صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديفي المقطع ما قبل الأخير من قصيدته الفاتنة "شرفة ليلى مراد"، يقول الشاعر المصري حلمي سالم:

الربّ ليس شرطياً
حتى يمسك الجناة من قفاهم
إنما هو قروي يزغط البط
ويجسّ ضرع البقرة بأصابعه صائحاً:
وافر هذا اللبن
الجناة أحرار لأنهم امتحاننا
الذى يضعه الرب آخر كلّ فصل
قبل أن يؤلف سورة البقرة.

وفي المقطع الأخير من القصيدة، يقول سالم:

الربّ ليس عسكري مرور
إنْ هو إلا طائر
وعلى كلّ واحد منّا تجهيز العنق
لماذا تعتبين عليه رفرفته فوق الرؤوس؟
هل تريدين منه
أن يمشى بعصاه
فى شارع زكريا أحمد
ينظّم السير
ويعذّب المرسيدس؟

وكما بات معروفاً الآن، اتخذ د. ناصر الأنصاري، مدير الهيئة المصرية العامة للكتاب، قراراً بمصادرة أعداد مجلة "إبداع" التي نشرت القصيدةK بسبب بلاغ إلى النيابة العامة يوجّه إلى سالم، إسوة برئيس تحرير المجلة أحمد عبد المعطي حجازي، تهمة "الإساءة إلى الذات الإلهية". ومؤخراً، شهدت الحكاية تطوّراً نوعياً حين استمعت النيابةُ إلى أقوال يوسف البدري صاحب البلاغ، وأقوال آخرين أصحاب بلاغات مماثلة، الأمر الذي يعني أنّ النيابة سوف تستدعي سالم وحجازي للاستماع إلى أقوالهما، لكي لا ينتظر المرء ما هو أدهى!
نحن، إذاً، أمام "قضية" جديدة تشهدها مصر ضدّ الإبداع والمخيّلة والنصّ الأدبي، في سبيل ترجيح سلطة تأويل المقدّس على الحقّ في حرّية التعبير، إذْ لا ينبغي البتة إهمال هذا المحتوى الأخير تحديداً، وعلى نحو لا ينتهي من سوية ابتذال حتى ينحطّ إلى سوية أخرى أشدّ بؤساً. كأنّ السادة رعاة المقدّس لا يحتكرون شرح متونه وتفاسيره ومعاجمه ومفرداته وأحكامه ونصوصه ومرجعياته... فحسب، بل يقبضون وحدهم على الهراوات الغليظة الكفيلة بتهشيم العقل الذي يفكّر والمخيّلة التي تحلّق واللغة التي تنطلق والنصّ الذي ينعتق.
شهدنا، قبل أربع سنوات، بلاغ عضو مجلس الشعب المصري مصطفى محمد مصطفى ضدّ مجموعة أحمد الشهاوي "الوصايا في عشق النساء"، معتبراً أنّها «تستهين بالدين وتستفزّ مشاعر المسلمين»، وتدخل تالياً في باب إهدار المال العام. وأمّا براهينه في في التدليل على حجّته، فقد كانت اقتباسات مثل هذه: «لا لا تضيعي العمر في نوم الليل لأنه خُلق للعشق»، و«نصيحتي أن تمرّغي خدّك على باب عشيقك»، و«خذي كتاب عاشقك بيمينك فأنت أمّ الكتاب»! قبلها شهدنا قضايا الأزهر ضدّ رواية حيدر حيدر "وليمة لاعشاب البحر"، ثمّ مجمع البحوث الإسلامية ضدّ "الومض" للكاتب نفسه، لأنها ـ صدّقوا أو لا تصدّقوا ـ تتحدّث "عن العبيد وحكاية البشر والقصص الماجنة البعيدة كلّ البعد عن قيم الإسلام"، كما جاء في البلاغ الرسمي. ولكي لا نذهب بعيداً، نتذكّر أنّ مجلة "إبداع" ذاتها كانت قد تعرّضت لحملات تأثيم مماثلة، حين نشرت قصيدة عبد المنعم رمضان "أنت الوشم الباقي"، أو حين أعادت نشر عدد من الرسوم حول آدم وحواء، أو حين أصدرت عدداً خاصاً عن الثقافة اليهودية.
ولعلّ من الأخلاقيّ، أوّلاً، الارتياب الشديد في أنّ السلطة السياسية، سواء تمثّلت في الأنصاري أو في الأجهزة العليا التي تقف خلفه أو تضغط عليه، ليست محايدة في مثل هذه القضايا، بل هي متواطئة موضوعياً مع الغلاة والظلاميين، لأسباب لا تخفى على كلّ ذي بصيرة. كذلك من الضروري تفادي الوقوع في الفخّ الذي بات اليوم خيار المنجاة الأسهل، بعد أن تكاثرت أمثلة السعي إلى مصادرة حرّية التعبير وانحطّت ثقافة السجال حول الفارق بين الواجب والحقّ. وهذا الفخّ يتمثّل في محاولة ردّ التهمة عن النصّ الخاضع للتأثيم والتجريم، عن طريق البرهنة (المصطنَعة، غالباً) على أنّ العكس هو الصحيح، وأنّ النصّ يحترم المقدّسات ويبجّلها ويصونها ويحرص عليها.
ليست هذه هي ستراتيجية الدفاع الحقّة، في يقيني، كما أنها ليست التكتيك المبدئي لأنّ المثقف هنا ليس محامياً لوذعياً شاطراً يبحث عن ثغرة هنا أو منفذ هناك في ملفّ الخصم. وما هو مطلوب، في الستراتيجية كما التكتيك، هو الإصرار على الدفاع عن النصّ ذاته في المستوى الجمالي ـ الإبداعي، وليس في المستوى التأويلي ـ الفقهي، من جانب أوّل؛ والتمسّك بحقّ الفنّ في التحليق أعلى والتوغّل أعمق والتعبير أبلغ، وليس «واجب» المراوحة أسفل «خطّ أحمر» وهميّ جاهليّ قسريّ وقمعيّ، من جانب ثانٍ. وهكذا، فإنّ الواجب الأكبر أمام المثقف، المستنير المؤمن بالحقّ والحرّية، هو الدفاع عن جماليات قصيدة حلمي سالم بوصفها عملاً أدبياً تنهض قِيَمه الفنية من ــ كما تُصنع إشاراته الدلالية في ــ حقول أخرى خصبة الأرض عالية السماء مفتوحة الآفاق، هي في طبيعتها نقيض تلك البيداء الدامسة الراكدة الجامدة، حيث الإنسان معتقَل والخيال مكبّل والتأويل ضيّق مغلق مسدود.
إذْ لم يبقَ إلا أن يحرّموا علينا استخدام تعابير مثل "ربّ الأسرة" أو "ربّ العمل" أو "أرباب المهنة"، وأن نحيل أبا العلاء المعرّي إلى النيابة العامة جرّاء هذا القول: "ويجمعنا من صنعة الرَبِّ أربعٌ/ ومِن فوقها والمُلكُ لِلَّه خامسُ"، أو... أن نشطب نهائياً هذا المثل السائر على الألسن: إذا كان ربّ البيت بالطبل ضارباً/ فما شيمة أهل الدار إلا الرقص.

القدس العربي
14 مايو 2007