(ديوان السيرة الذاتية)

هاشم شفيق
(العراق)

هاشم شفيقأنا طفل بدائيٌّ،
أحبُّ رائحة الأحجارِ
وأحبُّ الملاسة في الحصى
وأحبّ المداس الذهبيّ الملوّث بزرقة الطينِ
الجواميس تذكّرني بنشوتها البيضاء
وبحليبها المندفع في الأساطير والملاحم،
أنا طفل بدائيّ،
ربّيت بئرا
وشربتُ أسرارها
عند أفقٍ أسدلتْ عليه أستارٌ
من أوراق الخسّ وباقات (الرشاد)
حسوتُ زماني
في أقداحٍ من صوّانٍ،
وكان الشايُ أخي
يحرسُ حياتي
ويأتي بالسامرِ
والنجم الغلابِ،
في الخلاء وجدتُ
نفسي منثورة تستعينُ
بأنفاس طليقة للريحِ
وتهفو للعشّابين
وللوصال المورق في الجهات،
بئرنا كان يورد الجيرانِ
ويتعدّاهم إلى نجمة كلحَ ضؤها،
جرّة الدبس والكيزان
نالهما غبار كونيّ
وزجاجة الفانوس
اعتكرت ببيوض الذبابِ،
يدي تحيّي الذبالةَ،
والنورُ يتعتّقُ،
وضعتُ السمادَ لسحابةٍ
وشتلتُ نجمتينِ
قرب مياه الآبارِ،
قرأتُ أكثر من نهرٍ
وفتنتُ بسطور الماءِ
فوق التراب.
الأعاجيبُ أذهلتني
حين ندّتْ عن قطرةٍ،
لذا ثملتُ بالفقاقيع
يوم كنّا نتبادلُ أنا وأصحابي
الترَعَ والينابيع،
يوم كنّا نلهو بغيماتٍ
أهملتْ فوق الروابي،
لم يزحزحها أحدٌ فتحجّرتْ،
يوم كنّا نثقبُ نوى التمورِ
لنصنع منها قلائد للمعزى،
على الأبدية
يوم كنتُ ألقي تحيّتي على الأبدية،
القيها على الجدار الذي يخضرّ بفعل الطحالب،
على زيزان الحصادِ التي ترشدني
في الليل على الأجمات،
القي التحيّة على الحباحب صرعى
المصابيح والوهج،
القيها على العنّازين الذين يقودون
الهضبات الى العنزات،
القي تحيتي
على الصقّارين الملثّمين
بريش الصقورِ،
على البنائين في الصباحِ
يبنون عقلي وقلبي،
ويشيّدون أغنية أخرى،
القي تحيّتي على الريحِ التي تحرّض التبن
على عدم الثبات،
على الأمطار تبلل السهرةَ،
القي التحيّة على الحريرِ وأخواته،
على اللدونة السارحة في المرمر،
على آللدونة الساهرة في كفل غلامة،
القي التحيّة على الفراشة ورقصتها
حول القنديل،
على الشفاة العذراء
وهي تقبّل الشفق،
القي التحيّة على الطحين
ودورته في العروق،
على الباذنجان يسيل كحلا على ياقاتنا،
أحيّي الدمع الفرحان
ودهشته في التفجّر،
أحيّي العطر المغسولَ بريحٍ،
أحيّي أصابع البامياء
ورقّتها التي لا تضارع،
أحيّي الأمل الذي ملّ من الانتظار،
أحيّي الانتظار الذي لا يغادر،
أحيّي الجمال وركبته البرّاقة،
أحيّي اليد
كيف تحيا حياتها،
أحيّي الإسبترق وأشقّاءه،
أحيّي البئر الذي ربّيناه،
علفنا له الأعماق
وسمّنا عتمته بالدعاء والتمتعات،
هدهدنا ماءه
وسرحانه في الرؤى،
أضفنا له عيونا
وأفواها فاغرة
تطلع نوافير
والسنة تصير مبازل للشذى،
زيّناه بكل ما أوتينا من خضابٍ
واخضلال في الخيالِ،
دللناهُ هو المتغنّجُ
بدلوه
غنّيناه هو المترنّحُ
بذكورةِ حبلهِ
وأفسحنا في المنهجِ
مطارح له،
طارحن العذارى
الهوى معه
واحتبلنَ العواقرُ برذاذه،
انه البئر الذي أعطانيِ ما أتشهّىِ
من عساليج وشماريخ وعراجين
منقوعة بالأطياف،
أعطاني عروق (السعد)
وحليبها الأسمر،
أعطاني الفضاء المزيّح بريشة شقراقٍ
المنمّق بمنقار حسّونٍ،
أعطيه الرقى والتعاويذَ،
فيعطيني الرطوبة التي تتبلّرُ في الضحى،
أُسقيه المسامراتِ
فيهبني مراياه ونفائسه
وأمشاطه المائية.

* * * 

أنا طفل بدائيّ
أُحبّ التنّور الذي تطفئه الأمطارُ
والأحطاب التي نولمها للشتاء،
أحبُّ الديك الذي يوقظ الفجر فحولته،
وأُحبُّ الكركمَ يتركُ
ميسمه في المواعين،
أحبُّ رائحة الطلعِ الذي يفرز
هيبته في الأعالي،
أحبُّ التسكع في الإصطبلاتِ
وأحبّ الروث المذهّب بين الطسوت الفضيّة المغرقة
بشذر العروس وفصوصها،
أعشقُ أشجار السدرِ
وألطعُ جمالها،
أعشق حمرة الزعرور
لألطّخ بها شراييني،
وأهوى الهواء الذي تضرب
تيّاراته الحادة فؤادي،
وأهوى الزرازير التي تلتقط النسيم،
أحبّ البدر يلعبُ قرب العاناتِ،
أحبّ التخمّر للأعضاء،
أحبّ الذهبَ الموحلَ
أغطسُ فيه إلى السُّرّة،
وأحبّ التجوّل في دغل العدس،
طفل أنا
يعجبني التطريزَ على النغم
ومساومة الرمّانِ
كي أُشاركه وداعته،
يعجبني أنْ ينزلَ العتيقُ
إلى العتبة
ويصعدُ الحنانُ
إلى مكانه في الجبل،
أنا الطفلُ
أتصيّدُ مع خالاتي الجذور،
أقطف المحارَ
وأنصبُ فخاخا لل(قبج)
الكمأُ ينتأُ أمامي بازغا في التراب،
والفطرُ من بعيد يلوّح لنا بقبّعاته،
يشمّنا الريحانُ
ليدلّنا عليه،
اللوبياء تتنشقُ أيدينا،
غياضٌ لقاءُ تحوّطنا
فيخدشُ خطوتنا قرّاصٌ،
أنا الطفلُ
أمرّ بالطحانينَ يطحنونَ نهاراتهم
وينخلون المساء،
فأرى الشعيرَ ينعسُ في المخمرة،
والقمحَ يؤجلُ موعده مع الرغيف،
أنا الطفلُ
العبُ مع الصواعق
في مساكنها الفضيّة،
وأعذّبُ الجرادَ في الحقول،
أرى أمامي حفرة ملئت بالعبير،
أقفزها لألحق بالنيزك المتواري
وراء النخيل،
تغصّ رؤيتي بالأشواكِ
وتمتلئ حنجرتي
بالشتائم والمشاكل،
لأعودَ في آخرة النهار
إلى ممخضة الألبانِ
راضعا من فمها الجلديّ البياض،
أنا الطفلُ
رأيتُ الدخان يتحجّرُ بين المواقدِ
والنارَ تتصلّب،
لكم هي المرات التي احترقتْ
فيها أنهارٌ
ولكم انجرح دمي،
أنا الطفلُ الوهّابُ غدي لغدٍ آخر،
لكم انتشلت الماء من بين الغرقى
وتحسّست في البرّ سفائني،
أنا طفل بريّ
نشأتُ مع الحشائش الحمراء
وشهدتُ انفجار الأزرقِ
في البنفسج،
شهدتُ انتفاخ الأسودِ
في العباءات،
شهدت هبوب القرنفل
في الفوطِ و(الجراغد)
شهدتُ عبوس الزيت في السراج،
شهدتُ نحول البراعم
أمام الشروق،
شهدت ندوب الندى على الخيزران،
شهدتُ تفتّح الفراشاتِ في الهواء،
شهدتُ سجود الرخام أمام الضوء،
أنا الطفلُ البريّ
شهدتُ صناعة الشبق في البساتين،
وولادة السكر في التوت،
شهدتُ الغلمة تقطر من حجر
والرغابَ يرسب في الجوع،
شهدتُ غلاما يزني في حمارٍ،
رأيتُ الرمادَ يزرقُّ
في أقراص العسل،
رأيت الحمّالين يكرعون الغبارَ
في وحدتهم،
والسمّاكين ينفضون عن أكتافهم
قشور السردين،
أنا الطفلُ البريُّ
إبن آوى ينهش صرختي
والضبعَ يضبعُ أحلامي،
السرابُ وضع سهامه في كنانتي،
والبدر أنفق نوره في مخيّلتي
فأضاء العوسج
وأوراق الخبازى،
وفتح مجرىً لجنوح الرعاة،
أنا طفل البراري،
انحدرتُ من سدنة للآفاقِ
ورعاة للآبار،
ميسمي ريمٌ راكض في الدماءِ
وذئبٌ سارحٌ في الأوردة،
أنا طفل البراري

(*) مقتطف من الفصل الأول في مطولة شعرية يحمل عنوان (الفصل الأول، سيرة الطفولة)


إقرأ أيضاً:

أقرأ أيضاً: