Wisława Szymborska
(2 تموز 1923 -1 شباط 2012)

ترجمة وتقديم: هاتف جنابي

  1. مدخل
  2. قصائد مختارة
  3. محاضرة ستوكهولم

شاعرة المتناقضات والتفاصيل
فيسوافا شيمبورسكا توفيت يوم الخميس المصادف الأول من شباط/فيفري 2012 (فيسوافا شيمبورسكا) الشاعرة البولندية الشهيرة الحائزة على جائزة نوبل في الأدب(1996). كان لها من العمر 89 سنة. اشتد عليها المرض كثيرا قبل موتها حتى أنها ماتت أثناء نومها. فنعتها الأوسط البولندية الرسمية والشعبية وكذلك وسائل الإعلام العالمية.
شيمبورسكا شاعرة التفاصيل والتناقضات بامتياز. شاعرة " الجزالة الشعرية" و"السهل الممتنع" بامتياز. كل قصيدة من قصائدها, مهما كان مستواها هي قصيدة جديدة، تشكل حضورا وتفردا بامتياز. تكاد تكون شيمبورسكا قد كتبت عن مختلف شئون الحياة بطريقتها الخاصة، بحيث أصبحت كل قصيدة لها بمثابة لوحة إما أن تتفاعل معها أو ترفضها وهذا أمر صعب المنال بالنسبة لعموم الشعراء. يغلب الوعي على ما هو سواه- في مجمل عملية الخلق الشعري لدى الشاعرة. الأمر الذي لا ريب فيه – وهذا بحد ذاته استنتاج يتسم بالمخاطرة في النظر إلى الأعمال الفنية عموما- هو أننا لا نلمس في شعرها تخطيطا مبتسرا وسابقا على ما يمكن أن ُيخلق ويعتمل ويجري في خضم المخاض الشعري. هذا الوعي يتدخل بعد الشروع في عملية الخلق مباشرة. هذا ما تقوله القصائد. علينا أن نتذكر أن الوعي شيء والتخطيط شيء آخر. شيمبورسكا شاعرة مقلة ومقتصدة في القول الشعري(لها 350 قصيدة منشورة). فلو كانت تخطط للقصيدة سلفا لجلست وسفحت ما تريده على الورق, خاصة وأن القارئ (محليا وعالميا) والوسط الشعري متعطشان لجديدها. قالت في مقابلة مع الراديو البولندي ذات يوم: إن القصيدة تجيء بهيئة فكرة فإما أن تكتبها مباشرة أو أن تكتب جزء منها وتعود لتكمله فيما بعد أو أنها تسجل الفكرة في دفتر. كل شاعر يرغب في كتابة قصيدته دون الرجوع إليها مرة ثانية ولكن هذا ليس أمرا سهلا دائما. لماذا تراني مدفوعا لإثارة هذه النقطة؟
أود هنا أن أشير إلى ثلاثة أقطاب أو بؤر. ألا وهي الجو الشعري، والمزاج الشعري للشاعرة، والمسئولية الملقاة على عاتق كل كاتب، وأعني بذلك المسئولية عن قيمة ومستوى العمل الفني. ما يعود للشاعر هو مزاجه الشعري، وهو أيضا ما تخيله العرب القدامى والإغريق وحددوه بشيطان الشاعر أو بجن الشعر. نعم، للشاعر جنه وجنونه وهوسه الفنيّان. وهذا بحد ذاته لا ضرر فيه إن كان بمستوى عملية الخلق الفني ذاتها، بدون تصنع ومسخ وتطاول وادعاء.
شيمبورسكا استطاعت أن تساهم في خلق جوٍّ مناسب للشعر والشعراء في بولندة. لا يخلق الشاعر حالته الخاصة وحسب وإنما يمكنه أن يعلي من شأن قومه في نظر الآخرين وبذلك يذكرنا بما كان يفعله الشاعر المجيد لقبيلته في عصر ما قبل الإسلام.
على صعيد آخر لم يتوفر لها المزاج الشعري الذاتي، مقارنة بتعاظم مسئوليتها كشاعرة - نجمة( تلاحقها الأضواء هنا وهناك) لكي تضيف على سبق وأن كتبته من حيث الكم والمستوى والتجاوز. يعني أنها لم تخلق تحولا في شعريتها بعد نوبل. يتحكم في عدم الإضافة هذه بشكل أو بآخر، كل من تقدمها في العمر والطموح الفني العالي لديها وخوفها من المغامرة غير المحسوبة العواقب، إضافة إلى اللعنة المتمثلة في تقاعس الشاعر أحيانا عن ما يمكن أن نسميه" اقتناص اللحظة الشعرية" والجرأة أو"المجاهدة في خلخلة" ما اعتاد عليه فنيا! حتى أن أحد الشعراء البولنديين(برونيسواف ماي) المقربين منها قد قسّم حياتها إلى مرحلتين: ما "قبل مأساة نوبل في 1996 وما بعدها".يعني أن حصولها على جائزة نوبل هو مأساة شخصية لها أكثر مما هو فرحة ومجد، لأن الجائزة قد جلبت لها الشهرة والأضواء التي كانت تكرههما بخلاف الكثيرين. بعد فوز شيمبورسكا بجائزة نوبل، جرى تناقل طرفة، في مدينة كراكوف حيث كانت تعيش الشاعرة، فحواها أن صيادا اصطاد سمكة ذهبية وطلب منها أن تلبي له رغبته في الحصول على امرأة ذكية متواضعة لطيفة مشهورة وغنية وبعد عودته إلى بيته وجد شيمبورسكا بانتظاره!
ثمة ما يستوقف المرء ويحيره بعد قراءة كل قصيدة من قصائد الشاعرة. كل قصيدة تتمثل في موضوع رئيس- فكرة محورية. ومن أجل تجسيدها تقوم الشاعرة بتوظيف كل من الكلمة والفكرة إلى أقصى حد، معنويا وصوتيا( بما في ذلك الإيقاع) ودلاليا، وذلك على محورين أساسيين يشملان بنية القصيدة وجوها الخاص والعام. وأنت تقرأ كل قصيدة على انفراد تجد نفسك منساقا لإنهائها و من ثم لإعادة قراءتها من جديد. لذا فإن البساطة الظاهرية للقصائد خادعة، فلا تعطي القصيدة نفسها بمثل السهولة الظاهرية. قصيدة شيمبورسكا تدافع عن نفسها فنيا وفكريا. اللفظ في خدمة المعنى والمعنى يتجلى في اللفظ. إنهما طرفان في خدمة قضية واحدة اسمها القصيدة. وعليه فالفصل بينهما غير مرئي تماما بل يمكن أن نقول بأنه غير وارد. نفس الشيء يحدث لدى شيمبورسكا على صعيد آخر. إذ لا يمكن بناء قصيدة بمعزل عن الفكر والفكرة على السواء. كما ولا يمكن فصل بنية القصيدة عن سياقها الشعري والجمالي ورشاقتها الشعرية. حتى السخرية الشائعة في شعرها لا تتمادى في غيها أبعد من كونها عنصرا ضمن مشروع فني الهدف منه خدمة جانبين هما: الفني- الشعري و الفكري. قد تتدخل هذه السخرية أحيانا في تشكيل الإطار العام لمعمارية القصيدة. ولا أدري حتى النهاية، لأنني لست منجما، ما هو دور الأفلاك والبروج التي (يشير إليها بعض النقاد البولنديين أحيانا!) في تشكيل مزاج وتوجه الشاعرة باعتبارها من برج السرطان! حيث ولدت في الثاني من تموز 1923 في منطقة(كورنيك) الصغيرة, قرب مدينة(بوزنان) المعروفة بتقاليدها المتأثرة بالثقافة الألمانية. وحتى لا أبتعد عن الهدف المرسوم لهذه الكلمة، أقول إن ما يبرر ترجمتنا لأشعار شيمبورسكا إلى اللغة العربية كثير. فبالإضافة إلى التقليد الذي أصبح شائعا اليوم في العالم والقاضي بنشر ترجمة أشعار شعراء مرموقين باعتبار ذلك شهادة على أهمية منجزهم الشعري وحيوية اللغة التي يكتبون بها والثقافة التي ينتمون إليها من جهة وإغناء الحركة الأدبية والثقافية لدى الطرف الآخر، فإنني أتلمس عذرا آخر يتمثل في إعادة قراءة ما ترجمته لها وهو كثير فوجدت أنني بحاجة إلى مراجعة جديدة ودقيقة للغاية لما قد ترجمته من قصائد الشاعرة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي! فوجدتُ من الهفوات والأخطاء المطبعية التي سعيت لتجاوزها لاحقا. وبما أنها مراجعة عسيرة وشاملة ترقى إلى مصافي الترجمة الجديدة بكل معنى الكلمة بحيث يكون من حقها، عن جدارة، أن تكون الأكثر أهمية ودقة حتى الآن، ناسخة وملغية لكل ما ترجمته لهذه الشاعرة في حقبة الثمانينات والتسعينات. كنت أول من ترجم شيمبورسكا من اللغة البولندية إلى العربية في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وبعدها بفترة على ما أذكر نشرتْ مجموعة من قصائدها في مجلة الثقافة الأجنبية العراقية قام بترجمتها عن الإنكليزية المترجم القدير والشاعر العراقي ياسين طه حافظ. كان علينا الانتظار حتى حصولها على جائزة نوبل في العام 1996 لكي يتصدق علينا الناشر العربي بطبعة مختارة من أشعارها صدرت بهيئة كتاب لأول مرة في العربية بترجمتنا. التقيتُ بشيمبورسكا آخر مرة في شهر أيار/مايو 2012 حيث جلستُ إلى جانبها في أوبرا كراكوف وتحدثتُ معها أثناء الحفل الختامي لمهرجان ميووش الشعري العالمي. عموما هي معروفة بتواضعها الجم وحيائها وفكاهتها، لها جماعة حميمة قليلة العدد تستأنس باللقاء معهم والتحدث بحرية كاملة.
قمتُ في العشرية الأخيرة بترجمة قصائدها الجديدة بعد نوبل وجمعها لتصدر في كتاب ضخم يضم معظم أشعارها. هذه النصوص سبق وأن ترجمناها وألحقنا بها بعد نوبل مباشرة ترجمة لمحاضرتها القيمة عن الشاعر والعالم فكنا بذلك أول من ترجم النصوص الواردة شعرا ونثرا إلى العربية.

أهم أعمالها:

أ - الدواوين الشعرية:

  1. لهذا نحيا، وارسو 1952
  2. أسئلة نسألها، كراكوف 1954
  3. مناداة ييتي، كراكوف 1957
  4. الملح، وارسو 1962
  5. هزل بلا حدود، وارسو 1967
  6. كل احتمال، وارسو 1972
  7. العدد الكبير، وارسو 1976
  8. ناس فوق الجسر، وارسو 1986
  9. النهاية والبداية، بوزنان 1993
  10. لحظة، كراكوف 2002
  11. نقطتان، كراكوف 2005
  12. ها هنا، 2009كراكوف
  13. صمتُ النبات، كراكوف 2011

ب- المختارات الشعرية:

  1. " أشعار مختارة"، وارسو 1964
  2. " أشعار مختارة" اختيار وتقديم الشاعرة، وارسو 1967
  3. " مختارات شعرية"، تقديم الناقد يزي كفياتكوفسكي، وارسو 1970
  4. مختارات شعرية"، وارسو 1973
  5. " تاريوس وقصائد أخرى"، وارسو 1976
  6. " أشعار مختارة" اختيار الشاعرة، وارسو 1983
  7. " أشعار" مع مقدمة بقلم الناقد يزي كفياتكوفسكي، طبعة ثانية، وارسو 1978
  8. " أشعار مختارة باللغتين البولندية والإنكليزية، كراكوف 1989
  9. " لا شيء يحدث مرتين"، مختارات شعرية باللغتين البولندية و الإنكليزية، كراكوف 1997
  10. " أمسية شعرية" اختيار الشاعرة، وارسو 1992
  11. " منظر مع حبة رمل" – 102 قصيدة، اختيار الشاعرة، بوزنان 1996
  12. "منظر مع حبة رمل"- مختارات شعرية تضم( 184) قصيدة، بوزنان 2000
  13. الحب السعيد وقصائد أخرى، 2007

ت- النثر – مطالعات في الكتب

  1. "طالعات اختيارية"، كراكوف 1973
  2. " مطالعات اختيارية" الجزء الثاني، كراكوف 1981
  3. " مطالعات اختيارية" الجزء الثالث، كراكوف 1992
  4. " مطالعات اختيارية" الجزء الرابع، كراكوف 1996
  5. " البريد الأدبي" (رسائل متبادلة ما بين الشاعرة والقراء)، كراكوف 2000

ث‌- في الترجمة:

  1. دي موسيه، أشعار مختارة، وارسو 1957
  2. شارل بودلير، أشعار مختارة، وارسو 1970

قصائد مختارة

السماء

من هنا كان ينبغي البدء: من السماء
نافذة بلا عتبة، بلا إطار، بلا زجاج.
فتحة ولا شيء سواها،
غير أنها مشرعة على اتساعها.

لستُ مضطرةً لأنْ أنتظر ليلة رائقة،
ولا أنْ أمدّ رأسي إلى أعلى
كي أُبصِرَ السماء.
السماء خلف ظهري، تحت يديّ وفوق الجفون.
السماء تلفّني بإحكام
وترفعني من الأسفل.

حتى أعلى الجبال
هي ليست أقرب إلى السماء
من الوديان السحيقة.
ليست هي في مكان أكثر
منها في آخر.
الغيمةُ على حد سواء بلا رحمة
مطوحّة كقبر في السماء.
الخُلد على حدّ سواء مرفوع
مثل بومة متمايلة بجناحيها.
الشيء الذي يسقط في الهاوية،
يسقط من السماء إلى السماء.
مذرورة، سيّالة، صخرية،
مضطرمة ومتطايرة
رُقَعُ السماء، دقائقُ السماء،
نفثاتُ السماء، وكِدَسُها.
السماءُ كليةُ الحضور
حتى في العتمة تحت الجلد.

آكلُ سماءً، أُفْرغُ سماء.
أنا شرَكٌ في شرك،
ساكنٌ مسكون،
احتضانٌ محضون،
سؤالٌ في جواب على سؤال.

القسمةُ على أرض وسماء
ليست طريقة مناسبة
للتفكير بهذا الكل.
هي تسمح لي أنْ أعيشَ وحسب
بعنوان أكثر دقة،
أسرعَ على العثور عليه،
فيما لو كنتُ مطلوبة.
علاماتي الفارقة
الجذلُ واليأس.

من ديوان "النهاية والبداية"(1993).

لا شيء يحدث مرتين

لا شيء يحدث مرتين
ولن يحدث. لهذا السبب
ولدنا بدون مهارة
وسنموت بدون ممارسة.

حتى لو كنا التلاميذ
الأكثر بلادة في مدرسة العالم,
فلنْ نُعيدَ درسَ
أيّ شتاء، ولا أيّ صيف.

ما من يوم سيُكرّر نفسَه
لا توجد ليلتان متماثلتان
ولا قبلتان متساويتان
ولا نظرتان في الأعين متطابقتان.

أمس، حينما اسمك
ردده أحدٌ على مسمعي
شعرتُ كما لو أن وردة
قُذفتْ في غرفتي من نافذة مشرعة.

اليومَ ونحن معا,
أدرتُ وجهي للحائط.
الوردةُ ؟ كيف تبدو الوردة ؟
هل هي زهر؟ أو ربما حجر؟

لماذا أنت أيتها الساعة السيئة
تضطربين بحذر لا داعي له؟
أنت موجودة- إذن ينبغي أن تنقضي.
ستنقضين- وهذا شيء جميل.

مبتسمين, نصف متعانقين
نحاول البحث عن الوئام,
رغم كوننا مختلفين عن بعضنا
كقطرتين من الماء الزلال.

علانية
هذانِ نحن، عاشقان عاريان
جميلان لأنفسنا- وهذا كثير-
بأوراق الأجفان متدثران
مستلقيان في عمق الليل.

لكنها تعرفنا بلى تعرفنا
هذه الزوايا الأربعةُ والمدفئةُ الخامسة،
الظلانِ المفترضان الجالسانِ على الكرسيين،
والمنضدةُ التي تستغرق في صمتها ذي المغزى.

ويعرف القدحان لماذا بقايا
الشايِ تبرد في القاع
أما السقفُ فلا رجاء له
إذْ لا أحد الليلةَ يقرأه.

والطيورُ؟ لا تُعَوّلْ أبدا على الأوهام:
أمسِ رأيتُ كيف كانتْ فوق السماء
تخطُّ بوقاحةٍ ووضوح
هذا الاسمَ الذي أُناديك به.

والأشجارُ؟ قلْ لي ماذا يعني
همسُها الذي لا يكلّ؟
تقول: ربما الريحُ بمعرفتها تمنّ
وإلا فمنْ أين لها أنْ تعرف الريحُ عنا؟

دخلتْ فراشةٌ ليليةٌ عبر النافذة
وراحتْ ذهابا وإياباً
بجناحيها الأزغبينِ تحلّقُ
تحفّ بعزمٍ فوقنا

ربما ترى هي أكثرَ منّا
بحدّةِ النظر الحشريّ؟
أنا لم أحِسَّ أنك خمّنتَ،
أن قلبينا ينيران في الظلام.

من ديوان"نداء ييتي"(1957)

الغياب

كان ينقص القليل
كي تتزوج أمي
السيد زبيغنيف باء من منطقة (زْدونْسْكا فولا).
لو كانت لهما بنتٌ – لما كنتُ أنا هي.
ربما ستكون لها ذاكرة أفضل على تذكر الأسماء والوجوه،
وكل لحن تسمعه مرة واحدة.
ستميز كل طائر بدقة.
ستكون لها درجات عالية في الفيزياء والكيمياء،
غير أنها ستكون أسوأ في اللغة البولندية،
لكنها ستكتب سرا قصائد أكثر
متعة من قصائدي.

كان ينقص القليل
كي يتزوج أبي في الوقت ذاته
الآنسة يادفيغا راء من مدينة (زاكوبانه).
لو كانت لهما بنت – لما كنتُ أنا هي.
ربما تكون أكثر مني إصرارا على رأيها.
ستقفز بدون خوف للماء العميق.
وأكثر مرونة للتأثر بالمشاعر الجماعية.
وتُرَى بلا انقطاع في آن ٍ واحد في أماكن عدة،
نادرا أمام كتاب، غالبا في الساحة،
حيث تركل الكرة مع الأولاد.

ربما ستلتقيان معا
في نفس المدرسة ونفس الصف.
لكنهما لن تكونا زميلتين،
لن تكونا قريبتين،
وفي الصورة الجماعية ستكونان مفترقتين.

يا بنات، قِفْنَ هنا،
- ينادي المصور-
القصيرات في الأمام، وخلفهن الطويلات.
ابتَسِمْنَ جيدا، عند الإشارة.
لكن تأكدنَ مرة أخرى ،
هل الكل حاضرات؟

نعم، أيها السيد، كلنا.

ألف باء

لن أعرف أبدا،
بماذا كان يفكر حولي ألف.
وهل باء سامحتني للنهاية.
لماذا تاء تظاهر بأن كل شيء على ما يرام.
وماذا كان دور ثاء في صمت جيم.
ماذا كان يتوقع حاء، إن كان يتوقع.
لماذا تظاهرت خاء، رغم أنها عرفتْ جيدا.
ماذا كان يخفي دال.
ماذا أرادتْ ذال أن تضيف.
هل حقيقة كوني كنتُ بالقرب،
كان له أيّ معنى
بالنسبة لراء، وزاي وبقية الألف باء.

منظور

تقابلا في الطريق مثل غريبين،
دون إشارة أو كلمة،
هي في طريقها للحانوت،
وهو إلى السيارة.

ربما بفزع،
أو ذهول،
أو نسيان،
هما وبوقت قصير
قد أحب بعضهما الآخر حتى النهاية.

لا شيء يضمن،
أنهما قد كانا هما.
نعم، ربما من بعيد،
لا من قريب أبدا.

رأيتهما من النافذة،
مَنْ ينظر من الأعلى،
من السهل أنْ يخطئ.

هي غابت وراء الأبواب الزجاجية،
وهو جلس وراء المقود
وانطلق بسرعة.
يعني لم يحدث شيء
حتى لو أنه قد حدث.
وأنا متأكدة مما رأيتُ
عبر لحظة فقط،
أحاول الآن في قصيدة عرضية
أن أقنعكم، أيها القراء،
بأن ذلك كان حزينا.

بعد غدٍ – بدوننا

يتوقع أن يكون الصباح باردا وضبابيا.
تأخذ السحب الممطرة بالتجمع
من الغرب.
ستكون الرؤية ضعيفة.
والطرقات زلقة.

تدريجيا سيكون ثمة صحو محلي
أثناء النهار،
تحت تأثير الضغط العالي من الشمال
لكنه لدى هبوب رياح شديدة متغيرة في عصفها
قد تقع العواصف.

ليلا
سيعم الصحو كلّ البلاد تقريبا،
فقط في الجنوب الشرقي
لا يستبعد سقوط المطر.

ستنخفض الحرارة إلى حد ما
لكن الضغط سيرتفع.

من المتوقع أن يكون
اليوم التالي مشمسا،
لكن المظلة ستكون
مفيدة لمن سيبقون على قيد الحياة.

دماثة العميان

يقرأ الشاعر قصائده للعميان.
لم يكن يتوقع أن يكون ذلك صعبا إلى هذا الحد.
يهتز صوته
ترتعشُ يداه.

يشعر أن كل جملة
ها هنا تمر بامتحان العتمة.
وعليها أن تعتمد على نفسها،
بلا أضواء بلا ألوان.

مغامرة خطرة
للنجوم في شعره،
للفجر، لقوس قزح، للغيوم، للنِّيوناتِ، للقمر،
للسمكة التي ما تزال حتى اللحظة فضية تحت الماء
وللصقر المحلق بلا ضجيج، عاليا في السماء

هو يقرأ – لأن الوقت قد فات على عدم قراءته-
حول غلام بقمصلةٍ صفراء في مرج أخضر،
حول سطوح حمراء يمكن عدها في الوادي،
حول أرقام متحركة على قمصان اللاعبين،
وعارية غريبة في فتحة الباب.

أراد أن يتجاهل- رغم أن هذا غير ممكن-
كل القديسين في سقف الكاتدرائية،
وإشارة الوداع من نافذة القطار،
وعدسة الميكروسكوب والإشعاع في الخاتم
والشاشات والمرايا وألبومَ الوجوه.

لكنّ دماثة العميان كبيرة،
كبيرٌ تفهمهم، ورحابة صدرهم.
هم يصغون، يضحكون ويصفقون.

حتى أن أحدهم يدنو
بكتاب مفتوح بالمقلوب
ليطلبَ توقيعا لا مرئيا بالنسبة له.

تمثال إغريقي

بمساعدة الناس وعناصر الطبيعة الأخرى
لم يكن عمل الزمن به سيئا.
في البدء أفقده الأنف، وبعده الجهاز التناسلي،
وفيما بعد الأصابع لدى اليدين وثمة القدمين،
وبمرور السنوات الكتفين، الواحدة تلو الأخرى،
الفخذ اليمنى والفخذَ اليسرى،
الظهرَ والوركين، الرأسَ والرّدفين،
وهذا الذي قد سقط، جزّأه الزمان على أجزاء،
على حطام، على حصباء، على رمل.

حينما يموت الحيّ بهذه الطريقة،
يتدفق كثير من دمه لدى كل طعنة.

بينما تموت التماثيل المرمرية بيضاءَ
وليس دائما حتى النهاية.

بقي الجذعُ من هذا الذي حوله الكلام،
والنفَسُ كما لو أنه احتبس أثناء جهد،
لأن عليه الآن
أن يجلب
لنفسه
كل فتنةِ وانتباهةِ
البقية المفتقدة.

وهذا ما يتحقق له،
هذا يتحقق له أكثر،
يتحقق ويُبهر،
يُبْهر ويدوم-
الزمن يستحق الثناء أيضا،
لأنه توقف في صنيعه
وأجّلَ شيئا ما لوقت لاحق.

مونولوج كلب عالق بالتاريخ

ثمة كلاب وكلاب. أنا كنتُ كلبا مصطفى.
كانت لديّ أوراق صالحة وفي عروقي دم ذئبيّ.
سكنتُ على مرتفع، كنتُ أتنفس روائح المناظر
المطلة على المرج في الشمس، على الصنوبر بعد المطر
والتربة من تحت الثلج.

كان لدي بيت معتبر وناس في خدمتي
كنتُ مغذى، مُحَمّما، ومُمَشّطا،
يُخرجونني لنزهات جميلة.
لكن باحترام، وبدون كلفةٍ.
كل واحد كان يتذكر جيدا، كلبَ مَنْ أنا.

كلّ هجين وغد بإمكانه امتلاكَ صاحب.
لكنْ حذار – من التجاسر على المقارنات.
فسيدي كان فريدا من نوعه.
كان لديه قطيع ضخم يمشي خلفه متتبعا خطاه
مُغرما به بإعجاب حذر.

كلها بالنسبة لي كانت مسخرات
بحسدٍ مُبَطّن ٍ على نحو رديء.
لأنني أنا فقط من كان له الحق
في استقباله بقفزات هوائية،
أنا فقط مَنْ يُودّعه – ويجرجره بعضّات ٍ من سرواله.
كان يُسْمَحُ لي فقط
ورأسي على ركبتيه
أن أبلغ ملاطفته وجرّ الأذن.
أنا فقط مَنْ كان يُمكنه التظاهر بالنوم جنبه،
وحينئذ كان ينحني ويهمس لي بشيء ما.
طالما كان يغضب وبصوتٍ عال ٍ على الآخرين.
كان يزمجر، يصيح بهم،
يروح ويجيء من الحائط للحائط،
أعتقد أنه كان يحبني فقط
ولا أكثر من ذلك بتاتا، لا أحد.

كانت عليّ واجبات أيضا: الانتظار والثقة.
لأنه كان يظهر لفترة وجيزة ثم يختفي بعدها طويلا.
ما الذي كان يستوقفه هناك، في الأودية، لا أدري.
مع ذلك خمّنتُ، أنها قضايا ملحة،
على الأقل ملحة كالمعركة
مع القطط بالنسبة لي
وكل ما هو يتحرك بلا داعي.

هناك حظ وحظ. حظي تبدل فجأة.
حلّ ربيع ما،
ولم يكن هو قربي.
نشبَ في البيت اهتياج غريب.
أقفاص، حقائب، وصناديق حشرتْ في السيارات،
تحرّكتِ العجلاتُ وهي تصِرّ نحو الأسفل
وصمتتْ وراء المنعطف.

احترق عفشٌ ما على الطارمة، خِرَقٌ،
وبُلوزاتٌ صفراءُ، أشرطة بعلامات سوداء
وكثير، كثير جدا من علب الكارتون الممزقة،
حيث تساقطت منها اللافتات

حلمتُ في خضمّ هذه الفوضى
منذهلا أكثر منه مستاء
أحسستُ بنظرات غير ودية على وبري،
كما لو كنتُ كلبا سائبا،
شريدا مزعجا،
يُطرَدُ من على السلالم بالمكنسة.

ثمة مَنْ فسخ طوقي المرصّعَ بالفضة.
ثمة من ركل صحني الفارغَ منذ عدة أيام.
وبعدها، آخرُ واحد، قبل أن ينطلق في طريقه،
أخْرَجَ رأسَه من المركبة
ورَماني بطلقتين.

حتى أنه لم يعرف كيف يصيب، كما ينبغي،
لأنني متّ ببطء وألم
وسط طنين الذباب الوقح.
أنا كلبُ صاحبي.
من ديوان" نقطتان"، دار نشر ألف 5، كراكوف 2005،

وأجّلَ شيئا ما لوقت لاحق.

الشاعرُ والعالَم*
Poeta i świat

يُقال إن الجملةَ الأولى في الكلمة هي دائما أكثر صعوبة. إذن فهي الآن ورائي...لكنني أشعر أن الجُملَ التالية ستكون صعبة: الثالثة، فالسادسة، فالعاشرة حتى الأخيرة، لأن عليّ أن أتكلم عن الشعر. قلما تكلّمتُ حول هذا الموضوع - تقريبا لا شيء. لكنه دائما كان يرافقني اعتقاد بأنني لا أعمل ذلك على الوجه الأكمل. لهذا فمحاضرتي لن تكون طويلة. كلّ نقص هو أخفّ على التحمّل فيما لو قُدّمَ بجرعات صغيرة. الشاعر اليوم شكاك ومرتاب - بل ربما قبل كلّ شيء- حتى إزاءَ نفسه.
فهو، بدون رغبة، يعلن على الملأ أنه شاعر- كما لو أنه يخجل من ذلك قليلا. لكنْ في عصرنا الصاخب، من السهل جدا، أن يُعتَرَفَ بالعيوب الخاصة حينما تُعْرَضُ بإثارة، على أن يُعْتَرفَ بالمزايا الدفينة التي لا يؤمن المرءُ بها حتى النهاية...حينما يكون ضروريا للشاعر أن يفصحَ عن طبيعة عمله، في استطلاعات أو أحاديث مختلفة مع أناس عرَضِيّين، تراه يعلن بعمومية" أديب" أو يذكر اسم العمل المنجز إضافيا. يستقبل الموظفون أو ركّابُ الحافلة خبرَ كونهم يتعاملون مع شاعر بنوع من الارتياب والقلق. أعتقد بأنّ الفيلسوف يثير مثل هذا الإحراج أيضا. إلا أنه في وضع أفضل، لأن بإمكانه أنْ يزين مهنته بلقب علمي ما: بروفيسور فيلسوف- وقعه أكثر أهمية. لكنه لا يوجد هناك فلاسفة شعر. وإلا لكان هذا يعني تشغيلا يتطلب دراساتٍ متخصصةً، وامتحانات تُؤَدّى بانتظام، وأطروحاتٍ نظريةً معززةً بالمراجع والمصادر والهوامش، وأخيرا بشهاداتٍ مستلمة رسميا. وهذا بدوره يعني، لكي تكون شاعرا- لا تكفي الوريقاتُ المحبّرة حتى بأرقى القصائد- فما هو ضروري قبل كل شيء هو الورقة المختومة. فلنتذكر، أنه بالاستناد إلى ذلك، حُكم بالإبعاد على مفخرة الشعر الروسي الحائز على جائزة نوبل فيما بعد(جوزيف برودسكي)، واعتبروه "طفيليا" لأنه لم يمتلكْ شهادةً من دائرة على أن من حقه أنْ يكون شاعرا.
قبل عدة سنوات، كان لي شرفُ وغبطةُ التعرف عليه شخصيا. لاحظتُ أنه كان الوحيد من بين الشعراء الذين أعرفهم، ممن يُحِبّ أنْ يقول عن نفسه: " شاعر". كان يتلفّظ بهذه الكلمة دون مقاومات داخلية، بل بحرية استفزازية نوعاً ما. أعتقد أن سبب ذلك يعود إلى المهانات الفظّة التي عرفها في شبابه. في البلدان المحظوظة حيث الكرامة الإنسانية غير منتهكة بهذه السهولة، يرغب الشعراءُ بأن يكونوا مطبوعين ومنشورين حقا، مقروءين، ومفهومين، لكنهم لا يفعلون أيّ شيء أو الشيء الكثيرَ لكي يتميزوا في حياتهم اليومية ضمن الناس الآخرين. وليس بعيدا، في الحقب الأولى من هذا القرن، كان الشعراءُ يُحبّون أنْ يصدموا بمظهرهم المختلق وسلوكهم غريب الأطوار. غير أنّ ذلك كان عرضا لاستهلاك الجمهور. لقد جاءت لحظة كان الشاعر فيها يغلق البابَ وراءه، نافضا عن نفسه كل هذه العباءات، الموشيات والملحقات الشعرية، وكان يقف في سكون بانتظار نفسه ذاتها، أمام قصاصة ورق غير مكتوبة بعد. لأنه في الحقيقة، يُعْتَد فقط بهذا الشيء. الشيء المميز هو إنتاج أفلام سيروية كثيرة جدا حول علماء كبار وفنانين كبار. مهمة المخرجين الأكثر طموحا هي العرض الموثوق للعملية الإبداعية التي أدت في النتيجة إلى اكتشافات علمية هامة أو إلى ظهور أعمال فنية أكثر شهرة. يمكن مع هذا النجاح إظهار عمل بعض العلماء: فالمختبرات، والأدوات المتنوعة، والتقنيات المستخدمة آليّا، قادرة على جلب انتباه المشاهدين لبعض الوقت. عدا ذلك، قد تبدو لحظات عدم الثقة مأساوية، إذ هل التجربة المكررة للمرة الألف، ستنجح بعد تعديل طفيف عليها.
الأفلامُ عن الفنانين تستطيع أن تكون احتفالية- يمكن إعادةُ خلق كافة مراحل تكوّن اللوحة من الخط الأوّلي حتى لمسة الفرشاة الأخيرة. والأفلام حول الموسيقيين تملؤها الموسيقى- من الفواصل الأولى التي يسمعها مبدعها في داخله حتى الشكل الناضج للعمل الموزّع على الآلات. كل ذلك ما يزال ساذجا ولا يقول شيئا عن حالة الروح الغريبة المسماة ، شيوعا، بالإلهام، ولكن على الأقل، ثمة ما يمكن أنْ يُشاهَدَ ويُسمعَ. الشيء الأسوأ هو مع الشعراء. لأن عملهم غير ملائم للتصوير إطلاقا. إنسان يجلس أمام الطاولة أو يستلقي على الأريكة، يحدق بعين جامدة في الجدار أو السقف، من حين لآخر يكتب سبعة أبيات، يحذف أحدها بعد ربع ساعة، ثم من جديد تمضي ساعة ولا شيء فيها يحدث.. أيُّ مشاهد سيتحمّل مثل ذلك؟
ذكرتُ الإلهامَ، يعطي الشعراءُ المعاصرون أجوبةً مراوغة على سؤال، ما هو الإلهامُ، إذا كان موجودا. ليس لأنهم لم يشعروا أبدا بنعمة ذلك الاهتياج الداخلي. السبب مختلف. إذ من العسير أن تترجمَ لأحد شيئا لا تعرفه أنت نفسك. أنا كذلك، أُسْألُ عن ذلك فأتعامل مع جوهر القضية من بعيد. غير أنني أجيب بالطريقة التالية: الإلهام ليس امتيازا محصورا بالشعراء أو الفنانين عامة. ثمة جماعة من الناس موجودة، كانت وستكون، يزورها الإلهام. هم أولئك الذين يختارون عملهم بوعي وينفذونه بولع وخيال. يوجد هكذا أطباء، وهكذا مُربّون، يوجد هكذا بُسْتانيون وهناك مائة مهنة أخرى. عملهم يمكن أن يكون مغامرة متواصلة فيما لو استطاعوا كل مرة أن يَلْحظوا فيها تحديات جديدة. رغم المصاعب، والخسائر فإن تشوقهم لا يكفّ. فمن كل مسألة محلولة يطلع لهم قفيرُ أسئلة جديدة. الإلهام مهما يكون، فإنه يولد من "لا أعرف" المتواصلة. أمثال هؤلاء الناس قلة. أكثرية سكان هذه المعمورة تعمل لأنها مضطرة. فهم ليسوا من يختارون العملَ لشغفهم الخاص، وإنما ملابساتُ الحياة هي التي تختار لهم. العملُ غير المرغوب، العمل الذي يُقرف، المُقَيّمُ، فقط لأنه حتى بهذه الصورة ليس بمتناول الجميع، إنما هو واحد من أكثر المحن الإنسانية وطأة. ولا يبدو أن القرن القادم سيأتي بتغيير سعيد ما في هذا المجال. لهذا يمكنني أن أقول، في الواقع إنني أسلب الشعراءَ احتكار الإلهام، لكن مع ذلك، أضعهم في مجموعة محدودة من مصطَفِي الحظ. يمكنهم مع ذلك أنْ يُوَلّدوا الشكوكَ لدى المستمعين.
الجلادون، الديكتاتوريون، المتزمتون، الديماغوجيون المتنوعون، المكافحون من أجل السلطة، بمساعدة حفنة شعاراتٍ مرفوعةٍ عاليا كيفما اتفق، هم أيضا يُحبّون عمَلَهم و يُؤَدونه بابتكار متحمس أيضا. هذا صحيح، لكنهم " يعرفون"، وما يعرفونه، يكفيهم مرة واحدة وإلى الأبد. وهم ليسوا متطلعين لأكثر من ذلك، لأن هذا يمكن أن يُضعف قوةَ حججهم.
كل معرفة لا تُنشئ بنفسها أسئلةً جديدةً، ستصير ميتة في وقت سريع، تفقد الحرارة المناسبة للحياة. في الحالات الأكثر تطرفا، المعروفة جيدا من التاريخ القديم والمعاصر، تستطيع هي أن تكون خطيرة للمجتمعات بشكل مميت. لذلك أعتز كثيرا بكلمتين صغيرتين هما: " لا أعرف". صغيرتان، لكنهما مجنحتان بقوة. توسعان لنا الحياة بمساحات تكمن فينا، وبمساحات معلقة فيها أرضنا الدقيقة. لو أن ( اسحق نيوتن) لم يقل لنفسه:" لا أعرف" لأمكن للتفاحات في حديقته أن تتساقط على مرأى منه كالبرد، و لانحنى هو في أحسن الأحوال من أجلها وأكل منها بشهية. لو أن مواطنتي( ماريا سكْوودوفْسْكا- كيري) لم تقلْ لنفسها: "لا أعرف"، لظلتْ بالتأكيد معلّمةَ كيمياء بمُرّتب لبنات البيوت الكريمة ولانقضتْ في ظل هذا العمل- المحترم من نوع آخر- حياتها. لكنها قالت لنفسها: "لا أعرف" وهاتان الكلمتان بالضبط قادتاها مرتين إلى ستوكهولم، حيث الناس بروح قلقة وباحثة دائما، قد منحوها جائزة نوبل.

الشاعر كذلك، إذا كان شاعرا حقيقيا، يجب أن يكرر على نفسه باستمرار:" لا أعرف" ويحاول أن يجيب على ذلك بكل عمل من أعماله. لكنه حالما يضع نقطة تعتريه حيرةٌ ثم يبدأ بإدراك أن هذه الإجابة هي إجابة مؤقتة. غير كافية إطلاقا. لذلك يحاول مرة أخرى، وأخرى، وبعدها يربط مؤرخو الأدب هذه الأدلة المتوالية على عدم رضاه عن نفسه بمشبك كبير ويُسَمّونها" نتاجا أدبيا". أحيانا تعتريني حالات غير قابلة للتحقيق. أتخيل نفسي على سبيل المثال، بوقاحة، أن لدي فرصة للتحدث مع( الجامعة)- مؤلف المرثاة المؤثرة حول تفاهة كافة الأعمال الإنسانية. وأنحني أمامه بخشوع، لأنه- بالنسبة لي على الأقل- واحد من أهم الشعراء. لكن بعد ذلك أمسكه من يده،" لا شيء جديد تحت الشمس"- أنت قلتَ يا الجامعة. ولكنكَ نفسَك قد ولِدتَ جديدا تحت الشمس. والقصيدة التي أنتَ مبدعُها هي أيضا جديدة تحت الشمس لأن أحدا لم يكتبها قبلك. وجميعُ قرائك هم جُددٌ تحت الشمس، لأنهم لم يستطيعوا أن يقرءوها قبلك. والسرو الذي جلستَ في ظله هو كذلك لا ينمو هنا منذ بداية العالم. أعطاه البدايةَ سروٌ آخر، شبيهٌ بسَرْوك لكنه ليس هو تماما. وفوق ذلك أود أن أسألك يا الجامعة : ماذا تملك من جديد تحت الشمس، أتكتب إغواءً جديدا بعدُ، أم شيئا ستُكمل به أفكارك، أم أن لديك مع ذلك رغبة بنقض بعضها؟ في قصيدتك السابقة لاحظتَ الفرحَ أيضا- لكن ما الفائدة، طالما هو عابر؟ إذن ربما ستكون حوله قصيدتك الجديدة تحت الشمس؟ هل لديك ثمة ملاحظات، ثمة مخططات أولية؟ لن تقول بالتأكيد: كتبتُ كلّ شيء، وليس لديّ ما أضيفه". هذا ما لا يمكن أن يقوله أيّ شاعر في العالم، فكيف بشاعر عظيم مثلك.
العالم كيفما فكرنا به، مرعوبين بكِبَره، بعجزنا الخاص إزاءه، منَغّصين بسبب لا مبالاته بالمعاناة الخاصة- للناس والحيوانات وربما النبات، لأنه من أين هذه الثقة بأن النبات خال من المعاناة. العالم كيفما فكرنا بفضاءاته المخترَقةِ بإشعاع النجوم، النجوم التي جرى اكتشاف كواكب حولها، أهي ميتة؟ هل ما تزال ميتة؟ هذا غير معروف. أي شيء سنقوله عن هذا المسرح اللانهائي الذي نملك في الواقع تذكرة دخول له، ستبقى صلاحية هذه التذكرة قصيرة بشكل مضحك، محددة بتاريخين صارمين؛ وأيّ شيء آخر سنقوله بعدُ عن هذا العالم- فهو مذهل.
لكن في تعبير" مذهل" يكمن شَرَك منطقي معين. إذ يُذْهلنا ما يبتعد عمّا هو عُرْفٌ شائع ومعترف به، عن واقع ما قد اعتدنا عليه. لكن، مثل هذا العالم غير موجود على الإطلاق. وذهولنا مستقل بذاته وغير نابع من أية مقارنات مع أي شيء.
نعم، في اللغة المحكية التي لا تتأمّل في كل كلمة، كلنا نستخدم عبارات من قبيل: "حياة عادية"، "عالم عادي"، "دورة الأشياء عادية"... لكنه، في لغة الشعر حيث لكل كلمة وزنُها، لا شيء عادي وطبيعي. لا حجر عادي ولا السحابة التي فوقه بعادية. لا يوم عادي ولا الليل الذي يليه بعادٍ. وأهم من كل هذا لا حياة عادية لأيٍّ كان في هذا العالم. يبدو أن الشعراء سيكون دائما لديهم الكثير لعمله.

* هذه هي المحاضرة التي ألقتها الشاعرة شيمبورسكا في 7/12/1996 في ستوكهولم، بمناسبة استلامها جائزة نوبل في الأدب للعام 1996.

** من كتاب سينشر ضمن مختارات جديدة ضخمة قمنا بترجمتها وتنقيح المنشور منها سابقا بالاتفاق مع الشاعرة قبل موتها(المترجم).
**لا يجوز نقل هذه المواد إلا بموافقة الشاعر المترجم الخطية.

hatifj@gmail.com