صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديكما يحقّ لأيّ شاعر أن يحسد محمود درويش على أمسية حيفا المشهودة، سواء في مستوى الاختبار الرهيب لعلاقة الشعر العيانية بالمتلقي، بادىء ذي بدء، أو في البعد الإنساني الاحتفائي والاحتفالي والطقسي لإلقاء الشعر ضمن سياقات استثنائية كهذه بالذات؛ كذلك يحقّ للشاعر ذاته أن يشفق على درويش إذا تخيّل مقدار الضغوطات الهائلة، التي ستكون متبادلة عارمة عاتية، بين حاجات الحشود وحاجات القصيدة، وبين علم نفس العواطف الجَمْعية وعلم جمال الشعر الرفيع.

وفي حوار مع "الإتحاد" الحيفاوية شدّد درويش على عنصرَي اللهفة والخشية في لقائه بأبناء شعبه بعد كلّ هذا الغياب، وعلى أرض حيفا التي تحتلّ في نفسه ـ في شعوره، كما في شعره ـ مكانة خاصة: " تمتزج الخشية باللهفة لأنّ الزمن الذي فصلنا عن بعض زمن طويل، كبرتُ فيه بطريقة ما، وأبناء جيلي كبروا بطريقة ما، ونمت أجيال جديدة لم يحصل من قبل احتكاك بحساسيتها الشعرية. لذلك أنا ذاهب إلى ما يشبه المجهول الجميل". وبعد أن أكّد، وفي الوسع تصديقه تماماً، أنه يشعر كمَنْ يقرأ للمرّة الأولى ويدخل امتحانًا، تمنى درويش "أن تكون المسافة الجغرافية بيني وبين قرّاء الشعر الذين سألتقيهم في حيفا مسافة وهمية، وأن يكون التطابق كاملاً بين ما أحسّ به وما يحسّون به، وبين حساسيتي الشعرية وحساسيتهم الشعرية".

هيهات، مع ذلك، أن يبلغ التطابق درجة كاملة في قاعة كهذه وتحت تأثير السياقات العديدة، الإنسانية والسياسية والعاطفية والوطنية، التي اكتنفت تنظيم لقاء نوعي بالغ الخصوصية، سرعان ما تجاوز بكثير أغراض أمسيات الشعر. وغنيّ عن القول إنني أكتب هذه السطور قبل ساعات من بدء الأمسية، وأتمنى حقاً أن تخيّب وقائعها وجهة نظري الحذرة تجاه احتمالات التطابق الكامل بين حساسية درويش وحساسية ذلك الجمهور، تلك القاعة، ذلك المكان. غنيّ عن القول، كذلك، أنني هنا لا أقصد البتة الإيحاء بحكم قيمة من أيّ نوع على جمهور قاعة الـ "أوديتوريوم" الحيفاوية، بالقياس على جمهور درويش في أيّ مكان قرأ فيه شعراً، بل لعلّ العكس بالضبط هو ما أرمي إليه: أنني أنحاز إلى حساسية هذا الجمهور، أكثر من انحيازي إلى حساسية الشاعر.

ومنذ مطالع السبعينيات أصغيت إلى درويش يقرأ شعراً في مدن كثيرة: دمشق وعمّان وصنعاء وعدن وتونس وقفصة والرباط والدار البيضاء والقاهرة ودبي... وكنت غالباً أبتهج حين يفاجىء جمهوره بشعر جديد، أو على نحو أدقّ: حين يميل إلى تغليب حقوق القصيدة الجديدة (التي يحدث مراراً أن يجدها المتلقي شاقة، صعبة، أو حتى غريبة بعض الشيء للوهلة الأولى) على رغبات الجمهور. ولكن لو قُيّض لي أن أكون في صفوف مستمعيه الحيفاويين أمس، هل كنت سأتردّد في المطالبة بحقّي في أن يقرأ شيئاً من شعره القديم، اللصيق بالذاكرة الجمالية والذاكرة الوطنية، الضارب عميقاً في باطن الذائقة الجَمْعية؟ وأيّ ارتطام للحساسيات (وهمي أصلاً، وافتراضيّ) يمكن أن يمنع الشاعر من قراءة قصيدة له أحبّها جمهوره، أو حتى أفرط في حبّها حتى رفعها إلى مصافّ الأيقونة؟ لماذا لا أطالب بقصائد قديمة مثل "بطاقة هوية" و"عاشق من فلسطين" و"إلى أمّي" و"برقية من السجن" و"موّال" و"يوميات جرح فلسطيني" حين ذكّر العالم: "نحن في حلّ من التذكار/ فالكرمل فينا/ وعلى أهدابنا عشب الجليلِ/ لا تقولي: ليتنا نركض كالنهر إليها، لا تقولي/ نحن في لحم بلادي... وهي فينا"... تماماً كحقّ درويش في أن يقرأ لي ما يشاء من أحدث قصيدة كتبها، ويرى أنها تمثل شعريته الراهنة؟ وإذا لم أطالب بهذا الحقّ وأنا أستمع إليه في حيفا، فأين ينبغي أن أطالب به؟

غير أنّ درويش يُحسد على ذلك الناظم الذهبي الذي يدير العلاقة بين شعره الجديد وقارئه الدائم، الأمر الذي سبق لي أن توقفت عنده بتفصيل أكثر في مناسبات سابقة. فإلى جانب عناده الشخصي وإصراره على تطوير برنامجه الجمالي، حظي درويش بمساعدة القارىء ذاته في مواصلة التطوير، لأنّ القارىء كان ويظلّ رفيع الاستجابة، ولا يتردد طويلاً قبل أن يجد مكانه في الطور الجديد. ولقد تبدّى هذا الوضع في القصائد الملحمية الطويلة بصفة خاصة، حيث كانت هذه تكتسب بُعداً أيقونياً يسري على القصيدة محطّ هوى القارىء، والقصيدة (ذاتها) وهي تمهّد لخيارات قادمة في قصيدة جديدة. وهكذا اكتسبت «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا»، 1972، وظيفتها الأيقونية حين استجمعت دلالات التراجيديا الفلسطينية في شخص سرحان بشارة سرحان؛ ولكنها ظلّت ماثلة في ذائقة القارىء حين قرأ «أحمد الزعتر»، 1977، قبل أن تكتسب هذه بدورها وظيفتها الأيقونية بالنسبة إلى «مديح الظل العالي»، 1983؛ وهذه بالنسبة إلى «قصيدة بيروت»، 1983؛ ثمّ "مأساة النرجس، ملهاة الفضة"، و"أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي"، وهكذا...

وإذا صحّ أنّ التطابق الكامل ممتنع لاعتبارات ذاتية وموضوعية، ولعلّه غير مطلوب أصلاً، أفلا يُحسد درويش على هذا التطابق الراهن، المتقدّم المتنامي باضطراد؟ وإذْ يحييّ المرء "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" ومجلة "مشارف" على مبادرة أدبية ذكية انقلبت سريعاً إلى حدث وطني، أفلا تُحسد حيفا ـ وفلسطين قاطبة ـ على حشد نوعيّ أسقط مسبقاً كلّ المسافات الوهمية بين ذائقة وذائقة، وبطاقة هوية وأخرى؟