلْ
تأوي الذّئابُ غفلةً إلى مائِدَتي
ستأكُلُ منّي حتّى لا تشبع
وتعودُ جائعةً
بَعدَ قليلٍ
تسمعُ الغابةُ عُوائي
بَعدَ قليلٍ
يُطلقونَ عليَّ اسم شَاعِر
ويُخرِجونَني
من ظِلِّ
شَجَرتي.
مسؤولية
مَنْ الكلابُ المَسؤولَةُ
عن عُواءِ
شلّةٍ
من
الذِّئاب ؟.
استغلال
هُناكَ مَن يتباهى
بلَمعانِه
في ظُلمةِ غَيْره.
الصياد الوحيد
بوجه الصياد
أكذبُ على مركبي
بصيد النساء أكذبُ على وجهي
بكلاب الصيد
أبحثُ عن امرأة
بامرأةٍ واحدةٍ
أغرقُ على اليابسة
بيباسِ الأرض أعيشُ وحيداً
ولا من يقول:
صباح الخير
مساء الخير
يا حبيـ.. بي
بي
بي
بي أعيشُ
وبي أموت.
المرأة
المرأةُ حيةٌ ناعمةٌ وملساء
تتلوى
على تلذُذكَ
وأنتَ تهمسُ
أفعلي
أفعلي
أفعلي
وعندَما تقعدُ على مستقرٍ منكَ
توشوشكَ بهدوءٍ سليط
سألسعُكَ
إن
لمْ تفعلْ.
خـُسرانْ
كلُّ القارات
خُسرانٌ معتم
من يومِ أن خرجتَ
من وميضِ
زاويتكَ الصغيرة.
انتظار
هُناكَ
مكانٌ للإنتظار
في زاويةٍ ما
بقبلةٍ ووردة
لمْ تُوصلني جميع الطرقِ إليه.
غَسلتُ قدمي بطينِ الأسماك
وواصلتُ المسير
التاريخُ قمرٌ صناعي
والخوفُ شحاذٌ في الطريق.
بأكياسٍ من المطرِ
عبرتُ غابات الحب
هللتُ لقرونٍ أُنثوية
أسندتُ رأسي لأكتافِ الصورة
وعقدتُ مع أشجارِ الآس
معاهداتِ الضّباب
لكن الأشباح
أرسلت العاصفة
... ... ...
... ... ...
الأجوبةُ تتقاطرُ
دماً
وما زال الجنسُ البشريُّ
يُصِّرُ على الأسئلة.
فُقْدان
لمْ أجدْ
بيتاً يحْلِّمُ بي
ولا صحراءَ
تُوقِظُني.
لمْ أسقط سهواً
لمْ أسقط
سهواً
أنا ذا
أعودُ
أزرعُ الزمنَ بالفجر
أنا العاشقُ
وبأقراصٍ مهدئةٍ
سأزيلُ عن حبيبتي
ثآليل الكابوس
سأدخلُ في فساتينها
بوجهٍ يليقُ بالمسرحية
سأُسامرُ حاستي
بأيادٍ شائكة
وعندَما تمْتقعُ كانهيارٍ رمادي
أشتعلُ بالتنهدات المطرزة.
خُلِّقتُ من أُرجوحةٍ مُراهقة
لذا يرتعشُ جسدي
عندما يرتطمُ بالحرير أو الحجارة
ستبتسمُ جَدتي
وهي تقول:
نِعْمَ الحفيد الذي يَكْسِّرُ جَوْزَتَهُ على ظهرِ نجمةْ.
مُناورة
غريبٌ أَمْر هذا الجَمال
دائماً
يَعْتمدُ على نقطةِ قبحٍ
داخلك.
إفلاس
لمْ يبقَ شيءٌ
في هذهِ البقعةِ
التابوتية.
حياتٌ في طواحينِ الهواء
أدخنةُ زيوتٍ في دار الخليفة
غيماتٌ من ماءِ النار
وحكمةٌ تقول:
(إذا كان الكلامُ من فضّةٍ، فالسكوتُ من ذهب).
لكن لمْ يبق لنا
في هذهِ الأرض
فضّة لنتكلمَ
ولا ذهباً لنصمت.
***
محمد الحارثي
- من مواليد المُضيرب، عام 1962.
صدرت له:
- عيون طوال النهار، شعر، 1992.
- كلّ ليلة وضُحاها، شعر، 1994.
- أبعد من زنجبار، شعر، 1997.
- عين وجناح، رحلات في الجزر العذراء، زنجبار، تايلند، فيتنام، الأندلس والربع الخالي. وهو الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي للرحلة المعاصرة، 2004.
- لعبة لا تملّ، شعر، 2005.
غفـوة صعبة المنـال
في ثالوث الظهيرات أسترخي
مع كتابٍ خفيف
أخاتل بفراشةِ حكاياته السبع
غفوةً صعبة المنَـال.
وعندما لا أفـلِـحُ في ذلك؛
أستـميحُ المُـذيع عُذراً
في خفض صوتهِ المليء بالأخطاء
حتى أتمكنَ من الإنصات لسرب طيور
مهاجرة
في غابة التليفزيون.
لكن فحيح فرامل الشاحنة
التي تُفرغ كل يوم بُحيرةً من البنـزين
في صهريج المحطة ـ
تصلُ رائحةُ أسماكها الجُـوراسيّة
أنفَ الحكايةِ السابعة
وتجعلني أفشـلُ
من جـديد.
لِـذا
كنتُ أرحلُ إلى قارات
مُقمرةٍ بالنوم
وبُلدانٍ يحسـدني نُـبلاؤها ومُعـدموها
على دولارات البـنـزين
التي لم تكن في جيبـي
وعندما
عندما أخبرهم أن كل ما لديّ
جـوازُ سـفرٍ بخنـجرٍ وسيـفين
أوراقٌ بيـضـاء
أكتـبُ عليها
مُسـوّدات قصـائد ـ
لا يُصــدقونني
بل يُدخلون أيـديهم في جيـوبي
ليـشمّـوا رائحة البـنزين العالقة
في ورقـة كلينكس سـوداء.
وحتى العزيز "مـندلشـتام"
الذي أحملُ كتـابهُ وموتَـهُ في الطريق
إلى سيـبـيريـا
(تعويـذةً من شرور السـفر أوصانـي بها مُجـرّب)
يهـزّ أذنيـهِ الكـبـيرتين
خارج الغِـلاف:
مُـكذباً حكـايـتي
ووصـيّـةَ المُجـرب.
مع ذلك
ما زلتُ أعودْ
بصُـورٍ فوتوغرافية
وحقيبةِ ظَـهر
وقصـائد
تـتدلى منها
أرقـامُ الرحـلات
وأخـفافُ حُـنينْ.
ثُم
رحلةٌ جديدةٌ
وهـكذا دواليك
(بين خنـجـرٍ وسـيفين)
مع سائحٍ أمريـكي في هـانـُـوي
أو في الخط المعلّـق بين مكـةَ
والجُـزُر العذراء
ولاحـقاً في شـارع الملك محمد الخامس
وحتـى أمام البـوذا الرخـامي في تشـيـانغ ماي.
كنتُ أفكّر
وتلك الليلة التي قضيتُ مآخيرها
بين زيـجـنشـور وداكّـار مُـنصتاً
لمبـادئ عِـلم الملاحة وتعاليم
القناع المعـلّق فوق شـاشة الرّادار
كنتُ أُفـكّر
في نـسر العاصفة
الذي هَـبّ من خـرزةٍ مكسـورة
وأسقـطَ القنـاعَ بعيداً
عن ريـشةِ النسـر
وبُحـيرة البنزين
التي لم تنـفجر بعدُ
كأشـلائي
كأشلائي
في المـرآة التي لن تبكي
ولن يسـتميـحها المُذيعُ عُـذراً
عنـدما يُقـلدُ ريـز خـان في السـي إن إن
بخبرٍ صغـير عن هيـروشـيما الشُـرفة
بعد أن ينـسى ويُـزيح جانباً
غفـوةً صعبةَ المنـال
وطـائـراً لم يُـهاجر
من غـابةِ التليفزيـون.
طاولة ممدودة باتساع الصحراء
الأسفار التي جمعناها في قمر الرأس
بالخطى الذهبية لريم الروح
بمخلب المغامرة الفائضة طيوره
على السماء الأثرية
(مرعى ملكوت القطيع
وصولجان الفراغ).
الأسفار التي خبأناها:
مدينةً مدينة
وامرأةً امرأة
حديقةً وارفَة البياض
وموسيقا وردية النوم
التي رفَـونا بحارها ذات سهرة
بمطرقة الحزن
وسندان النشوة
وذات سهرة
بالألوهة الندية لأرصفة الرغبة
بالحنين الغافي على إفـريز الشفاه
بالسفن العميقة في مجرى الكلام
جميعها تندلق الآن
نبيذاً واسعاً
نبيذاً بلا إسم
على ذات الطاولة التي مددناها
ونحن نضحك باتساع الصحراء.
كأنما الخطى
ذاتها الخطى المسـكوكة على نخلة الألِـف
سنواتٍ من الدِّنان
التي عَتّـقنا فيها الأعمار
وأنتظرنا طويلاً
هزيمة المكان الأول.
أجسادهم ترتفع قنديلاً ونصف
كعِـصيّهم المحنيةِ في الأكُـف
يرفرفون في وزرتـهم
بالحياة الماحلة
في حدس الجِـرار
مطيلين أعناقها
في أعراف النخيل
تاركين وضُوءهم
في كبد الشمس
يدخلون القرى
من عصافيرها الضريرة.
مرتلين الهواء كرتين
صابراً في حفيف الأبراج
مُسامراً مساميرهم
في مجالس الجن
رافعاً أجسادهم
قنديلاً ونصف.
كلما راقصوا حنينهم
بعيداً عن أعينهم
وقلوبهم النابضة
في صناديق أسماك
تملحُ أيامهم
بِريقِـها الشاسع:
أنى عادوا
من غزوة بريح
أنّى نسوا الماء
في سريرة البئر
وخلفوا نساءهم
إبراً مكسورة في دشاديش
العيد.
مُيمّـمين شطر الحواس
خناجرهم المثقلة بالأقدام
ساهمين عن نصيحة الجياد
يخلبون لُبّ الحرب مرة أخرى
بحيلةٍ نسوها في البين
أو ببوصلة
عثرت عليها السيارة
ككل حربٍ
ككل بوصلة
في حدوة حصانٍ نافِق.
بـيـادق الرمل
الغـرقى ظلوا في عـتمة
الزجاجات
والقمرُ مضى
في حال سبيله
كذلك الدشاديش
ظلّـت مكـويّـةً في إنتظار
أعمارهم التي
ذهبَ بها الصيد
إلى مَـحفلٍ مُـترب بالطرائد
والغراب الذي
أدمى بعينيه ريشةً
نسيت أن تضع حصاناً
في لوحة العُـشب-لم يتفتّـق
ذهنهُ عن حيلةٍ جديدة
للوقوف على الأشجار
أو حتى أي لونٍ آخر
مازال يُخفي حفيف الأوراق الساقطة
في رُواقٍ مُـغرورقٍ بالظل.
لم يأتهم أحدٌ
ولم يتبادلوا بيادق
الرمل
أو أنصاف كلماتٍ
يبلّـلون بها نَظرات الجِمال
كما لم يحدث
أي شيء آخر
لأنهم أنتظروا طويلاً
حتى ماتوا.
المقهى الطافي أمام بيت العجائب
على الساحلِ المُسمى بالسَّـواحيلية:
فَـرَضاني
كان السلطانُ يرقبُ أبدان السفن التي تُضَمّخُ
موانئ اليابسة بشذى القُرنفل
فبعد أن خانهُ الخِلان
وهربت الأميرة
أضحت تلك تسليتهُ الوحيدة
في فـصِّ خاتم الجزيرة.
على هذا الساحل
(المُـتكـتِّم على ينابيع حكايته تلك)
يتأرجحُ المقهى الطافي
بندولاً
قطباهُ الذكرى والنسيان
الأسطورةُ ونسيمُـها المرفرف
في الأشرعة المثلثة
كما لو كانت ساعةُ الزمن
راسيةً في مينائها البكر
أو
كما لو كانت مُبحِـرةً
في غُـروب مرآة.
عَـبرتْ قهوتَـهُ الحروبُ
وتلـوّنت فوق سـاريته
الأعـلام
بكـى وأستبكى الموجةَ التي
تحت قدميه
أمتدحَ زجاجه المكسور
وطاولاته التي طاولت
أعناق السفن
ثم
أستـأسدَ في عَـريشِ غابته
ظافراً بإمبراطوريةٍ وخطايا.
بيـدَ أن للذنوب غفّـارُها
فالعاطلون عن كهرمان الحياة
قاطفو ثمرات جوز الهند
والبحارة المزمنون يرتادونهُ
في قيـلولاتِ الحيلة
وبين الفينةِ والأخرى
شقراواتٌ بمعاطف سـفاري
يبتسمن بين أفخاذهنّ
لساحرٍ يعـتصرُ زجاجةَ ميرندا
ويقرأ كفَّ اليابسـة في الأماسي
ذات الشمس الحمراء
الأماسي التي لا تكـلُّ من تكرار شمسٍ حمراء
وأطفالٍ على حافة الزرقة
يـترنمـون بصوتٍ يكاد أن يكون
واحداً:
من يُـباهي بقفزة كهـذه ؟.
"ترنـيمةٌ خِـلتُهـا مقهى طافٍ أمام
بيتِ العـجـائب"
قال غريقٌ في بحر الظلمات
لكنَّ بحاراً ـ أطـفأ سيجارتهُ المُـعشـوشبة
ونَـشـرَ شراعهُ المثـلث ـ
كانَ قد سبـقـهُ إليها.
خانُ الوصُولِ بعد عُبور الرّبع الخالي
بشِقّ الأحلام والأنفُس عبرناه
ذاك الكؤودُ
ذاك العارمُ غير مُصدقين
تاركين الشروق والغروب توأمين من لحمٍ ودمٍ حتى
في عزّ الظهيرةِ
توأمين بجناحين عندما
يلتقي الهلالان تحت سدرةِ المنتهى
(حيث تذكرنا أسلافنا الرّحالة
وأنحنينا
في الليلةِ الظلماء
إجلالاً لفكرة
سفينة الصحراء)
لاعنين
إثر كلِّ تَغريزةٍ في حروف الكثبان وبطونها
فكرةَ الدفع الرّباع:
حيث كلُّ فراسةٍ
كلُّ بَعرةٍ
كلّ إبرةٍ مُمغنطة
كل خريطةٍ سرّيةٍ للقُواتِ المسلّحةِ
قبضُ ريح
في النقطة الفاصلة بين أن تموت بأعجوبةٍ
وتحيا في "أمّ السّميم"
ورمالها المتحركة بأعجوبتين
حالماً في كفّكَ بالماء
في كفك الأخرى بثلاثة أرباع الدنيا
إن نجوت بدشداشةٍ ـ رايةٍ في عين صقرٍ
مُقامرٍ بزينةِ الحياة.
في النقطة الفاصلةِ تلك
في الــ (•) حيثُ لا بئر ولا بؤرة
كان لا بُد من قمرٍ يملأ الكأس بالبيدْ
بمُعلّقةٍ
ولَبيدْ بحُريّةٍ تملأ الرأس في الفجر بالروحِ والرّاح
بعد أن يشربَ الصقرُ (في صحّةِ الفجر) قنّينةً
ثم يروي حكاياتهِ
عن فَلاةٍ وسبعٍ عجافٍ
وعن…
بعد أن ننتهي والجناحان مِروحَةً
حُلماً غامضاً
حُلماً لا يراهُ السراجُ البعيدْ.
هكذا
بشق الأحلام في عين صقرٍ لم ير الرّايةَ
عَبرناه
مُختاراً لنا أمثولةَ الأمل
أحجيتهُ الأخيرةَ بعد آخر
قطرتين من الماء والبنزين ـ
خانٌ مسحورٌ
(لا ندري في الجزيرة
في فردوس الوصول
في حضرموتَ أم في ظَفار)
قلنا لصاحبه:
هات المفاتيح وهات المُدام
هاتِ الثُلاثي الكوكباني ودعهُ يُغني
(إن كان واحداً)
دعهم يغنون إن كانوا ثلاثة
والصباح رَباحٌ x رَباح.
غنِّ لنا أنت إن شئت
ودع بنات آوى يُولِمن
أتركْ رائحة البصل في قميص الفردوس
وأنسَ بُقعة الفواتير الصفراء
نائمةً في ضلع سورة البقرة
قرشُك النمساوي
بل ماريا تيريزا
(ذاتُ الحسب والنسب)
سيتبادلان قُبلة الرنين في مئزرك.
غنّ لنا أنت الليلة
ودندن دونهُ
دون عُبورهِ مرّةً أخرى
ذلك الرّبع
يا صاحب الخانِ
خَرطُ القَتاد.
كما في الحياة، كما في الأفلام
تذهب المُديةُ إلى آخر المَدى
إلى الحشرجة مبحوحة بثلاث
لغات
وربما بعواء ذئبٍ
بين لغتين
ثم
(بعد أن تكتمل المهمة)
تعودُ إلى الغمد مزرقّةً بالدم.
تعودُ
بعد أن فرَّ الغرابُ المحنَّطُ
إلى الغابةِ
إلى الرّفِّ قرب الزينةِ
تعودُ
ووحدها الأيامُ دارت
وحيدةً.
وحدها الغرفة السوداء لم تُدر بَابَها إلى
النظرة المهشمة قرب فترينة الزينة.
وحدَهما، في الحقيقة، محلولُ التحميض
والقميصُ المعلقُ في الدولاب يُفكِّرانِ
في نيجاتيف الفيلم.
(الحبكةُ واضحةٌ إذن)
كلمعة المُدية في شمس الضحى
كالصورة الفوتوغرافية في سماء زرقاء
واضحة
إذن
لكن.
لنفترض أن الغموض ما زال يكتنف
النهاية
إحدى النهايتين في الحقيقة
التي فرّت كما الغراب إلى الغابة
والتي لم يُعثر لها على أثر بين لَمعةِ المديةِ
بين الصورة الفوتوغرافيةِ
وجثة أغاثا كريستي.
هذه هي النهاية
(في النهاية)
كما في الحياة
كما في الأفلام
عيونٌ تستعجلُ الخروج
إلى الحياة
قبل أن ترى أسماء القتلة
على بياض الشاشة.
سلحفاة غوغان
كنتُ في القمر ليلة الرابع عشر
كنتُ جائعاً وكانت الحُمّى
برداً يرتعد على ذلك الساحل.
كنتُ جائعاً وكانت الطبيعة مُعلّقةً
على مخلب ذروتها في السكينة والصخب
في الضحكِ الذي تتموج به أشباه الأحجار
المنقطعةِ ابتسامتُها في آخر موجة
في الغروبِ الذي يشبه شُروقاً
والمعدن الممزق في مخلب سرطان.
كنت في الصدى
وكانت الطبيعة في الحصاة التي دفَعتها
الأمواج لتصير سلحفاةً ينقصها الدم
ولا تنقصها النظرة.
سلحفاةٌ من صنيع غوغان
من صنيع الخالق على الأرجح
من صنيعه
فقط
دنوتُ منها وتناولت من مخبأ السّر
كاتم الأسرار وفاضحها بيضةً فقستُها في فمي
حتى أفل القمر
وعادت الطبيعةُ إلى الله
ظافراً بطيف لغز كان يرعى عشبةً
مهجورةً في الضفاف.
فسيفساء حواء
التي ولَدَتْنا
وتركتنا في رنين الصرخة.
التي قبل أن نولد
ضحكت وبكت.
التي نسيت الوصية
فطفقت تخصف عليها
من ألسنة النار.
التي شذّت
فأستبدّت.
التي أستقامت
فسادت.
التي تنفست الأكسجين في الأعالي
(حيث المجد لهُ وحده)
النُّفساء التي تنفست الماء
والخمر
والحليب
والعسل.
الطافيةُ في النّهر
الغانيةُ في الجاهلية
اللعوب في الكنيسة
القديسة في الحَبَب
التي في المسجد والعسجد
التي في المبغى والمعبد
التي بين شجرتين
التي في بئرين
التي بين نهدين
تجدل
في نسياننا
ماءً
وضفيرتين
التي تُنالُ ولا تُطال
الصامتةُ عندما تُقال
التي عنا تمضي
ثم إلينا تعود.
التي ببنطلون جينز ضيق
في الحديقة الخلفية للجنة
سرقت من الملائكة نظراتهم
وما غضِب الله.
حوّاءُ البدء
حوّاءُ البادية
حوّاءُ الأفعى
حوّاءُ نيويورك
حوّاءُ الكتابِ
حوّاءُ سومطرة
حوّاءُ الصليل
حوّاءُ المقصلة
حوّاءُ بانغ كاو
حوّاءُ كازابلانكا
أم قابيل وهابيل
زوجة آدم في الجنة
وعشيقتُهُ في الجحيم.
أم ريشة الهنود الحُمر
وأم سرغون الثاني
أم بوذا وتوت عنخ آمون
أم موسى وعيسى ومحمد
أم الصعلوكِ
والشجرة
أم الرضيع والمسلّح والأدرد
أم المليونير ينسى أمّه
أم الطاغية والباغية
أم الكلوشار في الأندرغراوند يعزف
غيتاراً بين كاميرا اليمين وكاميرا اليسار
(بالضبط، حيث لا تراهُ العدستان).
التي من ضلعهِ
وفيما بعد
من مَنيِّه
الصليبُ المصلوب في صُلبه
الترابُ الصقيل في ترائبه.
التي في الشق والوتد
التي في الإبرة والمِغزل
التي
في الغزالةِ
ت ~ ر ~ كُ ~ ضُ
وفي السهم تسهو
التي في القوس دائراً حول
فكرة القميص.
التي في القميص
بلا فكرة دائرة.
التي في الكبرياء تبكي
وفي الذّلِّ تضّاحك.
التي تتسوّق في هارودز
وتعرى في تمبكتو.
التي في القلم في الدمعة على جفن الواحة في الدفتر
في محطة البنزين تحت النخلة في المطبخ على الساحل
في بار نيغرسكو في المتحف البريطاني حول الرائحة في
الظلِّ تحت الشمس قرب رسائل الحُب في الشمس تحت
قوس النصر فوق طابع البريد تلوّحُ بالراية من الشرفة
وتلحس الآيس كريم في نشرة الأخبار منتصرةً على دبّابةٍ
هزمها الأعداء في نشرة الأخبار.
حواءُ الذكر
وحواء الأنثى
المانكان والمكنة
الغريقة وحبلُ الإنقاذ
العين والشفة
القُبلة واللعاب
اللوحةُ والصورة الفوتوغرافية
مارلين مُونرو والجيوكندا
مريمُ العذراء ومومس بانكوك
تتبادلان الريشةَ والعدسة
الموناليزا وغريتا غاربو
تتبادلان الحائط الأبيض
الليدي دي والسيدة فيروز
(معاً
ولا تتبادلان شيئاً)
الرفيقةُ في الحياةِ والممات
في الجمجمةِ والموديل
(رفيقةُ أراغون وعُمر بن أبي ربيعة)
رفيقتنا على الشاشة
إن فاضت القُبلة في الظلام ببياض المنِيّ
الذي لكثرتهِ تبيضُّ الشاشةُ
وتمضي مادونا إلى الظلام.
رفيقتنا
رفيقتنا
في النضال والسرير والسريرة
في حطين وبدر وواترلو
في راية العلمين
في ربيع براغ
في خريف تشي
في شتاء سايغون
في تموز بغداد
وهافانا فيدل.
حواء البيت
وحواء الحقل
حواء الديناصور
وحواء الـ G.S.M
حواء القنينة
وحواء الشمعة
حواء البورصة
وحواء الخادمة
حواء الصلعاء
وحواء الـ CITY BANK
حواء الرومانس مُنسلاًّ من شرشف قصيدته
حواء الأكذوبة العذبة
العذبة تلك الأكذوبة
العذبة تلك
العذبة حتى
حتى لو كنا
لو كنا نعرف
نتمنى
ونتمنى
ألاّ نعرف.
التي نهديها الذهب
فتعيد سِلال الفضة إلى المناجم.
التي ننساها في الفحم
فتبعثها العنقاء.
التي تنسانا
فلا تطل من الشرفة.
التي تتذكرنا أحياناً فترمي الوردة حمراء
شرفة صديقتها
حتى لو كانت وحيدةً
في فيلم بلاك آند وايت.
القرصانةُ والمقروصةُ في الخاصرة
البرجُ
والبئر في غفلةٍ
عن
الهواء المزدوج
الجبل والبحر غريبان عن فِطرة النهر
عندما يتزوج.
الساحةُ مليئةً بها، مهما
تكاثر الرجال حول الجمر.
النار والرماد
النهر والنهروان
المتاهةُ والدليل
العاصفةُ بعد المَيل
والهدوء، وحيداً يشربُ ماء النيّة
بعد العاصفة.
الطفلةُ في الطفو
العجوز في التجاعيد
وفي الحكمة إذ تحتكم
إلى النوم.
القبلةُ والقابلة
الآنسةُ والسيدة
السيدةُ والأنس
العانسُ، أحياناً
والثيّبُ وهي العروس.
العذراء في الصِّفة
المنحوتةُ في ألم الإزميل
الفراشةُ والحنينُ إلى فِراشٍ
حتى لو كنا فيه معها، وعرايا
اللقيطةُ والحُرّة
القلادة والأيقونة
اليقين والشك
العلبةُ والمثلث
الببغاء والغيبوبة
الماء الحرام والخمرة الحلال
الأسدُ الباكي في الشجاعة
البقرةُ الضاحكةُ في الجبن
حليبُ النيدو وضرع الناقة
زوجةُ الهند وجوزةُ الهند
ذات المئزر والجلاّبة
ذات المايوه والعباية.
الناهيةُ الآمرة
القاهرةُ المقهورة
مدبرةُ الإنقلابات
غاضّةُ الطرف عن النتائج
عندما تعوي ونستلذ في السرير
عندما تعوي
لنعيد الكرّة
لنستدرج الحربَ إلى الوطيس
لنشمّ رائحة الدم
دمِها القليل في الوغى
دمها الأقل على شرشف السرير
دمها النادر بعد قفل الهزيمة
ومفتاح النصر
دمها المنتصر
وحدهُ
بعد كلّ حرب.
***
ناصر العلوي
صدر له:
- نصف الحلم يسرد نصفه الآخر، شعر، 1992.
- أيام النرد، شعر، 1998.
في الطريق بين المد والجزر
البحرُ جزرٌ
البحر مدّ
وإذا تبعتَ جَزره ومده
أتحد البحر
والذي يقف في الأوقات والشرفات
وبجانب بقايا الخشب
ينظر كمسافر
في الطريق بين المد والجزر
أنا الآن قبل الشمس
لي موطن بعد الشمس
ولي مساء
يهمس قبل مغيب الشمس
أنا نهار الشمس
وهي تومض
على الزند والوجه الغريب.
نبيذ الجبل الأخضر
كأسُ النبيذ التي أخبئها تحت النوافذ
كأسُ النبيذ التي يطول عُمرها
وأغطيها بقلبٍ تحت البَرد
أدفيء حوافَّ سطحها
حواف الألم في الشفاه
أغطي النور بلونها
لون الكأس
لون العين المحروقة
لون الظمأ.
قمرٌ في الكأس
ما أكثر الرمل
كأس على تلال الرمل
رأيتُ الكأسَ مليئة بالآمال
بالنشوة الفاصلة
حفِظتْ أشكال الكلمات.
أحبّ السّكرةَ التي كوّنتني
وأنا الآن أسعى إليها
أتقدم لكي لا أنسى أشكال الكلمات
ولكي لا أنسى معنى الحياة
أنا الغائبُ منذ أن اهتديت
إلى نهاراتها الغائمة.
آفاق متجاورة
أنقضى النهار
كليل الصيادين
همهم ألا يعودوا خائبين من ليلهم
ويا تلك السماحة
حين يعودون
وهم في منتصف الحياة
يسرعون بهمهماتهم
ووعيدهم
لن يفلت الحظ غدا
وفي هذه الساعة
أشباحهم تنتظر على الساحل
ينزلون مرساتهم
كما سينزلون غدا شباك صيدهم
أما الآن فهواء الفجر يعرفونه
كما يعرفون أولادهم
لكن ماذا عن هذه الليلة ؟
أخذت قلوبـَهـُم
وجاءوا بحذرهم يخاطرون به
يستخدمون ما تبقى لهم من الرموز
ما تبقى لهم من المبالغة
كالظل
كلما تفتـّح الهواء
مدوا أجسادهم
وراحوا يتأملون ويتأملون
هوة عميقة أشبه بالإنسان.
أول ما رأيتُ
الظلال المتوارفة
على خصل النحيب
رأيت بيتين من لون عيني
وخاطبني الطريق:
قـُـيـِّدَ ماضيك على لسان النار
وتخاطرتِ النوافذ
هذه القلوب المتجاورة
وسمعت ضجة الصغار
وهم يقلعون الأبواب بإهمالهم
ورأيت وجهاً
خلف النافذة
خضرة أبدية
رأيت سماء محاصرة بالحسرة
آفاقا متجاورة.
حديث المجرات الصغيرة
أبعدتك الولادة عارياً
كرفة الوعل
طـُوِيـَتِ الطريقُ أمام خطواتك
وتكدّس الضباب في أثرها
كم ثقيل رأسك في القلب
في شفة العواصف
لم يكن الوقت طويلا كفاية
كان فقط يحمل أسنانه
ويقضم غرف البيت والممرات.
كم مرة تزجره
وتلقي به من النافذة
لكن ما أن تفتح الباب صباحا
حتى ينقذف نحوك كالخطأ
تصده بظهر يديك
متابعا طريقك كأنك المجهول
وحين تعود إلى البيت
كنتُ أنظر إلى عينيك
كم هي متعبة بالشوق
كيف أبعدتك الولادة عنهما
ما زال الركض سريرك الأول
وصدى البيوت
يتدحرج في طريقك
تلتقطه لتقذف به نحو
الأبواب التي صدأت أقفالها
غريبا تخطفك الحارة كل مساء
والشمس إذ تختفي في قلبك
تضيء قميصك القديم
تزيل الغبار عن أشيائك القديمة
لتنشئ مدينة في خزانتك الصغيرة.
آه
لو أن النهار يسعفني ويبكي
لكن حين أصلك
أجد المساء مغلقاً
كخنجر في الجسد.
مكان
الأفقُ الذي ودعتـُهُ
على ظل داري
خطف الصمتُ رحابتَه
وطيّرني في الأسرار
الأفقُ الذي يسحب
قلائد الضحكات
ويقطع خيوط عينيّ
وأوتار تريّثي
ضوء
تغلّسَ في طائر
ضاع في السماء
وفي قلة السُبل
ضوء
يشتعل في الأطراف
وقتامة أدت بي إلى الحاجة.
والغريب في عيشي
أن اليأس أصبح كمفتاح صندوق عتيق
والرهافة في أصابعي أرض عطشى
غربة تفح في نومي
أصحو كأني غابة في قلبها النعاس والسهام
أصحو
وأغمض عيني في الليل الذي مضى.
صلاة
تنبت المصادفات
في ركن الحديقة
مصباح غرفتي يخفت
في الضوء
يناطح فتور الشمس
حينما يدي باردة
في أباريق الوضوء
في هذا الفجر
العالق بالجسد
مثل رطوبة الأسلحة
واضحاً كالفتنة
في النور
المنبعث من عيون الأرق
لا أسمع إلا دقات القلب
ونحيب الحراس.
الفجر الشارد
شطر النوم
تميل الوجوه
المتخفية
في المصباح
كم مرة يسقط الغيم
قبل النوم
وقبل أن يضيء الوجوه الصباح.
الفجر شارد
عن يميني وعن شمالي
ثم يشرق
كأسا مليئة
كغرفة العائد من صبوة.
شجرة الخروب
قبل أيام
كانت عارية
خفيفة
تدوزن الطيور أغصانها العارية
فجأة
في فجر إحدى الليالي المخمورة
رأيت الأوراق الخضراء
تنتشر على أغصانها
ما زالت خفيفة تستيقظ
ربما دبت فيها الحياة طيلة الليلة الفائتة.
مرة أخرى
تبدأ رائحة الزهرة بالتحليق
وأنا ما زلت أحمل النهار
كصدفة
أبحث عن مكان آمن
لألقيها
والنهار يسائلني
لم تشبّهني بالصّدفْ
لم أنا حبيس القلب
وهدوء الغرف
لم أنتَ سائر في الأوهام
عين صوب الحمرة الخصبة للأنحاء
وعين لذاك الصفاء في الزهرة.
***
هلال الحجري
- من مواليد بـدية، عام 1968.
صدر له:
- هذا الليل لي، شعر، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، 2006.
- العَروض المُغنَّى، مشروع جديد لتدريس أوزان الشعر العربي، وزارة التراث والثقافة، 2006.
- British Travel - Writing on Oman: Orientalism Reappraised
- Bern: Peter Lang, 2006.
"مُغَيَّبَة" (*)
في الجَبَلِ الأَخْضَر
أَيّتُها
المَمْشوقَةُ القَوَامِ كشَجَرَةِ العلعلان (*)
دَثّريني بِهُدْبِ عَيْنَيْكِ
أنَا المَذْعُورُ مِنْ القَصِيدَةِ
أنَا المَذْعُورُ مِنْ أَيّ شَيْء
تَأْتِينَنَي
وَأَنَا أُحِيكُ مُؤَامَرَةً صَغيرَة
أُقَوِّضُ فِيها عَرْشَ جُنوني و رِحْلَتي الخَائِبَة
آهٍ
أَيَتُها الغَيْمَةُ الطّائِشَة
لِمَنْ هذا القَلْبُ الّذي أَحْمِلُهُ في يَدِي مُنْذُ عِشْرينَ سَنَة؟
أَيّتُها
القَصِيدَةُ الّتي أَشْتهي التهَامَها
كَإِنْسَان بِدَائِي
مَزِيدًا مِنَ القُبَلِ
مَزِيدًا مِنَ الإِرْهابِ.
كَيْ أُفِيقَ مِنَ هذا الدُّوَارِ الّذي يُحَاصِرُني
أَيَّتُها
المَرْجُوّةُ المُسْتَحيلَة
خَبّئِيني صُؤَابًا شَرِيدًا بَيْنَ ضَفَائِرِكِ
وأمْنَحِيني قَطْرَةً مِنْ دَمِكِ
كَيْ أَبْلَعَ لَحَظَاتِ اسْتسْلامي
وأُحِبَّك.
لا جدوى
سُحْقًا
النِّفَاقُ حَتّى في المَرَايا
بَعْضُها يُظْهِرُكَ مَسْخًا
والآخَرُ
يُغْرِيكَ
بِك.
ملائكة
فَجْأَةً
وكَالإِلْهَامِ
إِذا بِسَيْلٍ مِنَ الأَطْفالِ
وفي عُيونِهِم المُدَوّرَةِ الصّغِيرَة
جَرَفُوني بَعيدًا
عَنْ حُمّى الأَحْقَادِ
الّتي زَرَعَتْها في قَلْبي
سِجَالاتُ "الإسْتِشْرَاقِ"
وصِرَاعَاتُ الثّقَافَة.
لَذّةٌ
القِرَاءَةُ في المَقْهَى (أَوْ ما يَشْبَهُهُ)
جِدُّ رَائِعَة
تَغْرَقُ بَيْنَ ضِفّتَيِّ كِتَابٍ
حِينًا
ثُمّ تَرْفَعُ بَصَرَكَ
فَإِذا
بِعَيْنَيِّ فَاتِنَةٍ كانتا تَلْتَهِمَانِكَ سِرًّا
أَوْ تَلْمَحُ أَنْتَ
نَهْدًا مَزْهُوًّا في الزِّحَامِ
فَتَصْحو
مِنْ غَيْبُوبَةٍ
أسْتَعْبَدَتْكَ فيها سِيَاطُ المَعْرِفَة.
صداع
مُخَيّلَةُ البَارِحَة
كَيْفَ لِي
أَنْ أَفْتَرِعَها في الصَّبَاحِ ؟
ما القِطَطُ الخُرَافِيّةُ
الّتي
كانتْ تَرْقصُ في رَأْسي ؟
أَتَذَكرُ أَنّني
كُنْتُ أَلْمَحُ ـ وَسْطَ عُزْلَتي المُكْتَهِلَة ـ
أَطْيَافَ نِسَاءٍ مُكْتَنِزَةٍ
ولأنّني
مِنْ "شَرْقِ" الخُرَافَاتِ ونُكْرَانِ الذّاتِ
كُنْتُ أَكْتَفي مِنْها
بِجُروحِها الدّامِيَةِ في قَلْبي
بِكَلِمَاتِ الغَزَلِ وصُوَرِ الحِرْمان
ولكنْ
ما تِلْكَ الكَلِمَاتُ الّتي
بَعْضُ شَظَايَاها ـ ما زالَ ـ في فَمِي ؟
الآنَ تَذَكّرْتُ
تَفَاصِيلَ المَشْهَد:
لَمْ تَكُنْ نِساءً
ولَمْ أَقُلْ غَزَلا
لَقَدْ
كُنْتُ
أَغْطِسُ
في "رُبَاعِيّاتِ الخَيّام".
بَذَخٌ أُنْثَوي
كُلُّ هذه الوَليمَةِ
مِنَ الِّنسَاء!
أَيْنَ مِنْها صَدِيقي الذي أَعْرِفُهُ جَيّدًا
قَد أحْدَوْدَبَ عُمْرُهُ
حُلُمًا
بِطَيْفِ امْرَأَةٍ
أَوْ
فَخْذِ دَجَاجَة !
يأس
هَيْهَاتَ
هَيْهَاتَ
لا مَفَرَّ مِنَ الضَّيَاع
كُلَّما أَتَشَبّثُ
بِخَيْطٍ مِنْ خُيوطِ اليَقِينِ
تَدْهَسُني خُيُولُ الفَوْضَى
وعَرَبَاتُها الفاشست
مُخَلِّفَةً أَيّامي
جُثّةً
تَنْهَبُها العُزْلَةُ وجَلْدُ الذّاتِ
وصَلْعَةُ شَكسْبير
لَمْ تَعُدْ كَافِيَةً
لأَشْرَبَ فيها أَنْخَابَ عُمْري
المُفْرِطِ في الهَرْوَلةِ
دُونَ
لِجَامٍ مِنْ حُبٍّ
أَوْ حَتّى نَظْرَةِ أُنْثَى !
تفاؤل
مَنْ يُعِينُني
على اسْتواءِ عُزْلَتي النِّيئة ؟
مُنْذُ زَمَنٍ
وأَنَا
أَحْطِبُ لَهَا مِنَ المَشْرِقِ والمَغْرِب
مُرّةٌ هِيَ
مُرّةٌ
لَوْلا لَحَظَاتُ الغِيَابِ
الّتي تَتَلَبّسُني كُلّ مَسَاء
لا
مَنْ قَالَ إِنّ الحَيَاةَ بَغِيضَة ؟!
قُولوا لِحَشَرَاتِ العَالَم
أَنْ تَمْنَحَني
إِهابَها الّذي تَطْرَحُه سُدَى !
مِنَ المُمْكِنِ
أَنْ أَتَشَبّثَ بِهِ
ولَوْ لَحْظَة واحِدَة !
قصة قصيرة
مُتْعَبٌ
نَظّارَتُهُ تُجَسِّدُ كُلَّ عَذَابَاتِ الدُّنْيا
الكَأْسُ عَنْ شِمَالِهِ
والصَّحِيفَةُ
فَاغِرَةٌ جَوَانِبَها عَلى فَخِذَيْه
غَارِقٌ
في عَوَالِمَ
لا تَتّسِعُ لَهَا إِلا نَظّارَتُهُ الضّخْمَة !
أَجْسَادٌ بَضّةٌ ورَائعَةٌ
تَفْصِلُنا أَحْيانًا
أَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ
أَنْ يَحْلُمَ بِها عَلَى الأَقَلّ !
عاطل عن كل شيء
جَسَدٌ فُضْلَةٌ
لا مَهَمّةَ له
وأجنحةٌ من الخيالِ تُطوِّفُ به
حيثُ اللذةُ العارِمة
وحيثُ
الزوائدُ البشريّةُ
تُهيمنُ حتى على الفَرَاغ
كيف لي فَكُّ هذا الحِصَار ؟
ومُضْغةُ العقلِ التي لا أكادُ أُطْفيها
هي
ضحيّةُ الليالي المُفترسة
آهٍ
أيتُها السقوفُ أقتربي مِن الأرض
ويا أيتُها الزوايا ضُمّيني بلا هَوَادة
ويا أيتها الكأسُ المُتضَوِّرة
تَغذّيْ بِرُوحي الجَريحة.
وَعْد
سَأَصْحو هذهِ الليلَةَ
ـ فَقَطْ ـ
مِنْ أَجْلِ أَنْ أَتَتَبّعَ
مَسَيرَةَ أَلَمي المُرَاوِغ
لَنْ أَتَأَلّمَ
ولَنْ أَبْكي
بَلْ
سَأَعضُّ عَلى يَأْسي
حَتّى تَفِيضَ الأَحْلامُ بَيْنَ نَوَاجِذي
لكنْ قَبْلَ ذلك
ضُمّيني بِلا هَوَادَة
أَيّتُها الغَفْلَةُ
واحْتَضِنّي أَيُّها الشُّرُودُ الأَبَدِيّ
كَيْ يَتّسِعَ بَيَاضُ عَيْني
لِكُلِّ
الذُّهُولِ
في العَالَم !
براءة
منذ لحظةِ السفر الأولى
كنتُ
ببراءة الطفل
أتخيّلُ أنّ حَمّاماتِ الطائرات
مفتوحةٌ على العالَم!
فيا أيها الراحلون
هل من لحظةٍ
ألذ وأشهى
من أن..
على هذه الفوضى
من فوق أربعين ألف قدم!
***
يحيى الناعبي
- من مواليـد اللاجال بوادي المعاول، عام 1973.
صدر له:
- حياة بين شاهدتين، شعر، كتاب مجلة نزوى مسقط، 2006.
قاطعات
ليكنْ
من تسكن عزلته
هذه البطاح
كملاك منفي في فردوس قاس
لا شيء يغطي الوحدة
المتحجرة
سوى تركة ترحل معه دائما
ومنازل مغمورة
بخطيئة لم تصل الى حد النهاية.
صولجان الريح
يناولني ورقة حب خبأتها
في سريري
تقاسمني اللحاف والهواء
الصرخة تنسج من وعاء دمي
ضبابا أزرق يحوم
حول جسدي المسجى
على رفة الترحال
مدار جائر
حين أسلمه مفتاح القلق
أنا الغائب
في زمن تركته
يطلق ساقيه
وكما لو أن الغابة
التي أنتمي إلى ظلالها
رصاصة تتسول في جسدي
وتعبر محيطاته.
لا تتنزه كثيرا
في مرآة الماء
فوجهك لا يزال طريا
وموجعا حتى من قبلة.
كل صباح
ربما يتفرس الآخرون
في عينيك حين لا يجدون
من يسد عشقهم
ويتركون أبوابهم مفتوحة
حتى الصباح.
أي ريح ذئبية هذه التي تعوي
خلف النافذة
تركت أطفالها ينامون على سريري
وهيأتني فريسة لأحلامهم
كان الحقد آخر من خلفته الحروب
والصمت لا يولد
سوى
غصة في الحنجرة
النجوم التي تغازلني بلمعانها
تركت كتائب الأمل
تملي فراغ الطائر
حين يطلق ريشه للهواء
والشمس تنذر بشعاع ابيض يلفه
كما القماط
طريقه لا تحصيه الخطوات
والقدر محتوم
وبلا خوف يستطعم اللذة
كما لو كانت قطعة ثلج على كفه.
لا شيء.. أبداً
لا شيء
سوى جريان من أحلام
يتلمسها المكفوفون
وصيادون يعبثون برائحة الشيخوخة
المكنونة تحت شجرة
ملتهبة الجرح.
لا شيء
سوى وصية المرآة
لهذا الوجه
بعينيه المندلقتين
وشلال المطارق يهوي
بجنازات آلامه
في الصباح.
لا شيء
سوى ضجر يرتعش كعصفور
ويصنع فخا
لمصير يتوعده.
لا شيء
سوى شراع يمخر
بخطى المرتاعين
كما نعش محمول
بأكتاف الأطفال.
لا شيء
سوى طيور بمخالب مدماة
ومناقير بحجم الفاجعة
تغني في الظهيرة
على شواهد القبور.
لا شيء
سوى موت بطيء
بلون الغروب
يستلقي على اسرة الوقت
قرصان
يلتهم ثمرة ملاك.
لا شيء
سوى أني غجري
أيتها الأرض
أخلعي عني معطف الريح
وأغرزي مخالب الجوع
مكافأة
لشهواتك الليلية.
لا شيء
سوى هذا الضوء الذي
يخدش قشرة الرأس
فأستفيق على
جرذان تقرض
هذا الجسد.
لا شيء
سوى نجمة
سقطت بين قدمي
فلم أعد
ذلك الأعمى
ولم أطمئن
لما خلف النافذة.
لا شيء
سوى عشق كالسكين
أشترط علي
ألا أنام
إلا على سرير
أقطع فيه أناملي
وأراوحها
بأحلام تتخمني بالدموع.
لا شيء
سوى سعادة قصيرة
تركتْ لحنها كالذكرى
وتركتْ أهدابي مسدلة
أنظر بخوف
إلى من أُسْلِمُه ريشة الذاكرة.
لا شيء
أبداً
أركض بجانب البحر
أساير سفناً عتيقة
أرسو معها
بدمي الرطب الجامح
وأضمها
بغضب وخيبة.
نفط
الشجرة مجنونة الطلقة
الصحراء أمّ
نغفر لها خطاياها
فقلبها ليس سواداً عميقاً
إنما بيضاً في أوداج الأسلاف
اخضرت سماؤهم وأنبتت أزهار الخير
بودلير.. صديقي
هكذا كانت أرضنا
الشر أتى في غفلة منك والطوفان
العاصفة انتفخت رئتاها.
على رصيف نهر موسكو
بيدين مخمليتين
تقرأ آنا اخماتوفا
على الرصيف
تتناسل حوريات النهر
بين ضفتي شفتيك
تخرج الكلمات بلذة الحزن
الجرانيتي البارد
نبيذا يرش على
قبور العشاق في الغابة المجاورة،
الهواء تحدر من صوتها
ووجهي كطائر حر
تناثر على ضفة النهر.
وسط تلك الغابات
ثمة روائح لغجر
أشعلوا القبلات بلون البحيرات
فبعثرت الغيوم
كطفل باعد في خطواته.
ظلك الذي بللته الوحدة
في أعماق النهر
كان يصغي إليك
بينما كنت تفجرين
ينابيع أو تارك وزهورك المباركة
فيحرق تلك الهالة
من الخطايا
تحت شجرة الندم.
حنجرتك
قيثارة الراعي
أهبط من أعالي الجبال
مغشيا بالضباب
مغموراً بالألق.
بيرة الطاحونة القديمة
أغوتني
بنعاس الشمس
حين تبزغ من عينيك
تركتني مهشماً
بين صخورك الليلية
محمولاً بإنتصاراتي الوهمية
حيث دون كيخوته
محمولاً برسالته إلى دلثنيا
كنت أوزع أسراري
برعشة القلب المكسور
وأرمم الصدع الحافل بالذكريات.
الجميع مروا من أمامك
حينما كنت نائمة
في مثلثك الحريري
إلا أنا
لم أصل بعد
كنت في طريقي
إلى السماء الفضية الخجول
بأصابع زجاجية
أقرع النوافذ الفجائعية
وبمعول العشق المحتدم
أرسم على صقيعك حلم ذكرى
اللقاء الحنون.
هذا النهار المعتم
عزاء الظافر بهذيان
الليالي المضيئة بالقسوة
حين تسقط شهوته
في سراب الرغبة الميتة
حيث المعابد
مؤججة بالأجساد المشمعة
بالدجل
المبرأة بلسان أبكم
والعصافير تقتل باتجاه الصلاة
بتصوف مروع
حين الدببة تكمل أحلامها
بقوة الأظافر في الليالي الباذخة
تتوسد صخرة السبات
المنجرفة من قيعان السنوات المتهالكة.
لذا
سوف
أنصاع إلى منفاك
باندفاع غريزي
قبل أن تأخذني الريح
إلى تلاويح الشطآن الآسنة.
شهادات
التجربة الشعرية والكون البرّي
سيف الرحبي
العين التي شاهدت، أول ما شاهدت في إطلاق نظرتها الأولى إلى الوجود والأشياء تلك الأرض الشاسعة التي تلتقي أطرافُها الثلاثة في سديم الصحراء والجبال والبحار المتلاطمة في الواقع والمخيّلة.
الأرض المترامية بحياةٍ قليلةٍ وسرابٍ هائل، وصفها الرحّالة (ويلفرد ثيسجر) وهو يقطع الربع الخالي في ثلاثينيات القرن العشرين فيما يشبه عبور الأسطورة بصحراء الصحارى.
ربما كسب الغراب، كائن القِدم، ومعلّم البشريّة كيف تداري سوءتها، أحقيّته الأولى في الإنتماء إلى عصورها الجيولوجية السحيقة: أودية قاحلة تذكّر بأنهار جفت منذ أزمنةٍ ضوئيةٍ.. قوافل مترحلة في تخوم المغيب.. فجاج بلا نهاية ولا قرار.. وكأنما العدم خرج للتو من كهوفها ليكتشف بؤس العالم. وكأنما الصانعُ ـ قبل أن تمتدّ إليها يدُ التحديث والتقدم ـ خلقها كتجربة أولى، مسودة وجودٍ لأرض البشر اللاحقة.
هذه الطبيعة المحتشدة بالهوام والذئاب وبناتِ آوى، أراجيح طفولتنا البعيدة والمحتشدة بالجنين.. هذه الطبيعة اليتيمة التي قُدّت من براثن بركان، على صفحتها ولدت وتفتحت أسئلتنا الأولى، دهشتنا وهواجسنا كمشروع وجود صعب وممكن. كانت الوحشة تفضي بالضرورة إلى مقاومتها بطرق مختلفة، منها التأمل والمعرفة والشعر.
هذا ما تفتّح عليه وعينا في تلك البلاد القصيّة في ذلك الزمان.. فقد كان الجو المعرفي عبر تراثه وتراكمه التقليدي السلفي، غنياً ومتنوعاً؛ شعراً ومناحي كلامية وفقهية ولغوية.. وكان لعُمان ـ التي تمتد أواصر حكمها إلى الشرق الأفريقي ـ شخصيتها المعرفية ذات الملامح الخاصة عبر الأزمنة، ليست هذه العجالة محل تبيانها.
لكني هنا لا أضيف كثيراً في وصف وضع التعليم وأطره التي نشأنا في ظلالها، أكثر مما يعرفه أبناء قرى وبوادي وهوامش حواضر في بلدان عربية، المساجد والكتاتيب وتحت أشجار السّدر، فحتى بداية السبعينيات لم يكن في عُمان إلا مدرستان صغيرتان لتخريج بضعة موظفين ـ وكان حكراً على المتوارث والمتداول عبر القرون لم تطرأ عليه نسمة تغيير أو تجديد.
كانت البلاد غارقة في مياه الأسلاف والنأي عن "العصر" ومصباته وعواصفه ربما كتبتُ أول قصيدة وفق هذا النظام المغلق في كهوف السلف ولغته، لأن أي خروج عنه مروقٌ وإلحادٌ، وما زال أصحاب هذا الرأي الظلامي عند رأيهم حتى لحظتنا الراهنة، وبشكل أكثر عنفاً وتطرفاً ولا عقلانية.
لكن ما ظل يطاردني لاحقاً، بجانب التكوين الشعري الكلاسيكي الذي لا أشكّ في الإفادة منه هو تلك القصيدة العنيفة التي يكتبها المكان نفسه بغموضه وموته وكيف تنبجس الحياة الشحيحة من مخالب ذلك الموت القاسي ذي الحضور الكلي، كانت الجنازة اللامرئية في رأسي بحجم ذلك الفراغ الذي يتدفق فيه الزمن كثيفاً وحاداً، محاطة بجوقات النادبات والمنشدين.
كنا أطفالاً نتطلع إلى حياة أخرى فيما يشبه المعجزة، وكان هاتف الرحيل يدعونا إليه عبر تلك القوافل المترحّلة ونداء البواخر في بحارها، والتي يقيناً لم تكن تحمل نفطاً، لأنه لم يطن معروفاً لدينا في ذلك الزمان.
كان المكان بهذا المعنى يمارس حضوراً طاغياً، وفي بطش ذلك الحضور اللامحدود لعناصره ومراياه الضخمة، يتمرأى الكائن المبعثر في جنباته الفسيحة، هشّاً وسريع الزوال. لكن، وهنا تكمن المفارقة الدّالة والعميقة، كانت له تلك القدرة في نحْت حياته وتسويتها بمواجهة عنف طبيعة ساحق.. فقد كان العُمانيون القدماء سادة بحار وصحارى وتركوا آلاف المخطوطات التي طبعت راهناً أو طبع بعضها في مجالات معرفية مختلفة.
حدثٌ ثانٍ، وجوهريٌ، طبع حياتي ووسمها بقدره الخاص، هو انفصالي المبكّر عن ذلك المكان الولادي، ورحيلي نحو القاهرة ومن ثم الشام، وبيروت، لينفتح المشهد المكاني لاحقاً إلى آخر مصاريعه ومتاهاته، وكأنما الأسلاف الرحّل خلعوا عليّ لا شعورهم الجمعي عبر نسيج من الإختيارات والصدف التي كانت تلف مناخات تلك المرحلة.
لأول مرة أتماس بشكل مباشر بعد أصداء سماعيّة غامضة، مع معطيات مدنيّة وثقافية مختلفة.. وكان الجو القاهري يعج بالأيديولوجيات والاتجاهات في حقولها المختلفة رغم أن بيروت كانت الأكثر صخباً وسجالاً في التجديد والإختلاف.
وكان الجو الطلابي والثقافي الذي أنتسبُ إليه تبتلعه السياسة في اتجاهها اليساري ذي الطليعة الفلسطينية آنذاك والذي كان الأدب على هامش توجهاتها ومتونها.. من البوابة القاهرية ولجتُ إلى بوابة القراءة للأدب الحديث برموزه ورواده ووجهاته المختلفة عربياً وغير عربي. كانت تلك المرحلة المبكرة للإنفصال، الرابعة عشر من العمر، بقدر ما هي منطلق الدخول في الطور الثاني والمعترك الجديد طبعني سلوكاً وكتابة بطابعه الحاسم بقدر ما أصابتني بصدْع كيان، على ما يبدو كان مستعداً أكثر لتلقي الصدوع والإنشطارات من الإنسجام البرانيّ والتآلف.
هكذا وجدت نفسي جزءاً من جيل عربي يقتسم سماتِ الكتابة والحياة والترحّل.. جيل غير مستقر بالطبع، هائم بين ثكنات الأفكار والشرطة والمدن، تلفحه رياح اليأس والنقض والتسكّع.. لقد فتح عينيه ذات صباح على هزائم وإنهيارات لا تُحصى.. وعلى ما هو أحقر وأبشع من الحروب الأهلية التي عرفها التاريخ.
كان عليه أن يغادر مواقع كثيرة أهتز يقينها مفهوماً ولغة كانت ذات يوم مثار عاطفة جيّاشة وربما مشروع لا شك في نبل مراميه وأهدافه.. كان عليه أن يبحث بين الأنقاض والجثث عن لغةٍ تستطيع لمّ شمل هذا التشظي والإنكسار الذي يلف الفرد والجماعة بآفاقه المدلهمة.. ها هو الربع الخالي مرة أخرى، لكن في زمان ومكان مختلفين وعبر وعي مختلف.. متاهة في المكان ومتاهة في الرأس جعلت المُثل والرموز والأقنعة تتكسّر عند أول شروع في التفكير والكتابة.. فلم تعد المرأة المرموز بها لوطن قادم من بين جحافل الفقراء ولم يعد الوطن ولم تعد الفكرة الجامعة المانعة.
لقد أهتزت الأرض من تحت قدميه ومادت صار الغياب والسعي في المجهول.. صار الغياب القاهر ربما هو الإطار المرجعي والروحي والكتابة تعيش وتتنفس في بهو هذا الغياب. والوقائع تَرْشح رموزها وإشاراتها الفورية الجارفة من غير إتكاءات مسبقة وأقنعة، يقف خلفها الشاعر يتلو نبوءته وقراءته الواثقة للمستقبل.. كان العريُ الدموي الساطع كالصحراء سمة المرحلة.
في هذا السياق أندفعت قراءة الشعر والعالم أندفعت العبارة الشعرية العربية إلى ذلك التغيير في طبيعة الشكل الذي وصل حد النمط والترجيع.. وصارت إعادة النظر حتى حدود الفوضى والخلط، في المنجز والمتحقّق فكرياً وثقافياً، في ضوء تغير المرجعيّات والتأثير وطريقة استخدام اللغة.. وصار ثمة ميل أكبر لقراءة التراث السردي والعربي والمشرقي وتوسيع رقعة الإستفادة منه، بموازاة التغير في طبيعة الحوار الشعري مع "الآخر" والمرجعيّات الغربية، فبرزت أسماءٌ ومقترحاتٌ إبداعيّة لم تكن واضحة في المرحلة السابقة، شعراء هاويات ونزوع تدميري وشعراء حياة.
أندفعت العبارة الشعرية التي أنفتحت على الفن البصري أكثر، نحو القلة والهوامش وصار النقصان والعابر في مواجهة وهم الإكتمال والتمركز، زاد المرحلة من غير ترفع على مفردات وأحداث صغيرة بعينها، تتوخى أن تنتظم في مناخ أو سياق.
وليست هذه الإشارات بعيدة عن ظلال الفلسفة الجديدة من نيتشة حتى جيل دولوز، كما أنها ليست بعيدة عن رؤى أكثر قدماً عند ابن عربي حين تحدث عن كمال الأشياء والوجود في نقصانها، وإن كان ابن عربي ينحى منحى ميتافيزيقيا خاصاً دافعاً فخامة الكمال إلى مركز المطلق.. ابن عربي الذي كتب أيضاً حول الإنفصال والترحّل عن المحيط الخانق عبر السفر في الروح والأمكنة في المرئي واللامرئي والكتابة عن هذه الأسفار فيما يشبه التوثيق الباطني، يمكن أن يكون أحد الأدلة الكبار في بحث المخيّلة الشعرية والمعرفة.
قرأت شعراء التجديد الأوائل في مرحلة الحداثة الشعرية العربية من السيّاب وقباني وأدونيس والخال وعبد الصبور إلى محمود درويش وغيرهم عبر بوابة المكان القاهرية.
في الطور الثاني من عمري وفي أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، شهدت نوع ذلك الإرتجاج في سياق الكتابة العربية الذي أنتمي إلى زمنه هذا وأشرت إلى بعض سماته.
وليس في ذهني وهم القطيعة التي يرطن بها البعض ولم أرَ يوماً أن قصيدة النثر حلت محل سابقتها رغم انتشارها وتحولها إلى ما يشبه المتن الشعري، كما لا أرى ولا أستسيغ التفكير أن هذا النمط التعبيري يحل محل آخر ويقصيه من أرض الإبداع، فأشكال التعبير في تاريخها مفتوحة على التغيير والتحول.. ويمكنها أن تتعايش وتتفاعل وتتصارع ضمن أراضٍ واحدةٍ وزمن واحد أو أزمنة مختلفة، فواحدية التفكير هذه لا بد تصب في ثكنة القمع لأي تعددية ممكنة، ودعاة الشعرية العربية تبادلوا هذا الإقصاء في الكتابة كما في الحياة كما أن الجيل ليس بديلاً عن جيل آخر، ومن السذاجة التفكير على هذا النحو التحقيبي المحدود.
بداهةً هناك ما هو مشترك وما هو مستمر إبداعياً حتى عبر المفارقة والإختلاف.. فمثلاً أشرت إلى أن الشعر الجديد صار يميل نحو النقصان والتفاصيل والأجزاء.. هذه السمات لا نعدمها في المرحلة السابقة وإن تعمقت واتسعت لاحقاً.. ولم يكن وضعها في مقابلة ثنائية مع ما أصطلح على تسميته بشعر القضايا الكبرى أو الكلية وضعاً موفقاً.
فالوجود جميعه خارطة لهواجسنا وأحلامنا وتناقضاتنا، مسرع لصنيع الكتابة وتجلياتها المختلفة.. فالحياة والموت والمسألة الإجتماعية والإنحطاط الحضاري والحب والكراهية لا تنفصل عن شعرية الأشياء ولا تقابلها، بل يظل الشعر على سطح هذه الأشياء والحياة اليومية، إذا لم ترتبط تلك الخيارات الفنية بخلفياتها الروحية والإشارية والمرجعية الأعمق: الواقع وما وراءه.. العابر بالأبدي.
بداهة ليس هناك من هو ملزم باقتفاء أثر أحد، أقصد أسلاف الحداثة المباشرين أو غيرهم وربما العكس فالتعبير عن تلك القضايا بقدر ما هو قديم وعبر مختلف حقب تاريخية، بقدر ماهو مرتبط بسياق تاريخ من الإجتماع والأمكنة وتغير الحساسيات، منها تستقي الكتابة هواجسها واختياراتها الأسلوبية.
اللغة مهما كانت محمّلة بتاريخها الطويل وتراكماتها، ليست ممارسة قبلية ومعطاة سلفاً وإنما على صعيد الكتابة، محاولة كشف وسبر أغوار وعتمات، وهي محصلة اندماج المعيش بالمتخيّل.. هذا المعيش الذي أفضى إلى ما هو عليه عربيّاً، صار أكثر استفزازاً للكتابة الشعرية التي واصلت نقضها وضديّتها حتى حدود العدوانيّة.. فالنقض الشعري والأدبي لما هو سائد لا يرتبط بمشاريع وتكتيكات تطبع مرحلة بعينها، وإنما هو حاجة داخلية صميميّة، بمثابة الرافعة الوجودية للكتابة.
الموت كما الحياة.. مسرح الكتابة.. إن هذا الجسد المحاط بهوام الموت وهواجسه ومطارقه التي لا تهدأ ليل نهار، لا يمكن مواجهته أو التخفيف منه إلا عبر اللغة وربما الذوبان فيه وتحويله إلى كائن أليف.
إنها المنطقة الأكثر خطورة التي تلجها الكتابة، المنطقة التي تشبه منطقة في الربع الخالي تدعى "عروق الشيبة" التي تبتلع تحولات رمالها الهائجة قطعان الجمال والماشية والبشر من غير أثر وكأنها لم تكن.. هذا الموت القاسي وسط تلاطم أمواج الصحراء، هذا السحق الذي تمارسه الطبيعة، سيكون نموذجاً لطيفاً لسحق البشر بعضهم بعضاً.
وليس الموت المحيق بإنسان العصر الحديث بأقل قسوة، وإن كانت قسوة باذخة وسط حشود التكنولوجيا ولمعان وسائل الإعلام.. طرق عديدة لموت واحد والبشرية كلما أوغلت في التمدين والتحضر أوغلت أكثر في ابتكار أدوات الرعب والموت والتفنن فيها.
الكتابة بهذا المعنى ليست لعباً لفظياً ولا صوراً بهلوانية تتوسل الإدهاش البراني لإخفاء فقرها الدلالي والروحي.. إنها لعب أكثر عمقاً وخطورة وجمالاً، إنها الإقامة في حدود القسوة والموت.
إذا كان العالم هو مادة الشعر، فمكان ما يستحيل عالماً، هكذا يلتهم الربع الخالي العالم ويستوعبه.. وكما عبر إزرا باوند:"تاريخ كائن ما لا يعبر عن المكان المغلق الخاص بحياته بل عن إرادة تشرّده".
وفي هذا السياق، كانت الكوابيس والاستيهامات والأحلام التي غذّت طفولتنا بين تلك الأطواد ترحلت معنا، بعد أن أخذت هيئاتٍ وأشكالاً مختلفة.. وكبرت بين الطرق والمدن والأفكار، لكنها لم تهرم، بل طلت على نضارتها (الكوابيس خاصة) وكأنما الواقع منجم هذه الكوابيس الذي يشيخ عبر أراضٍ تنهار باستمرار، لا يجد ضالة الإستمرار والتجديد إلا في هذا المضمار، إنه الواقع العربي بامتياز.
الذئاب والضباع وبنات آوى ومختلف ألوان الجوارح والسباع، والصخور البركانية ولا نعدم طيوراً أليفة وجناناً خضراء لا حدود لتموجاتها الناعسة، قبل أن يلتهم الجد الأكبر تفاحته ويسقط على هذه الأرض الرهيبة.
هذه العناصر التي سكنت أعماقنا وسرت في عروق السلالة، ذابت في نسيج النص مع الشوارع الكبيرة في ليل المدن وأنفاق المترو والمقهى الملاصق للأستوديو وتلك المرأة ذات الملابس الخفيفة في صيف الحديقة العامة حيث يتصادم الغرباء جامعة إياها وحدة التيه والإغتراب الأزليين.
لا يمكنني الشروع في أي كتابة مهما كان هاجس جدتها ومدنيّتها إلا ويتدفق ذلك الكون البري، منازل الخطوة الأولى ليكون لُحمة النص وسُداه.
لقد فرضت علي هذه (التيمات) أو المواضيع، إن كانت هناك مواضيع لهذا المناخ الملحمي أن أمضي بجانب القصيدة المقطعية والشذرة في كتابة قصائد طويلة تشكل متن الديوان وتتوسل مناخات شبه ملحميّة، لكن لا توجد فيها عناصرها المعروفة ولا تستدعي حبكات وأساطير وتصورات جاهزة وإنما تتلمس طريقها في العتمة بأدوات معرفة قليلة وبألم وحدس أكبر ربما عبر متواليات تحاول الإنتظام فيما يشبه النص المفتوح.
إنني أحاول التجريب، بوصف التجريب قرين حياتنا ومكون بين مكونات شتاتها ونسيجها إن صحت هذه المفردة الأخيرة.
كالصدفة تماماً، كالصيد في الظلام الكاسح.. التجريب بهذا المعنى يشبه عصا الأعمى الباحثة في الزقاق عن مخرج، إن ثمة مخرج يوصل إلى الطريق العام أو الجماعة.. إنه ليس خيار العارف بالطريق.
نحاول أن نكتب من غير خطط ولا مشاريع، ربما لأن الأعمى يجلي وضوحه وسط ظلامه الخاص، ربما لأن فيض الصحراء وسراب وضوحها الكاسر لا بد من الإستعانة عليه باللغة في هذه المنازلة اللامتكافئة بين كيان جبار باطش ولا نهائي وآخر هشاً، إلا من نزوع رغبة البقاء ومقاومة التلاشي في رمال القطيع الجارفة وقيمه.
أو كما عبر على نحو آخر بابلو نيرودا "أولئك المدفوعين غريزياً لإطفاء النور".
لا حـَـــلـْــق للشاعـر
عبد الله الريامي
ليست لديّ أوهام حول الشعر.
ما أدركته حتى هذه اللحظة هو أن الشعر بالنسبة إلي شكل من الأشكال التي تتيحها لي ورطتي.. شكل أستطيع به ممارسة ورطتي، أعني الحياة وإذا زدت، قليلا، فهو إحدى عاداتي الخاصة.
ليست هذه خلاصة (أكره الخُلاصات والخَلاصات معا)، إنها فقط حزمةُ غموض أخرى نضطر إليها لعلف أيامنا.. فالتعريف سلاح واهٍ أمام الشعر.. ومحاولة إستخدامه للإقتراب منه يؤدي إلى هاوية فعلية.
هذا الذي يستعصي علينا ويُعجزنا، لا نتورع نحن ولا نخجل من جَلده المتواصل بالإقتراحات والتصورات والنظريات التي من الممكن أن ترى غرورا ما، إلا هذا الذي يلفظ كل تعريف له أو اصطلاح عليه، هذا الذي لا يحتاجنا: الشعر.
ليست لدي أوهام حول الشعر:
قداسته
وفاعليته
ولا عن الشاعر، وظيفته ورسالته السحرية.
وكما هي الذاكرة لا يمكن أن تكون محايدة، فإن الشعر ـ بالنسبة إلي ـ ليس سوى ذاكرة ذاكرة تخلقها وتنفخ فيها وتمتطيها الحواس.
الحواس أبدا جوهر الشعر الذي لم يمت ولن يموت ما دام الإنسان نافورة من الحواس وما دام الشاعر تلميذها الوفي وغواصها العنيد.
الشعر كلهُ منذ أن كان بكتُبه وكتابه، ما هو إلا قصيدة واحدة متصلة، لا نهائية يمرّرها عبر الزمان، جيل إلى جيل، وكل يختار نوع قراءاته وإضافاته أو حتى شكل التنويع والتكرار بما تمليه عليه حواسه وقت وجودها في الزمان والمكان.
2
بالحدس الحُـرّ والحواس الفارسة أعرف الشعر.
إننا حين نقرأ قصيدة أو شعراً (القصيدة يسميها من يسمي نفسه شاعراً، أما الشعر فيكتبه الكثيرون من فيلسوف مثل نيتشه إلى فلاح يدحرج صخرةً باتجاه الغروب، هؤلاء يكتبونه دون أن يُسمّـوه)، حين نقرأ قصيدةً أو شعراً ونقع تحت سطوة الإنبهار التعبيري وما يتبعه من حيرة بالضرورة، فإن خير ما يمكن فعله أمام التجدد والإمتلاء واستجابة الحواس والمعرفة المحصّلة في الأعماق وليس على السطح، هو الكف عن عبث التفاسير والتقصيات والإحالات المتعمدة، تجنباً لما يمكن أن يقوم به السلوك الدارج لطفلٍ أمام لعبة تبهره، وعندما يحاول معرفة أسرارها، يُفضي به ذلك إلى تخريبها وتهشيمها.. فلا هو عرف لها سراً ولا هو أبقى عليها.
أليس ذلك حال بعض قراء نقد الشعر هذه الأيام ؟
ينصحنا الشعر، دائما كلما أصابتنا إثارته وحيرته، أي كلما طغى، أن نكف عن ذلك العبث وأن نحتفظ تجاهه بالتأمل الطليق وبِصداه الداخلي اللامتناهي وأن نحتفظ للروح بسرّ إضافي، وللحواس بحياةٍ مبتكرة في غموضه وإنفتاحه، في بعده وقربه في آن، كالأفق عندما يمنحنا لذةً ويُمهد تأملاً ويستثير خيالاً لكننا لا نفكر أبدا في ملامسته أو القبض عليه.
إن التملك في حدوده الضيقة وحالاته الطارئة، هو الطريق المعاكس تماماً إلى الشعر، حيث ينتفي أي أملٍ للدنو منه، مجرد الدنو.. إذن أليس من المجدي حقاً أن نذهب إلى السينما مثلما نذهب لمشاهدة الشروق؟، أو أن نقرأ بورخيس في "المرأة والقناع" مثلما يمكننا الإستمتاع بصحبة الليل وفرسانه.
إنني مؤمن بأن أجمل وأعمق ما كتب عن الشعر هو ما كتب من داخل الشعر نفسه ذلك الذي كتبه الشعراء بحق أنفسهم وبحق الشعر، أيضا وبتعبير أوسع ذلك الذي كتبه المبدعون روائيون وقصاصون ومسرحيون، وليسوا نقادا خالصين، إلا فيما ندر، وذكر أسماء معينة في هذا السياق لا يمكنه أبداً اختصار القائمة الطويلة للذين أنجزوا العادة نفسها.
3
لا حلق للشاعر منذ أن رأى وسمع الدراما الأولى (المستمرة) التي مثّلها قابيل وهابيل بإخراج آدمي (لا يمتّ لآدم الشائع بصلة) مثّلها الإثنان بمشاركة أبطال آخرين، نتساءل في الوجود والتاريخ، عن الذي يتحمل مسؤولية تغييب أدوارهم وفي المقابل إقحام دور لبطل وهمي، أزليّ.. إنه السيناريو المجاز والمستقر حتى الآن.. ومن ذلك اليوم أي منذ أن عملت حواس الإنسان لأول مرة وأكتشفها مجتمعه حين عبرت عن رغبتها وسعت إليها وهوت المطارق العملاقة للإنسان والكون مطارق الذهول والنية والوحشة والمجهول، فقد الشاعر حلقه رطباً وإلى الأبد من ذلك اليوم مُـيز وسُمي شاعراً.
هل نحاول عبر هذا الطريق تقدير العطش الأبدي للشاعر، عطشه الروحي والحسي، الذي ذهبت سُلالته في سبيله نفياً واغتيالاً وجنوناً منذ أن كانت ـ هذه السلالة ـ وإلى ما لا نهاية.
4
لعل كل هزيمة كبيرة نالها أو ينالها الإنسان فرداً أو أمة ناتجة بالأساس عن إختلال الذوق وفساده.. أليس فقدان الذوق فقدانا لقدرة الإختيار؟.. فساد الذوق في الفكر والروح والطبيعة والفن، الجمال بجذره وجذعه وفرعه.
وإذا كنا كذلك نعيش في زمن فسد فيه الذوق وتعفّن عربياً بالجدارة وعالمياً بعبقرية الهمجية تتقدم في طموح سافر قد يتجاوز جميع المراحل السابقة التي تعرض لها تاريخ الذوق الإنساني للفساد المريع.. يحلو لنا أن نتساءل ألاّ ينال ذلك من الشاعر مستعينين هنا بالتبرير الجاهز: "تأثره بالمحيط".
بالتأكيد أن الرغبة العملية في الجواب على هكذا سؤال يقتضي بحثاً مغايراً تماماً.. لكننا نستطيع الإنعطاف قليلاً: لندع للشاعر أولاً حرية صياغة السؤال.. وأهمية إجابته عليه بمعنى رؤياه وليس على مجرد إستفهام بنعم أو لا.. ثم محاورته في مهمته الأبدية هذه. وهل يزعم الشاعر أنه ضالع بها في هذا الزمن.. إن تجربته التي بين أيدينا منذ تغيير (أو إضافة) الخمسينات (إذا شئنا) الشعرية، وحتى اليوم، هي التي من المفترض أن تكون مضماراً لهزة شعرية جديدة (نصاً ونقداً) لنقرأ على أية حافة كنا سنسقط.. إن الإشراقات المتناثرة وبعضا من الإنجازات (غير الكبيرة) التي في راهن المشهد الشعري العربي غير قادرة بالنسبة إلي ـ على إسماعنا صوتاً فارقاً.. بالتأكيد لسنا نعيش فساد ذوق شعري على غرار الفساد الشامل، لكننا أيضاً غير قادرين حتى الآن (في تجربتنا الشعرية الحديثة) على شاعر يغرس نفسه شجرةً كونية، مثلما تعلقنا بأغصان أشجارهم طوال القرن العشرين المدهش شعرياً من اليونان حتى الأميركتين.
ولأننا نحيا على هذه الأرض ـ في هذا الزمن ـ مجازاً فإنه ولهدفٍ واضح (أياً كانت صفتُه) نرغب في أن نعيش في الشعر حقيقة، في الوقت الذي غير غافلين فيه عن كون الشاعر كائناً راكضاً لا يصل، كائناً مُلاحقاً دوماً وغير ملحوق أبداً.
5
ربما تكون قوة ومعجزة الشاعر التي دأبت سُلالته على تدبيرها، تكمن في إرادته الإنتحارية، إرادة الحرية.. وبسعيه إلى ذلك عبر الفكر والفن والجسد، أصبح الشاعر غير مُجارى في عثراته وخيباته وخساراته... ومتى قطع أشواطا أكبر، تتراءى له حريته (حقيقة أو خيالاً، لا يهم) وكلما نحل جسده وضاق تنفسه تتسع الأرض أكثر، لكن دماغ الشاعر ـ وكما هو أبداً ـ ينفجر في الطريق قبل أن يصل حتى إلى رمقه الأخير.
إلى هنا وتنفذ كل حيلة
لأن الشعر هو الحيلة العظمى التي لم نعرف منها، بعدُ، إلا أقل القليل.
مارس 93
الغناء في المنزل القديم%
سماء عيسى
1
بإعتراف أنّ المكان ذاكرة الشاعر الفردية والجمعية، المكان أمام الشاعر:
الطفولة، الخصوبة، خصوصية التشكل.
هكذا شكـّلتْ عـُمانُ خصوصية، قدّمت عبر التاريخ تجارب شعرية خصبة ومتنوعة شكلت هذه التجارب حلقات متواصلة، ربما تنقطع بين مرحلة تاريخية وأخرى إلا أنها تعود ثانية ـ بعد إنقطاعها ـ أكثر خصوبة وعمقاً.
خصوصيات الهجير التي اتسمت بها:
أرض مهجورة تسكنها أمهات حزينات، ضاقت لتتسع لقبور صغيرة، قبور أطفالها على الأخص، ضحايا الأوبئة كالطاعون والجدري ـ تلك الأوبئة التي تبيد قـُرى بالكامل، عن بكرة أبيها ـ الجفاف، القحط، حيث قرى زراعية غدت يبابا.
أمام ناظريّ وأنا طفل كانت تلك الشجيرات الصغيرة والتي تنتشر بأوديتها ونعرفها بالسـّمـر، هي إياها الأطفال الموتى.. الشياه الصغيرة التي ستظل تحت أغصانها هي إياها الصبايا الموتى.. ومنذ ذاك فالمرأة هي الأم الحزينة الباكية أطفالها.
أقتربت هذه الأرض في طفولتي من الموت، أقرب منه إلى الحياة.. الموت وهو يحصد في حضور دائم الأطفال والأمهات.. هكذا وعيتُ مبكراً تأرجحي في حلقات من العدم لا متناهية، وأنه في الشعور الجمعي تشكلت لدينا ذاكرة من الحزن والفقدان والهجير.
إن مصدرالفجيعة هنا إذن ليس ذهنياً، قدر ما هو حصيلة تجربة معاشة.. العالم حافل بالفجائع والفقدان، غير أن الحياة تمضي فارضة شروطها العسيرة، لا أمل للمرء غير الإستسلام لشروطها وقضائها.. قدر الشاعر هو النهوض من جذر طفولي مأساوي، خـَلـَقـَهُ مكان نشأته، حيث تبدأ الأشياء في التشكل والتكون.
أسير باحثاً عن شهداء الحركة الوطنية، الذين عرفتهم منذ الصـبا.. وجذّر غيابهم في الأعماق فجيعة الغياب والأسى.. كانت الحركة الوطنية التي أنتميت لها باكراً شعاعاً ينير للجميع درب ليل طويل مظلم، لم تكن له نهاية مدركة في ذلك الحين لكنها وكشجرة صغيرة خضراء، أحيطت بمزارع من الديناميت، جعلت أبناءها يتفجرون نـُثاراً في الأرض والهواء شهيداً خلف الآخر.. ومن عـَرَفَهم عن قرب وحميمية وحب، تسكنه بالطبع فجائعية المشهد، وتغدو تجربة الكتابة لديه محاصرة بنبل أرواحهم وهي تستقبل الرصاص، من أجل غد كان كأحلام صباهم الثوري الخلاق.
لاحقاً شكـّل المكان، وهو مصدر فجائعي متراكم منذ الطفولة، منفى جمالياً شعرياً وروحياً في آن، لأقوام غابرة شكـّل الوطن منفى.. ومكان العزلةِ البعيد هذا، نمت به في هدوء وصمت، تجارب شعرية وفقهية وسياسية خلاقة.
على الصعيد الشعري خاصة، أوحى المكان للشاعر حسّ التأمل الصوفي العميق وكأنّ الشعر رغبة في التوحـّد بالأرض، والعودة إلى ترابها في صمت وجودي خلاق.. جاء جمال الشعر لديهم محملاً بالهول المخيف من الجمال المفقود، وكان كمعين أساسي بل وكغذاء روحي، غذى لديهم تجارب الفقدان والرحيل.. كان منفى أوسع وأكثر رحابة، جابه الإنسان به الحياة إذ ذاك، كغذاء روحي جدّد من مقاومة بقائه على الأرض.. خاصة في شِقـِّهِ الشعبي، في أغاني الأمهات على الأطفال الموتى، في قصائد البحّارة المـُهاجرين، في تنويمات الطفولةِ، وغيرها.
أن يكون الشعر مسكناً للشاعر، وبيتاً أزلياً يقيه من السقوطِ اليومي، والضياع في الحياة، كفرد طالب للمعاش ـ ما يدعوه هيدجر: الوجود الأصيل في الحياة ـ أو الحديث عن اتساع المنفى، منذ خرج الشعراء بمفهومه السياسي المحدود، حتى الذهاب به إلى الوطن كمنفى للشاعر، اللغة كمنفى للشاعر، الحياة كمنفى للشاعر.
أن يُخلق الشاعرُ منفياً، ويظل دوماً يحمل على كاهله عبء إغترابه وصمته ووجعه، وحيداً في الأرض.. أجدني أقرب إلى سلالات هؤلاء الشعراء، أتبع ظلّ الشعراء الذين ظلوا حبيسي إغترابهم الدائم، جاءت كتاباتهم في الصمت ورحلوا في الصمت أيضاً.. دون ضجيج يخلق الشاعر إنجازه الخاصّ، يعيش وفق علاقة سرية يعقدها مع الكلمات والأشياء، يعيش متأملاً حركتها ودبيبها على الأرض.
أن تعيش كشاعر هي خطوة أولى عليك اجتيازها، أجد متعة بالغة في هذه العزلة عزلة التأمل، وما تضفيه الكتابة من ثراء وجداني عميق.
2
الشعر كهروب من العدم ـ هذه الروح التي تطاردنا وتكاد تفتك بنا، تزلزل ثبوت كياننا المشترك ووقوفنا على الأرض ـ يأتي الشعر ليوقف خللاً ما يطاردنا، ولربما كان الشعر هو الأقرب إلى التعبير عن هذه الروح، في جوانبها القادمة من جذور بعيدة، هذه الروح التي عانى من تمردها المتصوفة والشعراء والفنانون.
أمام إنغلاق أبواب القول، لم يكن هناك للتعبير عن جلال التعالي إلا الشعر، الشعر وهو يضعنا على فوهة العدم.. ولخطورة قدرته يكون قادراً على إيقافي عن السقوط، وإعادتي إلى الأرض ثانية ولكن إلى حين.
ها أنا من جديد على شفير هاوية العدم مرة أخرى، وعلى مدى ثلاثين عاماً كنت أحاول الهروب من الحالة هذه، وهي تنتابني كشجرة تنبت وتكبر في أعماقي.. لم أجد أمامي لوقف سيلها إلا الشعر.. لذلك سيظل الشعر معي ملجأ دافئاً لوقف دحرجة صخور العدم على جسدي وكياني.
أمام شعورك بالإنفصال عن الطبيعة، التي كنت متوحداً بها ذات يوم، والتي لا بد من توحدك بها ثانية، عودتك إليها وأنت ميت، تحلل جسدك كأن يكون فيما بعد غصن شجرة، أو مادة عضوية أخرى تشكل حياة أخرى لكائن آخر.. هكذا تعود إلى الطبيعة الأم ثانية.. لماذا لا يعيدني الشعرُ إليها ؟.
لذلك يحتفي الشعراء بالطبيعة فهي المادة الأساسية التي منها نخلـق عالم الشعر أي نخلق منها أنفسنا ثانية، هرباً من العدم، اللاشيء وهو يفتك بنا.
إذ ذاك وأنت صاعد نحو الفوهة، والعدم أمامك، هاوية سحيقة من الفراغ اللانهائيّ تجد أمامك اللغة ـ وهي المنجز الإنساني التاريخي ـ صادّاً هذا التوحّد بالمجهول تبحث إذ ذاك عن الصمت، خارجاً عن اللغة، بعيداً عن طبقاتها الحائلة وإياك دون الوصول إلى منابع الأشياء وجذورها.
لن تكون قادراً على الحشو، ستجد أمامك اللغة وقد اختـُصرتْ متى عادت جملة أو كلمة، والعالم وقد غدا صغيراً كنملة.. إنك إذن أمام المنبع الذي طويلاً بحثت عنه، ولكنّ تراكمات اللغة كانت تحيل وصولك إلى جذره وقوته الروحية الدافقة.
يأتي الشعر كرعشة الجسد، متلعثم اللغة، غير مترابط الكلمات، ليس دالاً وعقلياً أقرب إلى لعثمة طفولة ولـّتْ وخيالاتـِها العذبة.. ذلك أننا أمام تجربة تعتمد على اللغة، ولكنها لغة تهدم لغة العقل، لغة تظهر من جذور خفيـّة، وتحاول بلوغ تحوّلات باطنية لدى الذات والموضوع.
وكأن كلمة واحدة قد تكفي الوصول إليه، دون الفائض من الكلام المـُعاد.. لذلك عنى الشعراء بلغة الشطح لدى المتصوفة، بالأحاديث النبوية الشريفة، بصلوات الرسل والقديسين، بما خبـّأته ذاكرة الإنسان من الأمثال والحكم والشذرات، التي قدّمت لنا عصارة تفكيرها ةتطورها الروحيّ.
3
إنطلاقاً من تجربة مضت وترسخت في الجذر، أو أختبأت في المنبت، فقط، نبحث عن آفاق قول جديد.. لذلك يأتي الشاعر من تـُراث مضى، ولكن ليستشرف الأفق القادم، أو ما نحن عليه الآن، إذ لا شعر يأتي من الفراغ؛ لا بدّ من مرجعية يقف عليها الشاعر، ويخطو بها نحو الضفة الأخرى، ضفة الشعر.
إلا أننا بالطبع نبدأ الكتابة، دون أن نعي جذرها ومصدرها، فهي تأتي من الجهة المجهولة من القلب، وهي عن غيرها لا تحظى في البداية من صاحبها، بذلك الإهتمام الواعي؛ إذ تباغته قبل أن يباغتها، وتختاره قبل أن يختارها.. تستمر وحيدة معه أثناء كتابته لها وبعد تمامها.
هكذا بدأتُ الكتابة الشعرية، معتمداً على التجربة، وما تضفيه من دافع قويّ لإفراغ الشحنة، دون تدخل ذاتي أو ثقافي مسبق مقصود، إذ ذاك كان من الصعب فصل العاطفة عما نكتب، أو الحدث عما نكتب، والإنعكاس المباشر لما يشكله الحدث علينا، خاصة في خضمّ التجربة السياسية العربية عامة.
مع الزمن ومروره، نكون فقط قادرين على المضيِّ أبعد من الذات ومحيط تأثيراتها.. بل حتى ونحن نكتب، مشكلين تجارب جديدة في الكتابة، قد لا ندرك ما نحن قائمون به، ولن نقطف وردة الشعر، حتى والزمن يقطف وردة العمر.
قدر ما نقترب منه، يبتعد الشعر عنا، ويبقى طريقنا إليه كمن يسير في درب لا نهاية له.
كلما أنهيتُ كتابة تجربة شعرية ما، أحسستُ أنني في بداية الطريق إليه، وأنه عليَّ اليوم قبل الغد، الشروع في قراءة تجارب جديدة، تدفعني إلى العيش في أحضان تجربة جديدة، تظل مجهولة المدارك حتى نهاية كتابتها.
ولكن ما هو ضروري حتماً، لإستمرار الشاعرية، هو الإنتقال من موقع إلى آخر متقدماً بتجربتك، ذاهباً بها إلى الأقاصي والمجهول.. بمعنى التعميق الدائم للتجربة الشعرية مع ثبات ثيمات تجربتك في المنجز الشعري.. ذلك هو تحدي الشاعر وقدر بقائه:
الرحيل الدائم؛ ابتعاداً عن دوائر إنجازه الأولى، سائراً نحو تجربة مجهولة أخرى وهو ما نطلق عليه عالم الكشف الشعري الغامض غير المرئي، البعيد كهالة مظلمة في السماء.
شهادة قـُدِّمت إلى ملتقى الإمارات الشعري، والذي أنعقد بالشارقة بإتحادِ الأدباء والكتاب 6 - 8 فبراير 2005
لا تزال تدور
عبدالله حبيب
هل للعابر من داخل القلب إلى ساحل الفؤاد سوى أن يعضَّ بضلوعه على حلمٍ قديمٍ يحنو على رفاته كما لو أنه سليمان ؟. هل له سوى أن يعلن انتماء الشفاه للقبلة، وأن يحدد هوية القبلة بالقلب ؟. لقد مضى زمن طويل طول ليالي القتلى، وكبرنا كثيراً ــ ربما أكثر مما ينبغي ــ وتراجعنا كثيراً إلى حد أن الإندحار لم يعد مغرماً بالأسباب وخُدعنا كثيراً، فتشظت الروح من وهمٍ إلى هيام، ومن مكابرة إلى كبرياء، ليس لأن الروح غرَّة سهلة القياد، بل لأن وجيبها لا يرعش كطير ذبيح إلا في الجذور المقدسة الضاربة بعيداً هناك، في نسغ التشكل الأول؛ التشكل الذي لا يزيد أغصان الغُبن إلا ضيراً.
ليس أمامه سوى الجمر، وليس خلفه إلا الجمر؛ أعني أن ليس له سوى أن يقبض على حلمه كالقابض على الجمر، ليس لأنه ضاق باللهيب الذي يحرق أحشاءه، بل لأنه في الجمر ــ وفي الجمر وحده ــ يُحرِّر الماء بين البحر والموجة، ويحرره الفضاء بين العين والنجمة.
أي سلاح لدى الأعزل إلا من العزلة ؟، وأي خناجر من الضوء ستزيد الجسد العاري إشراقاً في جرحه الأول، وفي جرحه غير الأخير؛ الجرح الذي يتضرَّس نزيفه الكاسح خارطة بديلة تلملم أشلاء المكان في طين الزمان ؟. ماذا لديه غير الشعر ؟.
تليق الأسئلة بالشعر ــ هكذا، خرقاء وفاتنة مثل الخطيئة الأولى؛ ذلك أن الأقدار لا تشغف بالإجابات، ولا يتعين عليها أن تبرر حكمتها القاسية، حيث لا يجدر بالمصيبة إلا أن تهبط السُّلم جمجمةً جمجمةً حتى تصير إلى الشمس: هناك يقف الشاعر في مركز البركان وقد أشعل الكواكب بالصوَر مسدداً بصيرته رمحاً أخيراً إلى بصره، بعد أن عمَّد الحقيقة بالكلمة، وبعد أن أطلقه قوسه قُزَحَاً يضيء الوقت بالتوق.
يطلب الشاعر الشعر لأنه يزوغ منه، ويطالب الشعر بالشاعر لأنه يغزوه. وبين الزوغ والغزو تتكسر الأنصال على العظام، وتخر سجدة الشعر على جسد الشاعر. عند ذاك تنفخ الهزيمة الروح في النص ــ هكذا، قاب قوسين أو أنأى من النصر ــ وتمزق الكلمات أكفانها، وتخرج لتشرب الدهشة نخباً للشهيد الجديد.
لكن الشعر ليس عزاء ولا سلواناً. إنه فداحة إضافية تضاف إلى علنية هزيمة الشاعر، وإلى التاريخ السري الطويل للحروف قبل هبوطها في روحه. ولا يفعل الشعر سوى أن يسقي حقول الفجيعة على ضفتي الذاكرة كي لا تموت بهجة انكسار الشاعر على شراعه حين يطالب الماء بقرابين النبوءة كي يفيض، وكي يخضر. هل يحضركم مصير أجمل عذارى الفراعنة ؟.
وليس الشعر مقايضة أو تعويضاً جمالياً عما عوني موضوعياً كما يزعمون. كلا، إنه العكس تماماً، فهو إعتراف اختياري به، وتوكيدٌ صريح له في مغبَّة الكتابة؛ تلك الحربة الحرباء التي لا تكلف جريمتها نفسها عناء أن يكون لها حَدُّ ثانٍ غير قلب الشاعر، أو رأسه.
وليس الشعر ــ بالنسبة لي على الأقل ــ لعبة الطفل التي يبتكرها الشاعر، بل انه الطفل الذي تنجبه اللعبة الخطرة حين يلج الألم إلى أكثر الأعضاء حميمية؛ أعني الزخم أو الحس. إنه الطفل العاق الطاعن في شقاء لا يضمن لأبويه سوى التلاشي في عزلة الندم.
ولكني خارج هذه المقاربات الأولية التي لن توقع بأحد غيري لا أعرف ما الشعر، وليس توقي هو أن أُعَرِّف الشعر؛ لأن مطمحي ليس أن أَعرف الشعر، بل أن يَعْرِفني الشعر ولو قليلاً كي لا ترعف روحي بسواه. بيد أني، في الوقت نفسه، لا أتوفر على قدر كبير من الشعور بالمسؤولية بحيث أنكر أنى لمحت بعض ملامح تلك الحربة التي قطعت شراييني وقضمت كبدي. ولهذا فإني أود أن أقطف تفاحة عين الفلسفة القروسطية في مفهوم الـ via negativa (أو "الدرب السالبة" حرفياً، و"المنهجية السالبة" في النسق الفلسفي، والتي كان الفلاسفة يحاولون من خلالها الوصول إلى الله).. أقطفها، إذاً، لا لأقضمها، بل لأتركها تتعفن مضيئة بذلك عتمات تلك الكينونة الهائلة، حيث أن الشعر"هُوَ" فحسب. الشعر هو، ثم نقطة وتنتهي الجملة ليبدأ الشعر؛ أي ان الشعر ليس هذا ولا ذاك، ولكن الشعر هو كل ذلك الذي يقع خارج كل ما ليس بشعر. هكذا أريد لحُنَيْن، مثلاً، أن يعود بعد السفر الطويل محمَّلاً بخفين مليئين بالخسارة؛ أي بالشعر.
وبعدُ فإن الكتابة ليست إلا أحد تجليات الشعر، ولكنها ليست أصله، بل ربما كان مجرد التفكير في كتابة الشعر اعترافاً جسوراً بهشاشته أمام عنف الروح وغطرسته أمام توسلات اللغة؛ ذلك أن الشعر يوجد خاماً ووحشياً في الحياة قبل أن يدفع به الصيادون إلى شراك التعبير الذي هو ــ كما نعلم جميعاً ــ ليس أكثر من مِرشَح تمثيلي أبعد ما يكون عن أصلية التجربة أو نقاء البوح. وإن وعدتموني بأن تحفظوا السر ولا تبوحوا به لأحد فسأبوح لكم، بما يليق بحميميَّة الشعر وتعريضه بصاحبه، أني قبل خمس عشرة سنة من الآن كنت في هذه المدينة تحديداً. كان الجسد على وشك بلوغ رحيقه. وعلى رصيف مشاة لا يبعد كثيراً، بالمناسبة، عن هذه القاعة، ومن غير قصد ــ أعني بعفوية الشعر الجارحة ــ أحتكت كتفي بنهدٍ شرسٍ في زحام العبور، فأزدحمت عظامي بالكهرباء. ذلك هو الشعر: إنه تلك الموجات الشفافة والكاسحة التي لا توصف، والتي تنقل الطاقة من محركها في اللحظة الإستثنائية ــ اللحظة التي تحدث فيها الأشياء للمرة الأولى، أو كما لو أنها الأولى ــ إلى الكائنات والهواء والماء والنار والتراب. إنه موجات الطاقة التي تتسبب في دوران هذه الأرض الثقيلة حرفياً ومجازاً.
لقد مضت سنوات طويلة منذ ذلك العبور المزدحم، ونسي الجسد في غمرة ما مر به من صعقات كاملة تلك اللحظة الجارحة. وحين وصلت إلى هنا قبل أربعة أيام، وفي الساعة الأولى من وجودي في هذه المدينة، تسببت ضرورة الصدفة الشعرية في أن أمشي على نفس الرصيف القديم ذاك من غير أن تعي الذاكرة ذلك. لكن يا للشعر الذي لا ينسى من أين تؤكل الكتف؛ فحين لامست قدماي تلك البلاطة التي اختلجت قبل خمس عشرة سنة إذا بالأرض ترتعش من جديد، فقد تنكرت العظام لنضجها الكهربائي، وأصغت الروح إلى أجراس الشعر في خطوات كائنين تاه كل منهما في مصيره منذ خمس عشرة سنة.
وإن طلبتم أن أقدم لكم دليلاً على أن ذلك شعر، فإن دليلي هو أني لم أستطع أن أكتب "قصيدة" عما حدث قبل أربعة أيام
وما حدث قبل خمس عشرة سنة
وأن الأرض
على الرغم من كل شيء
لا تزال
تدور.
قدمت هذه الشهادة استهلالاً لأمسية شعرية في اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، فرع أبوظبي، 1993