إلى أختي أمل..
إلى عبدالرحمن شيخ توفيق..
قريباً بعيداً من دوسلدورف ـ كولونيا
أين أنتما من كل هذا الألم!؟
أيا جارتا إنَّا غريبانِ هاهنا.. وكل غريبِ للغريبِ نسيبُ
-1-
أسيرُكِ..
أسيرُ كلِّ رايةٍ خفقتْ في حضنكِ أو لم تخفقِ.
أسيرُ كلِّ وردةٍ عبقت في كفّكِ أو ستعبقِ.
أسيرُ كلَِ نعمةٍ من هِباتِ فقركِ ونحركِ ووحلكِ وعجاجِ صيفكِ.
أسيرُ اللوزِ الممنوعِ في بساتينكِ.
أسيرُ العفاريتِ المترسبةِ في قاع "كولا عنتر" بعد فيضاناتِ نهر داري DAR?
أسيرُ كرومِ تنكرني عصائرُها.
ترصّع غربتي بحصرمها ولاينضج لي عنبُها!!
أسيرُ الناسِ يهبطونَ من سطحِ الصيفِ إلى عزلتهم الموشكةِ على الشتاء..
أسيرُ شارع البلدية المنحدرِ إلى منتصف ظهيرةِ الخريف المتأخر كالعادة..
أسيرُ شهر أيلول.. ورجع أيلول..
لما الآنساتُ على الجسر يربطنَ غربَكِ بشرقِك، بخيطٍ لا يبين إلا لمن أوتي رسوخاً في شؤونهن وشجونهن..!
أسير الصوت الكرمانجي يكادُ ينطقُ به حتى الحجر..
أسيرُ مدائحَ إلهيةٍ
للمريداتِ
للمريدينَ
في حضرةِ مولانا شيخي "دودا" المستفرد حينها بتلك البرّية..
أسيرُ صوتِ "كربيتي خاجو" وهو يغني "لبريكا آمودي" ـ لبرية عامودا..
أسيرُ صوتِ "محمود عزيز شاكر" في ليالي الصيف يوقظ بلقيس من نومها الهنيء
Rabe ji xewê.. ـ انفضي النومَ عن عينيكِ!
أسيرُ أغنياتِ "آرام ديكران" يترنّم بها "جميل مجدو"..
مددْ ياشيخَ عبدالقادري جيلاني..!
أسيرُ الدفِّ يسبِّحُ ليلة الاثنين ويهلِّلُ ليلةَ الجمعة..
مددْ يا قطبي رباني.. مددْ ياشيخي جيلاني
أسيرُ "تل موزان" يهلّ عليكَ.. لما من الشرقِ..
و"تل حمدوني".. لما من الغرب..
أما الشمالُ فأتاتورك بوجهه المشيحِ.. بوحهه الذي لايصالح..
أما الجنوبُ فملاك موته،
يفخِخُ
رأفتَه الأخيرة على تخوم "شرمولا"..
لكنْ لاشيءَ يحدُّ منكِ
لا النأيُ ولا الأنواءُ..
لاالفخُ الرؤوفُ..
لاالريحُ الغابرةُ ولا العصفُ..
لا الشجرُ العاري الآن..
لاالورقُ المتهاوِي
لا الزهرُ الآذنُ بالذبول..
لا المعدنُ الأسودُ الهائجُ
لا الليلُ الفالجُ..
لا النارُ الغاليةُ في أحشاءِ الأرض..
لاالوجعُ المتحفّزُ في نظراتِ الفتيانِ
لا البردُ
لا السَّوطُ الفاجرُ.
كوني ذائبة أو لاتكوني
كوني ذابلة أو لاتكوني..
كوني من القرميدِ أو من الطينِ..
كوني حانة مرتجلة..
كوني "المعبد الغريق" بأنواء الصوفيين وبروق الذِكْرِ
كوني..
فإنكِ لي
بعرباتكِ.. بحوذييكِ.. بحشاشيكِ.. بعتاليكِ.. بأفاقيكِ.. بفتيانكِ الآذاريين..
.. تريثي.. بمقاهيكِ.. بمقامريكِ.. بسكاراكِ.. بمذنبيكِ.. بتائبيكِ.. بورعيكِ.. بمجدِّفيكِ.. بحاناتكِ..
بمواسمكِ ـ مفارخِ البؤسِ
بحصاداتك التي تربضُ ثلاثة فصول، ولطالما كانت الجوندر- قبل كلاس الحديثة- تصبح ملعباً للطفولة إذ لاملاعبُ للطفولة، إلا على سبيل التمني والتحايل والافتراض والمجاز!!.. لا حدائقُ.. فلنتزحلقْ في فصولِ فسحةِ الجوندر حيث تتزحلقُ أكياسُ الحنطة والشعير في فصول الصيف.. لنتزحلقْ.. فلا أحدَ يأبَهُ لهواياتنا المدوية.. لا أحدٌ يأبه لألعابنا الخطرة.. لا أحدَ يأبه لقدومنا المبكِّر.. في الزمان المتأخر.. في المكان العكرِ.. في نهاية الخمسينات الماضية.. كم!؟ الخمسيناتُ!!.. أوه، يااللهُ كم كبرنا!! كانت "عامودا"، قد حظيت بشخصية وطنية فذة وطبيب ألمعي ومتنوّر بارز هو الدكتور أحمد نافذ - نضّرالله ثرى مرقده - وكانت ولادتي في أواخر حزيران، وكنت ضعيف البنية هش الصحة بحسبِ الأهل وكنت من مرتادي عيادة الدكتور الفذ حتى صار يداعبني بكلامه:
ـ لماذا جئتَ الآن!؟ لماذا قدمتَ في هذا الحرِّ الشديدِ!! إنها أقدارُنا أيها العارفُ والوطنيُّ الجليلُ والطبيبُ النبيلُ.. جئنا وانفرض علينا كلُّ شيء، الماءُ والسماءُ والأسماءُ والأرضُ والعَجاجُ والصقيعُ الزجاجُ والمستقبلُ الأُجاجُ!.
أحمد نافذ.. رحل بعد عطر من ذكراه.. وحسناً فعل من أطلق اسمه على أحد المستشفيات الخاصة في القامشلي، وإن كان جديراً بأن يُطلق اسمه على شارع أو ساحة.. أحمد نافذ رحل، ولاتزال تلك العيادة البسيطة التي شغلها تحتفظ بملامحها المتواضعة الأولى يسلمها طبيب إلى طبيب، وأعتقد أن من يشغل تلك العيادة لايزال يشعر بهيمنة روح أحمد نافذ وتواضعه ورحمته وحبه الفائق للناس.. أحمد نافذ جزء حي من ذاكرة عامودا.. كلاهما الشقيقان أحمد نافذ ونورالدين زازا، منقوشان في الفؤاد.. سأطلق اسم أحدهما على شارع يمرُّ من قلبي، واسم الآخر على الساحة الرئيسية فيه، حتى أحميهما من غدر النسيان.
إنكِ لي بالآيبين موسميين مبتهجين بماجنوه من القليل الذي لايغطي نفقات الشتاء.. بالكاد يغطي وقوده من الديزل.. سقى الغادي قبرك ياستي يابهية لمَّا على شقشقة الحطبِ المتقدِ في مدفأة غرفتك، تنقليننا على أجنحة حكاياتكِ المشوِّقة إلى شمال السكةِ، إلى القرى المتناثرة على جذع طوروس.. تدخلين بنا إلى تلك المضافاتِ والمقاماتِ والمجالس التي يختلط فيها الجِن بالإنس، فتختلط علينا الأنسابُ والأصولُ والأعراقُ، فيدْلهِمُّ الليلُ وتزاددُ الخشيةُ ويُبَثُّ الخوفُ، وتدركين ذلك بفطنتك المذهلة فتقرئين أنت الكردية التي لاشائبة في كرديتها من قرية "كرجوسي" الطوروسية تقرئين آياتٍ بيناتٍ، ونردِّدُ معكِ حتى تتيقنين أنه قد ذهب الروعُ عنا نحن أحفادك المدمنين الالتمامَ حولكِ وحول شقشقة حطب حكاياتك المدويةِ عن الجان الذي يلتهبُ كالكيروسين في كهوف الشمال، إذ الرحماني منه يخالطُ الإنس ويعاشر ويتزاوج ويكون طوع بنان المشايخ على الأرجح..
تعالوا لكن بعد حين.. تعالوا ياطلاب الثالث الثانوي الأدبي.. أيتها العفاريت.. يامن دوختم الدنيا.. أقصد دنيا الإدارة المدرسية.. ياأحمدُ ويازهيرُ وياوحيدُ ويابديعُ وياسميرُ وياسليمُ ويامحمد خيرُ ويافوّازُ وياصلاحُ وياعليُّ ويامحمودُ.. ماذا كنتم تؤجِّجُون في تلكم الأعمار من وطن في حناياكم الصغيرة!! يقيناً لقد كنتم أكثر من مرحلة شباب.. واثقون من أنفسكم حتى هذه الدرجة!!، جريئون حتى الإقدام، أبالسة حتى الشيطنة، ورجالٌ حتى النخاع، تريثوا قليلاً
لأرتّب حجرتي.. لأزينها بصورة لغيفارا هنا.. بأبياتٍ للمصري دنقل هناك..
"هذه الأرض حسناء زينتها الفقراء .."
الشايُ عابقٌ ..
وخشبُ المدفأة يسقسقُ
وعنزةُ أمي "سعديةُ" لن تبخلَ بحليبها عليكم..
"قلت لايسكن الأغنياء بها.. الأغنياء الذين يصنعون من عظام الفقراء سجادة للصلاة ومسبحة للرياء"..
كانت أبياتاً صادمة ـ لـ دنقل- فاقعة لامَراء فيها، ولكن كنتُ أتشبثُ بها وكان أبي يتحرج منها، ولكنه كان كعادة آباء العائلة لايُرغِم!..كعادة أعمامي الذين يغضون عن التابوهات، ولايتدخلون في ترتيب الذاكرة أو لملمة الأفكار أورسم الاتجاهات إلا قليلاً.. دعوني أرتّب دكة الطين لكم وأفرشُ الأرضَ بسجادة "أمل" في صباها الزاهي، لمَّا أنفقتْ صيفاً بكامله عليها، وكان القدرُ يتربص بها أمطاراً ودوسلدورفاً وكولونيا وهانوفراًوغربةً لم تخطر على بال نسيجها خيطاً من الخيوطِ.. كان يتربص بها رفيقاً نائياً لما اقتربتْ منه وجدتْهُ ذلك البروميثيوس الذي عرفته، لايزال غارقاً حتى الناصية في إبائه العالي وصبره المذهل الذاهل.. من هذه الكبرياء يستمدُّ العمر وبهذه السماحة يصارع كل فتكٍ مستوحش.. وهو وجدها تلك العنقاء الكردية تنهضُ من رماد الوِحدة وقسوة الأيام وووحشة غياب الزوج الذي استحملت نأيه طويلاً طويلاً.. أختي لم يخطر لها على بالها وهي تحوك سجاجيدها "العامودية" بألوانها القشيبة... أن أقداراً تنسج لها أمطاراً، تظلُّ تشكو منها - في مهاتفاتنا - وألمانيا وبروميثيوساً هو صاحبها أولاً وآخراً!! هيا معي إلى محفل الألوان.. إلى هذه الحلبة البهيجة من خيلاء الطاؤوس ورشاقة الغزلان ورهافة أفراس تخوض في أدغال بهيجة وتصهل بكل ماأوتيت من أقواس قزح، حبكتها أناملُ أختي التي غدت أيامها سجاداتٍ وبُسُطاً من الانتظارات في إقامتها الجديدة من شمال الأرض.. لكن، من لها بألوانها القشيبة.. من لها بصباها.. من لها بأناملها الحابكة المتنقلة من خيط إلى خيط بخفة شحرور وتغريد بلبل.. من لها ببصماتها.. من لها بطفولتها.. من لها بأقواس قزحها المكسورة.. من لها بأصيافها الضائعةِ بين تشذيبِ جناحِ طاؤوسٍ هنا أو ترهيفِ صهيلِ فرسٍ هناك أو إضفاءِ مزيدٍ من الرشاقة على هذا الغزال.. من لها بي وأنا أخاصمُها على كل هذا النسيج الذي يعكّر عليّ رمادَ وِحدتي وصفاءَ عزلتي المسقوفة بدخان السجائر الرديئة!.. كل منا يغزل وينافحُ عن غزله وقماشته؛ أنا عن قصيدتي وأنتِ عن سجادتكِ.. من لي بكِ وأنا أعاتبكِ على ثرثرة صويحباتك وهنَّ يغزلن معكِ مالايباعُ.. مالايشترى: نسيجُ الذكرى وسجادُ الذكريات.. هجرتِنا وتركتِ مالايبلى.. تركتِ مايشفع لنا كي نتباهى به أمام سجادة عجمية!.. هل أقول السجادةُ الأملية!.. ليس لأنها جميلة وبهيجة وقشيبة فحسب.. بل لأنها ممزوجة بروحكِ .. رهافتكِ.. سماحتكِ.. حبكِ.. شغفكِ . صباك.. صبركِ.. احتمالكِ.. صباكِ الذي إذ امتزج بكل تلك الأمشاج من نسيج نبلكِ . صباكِ لايبلى يا أختاه رغم كلِّ الألم..
-2-
بمجانينكِ.. بإسماعيلك وحيدرك..
بعارفو الذي عند قبر أمه كم كان يدَّخر من دمعٍ وهو يصرخُ بشيبته الطفلية آنيييييييييييي ..AN???
أمااااااااااه لماذا تركتِني!!!؟؟
ومحمد راعي كم كان يدَّخرُ من حنان مع قطيعه البقري.. مرتْ قطعان ماشية كثيرة في الذاكرة.. لكن قطيع محمد راعي البقري لايزال يخضوضل بمراعيه في نواحي المسلخ البلدي وعلى فيافي تل حبش..!
بشعرائكِ الكُثرِ وماذا يضيرُ!!.. أراهنُ على أيِّ عاقل أن يعيش في عامودا ولا يكتب الشعر أو يغني أو يسكر أوينتحر.. أراهن أنه سيغدو من حصة الحلِّ الأسهلِ يصبح مثل إسماعيل أو حيدرو أو عارفو رحمة الله عليهم..!! إذاً، لاتستغربوا كثرة شعرائها.. انتقوا مايعجبكم ممايكتبون.. وما تبقى انسبوه للجنون!
تعالي..
بماتبقى من كنيسة السريان
بماتبقى من دير الكاثوليك..
بذكرى ذلك البيتِ البسيطِ لما سُمِيَ بمعبد البروتستانت..
بأرمنك السمحين.. الحريصين على لغتهم حدَّ الرعب والوساوس!!
"قال لي صديق أنه زار عيادة طبيب أسنان أرمني في القامشلي، فوجد يافطة كتب عليها مقطع شعري يقول: أيها الطبيب إذا جلس مريضك على هذا المقعد فمن واجبك أن تعالج أسنانه بحنان أبوي.. لكن إذا كان مريضك أرمنياً وتحدث بلغة أخرى غريبةٍ فعليك بدلاً من مداواة أسنانه أن تبتر لسانه..!!!!"
تعالي !
بيزيدييكِ من قزلاجوخ حتى مركبي..
من البير pîr hito حتو حتى جميلو..
أيها الكريفُ لماذا ثيابكم بيضاءُ إلى هذه الدرجة!؟
لماذا قلوبُكم ناصعة حتى الثلج!؟
أيها الكريفُ..
الكتابُ الأسودُ أبيضٌ في معانيه فلماذا لاتفرجون عنه!
أيها الكريفُ لاتهجروا قراكم إلى ألمانيا..!
كي لاتترمد ناركم!
دعوا الشموعَ تتوقدُ في معبادكم المتواضعة..
دعوا الطاؤوسَ يضربُ بجناحيه آفاق القرى..
أيها الكريف..
قراكم تضاربُ عامودا على كمية البيرة المخصصة لها.. فماذا نفعل!!؟؟
كوني مثلما أنتِ.
بضريح سعيد آغا الدقوري قائد ثورة عامودا ضد الفرنسيين
بضريح الشهيد محمد سعيد آغا..
بأضرحة العلماء الأجداد
الشيخ أحمد القادري
الشيخ ظاهر
الشيخ بشير
الشيخ إبراهيم
سيدا ملا عبداللطيف
سيدا ملا عبدالحليم
والجد الأكبر شيخ محمدي موزان ـ بافي كال..
بضريح "رشيد كرد" ((المجدُ والخلودُ لفقيد الطبقة العاملة)).. هذا هو المدوَّنُ على ضريحه بعربية فصيحة لالبس فيها.. وهو واضع قواعد الكردية، الذي كان يناضلُ وكان يكتب ويدعو لكردية فصيحة لالبس فيها!!..
بضريح الشاعر الرقيق فرهاد جلبي..
بضريح السياسي والشاعر عصمت سيدا..
بضريح الشيخ صدرالدين الذي شاءت الصدفةُ أن يكون نائياً في مماته عن صحبه؛ الشيخُ الذي كانت قصائدُ جكرخوين تتناثرُ من عِطفيه كما الفراشاتُ.. قصائدُ جكرخوين بمعية سكاكر النعناع، وإذ ذاعت هِباته النعناعية للصغار وللكبار.. للرجال وللنساء إلى مؤسسة - ناشد إخوان- ذهبوا إلى تخصيص حصصٍ مجانية له، فصاروا هم يتكفلون بالنعناع، وصار الشيخ يتكفل بقصائد جكرخوين يرويها بمذاق النعناع؛ فلم تعد تميز بين نكهة القصائد وظرف الشيخ وفوح نعناعه وعبق تبغه الخرسي المعطّر بال "كلان" الداكن.. لكن الذي يضفي على جكرخوين الهساري وناشد إخوان الحلبي والشيخ صدري البافي كالي رائحة كرنفالية لاتثمّن!..
هبي ياقصائدُ ويانعناعُ وياتبغُ وياكلانُ وياشيخُ..
هبي ياأباريقَ الشاي لما كان أنجالُ الشيخ يتناوبون على إعدادها في إبريقين الأعلى الأصغرُ ينضج وينطبخ بآلاء ماينعم به الأدنى الأكبرُ وأجزم أنها ماكانت لتستريح، وهي تمدُّ مرتادي المجلس بمددٍ سيلاني يزيدهم ولعاً بمسارد الفن والشعر والألعاب الفولكلورية والمكتشفات الأثرية والمسرح الشعبي والفقه والشريعة والأدب والأفلام الجديدة ومتعة التصوير الفوتوغرافي وآخر أخبار أبطال كمال الأجسام والرقص والنكات وأحدث الطُرَف والألغاز ولعب الشطرنج والذكر والإنشاد.. فالمجلس يحتمل كل الأذواق والمشارب، وينفتح على كل الأعمار ويتيح للجميع هواءه ولايحرم من نوافذه أحداً.. ويصغي إلى الجميع ولا يسفِّه رأياً.. لقد كان منتدى.. قبل أن يسمع أحد بالمنتديات!!
كان نجم المحفل ـ المنتدى دون منازع الشيخ توفيق الحسيني الأديب المترجم ذي الشباب الأزلي الذي لا أغالي بأنه أنفق شطراً من عمره في ذلك المكان، وضحى بالكثير من وقته لإضفاء روحه وظرفه وثقافته على الحضور.. كان سُدى المجلس ولحمته وغيابُه لايسدُّ..
-3-
لنا اللهُ في وجه هذا العصفِ
لنا الله في هذا الحس الرثائي الفاقع..
قبل أن يأتي شتاؤكِ المعربدُ..
من أين لكِ كل هذا الصقيع ولم يخمدْ بركانكِ الصيفُ..؟
قريباً سأرجعُ.. لكن من لي بصقيعكِ الزاخرِ..
لنا اللهُ أولاً ومن ثم صوفي محمدي عيشاني ثانياً
ومن ثم المرحوم الظريفُ توفيقو ثالثاً
وقبلها ملا محمدي قورزيكي رابعاً..
من فيض البالة هذ المعطفُ الجرمانيُّ
وتلك الكنزةُ الفرنساويةُ
وذاك السروالُ اللندنيُّ الدافىءُ
معطفي جرمانيٌ
وكنزتي فرنساويةٌ
والبنطالُ من الجوخ الانجليزيِّ وكلها بالاتي ـ نسبة إلى البالة ـ
وجواربي موسكوفية
وسقف بيتي وطنيٌ دَلفيٌ مرتجَلٌ على عجلٍ.. قشٌ وعقاربٌ رابضةٌ وخشبٌ وترابٌ وعواميدُ
فهاتِ ياشتاءُ وعربدْ ياصقيعُ!!
من لنا بعدهما!! من للشتاءِ بعد توفيقو وصوفي محمدي عيشاني!!
مِن تلك الكوةِ
أشهدُ ظهوركِ
أنتظركِ تتلفتين يمنة ويسرة
كفاختة
نظرةٌ إلى السوق
نظرة إلى منارة المسجد
نظرةٌ مطمئنة إلى الكوة..
ثم تدلفين إلى قلبي.. تدلفين مثل راية "شيخو" التي باغتنا بألوانها قبل ماينوف على الثلاثة عقود.. في تلك الليلة أغرقنا شيخو في قوسِ قزح يبزغ من أعلى ساعده المتين.. في منزلٍ يميلُ إلى جهة القلاج ـ الرابية.. مرتدياً الزيَ الوطنيَ بجديته وصرامته.. دخل وقد غرز سارية العلم في حزام الشروال وعلى إيقاع نشيد "هي رقيب".. كان الوقت نيروزاً وربيعياً، وكان كلُّ شيء يتم خفيةً وطيَّ الكتمان.. حتى الاحتفاء بقدوم الربيع رغم كل فوحِهِ الفضائحي كان يتم في السرِّ!!..
النوروزُ بعد دمٍ ما.. دمٍ مراق!! ظهر إلى العلن، لكن فَقَدَ بالنسبة لي طعمه المحفليَ السرِّي الجوانيَّ .. أما شيخو فقد قضى في حادث غامض، فلا شهد موسمَ الصيف الذي كان يستعد لحصاده ولاشهد النوروز الرسمي الذي كان بالتأكيد لن يوائم صرامته وجديته القصوى..!
"هناكَ في تلك البريةِ كباشقٍ مهيضِ الجناح تركتِني
هناك كحدأة "كردو" التائهة بين السكنى خلف السكة أو هنا..
هناك في كوة صغيرة عيناي تنتظرانكِ
هناك تحت ظلالِ قلعة ماردين الكامدة
تنتظرانِ خفقةً من شعركِ
أو نأمة من عينكِ..
أورفرفةً من ثوبك الزاهي في آذار
لما على تل موزان رأيتكِ أول بغتةٍ
فقلت لافراديسَ قبلك ولافراديسَ بعدكِ!!
منذ ثلاثة عقود تحت أنظار الجندي التركي.
لابثٌ
تحت أنظار الذئب الأغبر أتاتورك
الذئب المنقوش على عجل الجنود
بصخور بيضاءَ مجلوبةٍ من قرى داري وأمباري وخزني..
من تحت أنظاره الملتهبة حتى تل شرمولا..
أتوزّع كالهباتِ على أبنائكِ المدوّنين على ذمّة تباريحكِ اللامتناهيةِ
من نظراتٍ تحت الجسر حيث يدمدم قطارُ الشرق السريع.. القطارُ الذي أوحى لآغاثا غريستي برواية وأوصلها لعامودا ومن ثم مع زوجها الآثاري إلى جاغربازار، لكن عن طريق محطة تل زيوان في القامشلي، إذ لامحطة للقطار في عامودا، وحين كنا نسافر على تلك السكة قبل السكة الوطنية الداخلية، كنا نتحسر إذ نقفل راجعين من حلبَ.. لماذا لانتوقفُ في محطة عامودية!!؟ فنوفِّرُ الوقتَ والجهدَ والمسافةَ ولكنها مشيئةٌ أتاتوركية بحتة انصعنا لها..
كأنَّما هي الراسخةُ مؤقتة أو منذورة للقلق والارتجال دوماً.. أقصدُ دوماً عامودا ومن يتلبس بها من السيداتُ والآنساتِ.. آمين.
هناك إلى الجنوب.. الجنوب.. على تل شرمولا ارتأى "إيلو" لنفسه أن يُوارى في تلك العلياء ليستفردَ بميتةٍ عالية، لم يبقَ منها سوى نثرات شاهدةٍ ظلت شاقوليتها لغزاً محيّراً..
اندثر نصب "إيلو"
اندثرت مقبرةُ المسيحيين.
تيتمتْ الصلبانُ.. رغم أني لا أحبذ تقديس الموتى. لكنهم جزء من ذاكرة المكان، كان ينبغي المحافظة على شواهدهم.. استغربتُ ألا يحركَ أحد ساكناً في ظل اندثار المقبرة المسيحية.. لا الجهاتُ الرسمية ولاحتى من تبقى من المسيحيين.. رغم أن أولئك الموتى كانوا يوماً ما، بهجة وأنسا للمكان، وهم أولاً وآخراً لاينفصمون عن تاريخه..ب عضهم كانوا أصحاب دكاكين ابتعنا منها في طفولتنا سكاكر طيبةٍ وكعكاً طرياً وعلكة ولعباً وبالونات ملوّنة.. بعضهم سرنا في جنازاتهم الملفتةِ بالبخوروالترانيم.. وبعضهم زاملنا أبناءهم وبناتهم في مدرسة السريان أولاً وفي مدرسة الغزالي ثانياً وفي ثانوية المعري ثالثاً لما كان التعليم المختلط..
لقد كان عملاً غيرَ صالحٍ في اعتقادي التفرجُ على اندثار ذلك الأثر!!!..
أين قبرُ صومي!؟
أين قبرُ " َلّّسْ"!؟
أين قبرُ "سوكو سوكو"!؟.
-4-
هناك من تحت أنظار الجنديِّ التركيِّ السئمِ، إذ مياهُ نهر داري تندلقُ من جرار طوروسَ وديعةً وتكفهرُ بعد اشتداد المطر في مواسمه الأخيرة..
بهجتان كان يتقاسمها عمالُ الرملِ والمزارعون، إنه صمّام الأمان لموسم وفيرٍ وهو للعاملين معدنٌ سهلٌ ويسير..
معدنٌ مجانيٌ free يلينُ لعزف رفوشهم اللامعةِ النقية.. رملُ البناء المترسبِ من تبعاتِ الفيضان الذي يسمح به الكَرَمُ الطورانيُّ وهو كرم لايفيضون به إلا رغم أنوفهم ووديانهم.. منه يكون زادُهم.. زادُ العربانجية ذوي العضلاتِ المفتولة يغرفون عرباتهم من انسياب الرمل..هل كانت طويةُ الجنديِّ السئمِ تطمئننا!؟؟ مع هؤلاء الأشداء غارفي الرمل ومخصِّبِي النهر وعازفي المعاول على دمدمة قطار الشرق السريع الذي يتمهل قليلاً عند الجسر المقابل لبورتريه كمال أتاتورك المتكسّر حيث تحرسه الثكنةُ المجاورة.. تحرسه تجاعيدَ جبهته المغولية الصلعاء، وتحرصُ عليه وعلى تسوية الرمل الناعم المحيط به كشمسٍ مريضة.. وما يتيبسَ من أعشاب الصيف ونباته يحرق والوجه الذئبي الممدد على التل يدهن بالكلس الأبيض غالباً في عيد تأسيس الجمهورية التي نهضت على جماجم الأرمن والكرد، وانتصبت بخيلاء على أعواد المشانق المرفوعة لـ "أتراك الجبال" العصاة!.. عزفُ رفوشِ ومعاولِ أصحابنا العربانجية توقّف نهائياً عندما شَرَعَ الجندُ التركُ بعزفهم الوحشي وعواء غدّاراتهم التي أرعبت حتى الضباع والذئاب التي تقهقرت إلى أوجارها الطوروسية القريبة.. فراراً من عصف سيتكرر، ومن كائنات لا متسعَ للتفاهم معها فهي نهبت المكان واستولت على كل شيء، إلا الروحَ، وفصلتْ جزءاً من برية عامودا وبضمنه التلُ الذي ينتجعُ عليه الجندُ الغلاظُ متزودين من فيض تعاليم سيدهم الذي استولى على المكان وتكفّل ورثته بالذاكرة فوسموا التل بـ "تل الكمالية""!!؟
عامودا ورضوخاً لقدرها ـ مابعد السيفري ـ أو مابعد اللوزاني، نأتْ عن التل إلا قليلاً.. السكنُ المحاذي للحدود نادرٌ لأنه غيرُ مأمونِ الجوار.. إذ لجأت عامودا إلى نفسها.. نأتْ كثيراً.. نأت بأحيائها وأمواتها.. بمسلميها ومسيحييها.. بكنائسها ومساجدها.. بشيوخها وأغواتها ومريدها وسينماياتها ومقاهيها وبقاليها وحماليها وقطعان أبقارها ومواشيها.. بعرباتها.. بموتوسكلاتها.. بسياراتها المتحفية! بأضرحتها وتكاياها.. بحجرات العلم الشهيرة لما كان الفقهاءُ يرتادونها من شمال الخط الحديدي قبل الألغام اللوزانية.. نأتْ ولكنها لم تتطامن على نفسها.. ظلت منبسطة ورحبة ومنفتحة.. وقربانية حتى الرمق الأخير أتقنت فن التضحية حتى حدود الكارثة.. يتعلمون فيها ويغادرون.. يشتهرون منها ويغادرون.. يغتنون منها ويغادرون.. هنا كانت مدرسة الغزالي وهنا كان قدري جان مديرها.. هنا كان نادي الشباب الكردي وهنا كان جكرخوين مديره.. غادروها.. رشيد كرد فحسب أخلص لها حتى الجدث الأخير!!
-5-
الخريفُ يليق بعامودا كثيراً.. يليقُ بحزنها الشفيف.. بوداعاتها التي لاتنتهي .. ربما كانت كارثتها الكبرى في الخريف.. إحدى أوجع الوداعات.. في 13-11-1960 في حريقها الشهير حريق سينما شهرزاد الذي له دور كبير في اتشاح ذاكرتها بألم ممضٍ لاينفك يتواصل.. ومنذها، وهي تتوجس من الفرح.. تخاف من المبالغة في الفرح.. منذها وهي تضع سقفاً لضحكات أبنائها وحداً لاندلاعِ بهجاتهم!!!
بعد الاستواء على صفيح ساخن من الصيف، يقطفُ الخريف ضحاياه النوستالجيين بيسرٍ تمام.. كنا ننتظره بشغف، إذ كان لواذاً ننكمش ببركاته نحو الداخل أكثر.. المكان يتخفف من شظفه والمساحاتُ الخشنةُ تميلُ إلى الملاسة أكثر والطباع إلى السماحة وورقُ الشجر إلى اصفرارِه، ونحن إلى المفارق والزوايا الميتة تحت ذرائع مختلفة، لكن الذريعةَ السرية الأبهى هي المكنونةُ المكينة في الشغاف: أيّ الأنثى تقدّس هبوبُها ومرورها ولفتاتها وإشاراتها على الغرة المتّقدة من الباب قبيل الغروب!.. السينما الصيفية تودّع مرتاديها.. "برو" يتهيّأ لنقل مملكته إلى السينما الصيفية - المحرك وأشرطة الأفلام ونظاراته المقعرة وجديته اللطيفة المحببة وصبره الذي لاينفد - وهو كله مهضوم وإلا فمن كفِّ من ستبزغ شارميلا طاغور وآشاباريخ وشامي كابور ودليب كومار وراجندر كومار وسيربانو وستيف ريفز! وماشيستي ورشدي أباظة وفريد شوقي ومريم فخرالدين وصباح وفهد بلان.. هو يتهيأ وبصحبته بعضٌ ممن سلف.. ونحن نستعدُّ أيضاً لننقل ثرثراتنا ومشاغباتنا من هناك ومن دكان محمدي أسعدو إلى الزاوية الأخرى قريباً من سينما دمشق الشتوية، حيث دكان عبدالرحمن عدواني أوعفدي باختصار- إذ تشكيلة الموالح التي لاتقاوَم وزاد مرتادي السينما - وفي الحالتين سنلقى الفنان سعيد ريزاني ينتظرنا هنا أو هناك.. أجلْ سينما دمشق في عامودا، وهي خليفة سينما شهرزاد الشهيدة، التي لقيت حتفها بمعية ماينوف على الثلاثمئة طفل من تلاميذ عامودا، سيقوا كالخراف إلى مجزرة خرافية لازالت تضمر كل علامات استفهام الدنيا، وظلت هذه الحادثة تلاحقنا حتى تحررنا من رقابة الأهل، إذ كانوا مرعوبين من كل مشروع حضور مدرسي جماعي للسينما، فكثيراً ماكانوا يحرموننا من مشاركة بهجة مشاهدة جماعية تنظِّمها المدرسةُ لأحد الأفلام، وعلى العموم ربما كان أهلنا أحق، إذ لم تكن مثل هذه الأفلام إلا شعاراتية وذات نبرة فاقعة ومن النوع الأيديولوجي الرثِّ غالباً.. وإذ كان الأهل يستعملون الضغط المادي لمنعنا من ارتياد السينما ـ خوفاً علينا من حريق آخر ـ فقد كانت نار سينما شهرزاد ساخنة بعدُ، وملتهبة، لاتزال في الذاكرة، ولم يكن قد مرّ عليها عقدٌ من الزمان بعد، وأتذكّر بعضاً واهياً منها إذ أن دارنا مجاورة للجامع الكبير، وكان المسجد نقطة تجمع أساسية للجثث المتفحمة، ودرءاً للقيامة القائمة والمشاهد القاسية على الأطفال ذهبنا إلى بيت عمنا الشيخ عفيف الأبعد قليلاً، لكن المسألة أن الكارثة كانت عميمة، فلا منطقة تنأى من المَشاهِدِ المترمّدة.. فالمواكبُ تترى، ومن هناك، تملَّصنا من مراقبة الأهل وخرجنا إلى الشارع كنا أطفالاً أهلاً لاريب، وكنتُ واحداً منهم، والآخرُ صاحبُ الدار المضيفُ الحجلناميُّ محمد عفيف الحسيني، الذي مابرحنا أنا وهو منذ ذاك الحين، وحتى الآن في صحبة سجالية، أكثر من قرابة روتينية، لأنها لوكانت كذلك لآلت إلى ما آلت إليها قرابات غيرها، لم يبق الدهر منها غير تشاركٍ في نسب كتشارك الناس في سكنى بناية أو حي أو مدينة!!.. هناك لم أكنْ بمنأى من المشاهِد المروِّعة إذ تُنْقَل الجثثُ المتفحمة على عرباتِ العتالين إلى مسجد الشوافع الكبير ليصلى عليها، ويستلمها أهلها، إذا تمّ التعرفُ عليها وإلا ففي قبور جماعية.. هكذا اقترن الفن الثالث في أذهاننا بالنار والدخان والأجساد المتفحمة، وكبرنا في جوٍّ يرين عليه حسٌّ كارثي، تآلفنا معه فصارت زيارةُ الأضرحة البيضاء نزهةً وتحية نُصُبِ الشهداء الذي وضع في ماكان صالة للسينما المتفحمة عادة وسُنَّة، وتحولت المساحة المهدّمة إلى حديقة، وفي العقود الأخيرة صار المكانُ مزاراً رسمياً أيضاً، يُزار مرة في العام، في العيد الرسمي للشهداء، وذلك بعد أن ازداد أعداد الشهداء من المنطقة في مضمار الحروب الوطنية ـ الوطن الذي متى يكون ذوو الشهداء وجيرانهم وأصدقاؤهم من نسيجه تماماً.. يلونونه.. يزركشونه، يصلون... يغنون.. يجأرون.. يجدفون.. يؤمنون على كيفهم وكيف مللهم وكيف طاووسهم وكيف هلالهم وكيف صليبهم وكيف لالشهم وكيف نوروزهم بلسانهم الذي لالبس فيه فلا يُدوَّن على قبر عارفهم اللغويِّ إلا بلسانٍ كردي فصيح لالبس فيه حتى ترتاح روحه وتخلد إلى برزخها الأمين آمنة مطمئنة، وسوف يفهمه الرقيبُ العتيدُ بلغته التي هي هِبة ربِّ الأربابِ، وضعها في جراب آدم إذ نثرها بعد هبوطِه الذي لم يكنْ منه بُدٌ.. فكانت هذه من نصيب الكرد، وهم راضون بها ومتمتعون بها ويستسيغونها كلَّ الاستساغةِ.. لكنْ، فقط لو يرفع سدنةُ العتمة وحراسُ العقائدِ المتطامنةِ قعقعةَ أسلحتهم وكلبشاتهم عن لسان الكرد الطليِّ.. ليغنوا على كيفهم، وحينها سيجدون أي وطن سيكونون زينته..!؟
أي نسيج بديعٍ سيكونون سُداه ولحمتَه!؟.
أبوظبي ـ الإمارات 24-10-2005
إقرأ أيضاً: