عبد الله حبيب
(عٌمان/ أمريكا)

1. عَلي العَنْدَل:
ليست محاولة للرثاء

"عاش حياته كأنه يفعل شيئاً آخر."
(قاسم حدّاد،
عنوان مقالة تأبينية لعبدالعزيز مشري)

عبدالله حبيبلستُ فريدريكو غارسيا لوركا ناعياً صديقه مصارع الثيران الشجاع الذي خرّ صريعاً في الحلبة، ومع ذلك ففي يوم السبت..
في يوم السبت، 5 يونيو..

في يوم السبت، 5 يونيو 2004..
في يوم السبت، 5 يونيو 2004، ماتَ..
في يوم السبت، 5 يونيو 2004، مات علي..
في يوم السبت، 5 يونيو 2004، مات علي العندل.

علمت بالخَطب الذي ليس من واجب كثيرين ولا من حق كثيرين أقل من البشر أن يعبأوا به عبر مقالة لأحمد راشد ثاني منشورة في الصفحة الثقافية في عدد الثلاثاء من "الخليج"، 8 يونيو 2004.
مات شاعر "مجهول" آخر إذاً، ومن هنا فإن الخسارة لا معنى لها سواها، وسوى فداحتها السرّية التي لم يُفصل حبلها العلني من السماء.
مات شاعر آخر مبكراً جداً في رقعة من التاريخ لا تتجه نحو الشعر، ولا نحو النثر، بل تتعجل الإندثار.
مثل ابن بلده الجلفاري جمعه الفيروز من قبله، كان عليّ يذهب إلى الموت في كل لحظة من حياته القصيرة والمرتبكة بمحض الموهبة الشخصية الفائقة والفطرة والغريزة والرغبة والتجربة المحنَّكة المكتسَبة باكراً وبسرعة رَامْبَوِيَّة، ولكنه، في دعابة شعرية باهظة، كان أكثر ضجراً من أن يتذكر أن عليه العودة من النوم ذات صباح .
موتهما النومي، أو نومهما الموتي - جمعة الفيروز وعلي العندل، قصدتُ -- يجعلني، للمفارقة، استحضر روح ذلك الشاعر الفرنسي الذي كلما أراد الذهاب إلى النوم علّق على باب غرفته لافتة تقول: "الإزعاج ممنوع فالشاعر يعمل".
إنهم جميعاً "يعملون"، وفي هذا ما يَطمئنُّ، ويُطمئنُ، ولو قليلاً.
لأنهم لن يَكُفُّوا عن العمل - لأنهم لم يتوفروا على خيار أفضل.

...............................................................

التقيت بعلي العندل، الذي أصدر بصورة شخصية كرّاسة شعرية واحدة محدودة التوزيع، ونشر نصوصاً قليلة هنا وهناك، وكَتب أخرى لا تزال مخطوطات بعضها موجودة عند بعض أصدقائه.. التقيت به، إذاً، مرات قليلة ومتباعدة في خضم سنوات كل منها ينوء بثلاثمائة وخمسة وستين غصّة. بيد أن لقائيَّ الأول والأخير به، وقد كانا الأطول في حفنة تلك اللقاءات، كانا، ولا يزالان، كفيلان بأن لا يغادر ذاكرتي ما عِشْتُ وما مِتُّ.
كانت المرة الأولى عند الضحى، والثانية في الليل؛ والمفارقة الزمنية الرمزية تلك صارت الآن بالغة وبليغة.
في أول مرة رأيته فيها، في أول النهار، أخرج علي العندل عبوّّة دواء من جيب دشداشته، لكنه لم يجشّم نفسه عناء تناول أقراص "الفاليوم" المهدئة، الموصوفة له طبياً، مع حسوات من الماء كما يُفترض، بل كان يهرسها بأسنانه كما لو أنها كانت ضرباً من المكَسَّرات.
لا زلت أسمع طقطقات الضحى بين فكيه عظاماً هشَّة لفَرُّوجٍ صغير، مشوي وشهي، كان ينبغي أن يُلتهم ليلاً (هكذا قلت لنفسي، على الأقل). لكن جَاكْ فاشْيْهْ كان يتناول فُستقاته الأثيرة بطريقته الخاصة، وإن كنتَ ممن يحترمون أنفسهم عليك الحذر كل الحذر من ارتكاب توجيه أي نصح أو إرشاد إلى جاك فاشيه!.

............................................

بعد سنوات من ذلك، تصادفنا في أحد المُنتبَذات.
في تلك الليلة، كنت في غاية الغم والإكتئاب وعدم الرغبة في - بالأحرى، عدم القدرة على -- الحديث إلى أي إنسان، ولذا ولّيتُ وجعي شَطْرَ منتبَذٍ قصيٍّ على أمل أن لا أجد في روّاده من يعرفني فتزيدني ثرثرة الرفقة الإضطرارية كَمداً على كمد، لكن علي العندل كان هناك، أو انه جاء الى هناك بعدي بقليل.
كم أنحني احتراماً لحسّاسيته وإنسانيته الغامرتين اللتين جعلتاه يدرك فوراً أني لست في مزاجِ حديثٍ، فقدَّر رغبتي في الصمت واللوذ، حيث لم نتبادل سوى بضع كلمات خلال أربع أو خمس ساعات قضيناها في المَسْمَر الهاذر، لكنه، في الآن ذاته، شعر عميقاً بكربي الذي لا بد جعله يحس أني كنت على شفا انهيار أو انفجار ما، ولذلك أصرّ، بنبل شديد، على "حراستي"، فلم يبرح المنضدة العَبوس المتجهمة التي لم يكن الوقح الجالس إليها جديراً بالمنادمة.
أتذكر جيداً أنه، في الصمت الثقيل ذاك، كان يبتسم كثيراً، وبطريقة تضامنية وتشجيعية، كمن يحاول أن يشد من أزرك بالقليل الذي لديه، والذي هو، في الوقت نفسه، كل ما يملك.
آخر ذكرى لي منه، إذاً، هي ابتسامته السخيّة التي ودعني بها في تلك الليلة قبل نحو من عشرين سنة.
ثم ذهب علي العندل إلى النوم.

.............................
وفي صباح السبت..
في صباح السبت، 5 يونيو..
في صباح السبت، 5 يونيو 2004..
في صباح السبت، 5 يونيو 2004، لم يستيقظ..
في صباح السبت، 5 يونيو 2004، لم يستيقظ علي..
في صباح السبت، 5 يونيو 2004، لم يستيقظ علي العندل.
..............................
.............................
.............................

هناك، في الثمانينات، لم يكن أمام كوكبة من الكائنات الأثيريّة سوى أن تضيء.
لكن، على عكس النجوم والأقمار والشموس ومدمني الكاميرات والمنابر والمايكروفونات، كان على فراشات النار تلك أن تظهر بسرعة، وأن تغيب بسرعة (حيث "غابَ" تعني "ماتَ" في دارجتنا الساحلية) تقريباً في ما يشبه الخِلسة، وكمن يعتذر بصورة متطرفة جداً عن أذى طفيف جداً، وغير مقصود أصلاً.
علي العندل كان في طليعة تلك الحشرات الإنتحارية الرائعة.
شكراً وامتناناً كثيران له لأنه كرّس أربع أو خمس ساعات كريمة من عمره الحرِج لأجلي، وتحية كبيرة له لأنه عاش قليلاً، وكتب قليلاً، واعتذرَ بإسراف عما "جناهُ عليه أبوه"، ومات قليلاً، كما ينبغي تماماً.

13 يونيو 2004

إتصال:
(قصة قصيرة من مشروع "فراق بعده حتوف")

هَاتَفَ المطعمَ ذاتَه كعادتِه، وَطَلَبَ تحضيرَ وجبتِه الصَّغيرةِ نفسها، والتي سيصطحبها معه إلى شقَّتِه كي يَضَعَهَا في الثلاجةِ حتَّى اليومِ التَّالي، أو الذي بعده، أو حتَّى تتعفَّن، أو كي يأكلها كلَّها، أو نصفَها، أو أقلَّ أو أكثرَ مِنْ ذلك، وحده، كما في كلِّ مرَّة.
دَلَفَ الدِّهليزَ المستطيلَ المليء بالدُّخانِ القادمِ مِنَ الرُّكْنِ الذي وُضِعَتْ فيه أفرانُ الشَّوي والمقالي والصَّواني الكبيرةُ والمليء أيضاً بالبشرِ المتزاحمين على الطَّاولاتِ (الذين كان قد رأى بعضَهم في المطعمِ مِنْ قبل) والممرَّ الصَّغيرَ الذي يَفْصِلُ بين "الكاونتر" والآكلين.
تَوَقَّفَ في المنتصفِ لبرهة، وَتَأَمَّلَ الدُّخَانَ والوجوهَ وَالجُدْرَانَ واللَّوحاتِ بعينيه ورئتيه. فَكَّرَ، للمَرَّةِ الأولى في المكانِ المألوف، لو أنَّه فاجأ الجميعَ وصرخَ: "أَيُّهَا النَّاس! أَيُّهَا النَّاس! أنتم لا تعلمون! مشكلةٌ كبرى لديَّ، فهل تساعدوني؟!".
رفعوا عيونَهم عَنِ الطَّعَامِ ونظروا إليه شزراً قَبْلَ أَنْ يهتفوا كجوقةٍ مردِّدين في أغنية: "كلا!". ثُمَّ عادوا إلى أطباقِهم.
أَخَذَ، إذاً، كيسَ الطَّعَامِ وَسَارَ متأنِّياً إلى الخارج. لَمْ يَذْهَبْ إلى سيَّارتِه. لَمَحَ هاتفاً عموميَّاً، ما رآه مِنْ قبل، في رُكْنِ الشَّارع، فمضى وئيداً إليه. وَضَعَ كيسَ الطَّعَامِ على أرضيَّةِ الرَّصيف، وَأَخْرَجَ نقوداً معدنيَّةً مِنْ جيبِه، وبيدِه الأخرى أَخَذَ يُقَلِّبُ الأوراقَ الصفراء في دليلِ الهاتفِ الضَّخْمِ الموضوعِ على رَفِّ صندوقِ الهاتفِ الصَّدئ.
حين عَثَرَ على الرَّقْمِ الذي يريد أَدْخَلَ النُّقودَ المعدنيَّةَ في الفَتْحَةِ الخَاصَّةِ بها وَضَغَطَ على الأزرار، وما هي إلا ثوانٍ حتَّى جاءه صوتٌ محترفٌ ومتحمِّسٌ مِنَ المكانِ الآخر: "هلو! أهلاً بك. هذه شَرِكَةُ [...] لخدمات الموتى. أمِنْ خِدْمَةٍ نسديها لك؟".

29 أبريل 2002


أقرأ أيضاً: